علم المسيح

خبز الحياة



خبز الحياة

خبز الحياة

. هل
استرعى انتباهنا أن أربعة من ” الأمثال ” تلمح إلى الحنطة وإلى الخبز؛
وأن إحدى التطويبات التي أعلنها المسيح هي هذه: ” طوبى للجياع الآن فإنهم
يشبعون “؟.. من ابلغ الملامح التي تميزت بها شخصية المسيح النابضة أنه كان
يلتزم دائماً، في تعليمه ن مراعاة المهام اليومية، ويبقى، مع كونه إلهاً ن في
متناول الإنسان. فهو يعلم ويفهم ما يساور الإنسان من هموم ورغبات ومخاوف، ويدرك أن
” أخانا الجسد ” – على حد تعبير أحدهم – له مقتضيات؛ بيد أنه يسمو بتلك
الحاجات الصغيرة إلى عالم الروح فتصيب فيه شفاء غليلها

 

. فلقد
اتخذ المسيح من الخبز والخمر وسائر مقومات الغذاء في حقائقها المألوفة، ليس فقط
عناصر تشبيهية، بل ركائز حياة روحية، مازالت الكنيسة، منذ ألفي سنة تتزود منها

 

. ففي
ذات يوم، إذ كانت الجموع محتشدة حول المسيح وتلاميذه، قرر أن يفصل عن ذاك المكان،
ويلتمس في بعض الخلوات، شيئاً من الراحة والهدوء.وكان ذلك ايام الربيع، بضعة أيام
قبل فصح سنة 29، في أوائل نيسان.. فترة هانئة – وإن عابرة – يخضل فيها العشب فوق
الروابي، وتتوارى الجبال، بخضرة مروجها وحمرة شقائقها، تحت سماء ألطف زرقة منها في
الصيف. وأقلع يسوع مع تلاميذه، من كفر ناحوم، وخاضوا البحيرة ميممين شطر الأراضي
الخلاء، الممتدة جنوبي بيت صيدا يولياس. ولكن الجمهور في ولعه، لم يكن ليرضى عن
ذاك الإنسحاب. ومن عادة الجماهير أن تشتط في الجسارة فلا يردعها وازع عمن تعشق من
أقطاب الشهرة، اياً كان صنفهم. وسرعان ما استروحوا الوجهة التي سار فيها النبي؛
فخفوا على أقدامهم، يلتمسون الشرق. فمن كفر ناحوم إلى بيت صيدا، لا تنيف المسافة
على 10 كيلو مترات، بما فيها من انعطاف الطريق على الجسر الممتد فوق الأردن، قبل
مصبه في البحيرة. فعندما هبط يسوع من الزورق ن كان الجمع ينتظره على الشاطئ بهتافاته
ومظاهر فرحه.. فكان لا بد من تأجيل فترة الراحة والهدوء حتى موعد آخر

 

! ولم
يبد المسيح أي إستياء من فشل مسعاه؛ بل راح يصعد في رابية هناك، والجمع يطوقه من
كل وجهة، باندفاع لا يعرف التبصر والتحفظ، ويستمع إلى تعاليمه، وينال شفاء
عاهاته.. توالت الساعات ومال النهار! ألعل التلاميذ هم الذين لفتوا نظر المعلم إلى
ضرورة صرف أولئك الجياع (على ما ورد في رواية الأناجيل المؤتلفة) أم المسيح هو
الذي (بحسب رواية يوحنا) سأل فيلبس، ممتحناً إيمانه: ” من أين نبتاع خبزاً
فيأكل هؤلاء الناس؟ “. على كل، كان بحث القضية متعيناً. ” اما يسوع،
فكان عالماً بما سيصنع ” وكان الجمع نحو خمسة آلاف! فأجاب فيلبس: ” لا
يكفيهم خبز بمئتي دينار، حتى يصيب كل واحد منهم شيئاً يسيراً “. مئتا
دينار!.. مبلغ كبير بالنسبة إلى أولئك الصيادين، ولكنه زهيد بالنسبة إلى حاجة مثل
ذاك الجمهور

 

.
وبلغ الإرتباك أقصاه، في صفوف تلاميذ المسيح. فطفق كل منهم يهتم للأمر. وأقبل
أندراوس، أخو بطرس، مزوداً بإفادة: ” ههنا غلام، معه خمسة أرغفة من الشعير
وسمكتان! “؛ ولكنه استدرك كلامه وكأنه شعر بسخافة إفادته: ” ولكن ما هذا
لمثل هذا الخلق؟ “. وأما يسوع فظل محتفظاً بهدوئه، شأنه في جميع أحوال حياته.
فقال لهم: ” مروا الناس أن يتكئوا! “. وكان التلاميذ قد تعودوا سياسة
الجماهير، وباتوا يفلحون في وظيفتهم التنظيمية، وتوزع الحاضرون فئات: خمسين خمسين
ومئة مئة، فوق رحاب الهضبة. وأخذ يسوع الأرغفة، وباركها رافعاً عينية إلى السماء؛
ثم صنع كذلك بالسمكتين. وتقدم إلى التلاميذ بتوزيعها على الناس، فكان القوت، كلما
أصاب منه إنسان حاجته، يتوفر بين أيديهم بلا إنقطاع! ولما شبعوا فضل عنهم سمك وخبز
كثير. وكان من عادة اليهود أن يحملوا معهم قفطاً للزاد والأمتعة.. فملأوا اثنتي
عشرة قفة من فضلات تلك الوجبة المعجزة، أمام ذلك، في غمرة من الدهش، فمن الإعجاب،
فمن الإندفاع المحموم

 

. هذه
الحادثة هي من أشهر معجزات الإنجيل، وأكثرها ثبوتاً. فهي مدرجة في الروايات
الأربع، على كثير من التشابه. (متى 14: 13 – 21؛ مرقس 6: 30 – 41؛ لوقا 9: 10 –
17؛ يوحنا 6: 1 – 15). كما نجد في روايتي مرقس ومتى ذكراً لمعجزة أخرى، كثر فيها
المسيح خبزاً وسمكاً، من بعد رحلته إلى فينيقية والمدن العشر، وفي موضع لا يبعد
كثيراً عن موضع المعجزة الأولى. وبين المعجزتين فروق طفيفة. ففي المعجزة الثانية
عدد الأرغفة سبعة، وعدد الآكلين 4 آلاف، وعدد السلال سبعة

 

.
وليس شئ أقرب إلى الصحّة، من موقف المسيح هذا، وما تجلىّ فيه من صفات العطف
والتنبّه الأبوي. ومن العبث أن نجاري بعض ” العقلانين ” في اعتبار تلك
الحادثة مجرّد درس في ضرورة وضع الثقة بالعناية الرباّنيةّ. فالمسيح – في نظرهم! –
ما تقدّم إلى تلاميذه بتوزيع الطعام إلاّ يقينا منه بأن ذخائر أخرى كانت مخبوءة في
الجمع، وكان لا بدّ أن تظهر في الوقت المناسب.. وإنه لمن المردود أيضاً أن نعزو
تلك المعجزة إلى ” تضخّم الطاقة الغذائية في الخمسة الأرغفة ” أو إلى
إيهام مغنطيسي، خضعت له خمسة آلاف جهاز هضمي. كل ذلك هُرِاء لا طائل فيه! فإنما
نحن، هنا، بازاء حدث من تلك الأحداث التي لا تنتسَخ من الإنجيل إلاّ اذا انتسخ
الإنجيل كله! فيبقى أن ما جاء به ذاك الغلام، في مزوده، من خبز وسمك، إنما هو تحدّ
للعقل ودعوة له إلى الإتضاع

 

. بيد
أن تلك المعجزة بات لها ” مغزى ” آخر، غير المغزى البشري. ولقد تساءل
القديس أوغسطينوس يوماً: ” من يقوت الخليقة إلاّ ذاك الذي ينُبت، من بعض
الحُبَيبْات، حصاداً؟ فالمسيح قد أجرى ما أجراه بقدرة من ألوهيته؛ تلك القدرة التي
تنشىء من البذار سنبلاً، هي التي كثرّت الأرغفة بين يديه. لأن القدرة هي من صفات
المسيح، وتلك الأرغفة كانت شبه بذار! أجل، إنها لم تُبْذرَ في الأرض، ولكنها نمت
بين يدَيْ ذاك الذي فطر الأرض! “. ولا ريب أن اليهود الذين أصابوا من المعجزة
غُنْما، قد ذكروا، لدى ذاك المشهد، آيات من سفر التكوين، جاء فيها وصف بروز
الخلائق من يد ” ألوهيم “.. ما هو ضروري للحياة، ما ينشأ في الماء،
ويدبّ على الأرض، ويسبح في الفضاء، ” والعشب الذي ينُبت بزراً “،
والأشجار المثمرة.. أجل، لقد سطعت ألوهية المسيح في تلك الحادثة المعجزة..

 

..
وإنما هناك حقيقة أخرى تنطوي عليها أعجوبة الخبز. فليس بامكان أحد أن يطالع خبر المعجزة
التي بارك فيها يسوع الخبز وقدّمه للناس، من غير أن تتبَادر إلى ذهنه ذكرى لحظة
أخرى – في الليلة التي سبقت استشهاده – أخذ فيها المسيح خبزاً أخر ووزّعه على
الذين كانوا من حوله، على أنه جسده بالذات! وإن الشبه بين هذين الحدثين هو من قوّة
الإرغام بحيث ذهب بعض ” العقلانين ” -من أمثال لوازي وريفيل – إلى أن
قصة تكثير الخبز ما هي سوى رمز مأدبة إفخارستية. وأماّ الكنيسة فهي تعتقد بحقيقة
تلك المعجزة وواقعيتها

 

:
وليس من سبيل إلى الشك في هذا الوجه من التأويل. فالإنجيل الرابع يشير إليه إشارة
واضحة (يوحنا 6: 22-59). وقد جاء فيه أن يسوع، بعد تكثير الخبز، توارى عن هتافات
الشعب، فاجتاز البحيرة ثانية إلى كفرناحوم. فطلبته الجماهير ثانيةً، فوجدته.
واضطرُّ يسوع أن يعود إلى الكلام؟. فجمع الذين جاؤا ليستمعوه، في مجمع كفرناحوم
(ولم يكن اليوم سبتا، وإلاّ لما تمكنّ يسوع من عبور البحيرة، فكانت القاعة فارغة،
تحت تصرّف الشعب). ما عساه أن يقول لذاك الجمع؟.. إنه يعلم حق العلم أن الجمهور قد
فاته، من المعجزة، مغزاها الحقيتي. ” فهو – على حدّ تعبير أحد المعلقّين –
عوض أن يتوسمّ في الخبز رمزاً، لم يرً في الرمز سوى الخبز! “. وإنه لمِن
أطوار البشر ألاّ ينظروا إلى هبات الله السنيات، إلاّ من خلال علاقاتها بمصالح
الدنيا. ولذا فقد عمد المسيح إلى تفسير المعجزة

 

.
“إنكم تطلبوني ليس لأنكم رايتم آيات بل لأنكم أكلتم من الخبز فشبعتم.اعملوا
لا للطعام البائد، بل الطعام الباقى للحياة الأبدية، الذي يعطيكم ابن الإنسان..
ليس موسى أعطاكم الخبز من السماء، بل أبي يعطيكم الخبز الحقيقي من السماء. لأن خبز
الله هو النازل من السماء، الواهب الحياة للعالم “. يوم تحدث إلمسيح إلى
السامرية، في خطاب لم يكن فيه الخبز رمزأ بل الماء!لحيّ، التمست منه أن يؤمن لها
دائما الماء الذي يشفي الغليل.. كذلك أجاب يهود كفرناحوم أيضا، غير مكترثين إلاّ
لجوع الجسد: ” يا سيد أعطنا، في كل حين، من هذا الخبز! “. ولكن يسوع نهض
بالجدل إلى صعيد أسمى، فأجاب: ” أنا هو خبز الحياة! من يقُبل إليّ فلا يجوع
أبداً؛ ومن يؤمن بي فلا يعطش أبداً.. لأن هذه هي مشيئة الذي أرسلني، أن كل من يرى
الإبن ويؤمن به، تكون له حياة أبدية؛ وأنا أقيمه في اليوم الأخير! “. فانتفض
الجمع، من الدهشة، إنتفاضةً، باتت كأنها السخط في طلائعه! ماذا؟ أيعُادِل نفسه
بالله، هذا النبيّ؟ ذلك عين التجديف! وأخذت تسعى في صفوفه همسات: ” أليس هذا
هو يسوع بن يوسف، الذي نحن عارفون بأبيه وأمّه.. فكيف يقول هذا: إني نزلت من
السماء؟” فسمع يسوع كلامهم، فأجاب بأسلوب أكثر بيانا: ” الحق الحق أقول
لكم: إن من يؤمن بي، فله حياة الأبدية. أنا هو خبز الحياة. آباؤكم أكلوا المنّ في
البرّ ية، وماتوا. هذا هو الخبز النازل من السماء، لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت.
أنا هو الخبز الحيّ الذي نزل من السماء: إن أكل أحد من هذا الخبز يحيا إلى الأبد!
“. ثم أضاف، منبئا بالفاجعة التي باتت تترقب مصير رسالته: ” والخبز الذي
أنا أعطيه، هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم! ”

 

.
وهكذا ثبت، بوجه أكيد، ما تميزّ به مصير المسيح من صبغة قربانية. ولكن هل كان بوسع
أولئك اليهود الذين كانوا قد هللّوا لمعجزة تكثير الخبز، أن يفقهوا مغزاها
الحقيقي؟ لا! بل إنهم راحوا، ولا شك، يحلمون باسترجاع العرش – وفقاً لنظريتهم
القديمة في المسيح المظفرّ- فيكون من أنسب المناسبات أن يتربعّ عليه رجل بمثل هذا
السلطان. وإذا بهم يتضعضون وقد استغلقت عليهم أقواله: ” لإن جسدي مأكل حق
ودمي مشرب حق! “. ما عساها تعني، هذه العبارات المستهجنة؟.. أفلعلهّ مقدْ م
على بذل جسده ليؤكل؟.. لقد كان ذاك الكلام من الوعورة والاستبهام بحَيث ارتد عنه،
لحظةً، بعضٌ من تلاميذه أنفسهم. قالوا: ” إن هذا الكلام صعب، من يقدر أن
يسمعه..”. مهما يكن من أمر، فقد قيل ما قيل! ولسوف يدرك المؤمنون، بعد فترة
من الزمن، أن معجزة!لخبز، على سخائها، ليست شيئاً إلى جانب تلك العطية الأخرى،
المبذولة في الجلجلة؛ وأنه ليس من عظمة، ولا إشراق، ولا حياة إلاّ بالدمّ

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى