علم المسيح

معجزة إشباع المسيح خمسة آلاف



معجزة إشباع المسيح خمسة آلاف

معجزة إشباع المسيح
خمسة آلاف

 

«وَبَعْدَ
سَاعَاتٍ كَثِيرَةٍ تَقَدَّمَ إِلَيْهِ تَلامِيذُهُ قَائِلِينَ:
«ٱلْمَوْضِعُ خَلاءٌ وَٱلْوَقْتُ مَضَى. اِصْرِفْهُمْ لِكَيْ يَمْضُوا
إِلَى ٱلضِّيَاعِ وَٱلْقُرَى حَوَالَيْنَا وَيَبْتَاعُوا لَهُمْ
خُبْزاً، لأَنْ لَيْسَ عِنْدَهُمْ مَا يَأْكُلُونَ». فَأَجَابَ: «أَعْطُوهُمْ
أَنْتُمْ لِيَأْكُلُوا». فَقَالُوا لَهُ: «أَنَمْضِي وَنَبْتَاعُ خُبْزاً
بِمِئَتَيْ دِينَارٍ وَنُعْطِيهُمْ لِيَأْكُلُوا؟» فَقَالَ لَهُمْ: «كَمْ رَغِيفاً
عِنْدَكُمْ؟ ٱذْهَبُوا وَٱنْظُرُوا». وَلَمَّا عَلِمُوا قَالُوا:
«خَمْسَةٌ وَسَمَكَتَانِ». فَأَمَرَهُمْ أَنْ يَجْعَلُوا ٱلْجَمِيعَ
يَتَّكِئُونَ رِفَاقاً رِفَاقاً عَلَى ٱلْعُشْبِ ٱلأَخْضَرِ.
فَاتَّكَأُوا صُفُوفاً صُفُوفاً: مِئَةً مِئَةً وَخَمْسِينَ خَمْسِينَ. فَأَخَذَ
ٱلأَرْغِفَةَ ٱلْخَمْسَةَ وَٱلسَّمَكَتَيْنِ، وَرَفَعَ نَظَرَهُ
نَحْوَ ٱلسَّمَاءِ، وَبَارَكَ ثُمَّ كَسَّرَ ٱلأَرْغِفَةَ، وَأَعْطَى
تَلامِيذَهُ لِيُقَدِّمُوا إِلَيْهِمْ، وَقَسَّمَ ٱلسَّمَكَتَيْنِ
لِلْجَمِيعِ، فَأَكَلَ ٱلْجَمِيعُ وَشَبِعُوا، ثُمَّ رَفَعُوا مِنَ
ٱلْكِسَرِ ٱثْنَتَيْ عَشْرَةَ قُفَّةً مَمْلُوَّةً، وَمِنَ
ٱلسَّمَكِ. وَكَانَ ٱلَّذِينَ أَكَلُوا مِنَ ٱلأَرْغِفَةِ
نَحْوَ خَمْسَةِ آلافِ رَجُلٍ» (مرقس 6: 35-44).

 

جاء
المساء ومعه مسؤولية جديدة جعلت التلاميذ يتأففون في حيرتهم ويتشاورون على انفراد،
إلى أن قرَّ رأيهم أخيراً أن يعرضوا على المسيح ما رأوه واجباً. لم يتعلّموا بعد
أن يصبروا إلى أن يأخذوا التعلميات من سيدهم. وغفلوا عن أنه لا يحتاج إلى من
يعلّمه أو يذكّره بما يجب أن يفعله. فهل اعتبروا أنفسهم أكثر شفقة منه، أو أدرى
منه بما يقتضيه صالح هذا الجمهور وراحة المسيح وراحتهم؟

 

تقدم
التلاميذ الاثنا عشر إلى المسيح وقالوا له: «الموضع خلاء والوقت مضى. اصرف الجموع
لكي يمضوا إلى الضياع والقرى حوالينا فيبيتوا ويبتاعوا لهم طعاماً، لأننا ههنا في
موضع خلاء. وليس عندهم ما يأكلون». يظهر أنهم خافوا أن يطالبهم الجمهور بحقوق
الضيافة، وحسبوا أن هؤلاء الرجال والنساء والأطفال مع مرضاهم يتضّررون إذا دخل
الليل عليهم في هذا الخلاء.

 

وهنا
وجّه المسيح لفيلبس جوابه على هذا الكلام، وكان في صيغة سؤال عن مكان يوجد فيه
طعام، كأنه يكلّف فيلبس بتدبير ما يلزم لهؤلاء الضيوف. سأله المسيح: «من أين نبتاع
خبزاً ليأكل هؤلاء؟» لا ليستفهم، بل ليمتحن ويعلّم، لأنه كان يعلم جيداً ما سيفعل،
لكنه أراد أن ينبّه تلاميذه إلى عجزهم وضعف إيمانهم. لأن درس التواضع درس أوّلي
يجب أن يتعلموه.

 

كان
فيلبس متنبّهاً إلى صعوبة الأمر من وجوه عديدة، فعمل حساباً بأن الخبز وحده يكلّف
أكثر من مئتي دينار. فأين الدنانير؟ هل هي عند المسيح الذي ليس له أين يسند رأسه؟
وفضلاً عن ذلك: لو وجدوا الدنانير، فأين الوقت للذهاب إلى قرى عديدة لجَمع كمية
كهذه، ولو من الخبز وحده والإتيان به، والشمس أوشكت أن تغرب؟ وفوق هذا كله: أين
وسائل النقل لإحضار طعام يكفي الألوف؟ ويُلاحظ أيضاً أن حصة يسيرة من الخبز الحاف
لا تقوم بضيافة يليق أن يقدمها شخص كالمسيح لضيوفه. بناء على هذا كله أجاب فيلبس
المسيح: «لا يكفيهم خبز بمئتي دينار ليأخذ كل واحد منهم شيئاً يسيراً». وظن أن
جوابه يقنع المسيح فيتبع نصيحة الرسل ويصرف الجمع. فكم كان عجبه لما أجابه المسيح
«لا حاجة لهم أن يمضوا. أعطوهم أنتم ليأكلوا».

 

قال
المسيح: «اعطوهم أنتم ليأكلوا» وهو يعلم أن ليس لديهم طعام، ليعلّمهم أن الذين
يقصدون إفادة الآخرين يحتاجون إليه، إذ ليس لديهم ما يطعمون به نفوساً جائعة. وفي
الوقت ذاته يشير إلى أن الله يختار الوسائط البشرية ليُجري مقاصده في العالم، لأنه
لا يوزّع خيراته الروحية والزمنية رأساً، أو بواسطة الملائكة إلا نادراً – وذلك
عندما لا توجد وسائط بشرية. وهذا القانون هو لخير الذين يقدمون والذين يأخذون
معاً، إذ تنشأ بذلك رُبط المحبة بين المحسِن والمحسَن إليه، ويتنشط الذي يوزّع في
ممارسة إنكار الذات وخدمة الآخرين.

 

لكن
التلاميذ اعترضوا على أمر المسيح قائلين: «أنمضي ونبتاع خبزاً بمئتي دينار ونعطيهم
ليأكلوا؟» فسأل: «كم رغيفاً عندكم؟ اذهبوا وانظروا». نبّههم بهذا الكلام إلى أن
العمل الإلهي لا يُغني عن العمل البشري المستطاع، ولم يُرد أن يوجِد خبزاً من لا
شيء، طالما يوجد شيء. فاستخدم أولاً الموجود بين أيديهم ليعلّمهم أن لا يطلبوا من
الناس – حتى ولا من الله – عملاً يستطيعونه بالوسائط الطبيعية، لأن هذه دبرها لهم
الله – فلا حق لهم في غيرها، إلا بعد الفراغ من استعمالها. اعتماد الإنسان على
غيره في ما يستطيعه يُحسب دناءة، وانتظارُه أن الله يعمل ما يطلب منه هو يُعَدّ
كسلاً وتواكلاً. فمتى عجز العمل الإنساني أو انتهى، يحقُّ طلب العمل الإلهي.

 

وكان
أندراوس تلميذ المسيح الأول قد لاحظ غلاماً بين الجمهور (ربما كان يبيع طعاماً)
معه خمسة أرغفة شعير وسمكتان. فأخبر المسيح عنه مع التحفُّظ قائلاً: «لكن ما هذا
لمثل هؤلاء؟». ولم يقل المسيح بعد أن سمع بوجود هذا القليل: «اتركوه لأنه لا يستحق
الذِّكر». ولا قال: «قدموها للجمع». بل قال: «إيتوني بها إلى هنا» ليعلمهم أنه هو
مصدر الخير والبركة – هو الملك وصاحب الحق. وكل ما عندنا هو له، يتصرف فيه كما
يشاء دون مُعارض.

 

ولما
كان الترتيب من أبواب الرقي في الدين والدنيا، فلا نعجب من اهتمام المسيح به، فأمر
أن يجعلوا الناس يتكئون فرقاً خمسين خمسين على العشب الأخضر. فلو توزَّع الطعام
على هذه الألوف دون ترتيب، لداس بعضهم بعضاً، وتغلَّب القوي على الضعيف. وأخذ
البعض كثيراً والبعض لم يأخذوا شيئاً. لكن بواسطة الترتيب يتمّ التوزيع بسرعة
ولياقة وإنصاف، ويرى كل مفكرٍ في أمور الطبيعة، اهتمام الخالق بأمر الترتيب. استلم
المسيح الأرغفة الخمسة والسمكتين، ثم رفع نظره نحو السماء وشكر. فعلَّم تلاميذه أن
كل خير – حتى الطعام الذي نشتريه – هو عطية إلهية، وأننا يجب دائماً أن نقدم الشكر
للمعطي الجواد عندما نتناول الطعام – ولا يجب أن نشكر في وقت الطعام فقط، بل نشكر
عندما ننال أي نوع من الخيرات. لأن «كُلَّ عَطِيَّةٍ صَالِحَةٍ وَكُلَّ مَوْهِبَةٍ
تَامَّةٍ هِيَ مِنْ فَوْقُ، نَازِلَةٌ مِنْ عِنْدِ أَبِي ٱلأَنْوَارِ»
(يعقوب 1: 17).

 

وبعد
أن شكر المسيح بارك وكسر الأرغفة والسمكتين، ثم ناول الكسر التي باركها للرسل
ليقدموها للمصطفّين فرقاً على البساط الأخضر. وفي هذا العمل علّمهم أن يطعموا
غيرهم أولاً، ثم يأكلوا هم بعدهم، كما يجدر بالمؤمنين الأفاضل.

 

في
أثناء التوزيع على هذا العدد الغفير حدثت معجزة الإكثار. قيل إنه «قسم السمكتين
على الجميع بقدر ما شاءوا فأكلوا وشبعوا جميعاً». وليس ذلك فقط بل أن القطع التي
لم تؤكل كانت أضعاف الموجود أصلاً.

 

بهذه
المعجزة المؤثرة الغنية بالفوائد، علّم المسيح أتباعه أنه مستعد أن يأخذ خدمتهم
الدينية الضعيفة، وكلامهم البسيط، ويضع فيها قوة وتأثيراً ليزيد فعلهما أضعاف
فعلهما الطبيعي، لأنه يأخذ ما يقدَّم له ويزيده، ثم يعيده لمقدَّمه زائداً.
فالنفوس والأجساد مع قواها ومواهبها ومعارفها ثم العائلة، ثم المقتنيات والأوقات
والمساعي والأشغال كافة، إذا تكرَّست للمسيح، يقبلها ويباركها ويجعلها تزيد نمواً
وفائدة. فأعظم تشجيع لفاعل الخير المتواضع، يأتيه من يقينه بأن الذي أشبع الألوف
بالزاد القليل مستعدٌ أن يرافق خدمته الحقيرة ببركته الفياضة، فتفعل كثيراً.

 

بقي
أن نتعلم درساً من اهتمام المسيح بالفضلات والكسر، لأنه يخشى أن يستخف تلاميذه
بالكسر الفاضلة بعد المعجزة التي جرت أمام عيونهم. وأن يقولوا: هل يحتمل أن الذي
أوجد من هذا القليل ما يكفي هذا العدد الكبير، يفكّر في فضلات الكسر الساقطة على
العشب؟ نعم يسأل، لأن قانوناً من قوانين عنايته هو «لكي لا يضيع شيء».

 

لا
تحقّرنّ صغير أمرٍ إنما تلك الصغار إلى الكبار دليل

 

بعد
أن أطعم المسيح الجموع هتفوا له، وأرادوا أن يملّكوه عليهم – وكان ردُّ فعله الأول
هو أنه فصل تلاميذه عن الجمهور المتحمّس لهذا العمل، وألزمهم أن يدخلوا السفينة،
ويسبقوه إلى العبر، حتى يكون قد صرف الجموع. لم يسهُلْ عليهم ترك سيدهم أثناء
نجاحه الباهر، وانتشار صيته، خصوصاً بعد أن ظهر لهم أن باب العظمة العالمية،
والثروة الزمنية، قد فُتح أمامهم. وإن كان المسيح قد صرفهم بشيء من العنف، لأنهم
رفضوا فكره، نراه يُتبع العنف باللطف، لأن البشير يذكر صريحاً أنه ودّعهم. ومع أنه
سيفترق عنهم ساعات قليلة فإنه يودّعهم وداعاً حبياً يحقق لهم به عواطفه الحارة نحوهم.

 

وكان
رد فعل المسيح الثاني أنه صرف الجمهور.

 

وكانت
خطوته الثالثة انصرافه هو، وصعوده منفرداً إلى الجبل ليصلي. يذكّرنا فعل إبليس في
أفكار الجمهور في هذا الوقت بالتجربة الثالثة العظيمة التي قدمها إبليس للمسيح في
البرية قبل هذا بسنتين، لما وعده بكل ممالك العالم ومجدها. فإعادة هذه التجربة في
ظروفه الحالية تستدعي صلاة خصوصية للآب لتلافي الأخطار الجديدة، ولذلك انصرف إلى
الجبل منفرداً. ولما رأى الناس أن المسيح لم يسافر مع تلاميذه في السفينة راجعاً
إلى وطنه في العبر، توقعوا رؤيته في ذلك المكان في الغد، فلم ينصرفوا إلى أماكنهم
البعيدة.

 

وأما
هو فمضى إلى الجبل وحده ليصلي، وما أكثر المرات التي كان فيها يختلي للصلاة. وفي
المرة التي اختلى منفرداً ليصلي – بعد أن أطعم الخمسة الآلاف، كانت هناك أسباب
دفعته لذلك – منها قَتْل يوحنا المعمدان، وظنُّ الجمهور أن مملكة المسيح من هذا
العالم، فهي مملكة سياسية، وانقياد التلاميذ إلى هذا الضلال، وعلمه بأن أكثر الذين
تظاهروا أنهم معه، سيتخلُّون عنه.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى