علم المسيح

درب الصليب



درب الصليب

درب الصليب

وكانت
الساعة ما بين الحادية عشرة والظهر-“الساعة السادسة”، بحسب رواية يوحنا
(19: 14) – عندما غادر الموكب حصن الأنطونيا. (1)

. لقد
أثبتت التقاليد، في أورشليم، منذ أمد بعيد (أي منذ عهد الحجاج الأولين، في القرن
الرابع). مراحل الطريق الذي سلكه المسيح، ذهاباً من الأنطونيا حتى موضع الإعدام.
والحق أن تلك المعالم لا تتخطى حيز الافتراض، نظراً إلي ما تراكم في المدينة
المقدسة، عبر الأجيال، من أنقاض، ورسب في قيعانها من ركامات.. فهل انطلق الموكب
تواً، أخذاً من باحة الهيكل، فيكون إذ ذاك قد اجتاز أسوار الحرم من باب النذير،
وكان يعرف، في الأجيال الوسطي “بباب الآلام”؟ من العبث أن نقيم وزناً
لتلك المعالم المفصلة التي يشاهد مثلها في جميع مزارات الدنيا، كأن نعني – مثلاُ –
بتلك الدرجة التي اصطدم بها المسيح، وهوي فوقها، والتي يشير إليها الأدلاء بثقة
مقلقة.. على كل لم يكن الشوط طويلاً – من 40. إلي 50. مائة متر علي الأكثر –
واحتمال الخطأ، في ذلك، ضعيف. فقد اختاروا لتنفيذ العقوبة أقرب موضع إليهم، في
النقطة التي ترسم فيها الأسوار زاوية معكوسة. ولابد أن يسوع قد هبط – حتماً – أحد
تلك المسالك المدرجة التي كانت – ولا تزال – تنحدر من الهيكل إلي ساقية التيروبيون
(وكان مجراها، عهد ذاك. أعمق منه اليوم)، ثم صعد، مواجهة، شطر شمالي غربي المدينة.
وكانت الأزقة – كاليوم – ضيقة تكتنفها أبنية مرتفعة شحيحة النوافذ، وتكسوها، علي
غير انتساق، صفائح حجرية زلقة، تتخللها بقاع ظل، ولمع شمس باهرة، ولا شك أنها كانت
تعبق، عهد ذاك، بما تعبق به اليوم أيضاً، من الأخلاط المسكية والعفائن الحادة التي
تسطع في جميع أسواق الشرق

 

.
جاءنا من بلوتارك أن المحكوم عليهم بالصلب كانوا يضطرون إلي حمل آلة عذابهم، وفي
ذلك ما يدعم الإشارة المقتضبة، المدونة في إنجيل يوحنا: “وحمل يسوع
صليبه” (19: 17). وقد ذهب بعض الكتاب إلي أنه لم يحمل سوي العارضة الأفقية،
وأما الخشبة العمودية فكانوا يذرونها ناشبة في موضع الصلب. ومهما يكن من أمر، فقد
كان وزن الخشبة ثقيلاً (30 كيلو للعارضة الأفقية، وسبعون كيلو، علي الأقل، للصليب كله)،
وهكذا تقدم يسوع، وهو ينوء، أكثر فأكثر، تحت عبء صليبه.. “من أراد أن يأتي
ورائي فلينكر نفسه، وليحمل صليبه، ويتبعني!” (متى 16: 24). لقد استشاط بطرس،
يوم فاه يسوع بهذه الكلمات، في قيصرية فيلبس، منبئاً بها بموته، وما استوعب معناها
إلا من بعد. وأما نحن فإننا نسمعها من خلال هذابة ألفي سنة من التقاليد المسيحية،
فما تتناهى إلينا إلا في غمرة أنوار الجلجثة. “فأن نحمل الصليب” بل أن
نسمر علي خشبة، لم يعد محض استعارة. وقد قال أحد أبطال “بشارة مريم”
للشاعر الفرنسي بول كلوديل: “هل غرضنا من الحياة أن نعيش؟ كلا! بل أن نموت،
لا أن نضع الصليب، بل أن نعلق عليه! ”

 

. كان
لابد أن يهبط الصليب، بعبئه، قوي رجل أنهكته ليلة سهاد واستجواب، واستنزفت دماءه
جلدات قاسيات. فشهر نيسان شديد الحر، في اليهودية، ولا سيما حوالي الساعة الحادية
عشرة صباحاً. وكان لابد للمحكوم عليه – كما ذكرنا – أن يسلك، هبوطاً وصعوداً،
مسالك وعرة، وهو تحت وقره. فهل أشفق قائد المائة علي ضحيته من أن يتحيفها الموت
قبل أن تنفذ فيها العقوبة؟ لقد ذكرت الأناجيل الثلاثة المؤتلفة، من غير تعليل، أن
الجند “صادوا في الطريق رجلاً، فسخروه ليحمل صليب يسوع” (متي 27: 32،
مرقس 15: 21، لوقا 23: 26). كان عائداً من الحقول: فالفصح الشرعي لم يكن بعد
ابتدأ. والعمل كان حلالاً. وكان اسمه سمعان القيرواني: واحد من اليونانيين
المهاجرين من المدينة الأفريقية المشهورة، عاصمة بلاد القيروان، أو فرد من أفراد
الجالية الكبيرة التي كانت قد استوطنت تلك الأصقاع. ويضيف البشير مرقس، موضحاً،
أنه كان ” أبا الاسكندر وروفس “، وكانا، علي الأرجح، من الرجال
المعروفين في الجماعة الرومانية التي وجه إليها مرقس إنجيله. ويذكر الرسول بولس
(روميه 16: 13) روفس ريما كان أحدهما. وهناك تقليد يذهب إلي سمعان هذا، كان واحداً
من السبعين الذين بعثهم يسوع رسلاً من فريق المنزلة الثانية. فإذا كان ابناه
مسيحيين، فقد أصبح مقبولاً أن يكون الرجل الذي “حمل الصليب” – بالمعني
الحقيقي – قد أثيب، عن ذلك، بنعمة الهداية

 

.
وكان يتبع يسوع، علي درب الآلام، “جمهور غفير من الشعب” (لوقا 23: 27)، فمن
شأن عقوبات الإعدام أن تستهوي الفضول المريض، وليس من عجب أن يكون الرأي العام قد
اهتز لنبأ إعدام ذاك الذي – قبل خمسة أيام – دخل المدينة دخول الفاتحين. بيد أن
تلك الأفواج المصطفة علي حواف الطرق التي كان يسير فيها الموكب، لم تكن لتضم فقط
أناساً من أهل البطالة والسادية، بل كان فيها من أهل المحبة والصداقة والولاء. ومع
ذلك فما أطلق أحد صرخة، علي ما يبدو، وما أتي أحد محاولة في سبيله! وكان من سنن
الشرع اليهودي أن تدخل فرد واحد من الجماعة بإمكانه – حتى اللحظة الأخيرة – أن
يوقف تنفيذ العقوبة. وكان ذلك القانون، عند اليهود، من الإلزام، بحيث وضعوا،
لتنفيذ أحكام الإعدام، الإجراءات التالية: كان يقف عند باب السنهدريم مناد يحمل
علماً. وكان يتبع الموكب الذاهب بالمحكوم عليه، فارس يتلفت دوماً إلي موضع
الانطلاق، فإذا تقدم إنسان إلي السنهدريم وتكلم في صالح المحكوم عليه، لوح بالعلم،
وأعيد الرجل إلي مجلس القضاة

 

.
هكذا استطاع موكب الأسى أن يقطع من الطريق أمتارها الأربع مائة، واستطاع الجمع أن
يستمع إلي حاجب السنهدريم يردد عبارته المألوفة: “إذا شئتم أن تثبتوا براءة
يسوع، فبدار!” (علي افتراض أنهم تقيدوا بهذا النص من القانون)، كل ذلك ولم
يأت أحد بإيماءة، ولم ينبس أحد بكلمة! قبل خمسة أيام كان المجد، وكانت الهتافات
المهووسة، وأما الآن!.. سوف يقول “بيغي”: “عندما يقع إنسان، فالناس
كلهم عليه! ” ولكم عرفنا، في التاريخ، من رجال رفعتهم الجماهير إلي أوج
العزة، ثم خذلتهم، دفعة واحدة، بمثل ذاك الجحود! فالكتل الشعبية خاضعة أبداً
لنزواتها المنفلتة، ولئن كانت سريعة إلي الحمية، فهي أسرع إلي الشك والذعر والسخط،
ولذلك فهي لا تنقاد إلا للنواميس الأولية، والغرائز البدائية التي لا يسيطر عليها
العقل

 

..
إنها الخيبة، عند البعض، من تخاذل يسوع ونكوصه عن الضربة المنتظرة، وهو عند البعض
الآخر، ترقب معجزة باتوا ينتظرونها بفضول خسيس، وهو الحقد. أخيراً، وما يقبع في
قلب الإنسان الزري. من تحامل علي العظمة الحقة! أجل، لقد كان لهم في ذلك كله ما
يصرفهم عن القيام بأي محاولة لاستنقاذ ذاك النبي الجاد وراء هلاكه! هذا وكان لابد
من الإسراع في ابتياع الخبز والأقراص والتين والتمر واللحم والخضار لمأدبة الفصح.
فغداً – – أي في مساء اليوم عينه – حوالي الساعة السادسة، سوف يطل السبت الأكبر،
ويكون قد فات الأوان!

 

. إلا
أن نساء كن هناك، أكثر جرأة، وأقل حذراً. لقد أحببن يسوع فجئن ينحن، وأراد المسيح
أن يخاطبهن للمرة الأخيرة، ويستودعهن إنذاراً حاسماً: “يا بنات أورشليم، لا
تبكين علي! ابكين بالأحرى علي أنفسكن وعلي أولادكن! فها هي ذي أيام تأتي، يقال
فيها: طوبى للعواقر، البطون التي لم تلد، وللثدي التي لم ترضع! عندئذ يأخذون
يقولون للجبال: اهبطي علينا! وللآكام غطينا!” هي المدينة المدمرة! وقد انتصبت
صورتها المرعبة، مرة أخري، في المستقبل الذي أنشأ يستحضره! في ذلك اليوم، سوف ينال
هذا الشعب جزاء أوزاره: فإنه إن كان هكذا صنع بالعود الرطب، الزاخر بالحياة، فكيف
بعودهم اليابس، المنخور بالتصلب! (لوقا 23: 28 – 31)

 

. ثمة
تقليد تلقته الكنيسة الكاثوليكية وكذا الكنيسة الأرثوذكسية – وتشهد به المرحلة
السادسة من درب الصليب – مفاده أن إحدى تلك النساء اجترأت ومسحت وجه المحكوم عليه،
ذاك الوجه المشوه بالضربات، الملوث بالبصاق والغبار والعرق والدم، وقد ذهب أولاً
إلي أنها مرتا مضيفة المسيح في بيت عنيا، وتلك مأثرة تتلاءم وسجية تلك النفس
القوية. ثم ثبتت العادة علي تسميتها باسم “فيرونيكا” وقد تسوئل: هل هي
المرأة النازفة الدم التي أبرأها يسوع يوماً فأقامت علي الوفاء بالجميل. وقد سلم
أحياناً بأنها زوجة زكا، العشار! وقد جاء في أسطورة مؤثرة أن تلك المرأة، بفضل
إيمانها العظيم، قد عاينت صورة السيد مرتسمة علي المنديل الذي مسحت به محياه
الإلهي

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى