علم

نجم المشرق والكلمة المتجسد



نجم المشرق والكلمة المتجسد

نجم
المشرق والكلمة المتجسد

الأسقف
بولس البوشي

قال
“إذا مجوس أتوا من المشرق إلى أورشليم قائلين أين هو المولود ملك اليهود
لأننا رأينا نجمه في المشرق ووافينا لنسجد له”[2].

يا
لهذا السّر العجيب، العناية الإلهية[3]، وكيف دبرّ الله الأشياء بلطف واجتذب إليه
هؤلاء المجوس من الجانب الذي هم متمسكون به. فلهذا اجتذب إليه هؤلاء المجوس من
صنعتهم التي فيها تربوا، وهم بها مغتبطون، وذلك أنهم كانوا من بلاد فارس من جنس
بلعام العرّاف. وكان عندهم كُتُبْ تعليم منه، وكانوا يرون مع هذا عِلم تسيير
الكواكب، إلاّ أنهم قرأوا وفهموا عن المسيح الملك الحقيقي، ولم تكن قلوبهم مائلة
لغواية عبادة الأوثان. ولما عَلِمَ الله صحة يقينهم، وأنهم يذعنون للحق أَظهَرَ
لهم قوّة سمائية شبه نجم، ولم يتقدّم مثله شيء في كافة الكواكب وهذا يدِّل على أن
الذي يولد في ذلك الحين يسود كل الممالك جميعاً والرئاسات. ولا يكون لملكه أنقضاء.
والدليل (على) أنه قوّة من الله ولم يكن ضمن الكواكب الظاهرة، أن أفعاله (كانت)
تختلف عن سائر النجوم.

مقالات ذات صلة

 

أول
ذلك أنه كان يظهر لهم نهاراً ويختفي ليلا، (وهذا) يدّل (على) أن المولود هو نهار
وشمس البرّ. ثم كان يسير من الشمال إلى اليمين منحرفاً قليلاً إلى الغرب، سائراً
من بلاد[4] فارس إلى بيت المقدس. (وهذا) يدّل على أن كماله يكون بأورشليم. وكان
يسير بسيرهم، ويقف لوقوفهم. وهذا يدّل على أن الرب يلاطف البشرّية، ويكمّل الأشياء
الجسدّية وكان سيره عجيباً منخفضاً[5] بالقرب منهم. (وهذا) يدّل على اتضاع الرب
المولود بالجسد وكونه قد صار معنا على الأرض وهو يعلو الكل بلاهوته. وكان قربه
منهم لكي يتقدّمهم كمثل مرشد لهم إلى الموضع الذي يقصدونه[6] مستقيمين بلا إعوجاج،
ليدّل على أن المولود هو الذي يتقدّم أمامنا في كل الخيرات ومرشد لنا إلى أورشليم
العليا ملكوت السموات كما قال أنا هو الطريق والحق والحياة[7]. ومع هذا كله[8] لم
يقدر ضوء الشمس أن يخفيه. ليدّل على أن المولود يعلو ويفوق كلَّ بهاء وحسن. ويفضّل
على كلِّ اسم مما يرى ومما لا يرى. وكما تنبأ عنه داود قائلا: إنه بهي في الحسن
أكثر من بني البشر[9]. أعني وإن كان يظهر بالجسد ووجد بالشكل كالإنسان فهو يفوق
الكلّ ببهاء لاهوته.

 

ولما
أوصلهم النجم إلى أورشليم اختفي عنهم بالتدبير. لكي يبشروا بميلاد المسيح الربِّ
لأولئك الذين كانوا ينظرونه أعنى بني إسرائيل الجسدانى ليدّل (على) أن الشعوب
تفوقهم في الإيمان وتفضل عليهم. وإن المجوس لكثرة اجتهادهم ومحبتهم لنظر المسيح
المولود، لما اختفي عنهم النجم لم يصبروا، بل سألوا[10] كمثل رُسل مبشرّين قائلين
أين هو المولود ملك اليهود. وذلك لأنهم حققوا أمره جيداً. ولهذا تحملّوا السفر
الطويل[11] والعناء الكبير. ولِمَ ذلك؟ قالوا لأننا رأينا نجمه في المشرق. ولِم
يقولوا أننا أتينا لننظره، بل قالوا أتينا لنسجد له. أعني أن النجم ظهر لهم أولا
من مشرق السماء وأقبل نحوهم لأنهم كانوا ببلاد[12] فارس كما تقدّم القول، ناحية
الشمال منحرفاً إلى ناحية المشرق، يدّل على أن المولود من السماء أشرق علينا،
وردنّا من الشمال إلى اليمين، ثم أقروا أنهم أقبلوا إليه ساجدين. ليدّل على
معرفتهم به باليقين.

 

قال
الكتاب المقدس: فلما سمع هيرودس اضطرب، وذلك لقلّة فهمه ظّن أنه ملك أرضي، ينزع
منه المُلك ويبيده هو وجنسه بأسره، ولم يفهم أنه الملك الأبدي الرّب من السماء
القائل لم آت لأهلك نفوس الناس بل أحييهم[13]. وقال أيضاً نفسي أعطى دون خرافي[14].
وكذلك أورشليم اضطربت بأسرها لما سمعوا أن المسيح المنتظر قد وُلِدَ، وأن الفُرس
أقبلوا إليه ساجدين، ثم أن هيرودس جمع رؤساء الكهنة كتَبة الناموس الذين درسوا
الكتب جيداً. واستخبر منهم أين يولد المسيح.

 

يا
لهذا التدبير الإلهي!.. كما اجتذب إليه المجوس من الأشياء التي بيدهم[15] كذلك
أراد أن يجتذب بني إسرائيل أيضاً بواسطة الذي بيدهم، وهي كتب الناموس والأنبياء،
الذين هم بها مؤمنون، كما قال لهم الرب: فتشوا الكتب التي تظنون أن لكم بها حياة
أبدية[16] فهي تشهد لي[17]. وبهذا أخفي النجم عن المجوس حتى يذيعوا ذلك. فلما فحص
رؤساء الكهنة جيداً، أقروا بالحق ليكون ذلك شهادة عليهم قائلين: في بيت لحم يهوذا
يولد المسيح. كما هو مكتوب في ميخا النبي: وأنت يا بيت لحم أرض يهوذا لست بصغيرة
في ملوك يهوذا لأن منك يخرج المدبر الذي يرعى شعبي إسرائيل[18].

 

انظروا
إلى إيضاح هذه النبوة. وكيف عظّم بيت لحم مع صِغَرِها. ولِمَ ذلك؟ قال لأن منها
يخرج المدّبر راعي إسرائيل. هذا الذي صرخ إليه داود النبي قائلا: “يا راعي
إسرائيل، الذي هدى يوسف كالخروف أنظر الجالس على الكاروبيم. استعلن قداّم إفرايم
وبنيامين ومنسى. أِظهر قوّتك وتعال لخلاصنا”. وهذا الفحص قد كان عند اليهود
متواصلا بمثابرة كما شهد بذلك يوحنا الإنجيلي قائلا إن قوماً منهم قالوا هذا هو
المسيح وآخرون قالوا لعل المسيح من الجليل يأتي[19]. ألم يقل الكتاب إن من نسل
داود من بيت لحم “خاصة” قرية داود يأتي المسيح.

 

حينئذ
هيرودس لأجل خبثه، دعا المجوس سّراً وتحقق منهم الزمان الذي ظهر لهم فيه النجم وذلك
مَكُر منه ثم أرسلهم إلى بيت لحم كما شهد بذلك كتبة الناموس وأحبار الشعب. قال لهم
أمضوا وافحصوا عن الصبي بإجتهاد فإذا وجدتموه فاخبروني لآتي أنا أيضاً واسجد
له[20]. أراهم في الظاهر (أنه) كان موافقاً لهم في كل شيء. أما في الباطن فكان شراً
منه وخبثاً يروم قتله. و”كما” ظن أن ذلك يتم[21] له، جهلاً منه. فأما
المجوس لمّا سمعوا أن كتب الأنبياء شهدت أن المسيح يُولَد في بيت لحم، صدّقوا ذلك
بإيمان عظيم. ومضوا قاصدين الموضع ولأن الله أراد أن يثبت لهم ذلك يقينا بالعيان
ليعظم إيمانهم أظهر لهم النجم على هيئته الأولى!! كما شهد الكتاب المقدس قائلا
ولما ذهبوا وإذا النجم الذي رأوه في المشرق يتقدّمهم حتى جاء ووقف حيث كان
الصبي[22].

 

انظر
الآن، إن (هذا النجم) قوّة من الله أظهرها لهم. وكيف هو يسير أمامهم قريباً منهم
مرشداً لهم حتى جاء ووقف فوق البيت الذي كان المولود نازلا فيه. ولما رأوا النجم
فرحوا فرحاً عظيماً جداً لثبات يقينهم، وزوال الشك[23] منهم، فلم يحيدوا يُمنَة
ولا يُسرَة، بل دخلوا البيت الذي كان الصبي فيه. ولم يستقصوا من أحد. فلما رأوه مع
مريم أمه خروا وسجدوا له من غير شك فيه، ولم يروا حوله حشوداً ولا جيوشاً لذلك
الملك العظيم، الذي تعبوا من أجله وقطعوا هذه المسافة البعيدة. ولم يشاهدوا زخارف
كما قد يوجد عند رؤساء العالم، بل خروا له ساجدين إذ ثبت عندهم بصحة اليقين أنه
المسيح بالحقيقة مخلّص العالم بعِدّة دلائل..

 

أولها[24]:
بما عندهم من علّم النجوم.

وثانيها:
بالكوكب الذي كان يسير أمامهم ووقوفه على المكان الذي هو فيه.

وثالثها:
بشهادة الأنبياء كما أخبرهم كتبّة الناموس.

 

ثم
قدّموا إليه الهدايا ذهباً ولباناً ومراً، لأنهم اختصروا على هذه الثلاثة الأصناف
“بإشارة لأجله”:

 

الكتاب
المقدس لم يذكر إنهم قدّموا ثياباً فاخرة ولا شيئا من كل ما يُهدي للملوك. وإن
كانوا قادرين على كل ذلك، بل أضمروا قائلين:

إن
قَبِلَ الذهب فهو ملك.

وإن
قَبِلَ اللبان فهو إله.

 

وإن
قَبِلَ الُمّر فهذه علامة أنه قابِل الموت من حيث لا يقهره الموت لأنهم رأوا أن
مُلكه لا ينقضي كما قال اليهود للرب، إنا سمِعنَا في الناموس أن المسيح يدوم إلى
الأبد.

 

فقَبِلَ
منهم الرب الثلاثة أصناف جميعاً.

 

فآمنوا
أنه المسيح الملك. وآمنوا أنه الإله مخلّص العالم. وآمنوا أنه يقبل الموت من حيث
لا يقهره، ولا تقوي عليه شوكة الموت بل هو غالب لم يزل.

 

وإن
ملاك الربَّ ظهر للمجوس ليلا وأوصاهم أن لا يرجعوا إلى هيرودس وأشار إليهم
بالذهاب[25] في طريق أخرى إلى كورتهم لأن الربَّ إنما أرشدهم إلى أورشليم ليكونوا
مبشرين بمولده الكريم. فلما أكملوا ذلك أمرهم أن يذهبوا بسلام في سكون ويكونون له
أيضاً مبشرّين في أرضهم.

 

2
أما لوقا الانجيلي فإنه “ذَكَرَ” يوم مولد الربَّ نفسه وكيف وُلِدَ في
مغارة ووضِع في مذود البهائم، ليردّ عقلنا البهيمي إلى معرفة لاهوته الأزلي. ثم
ذكر كيف ظَهَرَ ملاك الرب للرعاة ليلاً وبشرّهم قائلاً: هوذا أنا أبشرّكم بفرح
عظيم يكون لكم ولجميع[26] الشعوب، لأنه قد وُلِدَ لكم اليوم في مدينة داود مخلّص
“الذي” هو المسيح الرب[27].

 

فشهد
أن هذا الفرح عام لكل الشعوب. ولِمَ ذلك؟ لأن المخلّص صار اليوم مع البشر على
الأرض، لكي ينقل رتبهم إلى ملكوت السموات.

 

وللوقت
بغتة تراءى مع الملاك أجناد كثيرون سماويون يمجدّون الله ويقولون “المجد لله
في العلا وعلى الأرض السلام وفي الناس المسرة”[28] فمجدّوا ملكهم السماوي
لأنه حيث يكون فهناك يكون خداّمه العلويون وأوضحوا بهذا التقديس تمجيداً واحداً
مساوياً للثالوث القدوس الواحد في اللاهوت.

 

إذ
أوصلوا المجد للآب الكائن في العلا.

والابن
ملك السلام الذي صار على الأرض. بالمولد من البتول وهو في السماء بلاهوته لم يزل.

ومسرّة
موهبة الروح القدس الذي هو مزمع أن يحلّ في المؤمنين بالمولد الثاني[29].

 

فأسرع
الرعاة وشاهدوا راعي الرعاة الأعظم لرعيتّه كما قيل لهم. كما قد أسرع الملوك أيضاً
وسجدوا للملك السماوي الأبدي.

 

3
أما يوحنا الإنجيلي فإنه أخبر بأنواع الاتحاد العجيب قائلاً “والكلمة صار
جسداً وحلّ فينا”[30] أعني أنه لم يصر جسداً من حيث الاستحالة[31] بل من حيث
الاتحاد بقوله وحلّ فينا. ثبَت بهذا تَجسُّده أنه منا تَجسَّد ثم قال: ورأينا مجده
مجداً مثل الابن الوحيد الذي من الآب الممتلئ نعمة وحقاً[32]. أعني وإن كان (قد)
وُلِدَ بالجسد وحلّ في بشريتنا[33]، فلم يترك عنه مجد لاهوته. بل قد عاينا مجده
المملوء من نعمة لاهوته وحق ربوبيته. كما قد عايناه متجسداً أيضاً. هذا (الأمر)
الذي سُرّ أن يستعلن ويكلّمنا شفاها.

===

[2]
انظر مت2: 2.

[3]
وردت في المخطوط “السياسة”.

[4]
وردت في المخطوط “أرض”.

[5]
وردت في المخطوط “أسفل”.

[6]
وردت في المخطوط “يريدون نحوه”.

[7]
يو6: 14.

[8]
وردت في المخطوط “بأسره”.

[9]
انظر مز2: 45.

[10]وردت
في المخطوط ” أذاعوا ذلك”.

[11]
وردت في المخطوط ” ولهذا سعوا هذا البُعد”.

[12]
وردت في المخطوط (أرض).

[13]
انظر لوقا 56: 9.

[14]
يو15: 10.

[15]
أي بعلم النجوم الذي كانوا يعرفونه فأظهر لهم نجماً علامة المسيح له المجد. كذلك
أراد أن يجتذب بني إسرائيل عن طريق النبوات.

[16]
وردت في المخطوط “الأبد”.

[17]
وردت في المخطوط “من أجلى”.

[18]
ميخا2: 5، مت6: 2.

[19]
يو41: 7.

[20]
مت7: 28.

[21]
وردت في المخطوط “يكمل”.

[22]
مت9: 2.

[23]
وردت في المخطوط “التوهم”.

[24]
وردت في المخطوط “أحدهم”.

[25]
وردت في المخطوط “الدهوب”.

[26]
وردت في المخطوط “ولكل”.

[27]
لو11: 2.

[28]
لو14: 2.

[29]
ويقصد المعمودية.

[30]
يو14: 1.

[31]
أي أن طبيعته اللاهوتية تتحوّل إلى طبيعة بشرية عندما إتخذ جسدًا.

[32]
يو14: 1.

[33]
وردت في المخطوط “بشرنا”.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى