علم الله

الباب الثالث الكنيسة



الباب الثالث الكنيسة

الباب
الثالث الكنيسة

الفصل الأول

نشأة
الكنيسة

هناك
نظرتان إلى نشأة الكنيسة، نظرة المؤرّخ وعالم الاجتماع، ونظرة اللاهوتي.

مقالات ذات صلة

فالمؤرّخ
وعالم الاجتماع، وقد يكونان ملحدين، ينظران إلى الكنيسة كإلى أيّ مؤسسة بشرية أخرى،
ويحاولان أن يبحثا في نشأتها وفي الدوافع التاريخية والاجتماعية التي بعثتها، وقد
يُعطيان الشخص الذي أسّسها أهميّة كبرى بقدر ما يبدو لهما أنّ مؤسّسة جديدة من هذا
النوع لا يمكن أن تُفسَّر نشأتها بمجرّد تضافر الظروف الاجتماعية الملائمة، فلا
بدّ أن يكون في أساس نشأتها شخصيّة قويّة. ويوضح علم الاجتماع كيف يتمّ الانتقال،
في مثل تلك المؤسّسات، من بضعة تلاميذ مجتمعين حول معلّم إلى أخوية تضم عدداً أوفر
من الناس، ثمّ إلى مؤسسة كبيرة ذات أنظمة وقوانين محدّدة.

أمّا
اللاهوتي فيبحث في نشأة الكنيسة وهو مؤمن أنّ يسوع هو المسيح الذي أرسله الله إلى
العالم “ليجمع أبناء الله المشتّتين” و”يصالحهم مع الله”.
لذلك لا يكتفي بالبحث عن بعض العبارات التي يعلن فيها يسوع، في الإنجيل، رغبته
الصريحة في إنشاء الكنيسة، بل يبحث في سر شخص يسوع المسيح بكامله، وفي كل أعماله
وأحداث موته وقيامته، وفي إيمان الرسل والكنيسة الأولى بمعاني هذه الأحداث ليستشفّ
من خلالها إرادة الله والمسيح في إنشاء كنيسة تكون تكملة لحياة المسيح، وتجسيداً
لإرادة الله الاتحاد بالبشر وتوحيدهم بعضهم مع بعض.

وبما
أن إرادة الله وتصميمه قد انكشفا لنا، ليس في العهد الجديد وحسب، بل أيضاً في
العهد القديم، فإنّنا نبدأ بحثنا عن نشأة الكنيسة بما اختبره الشعب وبما أوحى به
الله إلى أنبيائه في العهد القديم.

أوّلاً- شعب
الله في العهد القديم

1- مراحل
تكوين شعب الله

إنّ
الكتاب المقدّس هو حكاية علاقة الله بالإنسان من خلال تاريخ شعب اختبر محبة الله
ووجوده في ما بينه منذ خلق العالم.

يُجمع
علماء الكتاب المقدّس على أنّ الأحداث التاريخيّة الأولى التي يرويها هي التي تدور
حول دعوة إبراهيم أي ابتداءً من الفصل الثاني عشر من سفر التكوين. أمّا الفصول
الأحد عشر الأولى من هذا السفر فلا تنتمي إلى التاريخ بل إلى التفكير اللاهوتي
المعبّر عنه بالقصّة والرواية: “إنها تفكير الحكماء. فيحاول الكاتب أن يجيب
على الأسئلة الكبرى التي يطرحها الإنسان على نفسه عن الحياة والموت والحب ومبادئ
العالم. وهو يقوم بذلك انطلاقاً من إيمانه بالله، مستخدماً أساطير قديمة”.

والأحداث
نفسها التي يرويها العهد القديم عن إبراهيم وإسحق ويعقوب ليست تاريخية بالمعنى
المعاصر للكلمة. إنّ أساسها تاريخي، ولكنّ تفاصيلها مزيج من الأحداث التاريخية
والتقاليد الأسطورية. وما يهمّنا نحن هو النظرة اللاهوتية إلى علاقة الإنسان بالله
وتكوين شعب الله في العهد القديم.

كيف
نشأت إذن وتطوّرت فكرة “شعب الله”، وهي الرمز السابق والتمهيد للكنيسة
في العهد الجديد؟

ء)
إبراهيم

لقد
اعتبر إسرائيل دعوته واختياره كشعب اعتماداً على وعد الله لإبراهيم بقوله:

“إنطلقْ
من أرضكَ وعشيرتك وبيت أبيك إلى الأرض التي أُريك. وأنا أجعلك أمّة كبيرة،
وأُباركك وأُعظم اسمك، وتكون بركة. وأُبارك مباركيك، وشاتمك ألعنه، ويتبارك بك
جميع عشائر الأرض” (تك 12: 1- 3).

“ها
أنا أجعل عهدي معك، وتكون أبا جمهور أُمم. وسأُنميك جداً جداً، وأجعلك أمماً،
وملوك منك يخرجون. وأُقيم عهدي بيني وبينك وبين نسلك من بعدك مدى أجيالهم عهد
الدهر، لأكون لك إلهاً ولنسلك من بعدك. وأُعطيك أرض غربتك لك ولنسلك من بعدك..
وأكون لهم إلهاً” (تك 17: 1- 8).

فأبناء
إبراهيم هم إذاً أبناء الوعد، صنع الله منهم شعباً وأعطاهم أرضاً. وقد تجدّد الوعد
كذلك مع إسحِق (تك 26: 3، 4)، ويعقوب (تك 28: 14).

ب)
موسى

وإلى
النسل والأرض أُضيف مع موسى عنصرٌ جديد هو الناموس أو الشريعة التي تمَّ على
أساسها العهد بين الله والشعب:

“صعد
موسى إلى الله، فناداه الرب من الجبل قائلاً: كذا تقول لآل يعقوب وتخبر بني
إسرائيل. قد رأيتم ما صنعت بالمصريين، وكيف حملتُكم على أجنحة النسور، وأتيتُ بكم
إليّ. والآن إن امتثلتم أوامري وحفظتم عهدي، فإنّكم تكونون لي خاصّة من جميع
الشعوب، لأنّ جميع الأرض لي. وأنتم تكونون لي مملكة أحبار وشعباً مقدّساً”
(خر 19: 3- 6).

وهذه
الأوامر هي وصايا الله العشر، وقد قبلها الشعب وعاهد الله على حفظها، فخُتم العهد
بينَهما بالدم:

“فجاء
موسى وقصَّ على الشعب جميع كلام الرب وجميع الأحكام، فأجابه جميع الشعب بصوت واحد
وقالوا: جميع ما تكلّم به الرب نعمل به. فكتب موسى جميع كلام الرب، وبكر في الغداة
وبنى مذبحاً في أسفل الجبل، ونصب اثني عثر نصباً لاثني عشر سبط إسرائيل. وبعث
فتيان بني إسرائيل، فأصعدوا محرقات وذبحوا ذبائح سلامة من العجول للرب. فأخذ موسى
نصف الدم وجعله في طسوت ورشّ النصف الآخر على المذبح. وأخذ كتاب العهد، فتلا على
مسامع الشعب، فقالوا: كل ما تكلّم الرب به نفعله ونأتمر به. فأخذ موسى الدم ورشَه
على الشعب وقال: هوذا دم العهد الذي عاهدكم به الرب على جميع هذه الأقوال”
(خر 34: 3- 8).

ويقوم
العهد بين الله وشعبه على أن يكون الشعب أميناً في السير على وصايا الله وأحكامه،
وأن يكون الله إله هذا الشعب بنوع خاص فيحميه من أعدائه، فلا تزول أمانته أبداً:

“من
خلال تلك الأمانة المتبادلة تنفتح أمامنا نظرة غنية بالقيم الدينية. فالشعب
الإسرائيلي، بأمانته لله، يصبح كائناً دينياً ومقدّساً، ويرتفع إلى دائرة حياة
الله. فالعهد ينشئ بين الشعب والله نوعاً من صلة قرابة سرية: الله بسكن في إسرائيل
(“إن جريتم على رسومي وحفظتم وصاياي وعملتم بها.. أجعل مسكني في ما بينكم ولا
أخذلكم، وأسير في ما بينكم، وأكون لكم إلها، وأنتم تكونون لي شعباً” أخ 26: 3،
11). إنّه إلهه، وإسرائيل هو شعب الله، ومملكته، ونصيبه، وميراثه، وخاصته، وكرمه: هذا
الشعب الذي يحيا في نظام إلهي يصمت أمّة ثيوقراطية وهو لله “مملكة أحبار وشعب
مقدّس” (خر 19: 6)”.

وتلك
الميزة التي امتاز بها شعب الله نجد تعبيرها التقليدي في سفر تثنية الاشتراع:

“إنّك
شعب مقدّس للرب إلهك، وإيّاك اصطفي الرب إلهك أن تكون له أمّة خاصة من جميع الأمم
التي على وجه الأرض. لا لأنَّكم أكثر من جميع الشعوب لزمكم الرب واصطفاكم، فإنّمَا
أنتم أقلّ من جميع الشعوب، لكن لمحبة الرب لكم ومحافظته على اليمين التي أقسم بها
لآبائكم أخرجكم الرب بيد قديرة، وفداكم من دار العبوديّة من يدي فرعون ملك مصر.
فاعلم أنّ الربّ إلهك هو الله الإله الأمين، يحفظ العهد والرحمة لمحبِّيه وحافظي
وصاياه إلى ألف جيل.. فاحفظ الوصايا والرسوم والأحكام التي آمرك اليوم أن تعمل بها.
فإذا سمعت هذه الأحكام وحفظتها وعملت بها فجزاؤك أن يحفظ الرب إلهك عهده لك ورحمته
التي أقسم عليها لآبائك، فيحبّك ويباركك ويكثّرك وببارك ثمرة أحشائك وثمرة
أرضك” (تث 7: 6- 13).

إنّ
العهد مع الله هو أساس وحدة الشعب واختياره. فالشعب يعلم أنه مختار الله ومقدّس له
بقدر ما يبقى أميناً للعهد الذي دعاه إليه. أمّا إذا فقد الأمانة لله فلا يعود بعد
شعباً بل يفقد هويّته ويتلاشى بين الأمم التي يسلك على مثالها.

ج)
داود وسليمَان: الملكية والهيكل

على
العناصر الثلاثة المذكورة، الشعب الأرض والشريعة، دخل في ما بعد مع داود عنصر
الملكية وبع سليمَان عنصر الهيكل. فالقبائل المختلفة اتّحدت مع داود تحت رعاية ملك
واحد، وأصبحت مع سليمَان تصلّي وتقرّب الذبائح في هيكل واحد، هيكل أورشليم. لكنّ
الملكية خيّبت آمال الشعب، لأنّها لم تضمن الوحدة الوطنية إذ أنقسمت المملكة بعد
سليمَان إلى مملكتين (مملكة الشمال ومملكة الجنوب)، ولا الاستقلال الذي فُقِد
أوّلاً في مملكة الشمال سنة 722 ثمّ في مملكة الجنوب سنة 587 بالاجتياح الأشوري.

د)
السبي إلى بابل ورسالة الأنبياء

في
السبي إلى بابل دُمّرت معظم العناصر التي كان الشعب يستند إليها ليبني وحدته: فالشعب
سُبي، والأرض فُقدت، والمملكة أُبيدت، والهيكل دُمِّر، ولم يبقَ للشعب المشتّت
إلاّ شريعة الله. وكان لهذه المحن الأثر الكبير في تصوّر العهد القديم “شعب
الله”، فتنقّى هو من التصوّرات الماديّة والضيّقة وكذلك الرجاء المبني على الوعود
القديمة.

فشعب
الله لم يعد مؤلَّفاً من جميع أبناء إبراهيم بالجسد، بل من “البقية الباقية
من بني إسرائيل” التي حافظت على الأمانة لشريعة الله ووصاياه، وسوف تكون
أساساً لشعب الله الجديد.

وبما
أنّ الأمانة لله ولوصاياه أصبحت أساس الانتماء إلى شعب الله، وليس الانتساب العرقي
إلى إبراهيم وإلى الشعب الإسرائيلي، أخذ الأنبياء يتساءلون لماذا لا تدخل شعوب
أخرى في العهد مع الله وتنتمي إلى شعب الله. وهكذا تحوّلت فكرة إخضاع جميع الأمم
الوثنية للشعب الإسرائيلي إلى إخضاع تلك الأمم لله وإدخالها في عهده. ورأى
الأنبياء في شتات إسرائيل من جهة قصاصاً لهم من الله لعدم أمانتهم ومن جهة أخرى
دعوة لهم للتبشير باسم الله بين الأمم. فهذا طوبيا يقول:

“اعترفوا
للرب يا بني إسرائيل، وسبّحوه أمام جميع الأمم. فإنّه فرَّقكم بين الأمم الذين
يجهلونه لكي تخبروا بمعجزاته وتعرّفوهم أن لا إله قادراً على كل شيء سواه. هو
أَدَّبنا لأجل آثامنا، وهو يخلِّصنا لأجل رحمته.. أمّا أنا ففي أرض جلائي أعترف له،
لأنّه أظهر جلاله في أمّة خاطئة” (طو 13: 3- 7).

ونسمع
أشعيا يتنبّأ:

“إنّ
ربّ الجنود سيصنع لكل الشعوب في جبل أورشليم مأدبة مسمّنات.. ويزيل في هذا الجبل الغطاء
المغطّي جميع الشعوب، والحجاب المحجّب جميع الأمم” (أش 25: 6، 7).

وزكريا
النبي يعلن:

“رنِّمي
وافرحي يا بنت صهيون، فها أناذا آتي وأسكن في وسطك، يقول الرب. فيتَّصل أمم كثيرة
بالرب في ذلك اليوم، ويكونون لي شعباً” (زك 3: 10- 11)؛ “هكذا قال رب
الجنود: سيأتي شعوب أيضاً وسكّان مدن كثيرة، ويسير سكّان الواحدة إلى الأخرى
قائلين: لنَسِر سيراً لاستعطاف وجه الرب، والتماس رب الجنود. ويأتي شعوب كثيرون
وأُمم أقوياء، لالتماس رب الجنود في أورشليم، واستعطاف وجه الرب” (زك 8: 21،
22).

وبعد
أن تبدّدت من الشعب الإسرائيلي أوهام العظمة الدنيوية والسيطرة الزمنية على سائر
الشعوب، راح الأنبياء ينبئون بتجديد روحي يتمّ فيه عهد جديد يجعل الله فيه شريعته
في ضمائر الشعب ويكتبها على قلوبهم، ويجعل روحه في أحشائهم ويجعلهم يسلكون في
رسومه:

“ها
إنّها تأتي أيّام، يقول الرب، أقطع فيها مع آل إسرائيل وآل يهوذا عهداً جديداً، لا
كالعهد الذي قطعته مع آبائهم، يوم أخذت بأيديهم لأخرجهم من أرض مصر، لأنّهم نقضوا
عهدي، فأهملتهم أنا، يقول الرب. ولكنَ هذا العهد الذي أقطعه مع آل إسرائيل بعد تلك
الأيّام، يقول الرب، هو أنّي أجعل شريعتي في ضمائرهم، وأكتبها على قلوبهم، وأكون
لهم إلهاً، وهم يكونون لي شعباً. ولا يعلّم بعد كل واحد قريبه وكل واحد أخاه،
قائلاً: إعرف الرب، لأنّ جميعهم سيعرفونني من صغيرهم إلى كبيرهم، يقول الرب، لأنّي
سأغفر آثامهم، ولن أذكر خطاياهم من بعد” (إر 31: 31- 34).

“قل
لآل إسرائيل: هكذا قال السيّد الرب، ليس لأجلكم أنا فاعل، يا آل إسرائيل، لكن لأجل
اسمي القدّوس، الذي دنّستموه في الأمم، فتعلم الأمم أنّي أنا الرب، يقول السيّد
الرب، حين أتقدّس فيكم على عيونهم. وآخذكم من بين الأمم، وأجمعكم من جميع الأراضي،
وآتي بكم إلى أرضكم، وأنضح عليكم ماءً طاهراً، فتطهرون من جميع نجاستكم، وأطهّركم
من جميع أصنامكم. وأعطيكم قلباً جديداً، وأجعل في أحشائكم روحاً جديداً، وأنزع من
لحمكم قلب الحجر، وأعطيكم قلباً من لحم. وأجعل روحي في أحشائكم، وأجعلكم تسلكون في
رسومي وتحفظون أحكامي وتعملون بها. وتسكنون في الأرض التي أعطيتها لآبائكم،
وتكونون لي شعباً، وأكون لكم إلهاً” (حز 36: 22- 28).

ه)
الألفاظ المستعملة في العهد القديم للدلالة على شعب الله

إنّ
لفظة “كنيسة” معرّبة من اللفظة الآرامية “كنوشتا” التي تعني
المجمع أو الجماعة. أمّا العبريّة فتستعمل لفظة “كاهال” للدلالة على
جماعة الشعب الملتئمة لسماع كلمة الله في سيناء (تث 4: 10)، أو في بريّة موآب: “وتلا
موسى على مسامع كل جماعة إسرائيل كلام هذا النشيد إلى آخره” (تث 31: 30)، أو
مع يشوع بن نون: “لم تكن كلمة من كل ما أمر به موسى لم ينادِ بها يشوع بحضرة
كل جماعة إسرائيل، مع النساء والأطفال والغريب السائر معهم” (يش 9: 35). وتلك
اللفظة عينها يضعها سفر أخبار الأيّام على لسان داود: “فالآن على عيون كل
إسرائيل، جماعة الرب، وعلى مسمع إلهنا، احفظوا وابتغوا جميع وصايا الرب إلهكم
لترثوا الأرض الصالحة وتورثوها لبنيكم من بعدكم إلى الأبد” (1 أخ 28: 8).
وكذلك يروي سفر نحميا أنّ عزرا الكاهن أحضر التوراة أمام الجماعة من الرجال
والنساء وقرأ في سفر التوراة (نح 8: 2).

ولقد
ترجمت السبعينية اليونانية لفظة “كاهال” العبريّة تارة بلفظة
“إِكْلِيسِيّا”، وهي تعني “جماعة المواطنين”، وطوراً بلفظة
“سِيْناغُوْغيْ” التي تعني أيضاً “المجمع” أو
“الجماعة”. وبما أنّ هذه اللفظة الأخيرة كانت مستعملة في القرن الأوّل
للدلالة على مجمع اليهود، اختار المسيحيون الأوّلون لأنفسهم اللفظة الأولى تميّزاً
عن اليهود. لكنّ المعنى في كلتا اللفظتين هو “الجماعة المقدّسة التي دعاها
الله دعوة خاصة”. وهذا ما تعنيه أيضاً عبارة أخرى هي “كْلِيِتيْ
آغِيا” التي تفسيرها “محفل مقدّس” وهي ترجمة العبارة العبرية
“ميكراقوديش” (خر 12: 6؛ أح 23: 3؛ عد 29: 1). فهذه الألفاظ والعبارات
كلّها تستعمل للدلالة على جماعة الشعب الملتئمة للصلاة وسماع كلمة الرب وتذكّر عهده.

2- ملكوت
الله في العهد القديم

إنّ
رسالة “شعب الله” هي تحقيق “ملكوت الله” أو “ملك
الله” بين البشر. فمن أين أتت فكرة “ملك الله”؟ وماذا تعني في
العهد القديم؟

ء)
أصل الفكرة

يعود
تصوّر الله ملكاً يملك على شعبه إلى تقليد قديم في حياة شعب الله، نشأ ممّا اختبره
الشعب على مدى تاريخه، ولا سيّمَا في حروبه، من أنّ الله هو الإله المحارب الذي
يحارب إلى جانبه. فنسمع مثلاً موسى وبني اسرائيل، بعد اجتيازهم البحر الأحمر
ورؤيتهم المصريين يغرقون فيه، يسبّحون الله قائلين:

“الرب
صاحب الحروب، الرب اسمه، مراكب فرعون وجنوده طرحهما في البحر، يمينك يارب عزيزة
القوّة، يمينك يا رب تحطّم العدوّ، وبعظمة اقتدارك تهدم مقاوميك.. الرب يملك إلى
الدهر وإلى الأبد” (خر 15: 3- 18).

فنرى
هكذا النشيد يبدأ بعبارة “الرب صاحب الحروب”، وينتهي بعبارة “الرب
يملك”.

ولا
شكّ أنّ اليهود قد تأثّروا، في نظرتهم إلى الله كإلى ملك، بالكنعانيين الذين كانوا
يتصوّرون الإله الأعظم “إيل” كملك محاط بحاشية سماوية. وقد توطّدت تلك
الفكرة بعد احتلال اليهود لأرض كنعان، ونجد أصداءها في مختلف أسفار العهد القديم.

ولقد
لاقت فكرة إقامة “ملك على إسرائيل”، بعد زمن القضاة، مقاومةً شديدة عند
الأنبياء وغيرهم من الشعب الذين لم يريدوا إلاّ الله ملكاً عليهم، نجد صداها في
سفر القضاة: “قال لهم جدعون: لا أنا أتسلّط عليكم، ولا ابني يتسلّط عليكم، بل
الرب هو الذي يتسلّط عليكم” (قض 8: 23). ويروي كذلك سفر الملوك الأوّل أنّه،
عندما طلب الشعب من صموئيل “أن يقيم عليهم ملكاً يقضي بينهم كجميع الأمم، ساء
هذا الكلام في عيني صموئيل، إذ قالوا: أقم علينا ملكاً يقضي بيننا. فصلّى صموئيل
إلى الرب. فقال الرب لصموئيل: إسمع كلام الشعب في جميع ما يقولون لك، فإنّهم لم
يسأموك أنت بل سئموني أنا في توليَّ عليهم.. فالآن اسمع لقولهم، ولكن اشهد عليهم
وأخبرهم بسنن الملك الذي يملك عليهم” (1 ملو 8: 5- 9).

ب)
“مُلك الله” في مختلف أسفار العهد القديم

تقول
المزامير عن الله:

“ملك
المجد وربّ الجنود” (مز 23: 7- 10)؛ “أقر عرشه في السماء، وملكوته يسود
على الجميع” (مز 102: 19)؛ “الرب عليٌّ وملك رهيب على جميع الأرض”
(مز 46: 2)، “الرب قد ملك والبهاء لبس، لبس الرب القدرة وتنطّق بها” (مز
92: 1)، “إنّ الربّ إله عظيم وملك عظيم على جميع الآلهة” (مز 94: 3).

وكذلك
الأنبياء:

“لقد
رأت عيناي الملك ربّ الجنود” (أش 6: 5)؛ “مَن لا يخشاك يا ملك الأمم،
إنّه بك يليق ذلك، لأنّه بين جميع حكماء الأمم وفي الممالك بأسرها لا نظير لك..
أمّا الرب فهو الإله الحق، الإله الحي والملك الأزلي” (إر 10: 7- 10).

فالله
إذاً يملك كل السماء والأرض، على الآلهة والبشر وجميع الشعوب، إلاّ أنّه يملك بنوع
خاص على شعبه الذي اختاره ليكون له “مملكة أحبار وأمّة مقدّسة” (خر 19: 6).
والله يملك في وسط شعبه، في أورشليم التي تدعوها المزامير “مدينة الملك
العظيم”، “مدينة رب الجنود، مدينة إلهنا” (مز 47: 3، 9)، وفيها
يقول إرميا: “أليس الرب في صهيون، أليس ملكها فيها؟” (أر 8: 19). والله
يبارك شعبه: “ليباركك من صهيون الرب صانع السماوات والأرض” (مز 103: 3)،
ويقوده ويحميه ويجمعه كما يجمع الراعي قطيعه (راجع حز 34).

لقد
اتخذ العهد القديم صورة “ملك الله” ليعثر من خلالها عن فكرة
“العهد” بين الله وشعبه. فالله الذي عاهد شعبه أن يكون معه هو
“ملكه” الذي يحارب معه.

وبعد
سقوط المملكة في إسرائيل، اتّجه الأنبياء نحو مدلول روحي لملك الله على شعبه.
فأنبياء ما بعد السبي يؤكّدون أنّ الله هو الذي سيملك بنفسه على شعبه: “ملكهم
يجوز أمامهم” (مي 2: 13)، وهو الذي “سيرعى قطيعه كالراعي” (أش 40: 11)،
لأنّه هكذا قال السيّد الرب:

“ها
أنا ذا أنشد غنمي وأفتقدها أنا. كما بفتقد الراعي قطيعه، يوم يكون في وسط غنمه
المنتشرة، كذلك أفتقد أنا غنمي وأنقذها من جميع المواضع التي شُتّتت فيها يوم
الغمام والضباب وأخرجها من بين الشعوب، وأجمعها من الأراضي، وآتي بها إلى أرضها
وأرعاها على جبال إسرائيل وفي الأودية وفي جميع مساكن الأرض” (حز 34: 11- 13).

والبشرى
الصالحة التي تعلن في أورشليم هي: “قد ملك إلهكِ”:

“ما
أجمل على الجبال أقدام المبشّرين، المسمعين بالسلام، المبشّرين بالخير، المسمعين
بالخلاص، القائلين لصهيون: قد ملك إلهكِ” (أش 52: 7). “ترنّمي يا ابنة
صهيون، إهتفوا يَا إسرائيل. إفرحي وتهلّلي بكل قلبك يا ابنة أورشليم. فقد ألغى
الرب قضاءكِ وأقصى عدوّكِ. في وسطك الرب ملك إسرائيل، فلا تريْنَ شراً من
بعد” (صف 3: 14، 15).

وأخيراً،
في أيّام اضطهاد اليهود على يد أنطيوخس أبيفانوس، تنبّأ دانيال عن ملك الله الذي
سيُبنى على أنقاض المالك البشرية: “وفي أيّام هؤلاء الملوك، يقيم إله السماء
مملكة لا تنقض إلى الأبد، وملكه لا يترك لشعب آخر، فتسحق وتفني جميع تلك الممالك،
وهي تثبت إلى الأبد” (دا 2: 44):

وتنبّأ
كذلك عن مجيء “ابن البشر” الذي “أُوتي سلطاناً ومجداً وملكاً.
فجميع الشعوب والأمم والألسنةِ يعبدونه، وسلطانه سلطان أبدي لا يزول، وملكه لا
ينقرض” (دا 7: 14). وملك ابن البشر سيعقب ملك الحيوانات الأربعة، “وهي
أربعة ملوك يقومون على الأرض” (7: 17)، رمز كل الممالك الأرضية. ويتابع
دانيال بقوله: “لكن قدّيسي العليّ يأخذون الملك ويحوزونه إلى الأبد وإلى أبد
الآباد.. ويعطى الملك والسلطان وعظمةالملك تحت السماء بأسرها لشعب قدّيسي العليّ.
وسيكون ملكه ملكاً أبدياً، ويعبده جميع السلاطين ويطيعونه” (دا 7: 17، 27).

ج)
ماذا كان ينتظر العهد القديم من إحلال ملك الله النهائي؟

يشمل
ملك الله، في مختلف أسفار العهد القديم، ثلاثة ميادين: الكون، والتاريخ، والدين.
فالعهد القديم، في انتظاره إحلال ملك الله النهائي، كان ينتظر أن يسود الله سيادة
تامة على الكون وعلى الشعوب وعلى جميع الناس، ويدمّر كل قوى الشر التي تعمل على
مقاومة سيادته. عندئذٍ على الصعيد الكوني يسود النظامُ الكونَ والطبيعة، وعلى
المعيد التاريخي والسياسي يسود السلام والعدالة جميع الشعوب، وعلى الصعيد الديني
والأخلاقي والاجتماعي يمتلئ جميع الناس من معرفة الله ومخافته ويتمّمون شريعته
ووصاياه.

إن
حالة كهذه لا يستطيع إنسان أن يحقّقها، فإنّها بيد الله وحده، فهو يهبها هبة
مجانية من فيض محبته، وسيهبها عند تمام الأزمنة في “يوم الرب”.

إنّ
الأسفار الرؤيويّة ترى علاقة صميمة بين “ملك الرب” أو “ملكوت
الرب” و”يوم الرب”. “إنّ يوم الرب قريب على جميع الأمم”،
يقول النبي عوبديا، ثمّ يضيف: “ويكون الملك للرب” (عو 15 و21). وكذلك
يقرن النبي زكريا يوم الرب وملكه: “ها إن يوماً للرب يأتي” (زك 14: 1)،
“ويكون الرب ملكاً على الأرض كلّها، وفي ذلك اليوم يكون رب واحد، واسمه
واحد” (14: 9). وكذلك يقول أشعيا: “في ذلك اليوم يفتقد الرب جند العلاء
في العلاء وملوك الأرض على الأرض”، ثم يضيف: “فيخجل القمر وتخزى الشمس،
إذ يملك رب الجنود في جبل صهيون وفي أورشليم ويتمجّد أمام شيوخه” (أش 24: 21
و23).

إنّ
تحقيق ملك الرب يتطلّب تدخّلاً مباشراً من قِبَل الله، وتغييراً جذرياً في كل شيء:
إنّ ملكوت الله لن يتحقّق إلاّ بإنشاء أرض جديدة وسماء جديدة.

وفي
نهاية العهد القديم كان الجميع ينتظرون حلول ملكوت الله. إلاّ أنّه استناداً إلى
النبوءات الماسيوية التي كانت تتنبّأ عن مجيء مسيح من نسل داود يملك على عرشه إلى
الأبد، وإلى نبوءة دانيال عن ابن البشر، كان البعض ينتظرون تحقيق ملكوت الله على
يد مسيح زمني يملك على إسرائيل ويعيد أمجاد مملكة داود. أمّا الأنبياء والحكماء
والأتقياء فكانوا يرون في ملكوت الله حقيقة روحية: “إن البار، بخضوعه للشريعة،
يحمل نير ملكوت السماوات”، يقول بعض الرابيين. وهذا الرجاء المنتظر سيجد
جوابه في العهد الجديد، في إنجيل الملكوت.

ثانياً-
الكنيسة في العهد الجديد

إنّ
يسوع المسيح هو كمال الناموس والأنبياء، فيه تحقّقت كل تطلّعات العهد القديم، وفي
تبشيره وموته وقيامته أتى الملكوت الذي كان العهد القديم ينتظره. ونشأة الكنيسة في
العهد الجديد مرتبطة معاً برسالة المسيح وتبشيره بالملكوت في حياته العلانية،
وبسرّ موته على الصليب وقيامته من بين الأموات.

1-
نشأة الكنيسة وارتباطها بمجي المسيح وتبشيره بالملكوت

ء)
التبشير بالملكوت

مجيء
الملكوت في شخص يسوع

بدأ
يسوع رسالته بالكرازة بإنجيل الله، أي بالبشرى الصالحة، ومحورها إعلان قرب مجيء
ملكوت الله:

“بعدما
أُلقي يوحنا في السجن، أتى يسوع إلى الجليل وهو يكرز بإنجيل الله، ويقول: لقد تمَّ
الزمان، واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالإنجيل”.

فإنّ
الزمان الذي حدّده الله لمجيء ملكوته قد تمّ، وها إنّ الملكوت يقترب من البشر في
شخص يسوع المسيح وعجائبه وتعاليمه. فيسوع هو “الابن الحبيب الذي به سرّ
الآب” (متى 3: 17)، وأرسله الآب إلى كرمه بعد الأنبياء ليأخذ ثماره (راجع متى
21: 33- 39). وعلى يسوع “حلّ روح الرب ومسحه ليبشّر المساكين وينادي
للمأسورين بالتخلية، وللعميان بالبصر، ويطلق المرهقين أحراراً، ويعلن سنة نعمة للرب”.
(لو 4: 18، 19)، فجعل “العمي يبصرون، والعرج يمشون، والبرص يطهرون، والصمّ
يسمعون، والموتى ينهضون، والمساكين يبشّرون. وطوبى لمن لا يشكّ فيه” (متى 11:
5، 6).

فالأشفية
التي صنعها يسوع، وكذلك سيطرته على الشياطين، هي آيات تشير إلى مجيء الملكوت في
شخصه. وهذا ما يعنيه بقوله للفريسيين: “إن كنت أنا بروح الله أخرج الشياطين،
فذلك أنّ ملكوت الله قد انتهى إليكم”. ثم يضيف: “وهل يستطيع أحد أن يدخل
بيت القوي، وينهب أمتعته، إلاّ أن يربط القويّ أوّلاً؟ عندئذٍ فقط ينهب بيته”
(متى 12: 28، 29). فالقوي هنا هو الشيطان، رمز الشرّ في العالم. وقد جاء المسيح
لينشئ ملكوت الله. ولكن لا بدّ له أوّلاً من أن يدّمر ملك الشيطان ليبني ملكوت
الله.

وشفاء
الأمراض يرافقه دوماً غفران الخطايا (راجع مثلا شفاء مخلّع كفرناحوم). وجود يسوع
على مائدة واحدة مع العشّارين والخطأة إلاّ علامة فيض المحبة والمغفرة التي أنبأ
عنها الأنبياء لتمام الأزمنة وحلول ملكوت الله.

ذلك
يعني ملكوت الله تدّخل قدّرة الله ومحبته في تمام الأزمنة لتدمير قوى الشرّ، وخلاص
البشر من خطاياهم وإدخالهم في زمن النعمة الجديد.

الملكوت
عطية مجّانيّة من الله

والملكوت
هو عطيّة مجّانيّة من الله، لا أحد يحصل عليه بأعماله الخاصة، بل يهبه الله للجميع
دون تمييز، للصدّيقين والخطأة، للأغنياء والفقراء، لليهود وغير اليهود: “لا
تخف أيّها القطيع الصغير، لأنّه قد حسن لدى أبيكم أن يعطيكم الملكوت” (لو 12:
32). والشرط الوحيد لدخول الملكوت هو الانفتاح له والإيمان بمجيئه في شخص يسوع،
وقبوله كطفل.

التخلّي
عن كل شيء في سبيل الملكوت

إنّ
الملكوت قد جاء في شخص يسوع. لذلك يجب التخلّي عن كل شيء للحصول عليه، فإنه يشبه
“كنزاً مدفوناً في حقل. فالإنسان الذي وجده أخفاه، ومن فرحه، مضى وباع كل ما
له واشترى ذلك الحقل. ويشبه ملكوت السماوات أيضاً إنساناً تاجراً يطلب لآلئ حسنة.
فلمّا وجد لؤلؤة نفيسة، مضى وباع كل ما كان له واشتراها” (متى 13: 44- 46).

والحصول
على الملكوت يجلب للإنسان سعادة قصوى. لذلك يشبّه يسوع الملكوت “بملك صنع
عرساً لابنه” (متى 22: 2). فالملك، في هذا المثَل، هو الله، وابنه هو يسوع
المسيح، والاشتراك في العرس يرمز إلى الدخول في الملكوت.

يقول
اوريجانوس إنّ “يسوع هو نفسه الملكوت”، من يؤمن به يدخل في الملكوت.
أمّا يوحنا فإنّه يستعمل بدلاً من لفظة الملكوت لفظة “الحياة”، أي
الحياة الإلهية، حياة الله نفسه وقد أتت إلينا في شخص يسوع المسيح ابن الله.

شرعة
أبناء الملكوت، التوبة والإيمان

بمجيء
يسوع إذاً اقترب من البشر ملكوت الله، أي أصبح في متناول أيديهم، واقتربت منهم
حياة الله ومحبته ونعمته ومغفرته. فمن يؤمن بيسوع يصبح ابن الملكوت، وعليه من ثمّ
أن يحيا حياة “أبناء الملكوت”. وقد أوجز متى في عظة يسوع على الجبل شرعة
أبناء الملكوت (متى 5- 7)، “حيث ينبّه يسوع مستمعيه قائلاً: “إن لم يزد
بهم على ما للكتبة والفرّيسيّين، فلن تدخلوا ملكوت السماوات” (متى 5: 20)،
وأيضاً: “أطلبوا ملكرت الله وبره” (متى 6: 33).

وهذا
الموقف الذي يطلبه يسوع من مستمعيه إزاء اقتراب مجيء الملكوت يفسّر قوله: “لقد
تمَّ الزمان واقترب ملكوت الله. فتوبوا وآمنوا بالإنجيل”. فالتوبة والإيمان
عنصران أساسيان يتميّزهما تلاميذ يسوع. والتوبة في يسوع هي توبة عن وتوبة إلى فهي
توبة عن الخطايا المقترفة أولاً، كتوبة العشّار الذي وقف يقرع صدره قائلاً: “اللهمّ
اغفر لي أنا الخاطئ” (لو 18: 19)، وتوبة زكّا الذي قال ليسوع: “يا سيّدي،
ها أنا ذا أُعطي المساكين نصف أموالي، وإن كنت قد ظلمت أحداً بشيء، فإني أردّ
أربعة أضعاف” (لو 19: 8). ولكنها خصوصاً توبة إلى الله، أي رجوع إليه كإلى أب،
والارتماء في أحضانه بثقة ومحبة، كما فعل الابن الشاطر (لو 15: 11- 32). وبالتوبة
يقول الإنسان لله على مثال يسوع: “يا أبتاه”.

وبهذا
المعنى الأخير، تأتي التوبة قريبة من الإيمان وملازمة له. فالإيمان ليس اعتناقاً
لعقيدة، بل اعتناق لشخص يسوع ومن خلاله لشخص الآب، إنّه علاقة شركة ومحبة بين
الإنسان والله.

ب)
الجماعة الكنسيّة والرسل الاثنا عشر

إنّ
الذين يؤمنون بيسوع المسيح ويقبلون الملكوت يكوّنون جماعة يدعوها العهد الجديد
“الكنيسة”. وهذه اللفظة لا ترد إلاّ مرَّتين في الإنجيل (متى 16: 18؛ 18:
17)، بينما ترد 20 مرّة في سفر أعمال الرسل، و60 مرّة في رسائل القدّيس بولس. لكنّ
الإنجيل يرينا يسوع يعدّ، في أثناء حياته، جماعة يمكننا أن ندعوها الجماعة
الماسيوية، أي التي أرادها الله لزمن مجيء الماسيّا أي المسيح. وهذه الجماعة تؤمن
أنّ يسوع هو المسيح المنتظر، وتنفتح على ملكوت الله، فتتحقّق فيها نبوءة دانيال
النبي عن قدّيسي العليّ الذين يأخذون الملكوت الذي أُقيم ابن البشر سيّداً عليه
(راجع دا 7: 14- 27).

إنّنا
نرى يسوع يجمع حوله تلاميذ يعلّمهم ويثقّفهم ويكشف لهم “أسرار ملكوت
السماوات” (متى 13: 11)، ويدعوهم “القطيع الصغير” (لو 12: 32)، فقد
رآهم، وهو “الراعي الصالح” (يو10) الذي “جاء ليجمع في الوحدة أبناء
الله المتفرقين” (يو 11: 52) “كخراف ضالّة” (متى 15: 24)،
و”كغنم لا راعي لها” (متى 9: 36).

ومن
بين هؤلاء التلاميذ عيّن يسوع اثنى عشر رسولاً، “ليكونوا معه ويرسلهم
للكرازة” (مر 3: 14- 19). وقد علّمهم طرق الرسالة (مر 6: 6- 11)، وأوّلية
الخدمة في علاقاتهم بعضهم مع بعض: “إن أراد أحد أن يكون الأوّل، فعليه أن
يكون آخر الكل وخادماً للكل” (مر 9: 35). وأنبأهم عن الاضطهادات التي سوف
تلحق بهم (متى 10: 16- 31). وعلّمهم أيضاً أن يجتمعوا معاً للصلاة: “إذا
اتّفق اثنان منكم على الأرض، في أيّ شيء يطلبانه، فإنّه يكون لهما من قبل أبي الذي
في السماوات. لأنّه حيثما اجتمع اثنان أو ثلاثة باسمي، فأنا أكون هناك في وسطهم
” (متى 18: 19، 20). وأوصاهم أن يغفر بعضهم لبعض (متى 18: 21-35)، وألاّ
يبعدوا أحداً عن الجماعة وعن الشركة معها إلاّ بعد محاولة إقناعه على شهادة اثنين
أو ثلاثة ثمّ على شهادة الكنيسة (متى 18: 15- 18).

ونرى
هؤلاء الرسل الاثني عشر، في أثناء حياة يسوع وعلى أمر منه، “يكرزون بالتوبة،
ويخرجون الشياطين، ويدهنون بالزيت مرضى كثيرين ويشفونهم” (مر 6: 12)،
ويعمّدون الناس (يو 4: 2).

إنّ
يسوع باختياره اثني عشر رسولاً، لم يرد إنشاء مؤسّسة دينية إلى جانب المؤسّسات
القائمة في إسرائيل، بل أراد جمع كل الشعب الإسرائيلي، بقبائله الاثنتي عشرة، في
شعب الله الجديد. وهذا ما يعنيه رقم “الاثني عشر” الذي اختاره لرسله وقد
حرصوا على المحافظة عليه، بحيث إنّ أوّل عمل قاموا به بعد قيامة يسوع كان اختيار
متيّا ليكون الرسول الثاني عشر عوضاً عن يهوذا الذي خان معلّمه ثمّ قتلَ نفسه (أع
1: 15- 26).

والرسل
الاثنا عشر هم النواة الأولى، ليس فقط لجمع الشعب الإسرائيلي، بل أيضاً لجمع كل
الأمم في شعب الله الجديد. لا شكّ أنّ يسوع بدأ بشير “الخراف الضالّة من بني
إسرائيل” (متى 15: 24)، وقد بكى على أورشليم لأنّه “أراد أن يجمع بنيها
كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، فلم يريدوا” (متى 23: 37)، ولكنّه أعلن،
في لقاءات عدّة، تصميم الله على دخول جميع الأمم في شعب الله الجديد. فبعد أن شفي
غلام قائد المئة الروماني وأُعجب بإيمان هذا الأخير، قال: “الحق أقول لكم
إنّي لم أجد عند أحد من إسرائيل مثل هذا الإيمان”، ثم أردف: “وأنا أقول
لكم إنّ كثيرين يأتون من المشرق والمغرب، ويتّكئون مع إبراهيم وإسحق ويعقوب في
ملكوت السماوات. أمّا أبناء الملكوت فيُلقَون في الظلمة الخارجية” (متى 8: 5-
12).

إنّ
ما لا يرقى إليه الشكّ إذاً هو إرادة يسوع الصريحة في إنشاء الكنيسة، وقد عمل، في
أثناء حياته، على تكوين نواتها الأولى بتبشيره بالملكوت، ودعوته الجموع إلى التوبة
والإيمان، وسكبه نعمة الله على المرضى لشفائهم وعلى الخطأة لمغفرة خطاياهم، وجمعه
حوله تلاميذ، وإقامته رسلاً لمتابعة كرازته.

وهناك
نصّ يظهر بوضوح كلّي إرادة يسوع هذه، حيث يعترف بطرس الرسول بأنّ يسع هو
“المسيح ابن الله الحيّ”، ويجيب يسوع على هذا الاعتراف. ففي الفصل
السادس عشر من إنجيل متى كلام على عدم معرفة الفرّيسيّين والصدّوقيّين تمييز
علامات الأزمنة، وعدم إيمانهم بالتالي بيسوع (متى 16: 1- 12). ثمّ يتابع النص:

“ولمّا
انتهى يسوع إلى ضواحي قيصريّة فيلبّس، سأل تلاميذه، قائلاً: مَن ترى ابن البشر في
نظر الناس؟ قالوا: بعضهم يقولون إنّه يوحنا المعمدان، وغيرهم إنّه إيليا، وغيرهم
إنّه إرميا أو واحد من الأنبياء. فقال لهم: وفي نظركم، أنتم، مَن أنا؟ أجاب سمعان
بطرس وقال: أنت المسيح ابن الله الحي. أجاب يسوع وقال له: طوبى لله يا سمعان ابن
يونا، فإنه ليس اللحم والدم أعلنا لك هذا، بل أبي الذي في السماوات. وأنا أقول لك:
أنت الصخرة، وعلى هذه الصخرة سأبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. وسأُعطيك
مفاتيح ملكوت السماوات، فكل ما تربطه على الأرض يكون مربوطاً في السماوات، وما
تحلّه على الأرض يكون محلولاً في السماوات” (16: 13- 19).

ففي
هذا النص يمكننا أن نرى العناصر التالية:

أوّلاً،
يعلن يسوع لبطرس أنّ الآب هو الذي أوحى إليه باعترافه بيسوع.

ثانياً،
يغيّر اسم سمعان فيسمّيه بطرس أو (كيفا)، أي الصخرة. وإعطاء اسم جديد يشير إلى
رسالة جديدة. فبطرس سيكون الصخرة التي سيبني عليها المسيح كنيسته، وأبواب الجحيم،
أي قوى الشر والخطيئة، لن تقوى عليها ولن تدمّرها.

ثالثاً،
يعلن رغبته في بناء الكنيسة، ويدعوها “كنيستي”. فالكنيسة هي إذاً كنيسة
المسيح أي (جماعة الذين يعترفون، على غرار بطرس، بأنّ يسوع هو المسيح ابن الله
الحيّ”. وهذا الإيمان بالمسيح هو الصخرة التي ستتحطّم عليها قوى الجحيم.
وسيحاول الشيطان أن يغربل كالحَنطة بطرس وسائر الرسل وجميع المؤمنين بالمسيح
ليبعدهم عن الإيمان. إلاّ أنّ يسوع صلّى لأجلهم، وبنوع خاص لأجل بطرس لكي لا يزول
إيمانه، فيستطيع بدوره أن يثبّت إيمان إخوته: “سمعان، سمعان، هوذا الشيطان قد
طلب في إلحاح أن يغربلكم كالحنطة. وأنا صلّيت لأجلك لكي لا يزول إيمانك. وأنت متى
عدت فثبّت إخوتك” (لو 22: 31، 32).

رابعاً،
يعطي بطرس “مفاتيح ملكوت السماوات”، وسلطان “الحلّ والربط”.
وفي موضعَ آخر نسمع يسوع ينتقد الفرّيسيّين والكتبة “لأنهم يغلقون في وجه
الناس ملكوت السماوات، فلا يدخلون، ولا يدعون الداخلين يدخلون” (متى 23: 13).
ويمنح هنا بطرس مفاتيح الملكوت لإدخال الناس إليه. وإنّ مفاتيح الملكوت هي في
الواقع مفاتيح الكنيسة التي تضمّ جميع بني الملكوت وتسير على هذه الأرض نحو
الملكوت النهائي في السماء. أمّا سلطان “الحلّ والربط” فلا يقتصر، كما
يفسّر البعض، عل حلّ الخطايا وربطها، بل هو سلطان الرعاية الكامل على الكنيسة.
فسيّد البيت هو الذي بيده مفاتيح البيت، وهو الذي يحلّ ويربط، أي يدير جميع شؤون
البيت.

لا
شكّ أنّ يسوع هو راعي الكنيسة ورئيسها وسيّدها، تمّت فيه نبؤات العهد القديم عن
الله الذي سوف يأتي في الأزمنة الأخيرة ويرعى شعبه بنفسه (راجع حز 34: 11، 12)،
وهو الذي ” بيده مفتاح داود (أي مفتاح مدينة داود، أورشليم الجديدة، أي
الكنيسة)، يفتح فلا يُغلق أحد، ويُغلق فلا يفتح أحد” (رؤيا 3: 7)، وهو الذي
سيبقى مع كنيسته “كل الأيّام إلى انقضاء الدهر” (متى 28: 20). ولكنّه
أراد أن يكون لكنيسته راع يمثّله ووكيلٌ تستمرّ فيه رعايته. لذلك نراه أيضاً بعد
قيامته يوكل إلى بطرس تلك المهمة: “إرعَ خرافي.. إرعَ نعاجي” (يو 21: 15-
17). وقد أعطى كذلك سلطان الحلّ والربط في موضع آخر للكنيسة كلّها ممثّلة بالرسل
الاثني عشر (راجع متى 18: 15- 18).

2-
نشأة الكنيسة بموت يسوع على الصليب

لقد
نشأت الكنيسة جماعةً منفصلة عن الشعب اليهودي بسبب رفض اليهود الإيمان بيسوع. فقد
جاء يسوع ليجمع أوّلاً أبناء الشعب اليهودي، “تلك الخراف الضالّة من بني
إسرائيل” (متى 15: 24)، ولكنّهم رفضوا رسالته، فقادهم رفضهم إلى تسليمه إلى
السلطة الرومانية للحكم عليه بالموت. فلماذا رفض اليهود رسالة يسوع، وكيف نشأت
الكنيسة من صليب يسوع؟

ء)
رفض اليهود الإيمان بيسوع

لقد
كانت عجائب يسوع وتعاليمه آيات تظهر مجيء ملكوت الله في شخصه، ولكن اليهود لم
يكتفوا بعجائب كان الأنبياء في العهد القديم يصنعون مثلها، فطلبوا منه أن يريهم
آية خارقة من السماء، فأجابهم:

“جيل
شرير فاسق بطلب آية، ولن يعطى آية إلاّ آية يونان النبي. فكما أنّ يونان أقام في
بطن الحوت ثلاثة أيام وثلاث ليالٍ، كذلك ابن البشر يقيم في جوف الأرض ثلاثة أيّام
وثلاث ليالٍ.. رجال نينوى سيقومون، في الدينونة، مهم هذا الجيل، ويحكون عليه،
لأنّهم تابوا بوعظ يونان، وههنا أعظم من يونان” (متى 12: 39- 41؛ راجع أيضا
يوحنا 2: 18- 21).

إنّ
يسوع هو الآية الظاهرة في أعماله وتعاليمه وعجائبه، وعلى اليهود أن يؤمنوا به، كما
آمنوا بيونان. أمّا الآية الكبرى التي يشير إليها يسوع فهي آية موته وقيامته. فهو
لا يرفض مبدأ إعطائهم آية، ولكنّه لا يعطيهم الآية التي يطلبون، لأنّ نظرته إلى
الملكوت مختلفة تمام الاختلاف عن نظرتهم، وكذلك نظرته إلى المسيح الذي سينشى
الملكوت، فاليهود كانوا في معظمهم ينتظرون مسيحاً زمنياً وملكوتاً دنيوياً، فكان
لذلك موت المسيح أمراً لا بدّ منه.

ب)
ضرورة الصليب

يقول
بولس الرسول: “إنّ اللحم والدم لا يستطيعان أن يرثا ملكوت الله” (1 كو
15: 50). فإنّ تحقيق ملكوت الله وتكوين شعب الله الجديد لا يمكن أن يتمّا إلاّ
بتجاوز منطق البشر وتخطّي حدود التاريخ. لذلك يدعو يسوع تلاميذه ويقول لهم:

“مَن
أراد أن يتبعني فليكفر بنفسه، وليحمل صليبه ويتبعني. فإن مَن أراد أن يخلّص نفسه
يهلكها، أمّا مَن يهلك نفسه من أجلي ومن أجل الإنجيل فإنّه يخلّصها. إذ ماذا ينفع
الإنسان أن يربح العالم كلّه ويخسر نفسه؟ وماذا يعطي الإنسان فداءً عن نفسه؟ فإنّ
مَن يستحي بي وبكلامي في هذا الجيل الفاسق الأثيم، فابن البشر أيضاً يستحي به متى
جاء في مجد أبيه مع الملائكة القدّيسين.. الحق أقول لكم: إنّ في القائمين ههنا مَن
لا يذوقون الموت حتى يعاينوا ملكوت الله آتياً في قدرة” (مر 8: 34- 37).

إنّ
ملكوت الله الذي بدأ بمجيء المسيح وظهوره ظهوراً وضيعاً، سيعتلن بقدرة في موت
المسيح وقيامته. وقد يكون هنا تلميح أيضاً إلى دمار أورشليم الذي سيفصل نهائياً
الكنيسة عن الملّة اليهوديّة التي رفضت الإيمان بالمسيح.

إنّ
التوبة التي يطلبها يسوع تصل إلى هذا الحد، إلى التخلّي عن منطق البشر وتبّني منطق
المسيح. وهذا الارتداد الجذري إلى منطق الملكوت لا يستطيع إنسان أن يقوم به إن لم
يكن متأصّلا في المسيح الذي هو مبدأ الملكوت وغايته، الألف والياء. لذلك. فإنّ
المسيح هو “الوسيط الوحيد” لبلوغ أقصى الإيمان والتوبة والدخول في ملء
الملكوت. وهو الذي فتح لنا الطريق وسار أمامنا: “لنسعَ بثبات في الميدان
المفتوح أمامنا، شاخصين بأبصارنا إلى مُبدِئ الإيمان ومكمّله، إلى يسوع الذي، بدل
السرور الموضوع أمامه، تحمّل الصليب- هازئاً بعاره- وجلس عن يمين عرش الله”
(عب 12: 1- 3). ويسوع نفسه رأى ضعف تلاميذه، وقالت لبطرس: “حيث أذهب أنا لا
تقدر الآن أن تتبعني، بيد أنّك ستتبعني في ما بعد. قال له: لِمَ يا ربّ لا أقدر
الآن أن أتبعك؟ إنّي أبذل حياتي عنك. أجاب يسوع: أنت تبذل حياتك عني؟ الحق الحق
أقوك لك: إنه لا يصيح الديك حتى تنكرني ثلاث مرات” (يو 13: 36- 38).

إنّ
الطريق إلى الملكوت صعبة، لذلك لا بدّ من قوّة إلهيّة تفتحها، ويسوع هو
“الطريق والحق والحياة، ولا يأتي أحد إلى الآب إلاّ به” (يو 14: 16).

ج)
العهد الجديد بدم يسوع

لقد
قدّم يسوع حياته لأجل رسله ولأجل الكثيرين، فكان موته أساساً لنشأة الكنيسة
الممثّلة برسله، ودعوة إلى دخول الكثيرين، أي سائر الشعوب، فيها. وهذا المعنى قد
أعطاه هو نفسه لموته عندما قال لرسله في أثناء العشاء السرّي: “هذا هو دمي،
دم العهد الجديد، الذي يهراق عنكم وعن الكثيرين لمغفرة الخطايا” (متى 26: 28،
لو 22: 30).

والعهد
الجديد بدم المسيح هو الذي ينشئ الكنيسة، شعب الله الجديد، كما أنّ العهد القديم
بدم الحيوانات، مع موسى، أنشأ شعب الله القديم. وفي هذا تقول الرسالة إلى
العبرانيين:

“إن
كان دم ثيران وتيوس ورماد عجلة يرشّ على المنجّسين فيقدّسهم لتطهير الجسد، فَلَكَم
بالأحرى دم المسيح، الذي بروح أزلي قرّب لله نفسه بلا عيب، يطهّر ضميرنا من
الأعمال الميتة لنعبد الله الحي. ولذلك هو وسيط عهد جديد” (عب 9: 13- 15؛
راجع أيضاً: 10: 11- 18).

د)
الإفخارستيا: الحضور الدائم لهذا العهد

كان
الفصح في العهد القديم ذكرَ فداء الشعب اليهودي بخروجه من مصر على يد موسى، بواسطة
الحمل الفصحي. وقد أراد المسيح أن يكون سرُّ الإفخارستيا ذكرَ فداء البشرية كلّها
بدمه الذي سفكه على الصليب. فبعد أن أخذ الكأس وقال: “هذه الكأس هي العهد
الجديد بدمي”، أضاف: “إصنعوا هذا، كلّما شربتم، لذكري”. وبولس الذي
يروي للكورنثيين “ما تسلّمه من الرب” يردف قائلاً: “فإنّكم كلّما
أكلتم هذا الخبز وشربتم هذه الكأس، تخبرون بموت الرب، إلى أن بجيء” (1 كو 11:
25، 26). إنّ العهد الجديد بين الله وجميع الشعوب يبدأ في جماعة صغيرة ثم يمتدّ
إلى جميع البشر. وسرّ الإفخارستيّا هو سرّ امتداد هذا العهد.

كيف
ذلك؟

قبل
أن يغادر يسوع الجماعة التي أنشأها ترك لها في الإفخارستيا سرّ حضوره الشخصي. فيجب
ألاّ تخاف من أنّ الموت الذي ينتظره سيبعده عنها، فإنّه حاضر معها، ويمكنها من ثمّ
أن تثق بأنّها ستثبت حتى مجيئه الثاني المجيد. فإنّ ذبيحة يسوع، أي تقدمة ذاته
تقدمة كاملة في جسده ودمه على الصليب، تصير حاضرة في هذا السر. فالجسد والدم هما
كل الإنسان، لأنّ الجسد هو ما يربط الإنسان بالعالم الخارجي والدم هو علامة الحياة
فيه. فالمسيح، في جسده ودمه، أي في كل كيانه، يصير حاضراً حضورا ًسرياً (أي في سرّ
أو علامة الخبز والِخمر) في وسط جماعته. وعلى تلاميذه أن يعيدوا على مدى الزمن هذا
الحضور ليشتركوا هم أيضاً في تقدمة يسوع ويجسّدوها في حياتهم. وبواسطة هذه التقدمة
وهذا الاشتراك، أي تقدمة يسوع ذاتَه واشتراك البشر فيها، يستمرّ عهد الله مع البشر
وعهد البشر مع الله حتى نهاية الزمن.

3-
نشأة الكنيسة بقيامة يسوع وإرساله الروح القدس على تلاميذه

في
صلاة “الذكر” التي تلي الكلام الجوهري في “ليتورجيا القدّيس يوحنا
الذهبي الفم” نقول: “نذكر وصيّة المخلّص هذه وكل ما جرى لأجلنا: الصلب،
والقبر، والقيامة في اليوم الثالث، والصعود إلى السماوات، والجلوس عن اليمين،
والمجيء الثاني المجيد”.

لا
يمكننا أن نفصل قيامة المسيح عن صلبه، فالصليب والقيامة مرتبطان ارتباطاً وثيقاً
بحيث لا يقوم معنى للصليب من دون القيامة: “أما كان ينبغي للمسيح أن يكابد
هذه الآلام، ويدخل في مجده؟” (لو 24: 26). إنّ قيامة يسوع، أي دخوله في مجد
الله، هي في النهاية تحقيق ملكوت الله. لذلك فإنّ نشأة الكنيسة مرتبطة ليس فقط
بتبشير يسوع وموته بل أيضاً بقيامته.

ء)
الإيمان بقيامة يسوع أساس الكنيسة

إنّ
حدث قيامة المسيح هو الحدث الذي تمَّ عليه انفصال الكنيسة المسيحية عن الشعب
اليهودي. فالمسيحي هو الذي يؤمن أنّ يسوع قد قام، والكنيسة هي جماعة المؤمنين
بقيامة المسيح.

لا
شكّ أنّ التلاميذ آمنوا بيسوع في حياته، وإلاّ لما كانوا تبعوه. ولكنّ إيمانهم به
لم يبلغ أبعاده الكاملة إلاّ عندما آمنوا بقيامته. لذلك فالقيامة هي الحدث الذي
نشأت فيه الكنيسة كجماعة مؤمنة. لأنّه، يوم صلب يسوع، لم يكن واقفاً إلى جانبه
إلاّ أمّه “والتلميذ الذي كان يسوع يحبّه”، أي يوحنا الإنجيلي، وبعض
النسوة. أمّا سائر الرسل فقد هربوا وتشتّتوا كالخراف، وصدق فيهم ما هو مكتوب: “سأضرب
الراعي فتتبدّد خراف القطيع” (متى 26: 31). بيد أنّنا، يومَ قيامة يسوع،
نراهم مجتمعين معاً ويسوع في وسطهم يقول لهم: “السلام لكم”، فيمتلئون
فرحاً لرؤيته، ثمّ يرسلهم لمتابعة رسالته: “خذوا الروح القدس. فمَن غفرتم
خطاياهم غُفرت لهم، ومَن أمسكتم خطاياهم أُمسكت” (يو 20: 19- 23).

وإنّ
ترائيات يسوع لرسله بعد قيامته تعبّر عن هذا الإيمان الذي به انتقل الرسل من فريق
مشتّت إلى كنيسة مؤمنة مجتمعة حول المسيح الحيّ.

ب)
رسالة الكنيسة: البلوغ بجميع الشعوب إلى الإيمان بالمسيح

إنّ
معظم ترائيات يسوع لرَسله يرافقها إرسال للكرازة: “إذهبوا وتلمذوا جميع
الأمر” (متى 28: 19)، “إذهبوا في العالم اجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة
كلّها” (مر 16: 15)؛ “كما أنّ الآب أرسلني، كذلك أنا أُرسلكم” (يو
20: 21؛ راجع أيضا لو 24: 44- 49؛ أع 1: 8). فالإرسال للكرازة هو من صلب الكنيسة،
لانّ الكنيسة ليست جماعة بعض المؤمنين بيسوع، بل هي دعوة الله إلى جميع الشعوب
للاشتراك في الحياة الإلهية التي ظهرت في يسوع المسيح.

ج)
إرسال الروح القدس يوم العنصرة: بدء رسالة الكنيسة

“ستنالون
قوّة بحلول الروح القدس عليكم، فتكونون لي شهوداً في أورشليم، وفي جميع اليهودية
والسامرة، وإلى أقاصي الأرض” (أع 1: 8). إنّ وعد يسوع لتلاميذه قد تحقق يوم
العنصرة، “فامتلأوا كلّهم من الروح القدس، وطفقوا يتكلمون بلغات أخرى..
بعظائم الله” (أع 2: 4، 11).

كان
عيد العنصرة عند اليهود ذكرى للعهد الذي قطعه الله مع شعبه على جبل سيناء وإعطائه
إيّاه الشريعة على يد موسى. وبحلول الروح القدس على التلاميذ يوم العنصرة بدأ عهد
جديد مع جميع شعوب العالم. وتشير إلى ذلك موهبة الألسن التي نالها التلاميذ
للتكلُّم بلغاتَ مختلفة والإشادة بعظائم الله. فالألسن التي تبلبلت في برج بابل
اتّحدت الآن بالروح القدس الذي سيكوّن من الشعوب المختلفة كنيسة الله الواحدة وشعب
الله الجديد. والروح القدس الذي أُفيض على التلاميذ هو الشريعة الجديدة التي تنبّأ
عن حلولها في قلوب المؤمنين يوئيل وأشعيا وحزقيال وإرميا:

“سيكون
في الأيّام الأخيرة، يقول الله، أنّي أفيض من روحي على كل بشر، فيتنبّأ بنوكم
وبناتكم..” (يوء 2: 28؛ 2: 17)؛ “ها إنّها تأتي أيّام، يقول الرب، أقطع
فيها مع آل إسرائيل وآل يهوذا عهداً جديداً.. وهو أنّي أجعل شريعتي في ضمائرهم
وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلهاً وهم يكونون لي شعباً” (إر 31: 31- 33)؛
“أعطيكم قلباً جديداً، وأجعل في أحشائكم روحاً جديداً.،. أجعل روحي في
أحشائكم وأجعلكم تسلكون في رسومي..” (حز 36: 22- 28).

إنّ
إرسال الروح القدس هو المرحلة الأخيرة من مراحل نشأة الكنيسة. يقول بطرس الرسول،
في خطبته الأولى يوم العنصرة: “فيسوع هذا قد أقامه الله، ونحن جميعاً شهود
بذلك. وإذ قد ارتفع بيمين الله، وأخذ من الآب الروح القدس الموعود به، أفاض ما
تنظرون وتسمعون” (أع 2: 32، 33). فإنّ يسوع قد دخل، بالقيامة، في مجد الله.
وبقيامة يسوع، أظهر الله أنّ فداء البشرية وخلاصها قد تحقّقا في شخص يسوع، رأس
الجسد. وإرسال الروح القدس يهدف إلى تحقيق الخلاص في سائر أعضاء الجسد. يقول
القديس كيرلّس الإسكندري: “الروح القدس هو عطر كيان الله، عطر حيّ ومحيٍ،
يحمل إلى الخلائق ما هو من الله، ويجعلهم هو نفسه يشتركون في الجوهر الإلهي الذي
يفوق كل جوهر”.

4- خلاصة

من
بها ما سبق يمكننا استنتاج الخلاصة التالية عن نشأة الكنيسة وعلاقتها بملكوت الله
وبيسوع المسيح:

ء)
يسوع المسيح هو ملكوت الله

إنّ
ملكوت الله هو محبة الله التي تنسكب على البشر فتشفيهم من أمراضهم ومن قوى الشرّ
المسيطرة عليهم وتغفر لهم خطاياهم وتصالحهم مع الله. وقد ظهرت تلك المحبة في شخص
يسوع المسيح بأعماله وعجائبه ومغفرته للخطايا، وظهرت ظهوراً فائقاً في موته على
الصليب، الذي به افتدى العالم وغفر له خطاياه وصالحه مع الله، وفي قيامته من بين
الأموات، التي بها دخل وأدخل البشرية معه إلى مجد الله.

إنّ
ملكوت الله هو اتّحاد الله بالبشر، وتد تحقّق أوّلاً في نص يسوع الذي تمّ فيه اتّحاد
الطبيعة الإلهية والطبيعة الإنسانيّة (سرّ التجسّد)، وثانياً في العهد الجديد الذي
تمّ بين الله والبشر بذبيحة يسوع على الصليب (سر الفداء)، وأخيراً في قمامة يسوع
وإرساله الروح القدس ليحيي قلوب المؤمنين به.

وهكذا
في المسيح تحرّرت فكرة الملكوت من ارتباطها بالمُلك الزمني، فالمسيح لم يأتِ ملكاً
زمنياً، ومن ارتباطها بذبائح الحيوانات، فالمسيح قدّم ذاته، ومن ارتباطها بشعب خاص،
فالمسيح مات لأجل جميع الشعوب.

ب)
الكنيسة هي تجسيد الملكوت وتجسيد المسيح على مدى الزمن

عندما
نقول إنّ المسيح هو الذي أنشأ الكنيسة لا نعني بذلك أنّ هناك عملاً معيّناً قام به
المسيح يمكننا اعتباره العمل التأسيسي للكنيسة. فالكنيسة هي مواصلة سرّ المسيح في
حياته وموته وقيامته.

ولكنّنا
نستطيع القول إنّ الملكوت الذي تحقّق في شخص المسيح قد أراد المسيح نفسه أن يستمرّ
على مدى الزمن ليتحقّق في كل إنسان وفي كل الشعوب. ففي حياته كرز بالتوبة والإيمان
بمجيء الملكوت، ودعا إليه تلاميذ واختار من بينهم رسلاً، وعلَّمهم أسرار الملكوت،
وقبل موته ترك لهم سرّ الإفخارستيا سرًّا لحضوره الدائم بيانهم ونقطة اتصال يلتقي
فيها سرّ المسيح- الملكوت وسرّ الكنيسة- الملكوت. فاجتماع المؤمنين حول عشاء الرب
هو معاً ذكر يجعل سرّ المسيح- الملكوت حاضراً في ماضيه (حياته وموته وقيامته)
وحاضره (حضوره الحي بروحه القدّوس في وسط كنيسته) ومستقبله (مجيئه الثاني)، وعمل
يكوّن الكنيسة- الملكوت على صورة المسيح. فالكنيسة، باشتراكها في سرّ المسيح في
ماضيه وحاضره ومستقبله تصير على صورته ملكوت المحبة والمسامحة وعطاء الذات، وتدعو
جميع الناس إلى الدخول في هذا الملكوت.

إنّ
الكنيسة هي تجسيد على مدى الزمن لشخص يسوع وعمله الخلاصي، ولملكوت الله الذي ظهر
به وفيه، إلى أن يبلغ الملكوت كماله في نهاية الزمن في الملكوت السماوي.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى