اللاهوت الروحي

الفصل الأول



الفصل الأول

الفصل
الأول

التجسد
والصليب

1-
الصليب

صليب
ربنا يسوع المسيح، قوة حقيقية للخلاص والنصرة في الجهاد.

مقالات ذات صلة

ومعلمنا
بولس الرسول يسلمنا هذا الايمان الحى بقوله: “إن كلمة الصليب عند الهالكين
جهالة وأما عندنا نحن المخلَّصين فهى قوة الله” (1كو1: 18).

والصليب
وإن كانت له أعياد زمنية ومكانية، فهو فوق كل شئ وقبل كل شئ حقيقة إلهية سماوية.

لذلك
نستطيع أن نقول في جرأة الإيمان أن الأعياد التاريخية في كنيستنا تستمد مجدها
وبهاءها من واقع حياتنا وإيماننا أكثر من أنها تعطى لحياتنا شيئاً من الواقع أو
شيئاً من الايمان.

وصليب
ربنا في مضمونه الكلى يلزم أن لا يكون في بالنا حقيقة من حقائق الماضى بأى حال من
الأحوال، لا لشئ إلا لأن تأثيره الفعال ممتد بالحقيقة في الحاضر والمستقبل، طالما
يوجد إنسان يعيش على الأرض. لأن الصليب مرتبط أساساً بالمصلوب، والمصلوب حى في
السماء يحمل سمات صليبه ويسكبها علينا كل يوم بل كل لحظة غفراناً وتطهيراً، بل
قداسة وبراً وفداء. فنحن نختبر بأنفسنا بل ونمارس بأجسادنا وأرواحنا صليب ربنا كل
يوم.

وحينما
نقول الصليب ” المحيى ” فإنما نقول ذلك ونظرنا على الدم الالهى الذي
انفجر لنا من الجنب المطعون وجرى على خشبة الصليب نهر حياة!!

ولا
يمكن أن نذكر الصليب ذكراً حسناً أو ننشد نشيده بالروح إلا والإحساس بالدم يملأ
أعماق كياننا الإنسانى، فالدم هو الصلة الحية المحيية بين الصليب وقلوبنا، بين
المصلوب وبين ضمائرنا، بين المسيح في السماء والكنيسة على الأرض!

ولا
يغيب عن بالنا قط أن شركة الدم أو شركة الألم أو شركة المجد، هذه الأنواع المتعددة
التي للشركة الواحدة – أى شركة الصليب – إنما تأخذ قوتها من المسيح ” الحى
” أى من القيامة.

فالصليب
قوة حياة أو قوة محيية، لأن المسيح الذي صُلب هو الآن حى! فبدون المسيح الحى يصبح
الصليب عثرة وجهالة. ولكن إيماننا بالمسيح الحى القائم من بين الأموات أو بالحرى
شركتنا الآن في المسيح الحى تجعل لنا من الصليب قوة حياة. فقيامة المسيح المصلوب
جعلت خشبة العار سبب مجد وافتخار ظاهر لكل العالم.

وإن
كان التحول الذي تم على الصليب من عار إلى افتخار يظهر أمامنا هائلاً وغير معقول،
فإنما ذلك من أجلنا نحن، وقد استدعى عملاً من الله الآب فائقاً أيضاً وهائلاً أكثر
مما يتصوره العقل، يقول عنه بولس الرسول: “وما هى عظمة قدرته الفائقة نحونا
نحن المؤمنين حسب عمل شدة قوته. الذي عمله في المسيح إذ أقامه من الأموات وأجلسه
عن يمينه في السمويات” (أف1: 19،20)

فهذه
القدرة المتعاظمة والفائقة عن حدود العقل والتصور التي أجراها الله الآب في المسيح
من أجلنا، هذه العظمة وهذه القدرة الفائقة وهذه الشدة المتناهية التي استخدمها
الآب ليحول لنا عار الصليب إلى افتخار في المجد الأسنى بقيامة المسيح، هذا كله
وبكامله مذخر في الصليب!!

فبقدر
ما احتوى الصليب كل العار البشرى، كذلك وبمقدار أعظم احتوى شدة قوة الله للمجد
الأبدى!!

 

2-
قوة صليبنا

ونستطيع
أيضاً في جرأة الإيمان أن نقول أنه ليس من بين أعمال الله كلها عمل بلغ في قوته،
بل في شموله، بل في مجده، بل في سلطانه، بل في غايته، مثلما بلغ الصليب!

لأنه
رفع الخليقة كلها من دائرة العصيان إلى الصفح الكلى والمصالحة، من الرفض إلى
القبول والاختيار، من العبودية إلى البنوة والميراث مع المسيح في الله!!

والصليب
مذخر فيه كل مجد الله بل وكل مجد الانسان. فمن أدرك سر المسيح المصلوب وآمن بالإله
المهان، انكشف له السر وانقلب تجديفه إلى دموع وهتاف، وعثرته إلى إيمان وشهادة،
وتجلى له الصليب كمصدر وحيد للحق والمعرفة والخلاص..

آلاف
من المعجزات عملها الله فى القديم وعملها المسيح في الإنجيل وكلها معجزات للانسان،
أما الصليب فهو معجزة الله..!

“إذ
عرفنا بسر مشيئته حسب مسرته التي قصدها في نفسه لتدبير ملء الأزمنة ليجمع كل شئ في
المسيح ما في السموات وما على الأرض في ذاك” (أف1: 9، 10).

والصليب
في حياة المسيح ليس حادثة عرضية بل غاية، جاء وتجسد من أجلها، ونهجاً شمل حياته
كلها جاعلاً من الصليب كأسه المفضل وطاعته العظمى للآب، وبرهان حبه الأبدى للإنسان
كل الانسان، نقض به ناموس الخطيئة وبَّرر به الخطاة، وظفر به على قوات الظلمة،
وقتل به العداوة، وجمع تحت لوائه شمل الإنسان كل البعيدين والقريبين، كرعية مع
القديسين وأهل بيت الله.

لقد
حول المسيح صورة الصليب الذي عرفناه يوم الجمعة، صليب الخشب الثقيل الذي لم يقوى
هو على حمله فسقط تحت ثقله، الصليب الذي بدا أمام أحبائه كريهاً مشئوماً، والذى
تراءى لأعدائه ذلاً وشماتة، وكان بالنسبة للناموس لعنة وعاراً، هذا صار لنا من أجل
يسوع وفى يسوع شركة سعادة أبدية ومصدر راحة وسرور وافتخار، وكلما ازدادت الآلام من
أجل شهادة يسوع ازدادت رؤية الصليب نوراً وازدادت الحياة قوة وعزاءاً، وارتفع
الصليب من التاريخ لينغرس في عمق أعماق الضمير.

وتكريم
الصليب نابع من كرامة القيامة، لأن الموت الذي باشره الرب على الصليب، أثمر قيامة
وبالتالى مجداً. فيكون الصليب باختصار هو سبب المجد!!

وفى
هذا يصف القديس يوحنا في إنجيله – الصليب بالمجد قائلاً في موضوع انسكاب الروح:
“لأن يسوع لم يكن قد مُجِدَّ بعد” (يو7: 39)

مشيراً
بذلك الى الصليب، والمسيح نفسه سمَّى الصليب ارتفاعاً: “وأنا إن ارتفعت أجذب
إلىَّ الجميع. قال هذا مشيراً إلى أية ميتة كان مزمعاً أن يموت” (يو12: 32،
33).

إذاً
فحق لنا أن نهتف بملء أفواهنا: السلام للصليب مصدر كل ارتفاع ومجد!! فإن كان
الصليب هو أقصى صورة للإتضاع والمذلة، فهو قد صار أعظم واسطة للإرتفاع والمجد.

 

3-
مجد الصليب

 السلام
للصليب الذي عليه دفع المسيح ثمن كل خطايانا.

السلام
للصليب المحيي الذي به زالت اللعنة وقبلنا الحياة الأبدية.

السلام
للصليب رمز المجد والنصرة على الخطية والعالم والجسد وكل قوات الظلمة.

إذاً
جيد لنا جداً أن نمجد الصليب واشارة الصليب، فهو محور كل طقس وبداية ونهاية كل
تقديس، سر القوة المتدفقة في كل سر، والنعمة الحالة على كل نفس.

فلنحب
صليب ربنا يسوع المسيح الذي به صار لنا الفداء والدخول إلى شركة الآلام لكى نحيا
له بالحب، وحمل الصليب هو علامة التلمذة الحقيقية بحفظ الوصية، واحتمال المشقة
والتجارب ونحن نسير على درب الصليب وقبول الإهانات بشكر، وجحد الذات والخدمة
والبذل بتقديم ذواتنا ذبيحة حب، على مذبح الحب الإلهى تتقد بنار محبة الله يشتمها
الرب رائحة رضى عن العالم.

ليشرق
المسيح بالحب في أعماقنا. وليضئ بالحكمة في عقولنا وليكن فينا فكر المسيح حتى
نتصالح مع الصليب كما قال معلمنا بولس الرسول: “فليكن فيكم هذا الفكر الذي في
المسيح يسوع أيضاً الذى إذ كان في صورة الله لم يحسب خُلسة أن يكون معادلاً لله.
لكنه أخلى نفسه أخذاً صورة عبد صائراً في شبه الناس. وإذ وجد في الهيئة كانسان وضع
نفسه وأطاع حتى الموت موت الصليب.” (فى2: 5 – 8).

فإن
كان لنا فكر المسيح هكذا نكون فعلاً في مصالحة مع الصليب: “وضع نفسه”..
” وأطاع حتى الموت موت الصليب”.

وحينما
نحاول أن نعيش حسب وصايا المسيح، قبل أن يكون لنا ” فكر المسيح” (1كو2:
16) من جهة المصالحة مع الصليب وطاعة المسير في الدرب المؤدى إليه، نخفق بشدة،
ويتزيف لنا التعليم المسيحى كله، فنصير معلمين كذبة ومتعلمين لأكاذيب.

لأن
معرفة الإنجيل ووصايا يسوع لإنسان ليس له ” فكر المسيح من جهة الصليب، تصبح
كلها معرفة للإفتخار والمجد والدينونة.

أما
الذي له ” فكر المسيح “، “وقد وضع ذاته فعلاً وأطاع مصمماً على
المسير في درب الصليب حتى الموت، فلمثل هذا تصير معرفة الإنجيل لا لدينونة آخرين،
ولا لتمجيد الذات أو الإفتخار بالمعرفة، ولكن لقيادة الآخرين إلى” فكر المسيح
” عينه وللمصالحة مع الصليب.

فيصير
الصليب سبب فرح لنا، وننال به قوة للخلاص وحياة للمجد الأبدى.

 

4-
التجسد والصليب

إذا
أردنا أن نتعمق الأصول الأولى التي نبع منها الصليب وبلغت الآلام غايتها العظمى
بالفداء، علينا أن نعود مباشرة إلى التجسد، لنربط ” الكلمة صار جسداً”
(يو1: 14)، والجسد المكسور الذي ينزف على الصليب! فلولا التجسد، أى لولا أن ابن
الله صار إنساناً كاملاً ذا جسد ونفس وروح مثلنا تماماً، لما استطاع أن يتألم
بآلام تنتهى بالموت الفدائى.

ولا
يغيب عن أذهاننا قط لحظة الصلة الحية الجوهرية بين ” التجسد ” والصليب!!
فالكلمة صار جسداً، ليستطيع عمل الفداء ويكمله بجسده بدم صليبه!!

ولكى
نسير خطوة أعمق نحو سر الفداء، الذي نرى أنفسنا فيه كمفديين ونلنا الخلاص بدم
المسيح المسفوك على الصليب لأجلنا بالحب الباذل المعطى الموهوب للعالم من قبل
الآب، يلزم أن نعرف قبلاً ما هو موقعنا من سر التجسد، لأنه هو السر المؤدى للفداء.

والتجسد
هو اتحاد كامل بين الله والإنسان في شخص المسيح، لذلك صار قبولنا للفداء واتحادنا
بشخص المسيح (بتناولنا دمه) معناه أننا دخلنا في سر الاتحاد بين الله والانسان –
أى سرالمسيح!!

وهو
عودة الإنسان إلى الله!! عودة حياة الشركة المقطوعة بآدم التي كانت بين الإنسان
والله!!

أما
كيف ندخل إلى سر الاتحاد بين الله والانسان، لنستعيد الصلة مع الله، فهذا أكمله
لنا المسيح بدم صليبه بآلام الموت، بالفداء الذي هو تقديم نفس عوضاً عن نفس،
ليربطنا في الله بآلامه وموته.

فالآن،
كل من يؤمن بصليب المسيح – أى يدخل سر الفداء – ويشرب دم المسيح الذي للخلاص، يتحد
بالمسيح، فيدخل في سر التجسد، سر العلاقة أو سر الاتحاد بين الله والإنسان.

وهذا
هو واقع المصالحة التى أكملها المسيح للإنسان مع الله بدم صليبه. وكما وضح لنا
معلمنا بولس الرسول في رسالته الى أهل كولوسى: “لأن فيه سر أن يحل كل الملء.
وأن يصالح به الكل لنفسه عاملاً الصلح بدم صليبه بواسطته سواء كان ما على الأرض أم
ما في السموات.” (كو1: 19، 20).

وباختصار،
يكون التجسد قد أنشأ الفداء. والفداء عاد فأنشأ الاتحاد بالله، الذي كان مقطوعاً
بسبب الخطية. والاتحاد هو المصالحة وهو الخلاص. وبهذا يرتبط الصليب بالتجسد
ارتباطاً جوهرياً من جهة خلاصنا. فالمسيح له المجد ابن الله الكلمة تجسد ليخلصنا
بآلامه وموته بالجسد.

 

5-
التجسد والفداء

ويقول
القديس إيرينيئوس:


ابن الله صار ابن الانسان (بالتجسد) لكى يصير الانسان ابن الله (بالموت على
الصليب)”.

هذا
هو السر المخفى منذ الدهور، والآن قد أعلنه الله للعالم كله بموت المسيح وقيامته:

أن
الله أضمر منذ البدء أن يرفع الخليقة البشرية الخاطئة والساقطة إلى حالة التبنى
ليتحد بها بواسطة تجسد كلمته، الذي به أكمل فداءها من الخطية والموت بموته على
الصليب.

وهكذا
تمت مشورة الله على مرحلتين:

{1}
الله اُستعلن للبشرية أولاً بالتجسد، فأصبح التجسد تاج الخليقة وكمالها الإلهى في
شخص يسوع المسيح:

“عظيم
هو سر التقوى الله ظهر في الجسد” (1تى3: 16).

{2}
الحياة الأبدية التي كانت عند الآب محجوزة عنا، استُعلنت ووهبت للانسان بموت
المسيح على الصليب، عندما قام ناقضاً أوجاع الموت وقاهراً سلطانه وكاسراً شوكته.

(لأن
المسيح بقيامته صار باكورة الراقدين – 1كو15: 20).

والنتيجة
الحتمية للقيامة هى أن الروح القدس روح الحياة في المسيح يسوع انسكب على البشرية،
وهكذا انتقلت الحياة الأبدية للإنسان عَبرْ التجسد والصليب ثم الموت والقيامة.

وهكذا
يظهر التجسد كدرجة أساسية في تكميل الخليقة البشرية ورفعها إلى مستوى صورتها
الأولى الأساسية المكرمة في الله، في شخص المسيح نفسه.

ثم
يظهر الفداء بموت المسيح على الصليب كدرجة حتمية لتكميل غاية التجسد وهو الاتحاد،
حتمية من وجهة نظر الله، حتمية الحب الذي أحب به الله العالم، ليرفع الخليقة
البشرية كلها من الهلاك إلى حياة أبدية في حالة التبنى.

وهكذا
يتضح أمامنا أن التجسد والفداء عملان متلازمان أساسيان، بل وحتميان.

التجسد:
الاتحاد كنموذج فعال.

الفداء:
إعطاء هذا الاتحاد كهبة.

هذا
هو التدبير الإلهى لتكميل الخليقة البشرية ورفعها من العداوة إلى حالة التبنى، ومن
الانفصال إلى الاتحاد بالله بواسطة المسيح.

من
هذا يتضح لنا أن الفداء الذى أكمله المسيح على الصليب ليعيد لنا شركتنا واتحادنا
المفقود مع الله، إنما يقوم على أساس لاهوتى بالنسبة للتجسد باعتبار أن التجسد هو
المسئول عن عطية الفداء، أى إعادة اتحاد الإنسان بالله.

 

6-
أنواع آلام المسيح

أنواع
الآلام التي قبلها المسيح:

يوجد
نوعان أساسيان للآلام التى قبلها:

النوع
الأول:

هى
الآلام التي دخلت إليه من واقع قبوله للطبيعة البشرية بكل اعوازها وضعفها.

فآلام
الجوع والعطش والتعب وحزن النفس من جراء الاتهامات والمطاردات والمصادمات
والخيانات والشتيمة والإهانة، كل هذه قبلها المسيح كما يقبلها أى إنسان، فقد صار
مثلنا في كل شئ ما خلا الخطية وحدها: ” بل مجرب في كل شئ مثلنا بلا
خطية” (عب4: 15).

هذا
النوع من الآلام قبلها اضطراراً من جهة الحب والحق والاتضاع، والتزاماً من جهة
المشورة الإلهية التي حتمت بالتجسد ولكن لم يكن مضطراً لقبولها، ولا تحتم عليه
الالتزام بها من جهة خبث الناس وشرهم أو جور الطبيعة واختلال موازينها، فهو كان
قادراً على أن يمنعها ويرد عليها ويلغى سطوتها وكل آثارها، فالذى سار على الماء
كان في قدرته أن لا يتعب من السفر على الأرض، والذى قال للسامرية أنه قادر أن يعطى
ماء حياً وكل من يشرب منه لا يعطش ابداً بل ينبع فيه الى حياة أبدية كان قادراً أن
لا يطلب منها ليشرب ويستقى بفمه من دلوها النحاسى، والذى أطعم الخمسة آلاف من
الجموع من خمس خبزات كان قادراً أن لا يجوع أو على الأقل أن لا يطلب طعاماً ليرد
به جوعه، والذى أقام لعازر من الموت كان قادراً أن يُميت أو يُخرس فم الأشرار من
الكتبة والفريسيين والرؤساء الذين تربصوا به وأهانوه وأخرجوا عليه كلاماً شريراً.

وهكذا
يتضح أنه قَبِلَ هذه الآلام في جسده ونفسه قبولاً طبيعياً بالتزام الحب، وبدافع
الاتضاع والمشاركة لنا في آلامنا التي بحسب هذا الدهر ” مُجرب في كل شئ مثلنا
“، ولكن ليس بحتمية الإلتزام أو الخضوع لشر الأشرار وجور الفجار أو ضعف
الطبيعة أو تسلط المقادير. إذن فهى آلام لمجرد الشركة في طبيعتنا، دخلت إليه
دخولاً طبيعياً، فقبلها هو حباً لنا وتكريماً لضعفنا ومذلتنا.

النوع
الثانى:

هى
آلام الفداء! آلام الصليب والموت! هذه قبلها هو بارادته وحتمَّها هو على نفسه
تحتيماً ” لأجل هذا أتيت الى هذه الساعة ” (يو12: 27)، وقبل حتميتها من
الآب بحسب مشورة ما قبل الدهور كلها: “الكأس التي أعطانى الآب ألا
أشربها” (يو18: 11).

فالصليب
محسوب حسابه قبل الزمن: “عالمين أنكم افتديتم لا بأشياء تفنى بفضة أو ذهب من
سيرتكم الباطلة التى تقلدتموها من الآباء. بل بدم كريم كما من حمل بلا عيب ولا دنس
دم المسيح. معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم ولكن قد أُظهر في الأزمنة الأخيرة من
أجلكم ” (1بط1: 18 – 20).

وصلب
السيد المسيح له المجد على خشبة الصليب، هذا أيضاً كان مرسوماً ومكمَّلاً في
التدبير الالهى كفعل كامل تم في المشورة العلوية، ولا ينتظر إلا استعلانه بحسب
الواقع البشرى.

“..
الذين ليست اسماؤهم مكتوبة منذ تأسيس العالم في سفر حياة الخروف الذي ذبح.”
(رؤ13: 8).

وهكذا
فإن آلام الصليب الفدائية لها في الحقيقة وجهان:

وجه
بشع أرضى، يمثله حقد اليهود وشرُّهم المريع وعداوتهم وكذبهم ونميمتهم، مع ظلم وعنف
القضاء الأممى.

ووجه
الصليب سمائى، ينضح بالحب والمسرة والبذل الإلهى الفائق الوصف من نحو العالم:
“هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد” (يو3: 16)، وإنصافاً للحق
وتكميلاً للبر الأبدى وخلاصاً عميقاً متسعاً يشمل كل الدهور.

ولكن
الوجه البشع الأرضى لم يثنى المسيح قط عن أن يتمم مطالب الوجه السمائى المملوء
حباً وطاعة ومجداً وكرامة للآب وخلاصاً عميقاً أبدياً للإنسان!!

لذلك
فبسبب حقيقة الوجه السمائى للصليب، صار قبول المسيح لعار الصليب بكل صنوف المهانة
والهوان والإذلال المريع، صار يُعتبر انتصاراً رائعاً للحب الإلهى ولمجد الله في
السماء وخلاص الإنسان على الأرض!!

فالصليب
كان طريق الاتضاع، بل والمذلة الإرادية المذهلة التي أوصلت المسيح الى قمة
الانتصار والمجد السمائى ومعه الخليقة الجديدة، ملايين المفديين من بنى الانسان
الذين رفعهم الى ذات المجد وذات الانتصار وأدخلهم معه الى الحياة الأبدية في شركة
الآب في الفرح الأبدى.

 

7-
آلام المسيح بالنسبة لحياتنا اليومية وخلاصنا الأبدي: شاركنا في الآلام

لقد
شارك الله البشرية في آلامها الطبيعية التي كانت هذه الآلام اليومية محسوبة أنها
لعنة بسبب الخطية، فبتجسد ابنه لم تعد آلام حياتنا اليومية معتبرة أنها لعنة أو
عقوبة، فالجهد والتعب والعرق من أجل لقمة العيش الذي صار عقوبة لادم شاركنا فيه
كلمة الله بنفسه متنازلاً عن مجده محتملاً كل الآلام والتجارب مثلنا، ليرفع اللعنة
عن الجهد والتعب والعرق والألم، ويحوله لنا الى شركة حب مع الله في المسيح، محولاً
الحياة برمتها لتكون غايتها ميراثاً مع الله في المسيح.


من ثم كان ينبغى أن يشبه اخوته في كل شئ لكى يكون رحيماً ورئيس كهنة أميناً في ما
لله حتى يكفر خطايا الشعب. لأنه في ما هو قد تألم مجرباً يقدر أن يعين
المجربين”. (عب2: 17، 18).


وهو مات لأجل الجميع كى يعيش الأحياء فيما بعد لا لأنفسهم بل للذى مات لأجلهم
وقام.” (2كو5: 15).


فاذا كنتم تأكلون أو تشربون أو تفعلون شيئاً فافعلوا كل شئ لمجد الله.”
(1كو10: 31).

كيف
يكون ذلك؟

لقد
استقطب المسيح ليس فقط الآلام اليومية الطبيعية عندما بلغ بالآلام إلى الموت
الفدائى لرفع الخطية وإبطال سلطانها، بل حوَّل الحياة كلها لحسابه!!

أى
أننا نتعب ونشقى ونتألم من الآن من أجل الرب وحبا فيه وشركة معه.

لأن
الخطية كانت سبباً في انفصال آدم عن الله، ودخوله في لعنة آلام الحياة اليومية:
“ملعونة الأرض بسببك” (تك3: 17).

ولكن
لأن المسيح أبطل سلطان الخطية التي هى سبب اللعنة بالفداء على الصليب، فانه ينتج
من ذلك أن المسيح قد رفع عنصر اللعنة المتغلغل في الآلام والأتعاب اليومية
باعتبارها عقوبة الحياة.

فصار
الجهاد والألم لكل انسان – يعيش في الفداء والصليب – هو مشاركة حياة مع المسيح
الذي قبل لعنة الموت في نفسه ورفع الانفصال عن الله.

الآن
نحن لا نحيا لأنفسنا، وبالتالى لا نتألم لأنفسنا، لأن ابن الله مات عنا ليعيدنا
الى الحياة مرة أخرى وتألم عنا ليرفع اللعنة عن الألم، فلا..يُحسب الألم عقوبة بل
شركة في آلام المسيح.

لذلك
أصبحت الآلام اليومية لكل مفدى الله هى شركة حب، هى وقود لإشعال القلب كل يوم بالحب
الإلهى، وكأننا لا نتألم وحدنا ولالأنفسنا بل نتألم لنزداد قرباً من الله ونزداد
حباً وحياة فيه!!

 

8-
آلام الفداء

هنا
الآلام التي احتملها المسيح حتى الموت، هى كفاَّرة للفداء، لذلك فهى آلام فوق
مستوى البشرية موجهة ضد الخطية مباشرة، ليست لمجرد غفران الخطية، وليست لمجرد
المصالحة مع الله، ولكن لاقتلاع الخطية نفسها من أصولها، ومحوها، والانقاذ من
سلطان الخطية وسطوة الموت!!

هذا
هو معنى الفداء ” الفداء بدم صليبه” (كو1: 20).

هنا
ليس آلام وحسب بل آلام للموت. والانتصار الذي تم ضد سلطان الخطية والموت وابليس لم
يتم باحتمال الآلام وحسب بل بقبول الموت لتتم القيامة.

فالموت
إجراء فدائى أساسى، ولكنه لا ينتهى في ذاته بل هو موت لقيامة. والقيامة هنا مرتبطة
بالموت { الفداء }، ثم بالصليب والقيامة معاً. فكل من قبل موت المسيح على الصليب،
يكون قبل القيامة، وحاز الفداء.

لذلك
فبسبب القيامة، صار موت المسيح نصرة فوق الموت.

ولذلك
كان الإيمان بموت المسيح على الصليب ليس لمجرد قبول غفران خطايا ولا لمصالحة مع
الآب وحسب، ولا للحصول على البراءة أو التبرير، ولكن: لقبول نصرة على الموت، وعل
سلطان الخطية، بقبول القيامة كحياة أبدية، حياة جديدة، خليقة جديدة بالروح القدس.

عمل
قوة موت المسيح على الصليب في الطبيعة البشرية بقبول آدم لعنة الموت، بسبب التعدى
على وصية الله – صارت نتيجته المباشرة، فقدان الانسان الصلة المحيية التي كانت
تربطه بالحياة مع الله.

لقد
فقدت النفس وفقد الجسد الألفة والرباط الذي كان يربطهما بالله، وصارا قابلين
للتفكك والنزاع، وبالتالى قابلين للمرض والانفصال – أى الموت والفساد. ولكن الله
خلق الانسان على غير فساد. إذاً الفساد هنا عرض. وليس من صميم طبيعة خلقته الحسنة،
” الموت هو أجرة الخطية” (رو6: 23)، هو استعلان الخطية!!

والموت
هنا واقع على الجسد، لأن النفس لا تموت. لذلك بقى للإنسان رجاء. موت المسيح حقق
هذا الرجاء، رجاء غلبة الموت بدفع أجرة الخطية، فقام الجسد. وصار باكورة الراقدين
(1كو15: 20)، أى أعطى كل الراقدين رجاء بل قوة القيامة!! قيامة الجسد والنفس في
ألفة الروح القدس بالاتحاد بالمسيح الذي هو القيامة والحياة!!

وبذلك
صار موت المسيح على الصليب هو نفسه مصدر القوة لإلغاء الموت وإعطاء قوة القيامة.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى