علم المسيح

7- المسيح مع نيقوديموس وسر الميلاد من فوق



7- المسيح مع نيقوديموس وسر الميلاد من فوق

7- المسيح مع نيقوديموس وسر الميلاد من فوق

 [جاءه
هنا ليتعلَّم، ليلاً،

ودافع
عنه في السنهدرين، ليلاً،

فذهب مع يوسف الرامي ليدفن الجسد، ليلاً.] شين([1])

كانت
أيام المسيح في أُورشليم مزدحمة بالمقابلات، وكان من أظهرها وأهمها مقابلة
نيقوديموس. ونيقوديموس رجل فرِّيسي من رؤساء اليهود في السنهدرين. وكما تقول القصة
جاء إلى المسيح ليلاً، أي خفية بعيداً عن أنظار بقية الفريسيين، لأن بعضهم كانوا
قد ابتدأوا يصادمونه، على أن المسيح لم يكفَّ عن مراجعتهم في تعدياتهم على الحق
والعدل والإيمان، بل وعلى روح الناموس؛ فأصبحوا متحفِّظين تجاه المسيح. لم يكونوا
قد بلغوا حد المقاومة والتحدِّي، لكن كان بعضهم يُظهر الود والإخلاص والإيمان
سرًّا مثل نيقوديموس هذا، ويوسف الرامي الذي عرفناه هناك عند دفن الجسد المقدَّس، وكثيرين غيرهم. وكان نيقوديموس قد شاهد
معجزات المسيح وتأكَّد من صحتها وتعجَّب
منها، ولكنه لم يصل بها إلى حقيقة
المسيح إلاَّ كونه معلِّماً من الله يعمل الآيات لأن الله معه (يو 2: 3). هذا جاء
ليستزيد معرفة عن ملكوت الله الذي نادى به المعمدان فأيقظ مشاعرهم. وها هو المسيح يتكلَّم عنه بوضوح. فما هو ملكوت السموات؟ فابتدأ
المسيح يصيغ له التعليم والعمل الذي يناسبه
بحزم واختصار شديد، فكان وقعه على مسامعه غريباً كل الغرابة بعيداً عن فهمه
وتصوُّره كل البعد:
كيف؟

قال
له المسيح:

+
“الحق الحق أقول لك: إن كان أحد لا يولد
من فوق لا يقدر أن يرى ملكوت الله!” (يو 3: 3)

كيف،
كيف يولد الإنسان وهو شيخ؟ “ألعلَّه يقدر أن يدخل بطن أُمه ثانية
ويولد.” (يو 4: 3)

المسيح
هنا يتعرَّض لمفهوم ملكوت الله في العهد الجديد، فهو فوقاني سماوي وليس أرضياً
بشرياً ترابياً. وعِوَض أن يقول له هذا مباشرة، قالها بالنسبة للمؤهَّلين له إذ
يلزمهم أن يولدوا من فوق!! والمعنى واضح أن الملكوت فوقاني سماوي هو، والذين
يدخلونه يتحتَّم أن تتغيَّر سيرتهم وسلوكهم وحياتهم إلى المستوى الذي يستطيعون فيه
أن يكونوا مواطنين سمائيين. هذا “التغيير” حتمي هو، وهو ليس عمل
إنسان أو بالإرادة أو السلوك الشخصي، بل هو
عمل خلقي جديد من الله يتدخَّل فيه الله ليكمِّله مباشرة بروحه القدوس!

المسيح
يتكلَّم عن الميلاد من الداخل، بتجديد الخلقة تجديداً جوهرياً يتعمَّقها إلى
أقصاها. ونيقوديموس يفكِّر عن ظاهر الميلاد.

المسيح
يتكلَّم عن تدخُّل قُوَى الله من فوق ليتم الميلاد من فوق، ونيقوديموس مشغول كيف
يدخل بطن أُمه ويولد ثانية.

المسيح
يتكلَّم عن تعرِّي الإنسان من سابق حياته وإرادته وبرِّه لتتدخَّل قُوَى الله في
أعماقه، ونيقوديموس لا يريد أن يتخلَّى عن برِّه، بل يريد أن يدخل به بطن أُمه
ويخرج به والذي يتغيَّر هو مجرَّد شكله.

المسيح
يتكلَّم عن ملكوت الله كخليقة جديدة، ونيقوديموس يستثني التجديد؛ بل يصر على تكرار
القديم. وأمَّا الميلاد الثاني أو الجديد الذي يقول به المسيح فهو التغيير الكلِّي
لحياة الإنسان من الداخل، حيث التبعية الكاملة لله الذي منه يولد الإنسان سرًّا
بالروح، فينتقل من التبعية للعالم ومشيئة الجسد إلى الالتصاق بكلمة الله ومشيئته
بالروح. فالميلاد الثاني بحسب المسيح هو تغيير كلِّي لقيم الإنسان وطبيعته وأخلاقه
واتِّباع الرب بالروح في كل شيء، لأن المولود الجديد هو مولود روحي لله ليحيا
ملكوته بالروح.

وبالاختصار،
كان كلام المسيح بالروح للارتفاع بالإنسان إلى خليقة جديدة بالروح، وكان نيقوديموس
متشبِّثاً بالجسد! كيف يولد الإنسان وهو شيخ؟ الوضع هنا استحالة بالتصوُّر الجسدي.

الميلاد
من الماء والروح:

+
“أجاب يسوع: الحق الحق أقول لك إن كان أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر
أن يدخل ملكوت الله.” (يو 5: 3)

لقد
انتقل المسيح من الميلاد الجديد المطلق من الروح غير المنظور حينما عجز نيقوديموس
عن أن يتقبَّله أو يفهمه، إلى الميلاد الجديد بتوسُّط الماء، الماء هو الوسط
الوحيد المادي الذي يعمل فيه الروح للخلقة. فالروح كان يرفُّ على وجه المياه منذ
البدء (تك2: 1)، تعبيراً عن الاستعداد للخلق المادي. فأصبح وكأن في باطن المياه في
الخفاء يخلق الروح الخليقة الجديدة. فعنصر المياه هنا هو الوسط الوحيد الذي يأتلف
مع الروح القدس لتتم فيه الخلقة الروحانية الجديدة. والماء كمادة لا يعطي وجوداً
للخليقة الروحانية الجديدة، ولكن كونه قابلاً للتقديس بالروح وبالصلاة ليصير ماءً
مقدَّساً بحلول الروح القدس عليه، يصير واسطة روحية وليست مادية للميلاد الجديد.
ويرفع ق. بطرس هذا المعنى حينما يقول إن واسطة الميلاد الثاني في الحقيقة هي “كلمة
الله”،
إذ اعتبرها أنها زرع الله “
sperma” الذي لا يفنى: “مولودين ثانية، لا من زرع (رجل) يفنى،
بل مما لا يفنى (زرع الله)، بكلمة الله الحيَّة الباقية إلى الأبد” (1بط 23:
1). وهنا ارتفع ق. بطرس بمفهوم الميلاد الثاني أنه “فعل خلق” غير
معروف وغير منظور، صحيح أنه يُجرى على الإنسان طالب العماد، ولكن لا
يعتمد
على المادة؛ بل هو فعل خلق فائق على المادة حيث يتقدَّس الماء أولاً بالكلمة
وبالكلمة يكون الخلق.

المولود
من الروح هو روح:

ولكي
يزيد المسيح توضيحاً لعملية الميلاد الثاني من الماء والروح أنها لا تعتمد على
مادية الماء، فالماء لا يزيد عن كونه وسيط خلقة؛ أوضح أن الأساس في الميلاد الثاني
هو الروح، بأن المولود من الروح هو روح، بتفرقة كاملة عن الجسد وميلاد الجسد، إذ
أكملهاالمسيح: “المولود من الجسد جسد هو، والمولود من الروح هو روح” (يو
6: 3)، بمعنى أن الإنسان يولد من الروح بعد أن يولد من الجسد. ولكي يقرِّب المسيح
فكرة الميلاد من الروح (من فوق) أعطى مثل الريح:

+”
لا تتعجَّب أني قلت لك: ينبغي أن تولدوا من فوق.

الريح
تهُبُّ حيث تشاء، وتسمع صوتها، لكنك لا تعلم من أين تأتي ولا إلى أين تذهب. هكذا
كل مَنْ وُلِدَ من الروح”
(يو 3: 7و8)

والمعنى
عظيم الأهمية، إذ أنه لا ينفي أن يكون للمولود من الروح عمل وفعل واضح وحياة
واضحة، ولكن الإنسان نفسه لا يعلم ما بداخله كيف يعمل الروح فيه؟ ومن أين يأتي
وحتى إلى أين يذهب؟ ولكن الإنسان يثق أن الروح فيه وقد أكمل عمله بتجديد حياته
وخلقته، وأنه أصبح مخلوقاً جديداً لله بتأكيد الروح نفسه: “الروح نفسه أيضاً
يشهد لأرواحنا أننا أولاد الله (مخلوقين جديداً بالميلاد الثاني).” (رو 16:
8)

هذا
هو العمل السرِّي للروح القدس الذي يبلغ أقصى مداه في المعمودية.. كيف؟

+”
أجاب نيقوديموس وقال له: كيف يمكن أن يكون هذا؟” (يو 9: 3)

لقد
اقتنع نيقوديموس بكلام المسيح، ولكن استحال عليه فهمه، فهو أراد أن يُخضع العمل
اللامحدود
أي الحياة بالروح للفكر المحدود أي الحياة بالجسد كمن يريد أن يمسك بالهواء أو يحتوي
الروح في وعاء.

هنا
المسيح أنكر عليه هذا السؤال، لأن ما يتكلَّم به المسيح تقوم عليه كل معرفة الله
والحياة وكل أعمال الله، ولهذا أنَّبه المسيح كيف وهو معلِّم إسرائيل لا يُدرك
بديهيات الأمور التي استؤمن عليها من جهة معرفة الإلهيات. فبدون عمل الروح الخفي
تصبح كل حقائق الإلهيات مائتة بلا معنى أو وجود. فالله نفسه يوجد ولا أحد يراه أو
يفهمه، والأنبياء يتنبَّأون ولا ندري كيف يكلِّمهم الله. ثم زاد المسيح على ذلك
بقوله:

+”
الحق الحق أقول لك: إننا إنما نتكلَّم بما نعلم ونشهد بما رأينا ولستم تقبلون
شهادتنا”
(يو 11: 3)

وهذا
يعني أني أتيت إليكم بأمور تخص الله والروح، وأنا أتكلَّم بما أعلمه ورأيته، لأني
كما يقول نيقوديموس نفسه أتيت من الله معلِّماً بما هو عند الله
من أجلكم وفيما يخص حياتكم. وها أنتم لا تقبلون شهادتنا، والآن أنت يا نيقوديموس
تقول: كيف، كيف، كيف؟

+”
إن كنت قلت لكم الأرضيات ولستم تؤمنون، فكيف تؤمنون إن قلت لكم السمويات؟”
(يو 12: 3)

والمسيح
يقصد من ذلك أن الميلاد الجديد من الماء والروح يخص حياة الإنسان الجديد بالروح
التي تبدأ من هنا على الأرض، وها أنت لا تريد أن تقبلها أو تفهمها، فكيف تؤمن إن
شرحت لك عمل ومستقبل الإنسان الجديد المولود من الماء والروح هناك في السماء؟!

ومعنى
كلام المسيح أنني لست فرِّيسيًّا مثلك أشرح لك أمور السماء بمعلومات أرضية حتى
تفهمها، أنا أتيت من السماء لأخبركم بما هو في السماء، وهي كلها أمور جديدة تحتاج
إلى فكر جديد ووعي جديد وإيمان جديد، وعملي الآن يختص بأن أعطيكم هذه كلها
بالميلاد الجديد من الماء والروح، فأنا أنقل لكم ما هو فوق لأني نزلت من فوق ولا
أزال أكلِّمكم عمَّا هو فوق:

+”
ليس أحد صعد إلى السماء إلاَّ الذي نزل من السماء، ابن الإنسان الذي هو في
السماء”
(يو 13: 3)

هنا
بدأ المسيح يرتفع بفكر نيقوديموس لكي يسرِّب له مفهوم الحياة الجديدة، من أين هي
وكيف هي ومن هو الذي يأتي بها؟ وابتدأ بنفسه معبِّراً عن نفسه “بابن الإنسان”؛
فالمعلِّم الذي الله معه، والذي يعمل الآيات، والذي أتى من الله، على حد
تعبير نيقوديموس، هو نفسه ابن الإنسان. هنا ابتدأ المسيح يعرِّف نفسه على المستوى
السرِّي العالي، وأضاف المسيح أنه أصلاً “هو في السماء” ونزل،
لذلك إن صعد إلى السموات فهذا من صميم عمله وقدرته.

ولكن
لماذا يصعد ابن الإنسان إلى السماء وكيف يصعد؟

وهنا بدأ المسيح يستخدم التوراة التي يدرسها نيقوديموس عن
ظهر قلب، فابتدأ من الحيَّة النحاسية.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى