علم الله

الفصل السادس والأربعون



الفصل السادس والأربعون

الفصل السادس والأربعون

الصلاة

 

1 – ما هي
الصلاة الحقيقية؟

مقالات ذات صلة

* الصلاة هي خطاب النفس
لله، توضح فيها محبتها له، وإجلالها لكماله الإلهي، وشكرها على كل مراحمه، وتوبتها
عن خطاياها، واتكالها على محبته وشفقته، وخضوعها لسلطانه، وثقتها في عنايته،
ورغبتها في رضاه، وطلبها بركات عنايته الروحية والجسدية. والمؤمن الحقيقي هو الذي
يتَّخذ الموقف اللائق أمام خالقه، ويدرك صفاته الإلهية، وعلاقته به باعتباره
الخالق والحافظ والفادي، بروح الإكرام والطاعة اللائقة. ونطلق كلمة “صلاة”
على التعبير بكلماتنا عن أفكارنا ومشاعرنا وأشواقنا من نحو الله. ولذلك فإن من لا
دين له لا يصلي، أما صاحب الديانة الصحيحة فيُظهِرها بصلاته، فالصلاة مع الشكر جزء
مخصوص من العبادة الدينية، يطالب الله بها كل الناس، على أن تُقدَّم باسم الابن
وبمعونة روحه وحسب مشيئته، بالتعقل والوقار والاتضاع والحرارة والمحبة والمواظبة.
ويجوز أن نطلب في صلاتنا كل أمرٍ جائز، وأن نتوسَّل لأجل جميع أنواع الناس، أحياء
أو ممن سيحيون. ولا تجوز الصلاة لأجل الموتى، ولا لأجل الذين قد عُلم أنهم ارتكبوا
الخطية التي للموت (وهي التجديف على الروح القدس برفض شهادته للمسيح).

2 – ما هي
الحقائق التي يجب التسليم بها في الصلاة؟

* تقتضي الصلاة التسليم
بأمور كثيرة، نذكر منها:

(1) التسليم بأن الله
شخص ذو ذات، عندما يتكلم عن نفسه يقول “أنا” ونخاطبه بالضمير “أنت”
فإنه لا يدرك ويجاوب ويحب ويخاطب الذوات إلا الذات. فإن كان “الله” فكرة
مجردة، أو قوة مجهولة، أو اسم إشارة إلى نظام الكون الأخلاقي، لكانت الصلاة جهالة.

(2) التسليم بقرب الله
منّا ومعرفته أفكارنا ورضاه أن نخاطبه. فلو كان بعيداً ما أمكن أن نخاطبه. لكنه
قريب، ويريد أن نخاطبه، وهو يسمعنا، ويعلم أفكارنا من بعيد، ويعرف طلباتنا من قبل
أن نطلبها.

(3) التسليم بأنه يدبر
كل الطبيعة، ويسيطر على كل خلائقه وكل أعمالهم. فكما أنه خلق كل الأشياء، ومنح
المادة والروح خواصهما، فهو أيضاً حاضرٌ في كل مكان، يُدبر هذه القوات، فلا يحدث
أمر بدون تدبيره أو إذنه. فإذا أمطرت السماء أو لم تمطر، وأخصبت الأرض أو أقفرت،
وخاب رجاء الفلاح، فذلك لأن الله أراد، وجعل قوانين الطبيعة تنتج هذه النتائج. فلا
تصح نسبة ما ذُكِر إلى مجرد عمل الطبيعة، بل إلى تدبير الله. فليس للطبيعة سلطانٌ
على الله، بل هو مالك ومدبر كل أعمالها ليتمّم مقاصده. وكما نتمم نحن أعمالنا
باستعمال القوانين الطبيعية استعمالاً عقلياً اختيارياً، كذلك يتمم الله قصده بها
بالحكمة والاختيار. فإذا أراد مثلاً أن يعطي المطر جعل كل الأسباب الثانوية التي
تُنزل المطر تعمل معاً لإحداثه. وتستلزم العناية أن يعمل الله في دائرة الكون ما
نفعله نحن في دائرة فعلنا المحدود. غير أننا محتاجون للقيام بما هو خارج عنا
لنستخدم الأسباب الثانوية، فلا نستطيع أن نعمل شيئاً ضدها أو بدونها، وأما الله
فليس محتاجاً إلى ذلك، بل إن شاءت مشيئته يقدر أن يعمل ضد الأسباب الثانوية
وبدونها كما يعمل بواسطتها.

(4) التسليم بأن الله
فوق العالم ومستقل عنه، وقد خلق العالم، وكل الأشياء المادية بخصائصها وقواتها
المختلفة، التي يدبرها هو بنفسه على الدوام بعلمه الكامل وقدرته على كل شيء.

(5) التسليم بأن سلطان
الله يصل إلى عقول البشر وأفكارهم وإحساساتهم وميولهم، وأن قلب الإنسان في يديه،
ويقدر أن يديره كما تُدار جداول المياه (أم 21: 1).

لقد خلق الله كل
الأشياء بكلمة قدرته، وجعل في خلائقه خصائصها، فيحقّ لنا أن نصلي لأجل المطر
والصحو والتوفيق في السفر وغير ذلك، وأن نشكر لأجل البركات التي لا تُحصى من عطايا
ذلك الآب الجواد.

ولله سلطان كامل على
أفكار البشر، فلا يناقض العقل أن نصلي له ليحوّل قلوبنا وقلوب الغير إلى الصلاح،
كما نصلي له لأجل الصحة. وكل من يؤمن بقوة الصلاة يدرك أن حوادث العالم المادي
والأخلاقي لا تحدث صدفة. بينما يوضح لنا الكتاب المقدس القضاء السابق، يوضح لنا
أيضاً فاعلية الصلاة، فلا يمكن أن يكون أحدهما ضد الآخر. وقد قضى الله أن يكمل
مقاصده باستعمال ما عيَّنه من الوسائط، ومنها صلوات شعبه. فإن جاز لأحدٍ أن يعترض
على الصلاة بزعم أن الله سبق وعيّن ما سيحدث، يجوز أن نعترض على استعمال الوسائط
في كل أمر. وإذا كان لا يجوز لأحدٍ أن يقول “إذا قُضي لي أن أعيش فلا داعي
لأن آكل” يجوز له أن يقول “إذا قُضي لي أن أحصل على الخير فلا داعي لأن
أصلي لأجله!”. فإذا كان الله قد قضى بأن يباركنا، فقد قضى أيضاً أننا نطلب
منه البركة، لأن علاقة الصلاة بالخير الممنوح لنا كعلاقة أية واسطة للحصول على
الغاية المقصودة.

3 – إلى
من نوجِّه الصلاة دائماً؟

* لا يجوز توجيه الصلاة
إلى غير الله، الآب والابن والروح القدس. فصلاة الوثنيين إلى كائنات وهمية أو إلى
أصنام لها أعين ولا تنظر وأيادٍ ولا تخلِّص، باطلة لأنها توجيه صلاةٍ إلى مخلوق لا
نعلم بحضوره، ولا برهان على أنه قادر أن يسمع أو يستجيب طلباتنا.

وقد توجّهت صلوات العهد
القديم بالإجمال إلى الله الإله الواحد، لأن تثليث الأقانيم في اللاهوت لم يكن
حينئذ قد أُعلن إعلاناً تاماً. أما في العهد الجديد فقد توجَّهت الصلاة إمّا إلى
الله المثلث الأقانيم، أو إلى الآب أو الابن أو الروح القدس (لكل أقنوم وحده).
وتسبيحات المسيحيين قد تتوجّه إلى الله الواحد أو لكل أقنوم على حدة. وتشتمل
الصلاة على كل خطاب نوجّهه لله، سواءٌ كان تسبيحاً أم اعترافاً أم طلباً أم
تمجيداً، وعليه نرى في العهد الجديد صلوات موجّهة إلى المسيح، فالرسل صلّوا له وهو
معهم على الأرض، وطلبوا منه بركات لا يمكن أن يمنحها إلا الله. ومن ذلك قولهم “يا
رب، زد إيماننا” (لو 17: 5). واللص المصلوب، لما أشرق عليه نور الحق، قال: “اذكرني
يا رب متى جئت في ملكوتك” (لو 23: 42). وآخر كلام نطق به استفانوس الشهيد
الأول كان “أيها الرب يسوع، اقبل روحي” (أع 7: 59). وبولس الرسول قال “أشكر
المسيح يسوع ربنا الذي قواني أنه حسبني أميناً إذ جعلني للخدمة” (1تي 1: 12)
وقال يوحنا: “الذي أحبنا وقد غسلنا من خطايانا بدمه وجعلنا ملوكاً وكهنة لله
أبيه. له المجد والسلطان إلى أبد الآبدين. وكل خليقة مما في السماء وعلى الأرض
وتحت الأرض وما على البحر كل ما فيها، سمعتها قائلة: للجالس على العرش وللحَمَل
البركة والكرامة والمجد والسلطان إلى أبد الآبدين” (رؤ 1: 5، 6 و5: 13).
ويعلّمنا الكتاب أن المسيح هو إله ظهر في الجسد، وقد دُفع إليه كل سلطان في السماء
وعلى الأرض، وقد رُفع ليعطي التوبة ومغفرة الخطايا، ويعطي الروح القدس، ويحل فينا
ويحيينا. وكل ذلك يدفعنا لأن نوجِّه إليه صلواتنا، بحسب قوله “لكي يُكرم
الجميع الابن كما يكرمون الآب. من لا يكرم الابن لا يكرم الآب الذي أرسله”
(يو 5: 23). ولذلك يعبد جميع المسيحيين المسيح ويمجدونه ويلجأون إليه في وقت
الضيق، ويعترفون باسمه ويتحدثون بقواته، ويشكرونه ويسبحونه، ويوقفون أنفسهم
لخدمته.

وهناك من يعترض على
الصلاة لأنها تعني اهتمام الله العظيم بتوافه أمور البشر، مما يقلل مجده ويحط من
شأنه. ونسوا أن الله غير محدود في علمه وقوته وحضوره واهتمامه بشعبه. ونحن نعلم أن
الإنسان إذا نظر إلى مكان متسع يقدر أن يحيط نظراً وعلماً بأمور كثيرة في وقت
واحد. ولكن ما هو الإنسان بالنسبة إلى الله العالم بكل شيء، الذي لا فرق عنده بين
القليل والكثير وبين الصغير والكبير، الذي به تحيا جميع الخلائق وتتحرك وتوجد.

4 – ما هي
شروط الصلاة المقبولة؟

* لاستجابة الصلاة شروط،
أهمها ما يأتي:

(1) أن تكون من القلب:
فإن الله روح فاحص القلوب لا يرضى بمجرد الكلام أو بالوقار الظاهري، ولا يقدر
الإنسان أن يخدعه. فإذا خلت الصلاة من اشتراك القلب فيها كانت بلا فائدة، كاستعمال
كلمات الشكر بدون شكر قلبي، أو كلمات الاتضاع والاعتراف بدون الشعور بعدم
استحقاقنا، أو كلمات الطلب بدون التشوّق إلى البركات التي نطلبها. وكثيراً ما نصلي
بدون تركيز، فنكرر الكلام بدون تفكير. ومِن الذين يحضرون الكنائس مَن يكررون
كلماتٍ وقورة ويتظاهرون أنهم يتَّحدون مع المصلي في صلاته، ولكن بدون شعور
وانتباه.

(2) أن تكون بالوقار:
لأنه لما كان الله غير محدود في عظمته وقداسته وعلمه وقدرته، وجب على كل الذين
يقتربون منه أن يدنوا بالوقار اللائق بجلاله العظيم. ومخافة الله هي رأس الحكمة في
كل ديانة صحيحة، وبين كل قوم يعرفون الخالق ويخافون اسمه القدوس، ويسجدون له كما
يسجد أهل السماء أمام عرشه. فلا يجوز أن نخاطبه كما نخاطب البشر، أو نكلمه بألفاظ
الأُلفة الخالية من التوقير والاحترام. فإذا أردنا أن نصلي كما ينبغي لندرس سفر
المزامير، وهو سفر صلوات، لأن كل مزمور إما صلاة طلب أو شكر أو اعتراف. وكثيراً ما
تختلط هذه المواضيع معاً لتصف الأحوال الداخلية والخارجية للشخص المصلي. وفي
المزامير ترى المرنم يعترف بسلطان الله عليه، ويعلن على الملأ أن الله يدبِّر كل
الأمور، وأنه قريب إلى شعبه دوماً وأمين معهم، وأن علاقته بهم علاقة أب محبٍ
بأولاده. ولكنهم في جميع ذلك لم ينسوا عظمته غير المحدودة وما يحق له من عبارات
الإجلال والتوقير.

(3) أن تكون بالتواضع:
وهو الشعور بأننا غير مستحقين بسبب فسادنا وعدم أهليتنا في عيني الله. وهو روح
تواضع أيوب عندما وضع يده على فمه وقال “أندم في التراب والرماد”
وإشعياء إذ قال “ويل لي لأني نجس الشفتين” وروح العشار الذي لم يتجاسر
أن يرفع عينيه إلى السماء بل قرع على صدره قائلاً “اللهم ارحمني أنا الخاطي”.
وقد حسب كثيرون هذا الكلام مبالغة أو رياءً، ولكن الله اعتبره مناسباً، لأنه يعبّر
بصدقٍ عن المشاعر التي تنشأ من إدراكنا أننا خطاة في عيني الله البار الطاهر.

(4) أن تكون بلجاجة:
وقد علَّمنا المسيح لزومها ثلاث مرات. الأولى في قصة المرأة الفينيقية التي لم
تكفّ عن الصراخ قائلة “ارحمني يا سيد يا ابن داود” حتى نالت طلبها (مت
15: 22). والثانية في مثل قاضي الظلم الذي قال “فإني لأجل أن هذه الأرملة
تزعجني أنصفها لئلا تأتي دائماً فتقمعني” وقال الرب “اسمعوا ما يقول
قاضي الظلم! أفلا ينصف الله مختاريه الصارخين إليه نهاراً وليلاً وهو متمهّل
عليهم؟ أقول لكم إنه ينصفهم سريعاً” (لو 18: 5-8) والثالثة في قصة الإنسان
الذي رفض أن يعطي صديقه خبزاً، وقال فيه المسيح “وإن كان لا يقوم ويعطيه
لكونه صديقه، فإن من أجل لجاجته يقوم ويعطيه قدر ما يحتاج” (لو 11: 8).
واللجاجة من جانبنا تعني أننا ندرك قيمة البركات التي نطلبها. فإذا صلى أحد لأجل
حياته أو لأجل حياة أحبائه يجب أن يصلي بلجاجة حارة راجياً الاستجابة.

(5) أن تقترن بالتسليم:
فإن من عرف علاقته بالله، مهما كانت طلبته، يقول “يا رب، لتكن لا إرادتي بل
إرادتك”. وإن كان يليق بالابن أن يسلم في كل طلباته لأبيه الأرضي، فكم يجب أن
نُخضع إرادتنا لأبينا السماوي، الذي وحده يعلم ما هو الأوفق لنا، والذي إذا استجاب
كل طلباتنا ربما آل كثيرٌ منها إلى ضررنا. وقد ترك لنا المسيح وهو في بستان
جثسيماني مثالاً لذلك يجب أن لا ننساه أبداً.

(6) أن تقترن بالإيمان:
فيجب أن نؤمن: (أ) أن الله موجود. (ب) وأنه قادر أن يسمع صلواتنا ويستجيبها. (ج)
وأنه يحب أن يستجيب الصلاة. (د) وأنه لا بد أن يستجيب صلواتنا إذا كانت موافقة
لمقاصده الحكيمة ولخيرنا الأعظم. ولنا في الكتاب أوضح التأكيدات وأقواها لهذا
الإيمان، فقد أمرنا المسيح “اسألوا تُعطَوا. اطلبوا تجدوا. اقرعوا يُفتح لكم”.
وأكد لنا ذلك في وعده بقوله “مهما سألتم باسمي فذلك أفعله” (يو 14: 13).
وقوله أيضاً “إن اتفق اثنان منكم على الأرض في أي شيء يطلبانه فإنه يكون لهما
من قِبَل أبي الذي في السماوات” (مت 18: 19). ولكن جميع مواعيد الله هي على
شروط، إما ظاهرة أو مقدَّرة، فلا يخال عاقل أن الله أخضع سياسته للعالم، أو رتّب
عطاياه لطلبات البشر أصحاب الحكمة القاصرة بوعده إنه يفعل لهم كل سؤلهم، حتى إن لم
يوافق حكمة مقاصده. وقد جاء بيان الشرط المقدَّر في أماكن كثيرة، كقول يوحنا “هذه
هي الثقة التي لنا عنده: أنه إن طلبنا شيئاً حسب مشيئته يسمع لنا” (1يو 5:
14). وقد تُستجاب الصلاة بطريقة لا ننتظرها، كما استجاب الله صلاة بولس ليُنقذه من
شوكة جسده (2كو12: 8، 9). فإذا كنا مستنيرين روحياً سنثق أن استجابة الله هي أفضل
شيء لنا. وأكثر ما ينقص صلوات المسيحيين هو عدم ثقتهم بمواعيد الله الثمينة، وعدم
إيمانهم بأنه حاضر ومستعد لإجابتهم. فإذا كان الآباء الأرضيون يطلبون ثقة أولادهم
بهم، ويحزنون إذا رأوا فيهم ما يدل على عدم الاتكال، فكم بالحري أبونا السماوي
يطلب أن يرى فينا كل ذلك.

(7) أن تُقدم باسم
المسيح: كما قال المسيح لتلاميذه “مهما سألتم باسمي فذلك أفعله. لكي يعطيكم
الآب كل ما طلبتم باسمي. إلى الآن لم تطلبوا شيئاً باسمي. اطلبوا تأخذوا” (يو
14: 13 و15: 16 و16: 24). والمقصود باسم المسيح نفس المسيح، والمقصود بالإيمان
باسم ابن الله الوحيد الإيمان بأن المسيح هو ابن الله، وأنه قد أعلن كذلك مخلصاً
وحيداً للبشر. والمقصود بالقول إن فلاناً يعمل باسم فلان هو أنه يعمل بسلطانه
وبقوته، وبهذا المعنى قال المسيح إنه عمل الأعمال باسم أبيه، وقيل كثيراً إن الرسل
صنعوا العجائب باسم المسيح. والمقصود بطلب شيء باسم المسيح هو طلب ذلك الشيء لأجله
ولأجل اعتباره عند من يُطلب منه. فلما أمرنا المسيح أن نصلي باسمه أرادنا أن نقدم
شخصه وعمله سبباً لاستجابتنا. فيجب أن نبني اتكالنا على استحقاق المسيح، لا على
استحقاقنا ولا على صفاتنا، ولا على مجرد رحمة الله، لأن الإنجيل يقول إن كل بركة
يمنحها الله للبشر هي في المسيح، ومن نتائج شفاعته واستحقاقه.

5 – ما هي
شروط الصلاة الفعالة؟

* إذا قُدِّمتُ الصلوات
المقبولة بموجب الشروط السابقة ولم يحدث جواب بحسب انتظار المصلي، فما هو السبب؟
هل ترك شيئاً مما يتوقف عليه نجاح الصلاة؟ وماذا يلزم لتُستجاب صلواته؟ وجواباً
لذلك نقول: إن شروط النجاح تتضح من آيات كثيرة، منها قول المرنم “تلذَّذْ
بالرب فيعطيك سؤل قلبك” (مز 37: 4) وقول يعقوب “تطلبون ولستم تأخذون
لأنكم تطلبون رديئاً لكي تنفقوا في لذاتكم” (يع 4: 3). وقوله أيضاً “ليطلب
بإيمان غير مرتاب البتة، لأن المرتاب يشبه موجاً من البحر تخبطه الريح وتدفعه”
(يع 1: 6). وقول المسيح “إن ثبتم فيَّ وثبت كلامي فيكم تطلبون ما تريدون
فيكون لكم” (يو 15: 7) وقوله “متى وقفتم تصلّون فاغفروا إن كان لكم على
أحد شيءٌ، لكي يغفر لكم أيضاً أبوكم الذي في السموات زلاتكم. وإن لم تغفروا أنتم
لا يغفر أبوكم الذي في السموات أيضاً زلاتكم” (مر 11: 25، 26).

وحين صلى بولس لله ثلاث
مرات أن تفارقه شوكة جسده، استجاب الرب بقوله “تكفيك نعمتي” (2كو 12: 8،
9). وكذلك داود صلى لأجل ابنه من بثشبع ولم يستجب الله طلبه (2صم 12: 16-23).
فالوعد العام باستجابة الصلاة محدود بشروط:

(1) يتوقف النجاح في
الصلاة على حال المصلي وصفاته: فليطلب مجد الله لا مجد نفسه أو غرضه الشخصي الصادر
عن الطمع أو الخبث أو الرغبة فيرفع شأن ذاته. وينبغي أن يكون غيوراً حاراً في
صلواته لا بارداً بلا انتباه. وينبغي أن يرافق الإيمان الحي الصلاة حتى يتحقق أن
الله سامع ومنتبه له ويستجيبه بمقتضى حكمته. ويجب أن يثبُت المصلي في المسيح
وتثبُت أقوال المسيح فيه. فالإنسان المتحد بالمسيح يشارك المسيح في أفكاره ويكون
فيه روح المسيح. وكلما اشتد هذا الاتحاد تكون صلواته عبارة عن فكر المسيح وإرادته،
ولذلك تكون صلاته فعالة. والصلوات الفعالة خاصة بالقديسين أهل التقوى والاتحاد
الروحي بالمسيح.

(2) يتوقف نجاح الصلاة
على ما نطلبه، فليكن بحسب مشيئة الله، لأن معرفة الإنسان وحكمته قاصرتان. فلنسلم
الأمر لله ليتصرف بحكمته في استجابة الصلاة، لئلا يؤذي المصلي نفسه إن أعطاه الله
ما يطلبه تماماً. فلو أعطى الله للإنسان الجاهل كل ما يطلبه، لا تتم مقاصده
الصالحة في تربية المؤمن وتقديسه وإعداده للحياة السماوية وخلاص نفسه من تجارب
إبليس. وكثيراً ما يكون عدم حصولنا على مطالبنا في الصلاة موضوع شكر، كما يكون
الحصول عليها موضوع شكر أيضاً.

(3) يتوقف النجاح في
الصلاة على مدى موافقتها لمقاصد الله وحقوقه: فليست علاقتنا بالله مجرد علاقة
محتاج بمحسن، لكنها علاقة أبناء بأبيهم، وعلاقة رعايا بالملك السماوي، فالله
حاكمنا، وله مقاصد وحقوق. وهو يستجيب صلواتنا بالطريقة التي توافق مقاصده في
المصلي لتربي فيه الفضائل وتزيد منفعته لغيره ونجاحه في خدمة المسيح.

ونحن لا نقدر أن نحكم
على نجاح الصلاة من مجرد استجابتها، فلا يعلم الصلاة الحقيقية الفعالة غير الله،
الذي وعدنا أن صلاة البار تقتدر كثيراً في فعلها.

6 – ما هي
أنواع الصلاة المختلفة؟

* الصلاة هي مخاطبة
الله، وتتضمن المشاعر الروحية نحو الله في الفكر والشعور والأشواق، بكل الاحترام
والوقار والشكر والحزن على الخطية والشعور بالضعف. فالإنسان الذي يحيا ويسير مع
الله يصلي على الدوام طاعةً للأمر الرسولي “صلوا بلا انقطاع”. ومن
واجباتنا وحقوقنا أن لا نقطع هذا الحديث مع الله. فليكن القلب مثل مذبح البخور
الذي لا تنطفئ النار عنه أبداً.

وتُقسم الصلاة إلى
ثلاثة أقسام:

(1) السرية: وهي واجبة
لأن المسيحي يحفظ حياة الله في نفسه بروح الاقتراب منه وباتحاده الدائم معه.
ويحتاج المؤمن ليحفظ حياته وصحته الروحيتين إلى أوقات معينة ومرتبة للصلاة، كما
يحتاج جسده إلى طعامه اليومي. وقد قال المسيح “متى صلَّيت فادخل إلى مخدعك
وأَغلق بابك وصلِّ إلى أبيك الذي في الخفاء، فأبوك الذي يرى في الخفاء يجازيك
علانيةً” (مت 6: 6). ولنا في الكتاب مثال من المسيح نفسه، فإنه كثيراً ما
انفرد للصلاة، وكثيراً ما صرف فيها ليالي كاملة. فإذا كانت نفس المسيح النقية قد
احتاجت إلى أوقات لمخاطبة الله، فمَن مِن شعبه يتجاسر أن يهمل هذه الواسطة المهمة
للنعمة؟ إن أقل ما يجب على المسيحي أن يفتتح كل يوم ويختمه بالصلاة السرية
الانفرادية.

(2) الصلاة العائلية:
وهي تتضمن صلوات أهل البيت واجتماعات شعب الله لأجل الصلاة المتبادلة. فعلى
الإنسان أن يشترك مع عائلته ومع إخوته في الرب في ما يختص بحياته الداخلية
والخارجية، فالرباط العائلي أعظم رباط بين البشر، ويجب أن يتقدس بالصلاة معاً.
وتتطهر علاقة الوالدين والأولاد وتتقدس إذا كانت العائلة تجتمع صباحاً ومساءً
لعبادة الرب. ولذلك يجب أن يكون رأس العائلة قادراً على قراءة الكتاب المقدس وعلى
التقدُّم في الصلاة. وعلى الذين لا يُحسنون القراءة أن يتقدموا في الصلاة. وعلى
أهل الإيمان أن يحافظوا في بيوتهم على هذا الترتيب للصلاة. ومسؤولية رب البيت
لعائلته ومسؤوليته لله تلزمه أن يجعل مسكن عائلته بيتاً لله. وإذا لم يجعله كذلك
فكيف يمنع دخول الأرواح الشريرة إليه!

(3) الصلاة الجمهورية:
والمقصود منها العبادة والتعليم، وتتضمن العبادة الصلاة والترنيم، ويتضمن التعليم
قراءة كلمة الله والوعظ. ويجب أن نحفظ التوازن بين العبادة والتعليم، لأن بعض
المسيحيين جعلوا التعليم ثانوياً بالنسبة للعبادة، فخصّصوا لها ضِعف الوقت المخصص
للتعليم، وليس هذا مناسباً، لأن معرفة الكتاب أمر مهم. ولا يمكن أن تكون هناك
عبادة حقيقية لله بدون معرفته معرفة صحيحة، ولا أن تحدث توبة أو إيمان أو حياة
طاهرة بدون فهم الحقائق التي تُبنى عليها حياة التقوى والطاعة. فالديانة هي خدمة
عقلية لا يتفق الجهل معها، ولذلك سُمي القسوس في الكتاب “معلِّمين”.
والأمر الأعظم الذي أمر به المسيح ورسله هو قوله “اذهبوا وعلّموا جميع الأمم.
فذهبوا وكرزوا في كل موضع”. وقال بولس إن المسيح لم يرسله ليعمد أو يكمل
الخدمات الدينية فقط، بل ليكرز بالإنجيل الذي هو حكمة الله للخلاص. ولم تقدر قوة
بشرية أن تحوِّل هذا الرسول من الكرازة إلى مجرد العبادة.

ومع أن التعليم يجب أن
يكون الأمر الأهم في خدمة يوم الرب، كما كان في العصر الرسولي، إلا أننا لا يجب أن
نهمل الصلاة الجمهورية والعبادة القلبية. وليكون هذا الجزء من الخدمة المقدسة
بانياً للشعب يجب مراعاة ما يأتي:

(1) أن يكون في الخادم
روح التقوى الحقيقية، وأن يمارس في قلبه كل ما يعبِّر عنه في صلواته من المشاعر
والرغبات.

(2) أن يحفظ غيباً
أفكاراً وآيات كثيرة من الكتاب، فإن رجال الله القديسين قديماً تكلموا مسوقين من
الروح القدس، وكانت كلماتهم مرتبة من روح الله، سواء كانت في التمجيد أو الشكر أو
الاعتراف أو الطلب، فأوضحوا في كلامهم فكر الروح، وهو أنسب كلام للتعبير عن
المشاعر والأشواق التي يجعلها الروح في أفكار شعب الله. ولا توجد صلاة مناسبة
للبنيان أكثر من التي يكثر فيها استعمال عبارات الكتاب.

(3) يجب أن تكون الصلاة
على ترتيب حسن، تجمع كل الأجزاء والمواضيع المناسبة. وهذا يمنع اضطرابها وتشويشها
وتكرارها.

(4) يجب أن تكون موافقة
لمقتضيات الأحوال، سواء كانت خدمة يوم الرب الاعتيادية، أو ممارسة الأسرار، أو
الخدمات الخاصة في الأيام المعيّنة للشكر والصوم والاتضاع.

(5) يجب أن تكون
كلماتها بسيطة ووقورة وصحيحة.

(6) يجب أن تكون الطلبات
قصيرة، فالطول غير اللائق في الصلوات يؤدي إلى التشويش وكثرة التكرار بدون فائدة.

7 – هل
يصحّ استعمال الصلوات المكتوبة المرتَّبة في العبادة الجمهورية؟

* اختلف المسيحيون في
هذه المسألة، وجرت العادة باستعمال كتب الصلاة في بعض الكنائس، ولم يسمحوا باستعمال
غير هذه الصلوات. على أن غيرهم ارتاب في جواز ذلك وحكمته، واستحسن معظم الإنجيليين
الحرية في ذلك، واختاروا الصلوات الارتجالية، مقتنعين بما يأتي:

(1) عدم وجود دليل في
كتاب الله على أن الصلوات المكتوبة هي المطلوبة من الكنيسة، وعدم وضوح استخدام
الكنيسة الأولى لهذه العادة.

(2) عدم موافقة ذلك
لوظيفة الروح القدس في مساعدة المؤمنين (رو 8: 26).

(3) عدم موافقته للهدف
من الصلاة، وهو التعبير عن المشاعر القلبية الأصلية فينا بإخلاص وشوق. فإذا
التزمنا باستعمال عبارات صاغها غيرنا، كانت تعبيراً عن أفكارهم، وربما لا توافق أحوال
قلوبنا واحتياجاتها. فالصلوات المكتوبة للعبادة تعطل حرية الأفكار وتحدّ حرية
النفس في مخاطبة الخالق. وقال البعض إن ذلك ثقل على روح الصلاة، يؤدي للفتور وروح
الاستناد على العبادة الشفاهية. وقال غيرهم: لا، بل إن الانتباه والتقوى الحارة
يغلبان كل ميل للتغافل، وشهدوا أن تأثير الصلوات المكتوبة في قلوب العابدين حسن
ومفيد. وقد اختلف أفاضل الأتقياء في الحكم في هذا الموضوع.

ولا نقول إن عبادة الله
بصلوات مكتوبة لا يناسب التقوى، بل يمكن أن القلب المستقيم الذي يحب الله يعبده
عبادة مقبولة باستعمال صلوات مكتوبة. لكن إذا فكرنا في احتياجات البشر عموماً، وفي
أهداف الصلاة وفاعليتها، سنفضّل الصلاة الحرة المرتجَلة.

8 – كيف
تبني الصلاة النفس روحياً؟

* قلنا إن وسائط النعمة
هي الوسائط التي عيّنها الله ليوصّل تأثيرات الروح والحق إلى نفوس البشر، وهي:
الكلمة والأسرار والصلاة. فالصلاة هي العلاقة بين الخالق والمخلوق، وهي شرط منح
البركات الروحية، الذي يجعل كل أمر يؤول لخيرنا الأفضل، وهي تقرّبنا إلى الله مصدر
كل خير، الذي يحرك فينا كل مشاعر الوقار والمحبة والشكر والخضوع والإيمان والفرح
والتعبد. ومتى اقتربت النفس إلى الله يقترب الله إليها ويُظهِر لها مجده ومحبته،
ويمنحها السلام الذي يفوق كل عقل. قال المسيح “إن أحبني أحد يحفظ كلامي،
ويحبه أبي، وإليه نأتي، وعنده نصنع منزلاً” (يو 14: 23) ففي هذا الاتحاد لا
بد أن تتقدس النفس.

9 – هل
للصلاة قوة؟

* هناك قُوى روحية
فاعلة في العالم، منها القوى العقلية والروحية والأخلاقية، كقوة الإيمان والاقتناع
والتمسك الشديد بمبدأ معلوم، وقوة الحق، ومشاركة الآخرين في مشاعرهم، وقوة الضمير.
وهناك قوة أخرى أعظم من كل قوة العالم وفوقه، وهي قوة الله التي تعمل مع أعمال كل
الخلائق وتديرها بدون أن تلغي طبيعة تلك الخلائق. وتنهض هذه القوة السامية للعمل
بواسطة الصلاة. فبصلاة موسى نجا بنو إسرائيل من الهلاك، وبصلاة صموئيل تشتت جيش
العدو، فإن “طلبة البار تقتدر كثيراً في فعلها. كان إيليا إنساناً تحت الآلام
مثلنا، وصلى صلاة أن لا تمطر، فلم تمطر على الأرض ثلاث سنين وستة أشهر. ثم صلى
أيضاً فأعطت السماء مطراً، وأخرجت الأرض ثمرها” (يع 5: 17، 18). وطلب بولس
مراراً من المؤمنين أن يصلّوا لأجله، وأمر أن تُقام طلبات وصلوات وابتهالات
وتشكرات لأجل جميع الناس، لأجل الملوك وجميع الذين هم في منصب، ليقضي المسيحيون
حياة مطمئنة هادئة في كل تقوى ووقار (1تي 2: 1، 2) وهذا يدل على أن للصلاة قوة.
ومتى سلّم الإنسان بوجود إلهٍ حق يدبر كل الأمور تزول من عقله الشكوك في فاعلية
الصلاة، وتصير له مصدراً للفرح والقوة الروحية، وأساساً للطمأنينة في الحاضر
والثقة من جهة المستقبل، كما حدث مع شعب الله في كل العصور. قال المرنم “رب
الجنود معنا. ملجأنا إله يعقوب” (مز 46: 11).

وقوة الصلاة تناقض
القول إن فائدة الصلاة هي مجرد تعويد المصلي أن يسلم للإرادة الإلهية، وكأن فائدة
الصلاة الوحيدة هي إعانة القلب ليقول “ليس إرادتي بل إرادتك يا الله”.
ومع أن التسليم لإرادة الله شرط من شروط الصلاة المقبولة، إلا أنه ليس غايتها
الوحيدة، كما يتضح من صلوات الأتقياء في العهدين القديم والجديد، ومن أقوال الكتاب
المقدس في هذا الموضوع، لأنه لا بد من طلبٍ في الصلاة غايته نوال المطلوب، لا
تعويد المصلي أن يسلّم ويرضى بعدم نوال المطلوب. وإذا راجعنا صلوات رؤساء الآباء
والأنبياء والرسل الأتقياء والمسيح نفسه، وجدنا أنهم طلبوا طلبات بقصد نوالها،
وليس لأنهم أرادوا أن يزيدوا روح التسليم في قلوبهم لله.

10 – ما
هي الاعتراضات على فاعلية الصلاة، وما هو الرد عليها؟

* إن مجرد وجود
الاعتراضات على حقيقة علمية أو دينية ليس أمراً غريباً ولا مهماً. والسؤال الأهم
هو: هل هذه الاعتراضات صحيحة؟ لقد قامت اعتراضات كثيرة على العلوم الفلسفية
والطبيعية والدينية، ولكن تبيّن ضعف كثير منها، لأنها نتجت عن الجهل أو الكبرياء
أو العداوة للحق. وفي بعض الأحيان لو أعاد المعترض النظر إلى ما اعترض عليه لرآه
حقاً. فالاعتراضات على تعليم سامٍ فائق الإدراك كفاعلية الصلاة من الذين لا
يقبلونه بالإيمان والوداعة والإكرام لوعد الله أمرٌ وارد. وقد اعترضوا على الصلاة
بالأقوال الآتية:

(1) لا فائدة للصلاة،
ويمكن أن يستغني البشر عنها بدون خسارة.. ونجيب: إن هذا باطل، بدليل أن الله الذي
يعرف احتياجات البشر أمرَنا في حكمته أن نصلي، لأن للصلاة منفعة عظيمة، لا لنحصل
على طلبنا فقط، بل لننمي التقوى في قلوبنا أيضاً. وقد لجأ البشر إلى الصلاة في كل
القرون، مما يبين أن العقل البشري مقتنع بأنها لازمة للإنسان.

(2) إذا كانت الصلاة
فعالة هكذا، وجب أن يظهر فعلها في المصلّين، ولكننا لا نجدهم أفضل من غيرهم، فما
الفائدة من صلواتهم؟.. والجواب على ذلك أن منافع الصلاة ونتائجها الثمينة غير
ظاهرة لأعين العالم، ولكنها معروفة عند أهل الصلاة، فليس للعالم خبرة في حصول
المصلي على مغفرة خطاياه، وعلى السلام الداخلي والتطهير القلبي والقوة الروحية
والرجاء المنعش والراحة في الضيق والتعزية في الحزن والإرشاد في الحيرة. ولا يعرف
أهل العالم لأجل أي شيء يصلي الأتقياء، ومن أجل من يطلبون. ولا يعرف المسيحيون إلا
جانباً صغيراً من نتائج تضرعات الإيمان. ومن يعرف ماذا تكون أحوال الدنيا وأحوال
الأتقياء أنفسهم لولا صلواتهم؟ فلو كفّ كل مصلٍّ عن طلباته لزادت الرذائل والقبائح
والمظالم كثيراً. ومن الذي حامى عن طهارة المجتمع وسلامته، وجدَّ في الإصلاحات
والأعمال الخيرية غير أهل الصلاة؟ ولا شك أن تلك الأعمال نتيجة صلواتهم مع غيرتهم
في إتمام واجباتهم.

(3) لا تتضح منفعة
الصلاة بالامتحان العلمي الدقيق، فلم يعتقد بفائدتها إلا العجائز!.. والجواب على
ذلك أن ذلك الامتحان العلمي الدقيق فوق طاقة البشر لأنه يجب لصحته أن يرضى الله
عليه ويكون شريكاً في إجرائه، وإلا فقد أصبح الامتحان ناقصاً وباطلاً. ولا يوجد
مؤمن تقي يرغب في دخول مثل هذا الامتحان، لأن من يعرف الله ويريد أن يُقنع الكفرة
سيأبى أن يستعرض قوة صلاته أمام المعترضين عليها. وعلى فرض إجراء ذلك الامتحان،
كيف نقدر أن نتحقق إن كانت الصلوات المرفوعة حقيقية في أحوال غريبة وسخيفة كتلك؟
فمَن مِن الأتقياء يسلم نفسه لهذا الهذيان ليبرهن ما لا يشك هو في صدقه؟ وإذا جرى
ذلك الامتحان في موضوعٍ تكون لليد البشرية فعل فيه، فكيف نقدر أن نتحقق إن كانت
تلك فاعلية الصلاة أو نتيجة تدخُّل يدٍ بشرية؟ فإذا جرى ذلك الامتحان في مريضين،
وصُلِّي لأجل شفاء الواحد ولم يُصلَّ لأجل شفاء الآخر، فكيف نعرف إن كانت حالتا
الشخصين متساويتين تماماً عند بداية ذلك الامتحان؟ وكيف نقيّم فاعلية الأدوية
واعتناء الطبيب والممرضة وبراعتهما؟ وكيف نقدر أن نتأكد إن كان هناك شخص لا نعرفه
يصلي لأجل المريض المفروض أنه متروك بدون صلاة؟ فربما كان كثيرون من الأتقياء
يصلون لأجل الشخصين دون أن يعرف أحدٌ بذلك، ولا سيما إذا جرى الامتحان بمعرفة
العالم كله؟ لقد وعد الله أن يستجيب صلوات الأتقياء، لكنه لم يعد أن يتنازل لإجابة
اعتراض الكافرين. فهذا الامتحان الجسدي المنظور المقصود بروح الكفر هو امتحان بلا
معنى، ومستحيل! وقد امتُحنت الصلاة في حياة الأتقياء وتاريخ الكنيسة، وكان لسان
حال الكنيسة في كل العصور قول المرنم “أحببت لأن الرب يسمع صوتي تضرعاتي،
لأنه أمال أذنه إليّ، فأدعوه مدة حياتي” (مز 116: 1، 2). وقد تنازل الله مرة
في العهد القديم (إجابة لطلب إيليا) أن يعلن نفسه للناس إعلاناً خاصاً ليبرهن أنه
يجيب صلوات شعبه، فقال إيليا “أيها الرب إله إبراهيم وإسحاق وإسرائيل، ليُعلم
اليوم أنك أنت الله في إسرائيل، وأني أنا عبدك، وبأمرك قد فعلت كل هذه الأمور.
استجبني يا رب استجبني ليعلم هذا الشعب أنك أنت الرب الإله، وأنك أنت حوَّلت
قلوبهم رجوعاً” (1مل 18: 36، 37). ولكن هذا التنازل كان بطلب نبي من الأنبياء
لأجل تمجيد اسم الرب وإقناع شعبه وتخجيل أعدائه.

(4) القوانين الطبيعية
الثابتة تمنع فاعلية الصلاة، بدليل أن كل القوانين الطبيعية تجري مجراها ولا تقبل
أدنى معارضة تغيّر فعلها العادي الذي لا يتغير.. والجواب على ذلك أنه لا بد من
واضع لكل شريعة طبيعية، وهو الله. فلا ننظر للشريعة وننسى واضعها، ولا يجوز رفع
شأنها على شأن خالقها، ولا يصح ادعاء خروجها عن دائرة سلطته، لأنه ليس من شريعة
طبيعية تجري مجراها بقوتها الذاتية بغير علاقة بإرادة واضعها. ومن الواضح أن وراء
الشرائع جميعها إرادة الخالق القادرة أن تجريها مجراها المعتاد، أو تستخدمها في
مجرى آخر، أو تحصر فعلها، أو تُدخل فواعل أخرى تعمل معها، أو أن توقفها تماماً إذا
شاءت. فجميع الشرائع الطبيعية هي خادمة لله لا متسلطة عليه، وهي تُجري مقاصده.
لهذا أوجدها، وهو قادر على أن يستخدمها حسب إرادته. وقد استحسن الله أن يعطي
الإنسان بعض القدرة على استخدام الشرائع الطبيعية الثابتة لإتمام مقاصد خاصة،
فطيّر الحديد في الهواء، وتغلب على جاذبية الأرض وانطلق في الفضاء الخارجي. فالقدرة
التي للإنسان أولى أن تكون للخالق. فالله قادر أن يستخدمها لهدفٍ خاص أو يوقف
عملها إذا اقتضى الأمر، وليس من طبيعة الشرائع أن تتسلط على الخالق. وواضح أن
معرفتنا بتلك الشرائع وثبوتها جزئية لا كاملة، ويحتمل بل يرجح أن ثبوتها هو فقط
بالنسبة إلينا وإلى اختبارنا إياها. ونحن لا نتساءل: هل تستجيب الشرائع الثابتة
للصلاة؟ بل: هل يستجيب الخالق واضع تلك الشرائع والمتسلط عليها صلواتنا؟ فنحن لا
نوجّه صلواتنا إلىالشرائع، بل إلى من هو أعلى منها. ولما كان هو صاحب سلطانٍ
وقادراً، ولما كان يريد أن يستجيب صلواتنا، زالت الصعوبات من أمامنا. وقد اتضح هذا
من المعجزات المتنوعة التي أجراها الأنبياء والرسل والسيد المسيح نفسه.

ولا يصعب على المؤمن أن
يسلِّم بقدرة الله على توقيف الشرائع الطبيعية أو تغيير أحكامها أو التصرف بقوته
رأساً بعكس نظامها. ونحن لا نطالب الله أن يُجري معجزات ليستجيب مطالبنا، لأن لديه
طرقاً أخرى خلاف المعجزات، فهو قادر مثلاً أن يجمع قوات طبيعية بنِسبٍ متنوعة
ليُنتج من تركيبها نتائج وفق غايته، وذلك في دائرة خارجة عن إدراك البشر، أو في
دائرة لا يبلغها اختبار البشر المحدود. فكما أن الإنسان يُجري تفاعلات كيماوية أو غيرها
لينفذ غايته، ويشق الصخور بالديناميت، هكذا لله قدرة على التصرف بوسائل معروفة لنا
أو غير معروفة. فهو يقدر بمعرفته السابقة غير المحدودة أن يسبق بترتيب الأحوال
والحوادث حتى تتزامن صلاة المؤمن مع استجابتها، فيعطي المصلي طلبه في وقته
الموافق، ويأتي الجواب كأنه على سبيلٍ طبيعي بوسائط عادية، ولو أنه في الحقيقة
(الخافية علينا) معجزة! والصلاة الحقيقية هي صلاة الروح القدس في المؤمن، حتى أن
الله يجعل المؤمن يصلي في الوقت المناسب لينال ما يقصد الله أن يعطيه له، لأن
مقاصد الله سابقة للشرائع، وهو يستخدمها ليتمم مقاصده، فهو لم يخلق العالم وينظم
شرائعه لتمنعه تلك الشرائع من إتمام مقاصده!

(5) تستلزم إجابة
الصلاة الإيمان بحدوث المعجزات، والمعترض لا يؤمن بالمعجزات.. والجواب على ذلك أن
تلك الإجابة لا تستلزم إجراء معجزة، كما بينّا سابقاً. وإن صحّ أنها تستلزم إجراء
معجزة فذلك لا يوجب رفضها. على أن الصلاة المقبولة إما أن تكون موافقة لمقاصد الله
فلا بد من إجابتها، وإما أن يسلِّم المصلي أمره لحكمة الله في صلاته نفسها، ويرجو
الجواب الموافق لتلك الحكمة. وعلى هذا فلا بد من حصوله على ما يطلبه، إمّا بحسب
طلبه أو بطريقة أخرى أنسب، بحسب الحكمة الإلهية. وليس في كل ذلك ما يستلزم
المعجزة.

(6) الصلاة مخالفة
للعقل.. والجواب على ذلك أنها ربما خالفت عقل المعترض، ولكنها لا تخالف عقل المؤمن
ولا عقل الخالق، كما يتضح من القول: “فأريد أن يصلي الرجال في كل مكان رافعين
أيادي طاهرة بدون غضب ولا جدال” (1تي 2: 8). وقد صلى المسيح للآب السماوي
وأمرنا أن نصلي. فإذا قيل إن الله جوّاد إلى غير نهاية، وهو يمنحنا بركاته بدون أن
نطلبها، قلنا إن الغاية في صلواتنا ليست أن نزيد جود الله، بل أن نستعمل الوسائط
المعينة لنوال فوائد جوده. وإن قيل إن الله غير متغيِّر فلا نفع من صلواتنا لأنها
لن تغيّر ما سبق ورتّبه، قلنا إن عدم تغير الله لا يعني أنه لا يغيّر معاملته لنا،
فعقابه للخاطئ لا بد يحدث، ولكن إذا تاب الخاطئ وتمسك بالمسيح، عامله الله
بالرحمة. فصلواتنا لا تغيّر مبادئ الله بل تغير معاملته لنا بحسب مبادئه الثابتة.
لقد عيّن الله الصلاة واسطة للاقتراب إليه، واتحاد إرادتنا بإرادته، وزيادة شعورنا
باحتياجنا إليه، فما نظنه مستحيلاً هو ممكن عند الآب السماوي المحب، الذي يطالبنا
بالصلاة ليكمل العلاقة بيننا وبينه ولينمّينا في أعمال التقوى.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى