اللاهوت المقارن

الفصل التاسع



الفصل التاسع

الفصل التاسع

مفاهيم لاهوتية

81- الخلط بين التوبة والخلاص

1 ما أكثر الذين يخلطون بين التوبة والخلاص. فإن
تاب إنسان وتغيرت حياته، يقولون عنه إنه قد خلص، وهو نفسه يقول: (أنا قد خلصت)
ويسجل تاريخ ذلك في مذكرته، ويدعوه البعض أن يقف على المنبر ليحكى (إختباره)، أو
يحكى قصة خلاصه، لينتفع بها الآخرون..!

 

2 وربما تكون توبة جزئية، أقصد توبة من خطية
معينة تتعبه، أو من الخطيئة الرئيسية في حياته!

 

ربما تكون الخطية البارزة في حياته، أو التي
تشعره بأنه خارج دائرة أولاد الله، هى خطية الزنا، أو شرب الخمر، أو لعب القمار،
أو السرقة.. إلخ. فإن عملت التوبة في قلبه أو تأثر، وأبطل هذه الخطية البشعة، يظن
أنه قد خلص، ويقول أمام الناس: (قد خلصت)!

 

3 ومع (خلاصه) من هذه الخطية، قد تكون له خطايا
أخرى!

مثل خطية الغضب مثلاً، أو محبة المديح والمجد
الباطل، أو بعض خطايا اللسان أو عدم التدقيق في الحياة، أو غير ذلك.. ولكنه يقول
قد خلصت، لمجرد خلاصه من الخمر والقمار أو النساء!

 

4 وتحضرنى في هذا المجال قصة قرأتها في كتاب:

كان يتحدث مؤلفه عن إمكانية الخلاص في لحظة،
فاستشهد بقصة رواها أحد الآباء الكهنة المعروفين عن إنسان كان مدمنا على التدخين، ثم
خلا إلى نفسه، ورأى أنه يحرق قوته وصحته فيما يدخن، فقرر الامتناع عن ذلك، وألقى
بعلبة السجاير بعيداً، قائلاً لها: ,, اذهبى، لا أرجعك الله،،

 

وقال ذلك المدمن التائب: ,, ومنذ تلك اللحظة لم
أعد إليها ابدأً،، وأعتبر المؤلف تلك القصة دليلاً على إمكانية الخلاص في لحظة!!
أو دليلاً على الخلاص في لحظة من محبة الخطية!!

 

والعجيب أن تلك القصة، تكررت فى كتاب المؤلف
مرتين، كما لو كانت دليلاً قوياً دافعا! فهل الخلاص في مفهومه، هو مجرد ترك
التدخين؟! وهل الخلاص من محبة الخطية، هو مجرد الخلاص من التدخين؟! وربما تكون
لهذا المدمن خطايا أخرى كثيرة لا تزال محتاجة إلى جهاد كبير حتى الدم (عب 12: 4)
كما تحتاج إلى معونة كبيرة من النعمة..

 

وكم من أناس تخلصوا من مثل هذه الخطية، وحكوا
اختباراتهم، ثم انفجروا في إحدى اللحظات في خطية غضب وسخط، لم يخلصوا منها بعد..

 

وحتى لو خلصوا من الغضب، هناك خطايا أخرى، وهناك
ضعفات في حياتهم وحياة كل إنسان تحتاج إلى إصلاح.

 

5 وهم أنفسهم يقولون إن (التقديس) يحتاج إلى
مسيرة العمر كله..! فهل يؤخذ الاقلاع عن التدخين دليلاً على الخلاص؟! وهل ترك
التدخين يدخل تحت عنوان التبرير أم التقديس؟! وهل هو داخل في استحقاقات الفداء
والدم؟ ومتى وكيف؟

 

6 إن الخلاص له معنى واسع، التوبة هى جزء منه،
أو هى عامل موصل إليه ضمن عوامل أخرى.

لا يجوز إذن وضع الكلام عن التوبة، سواء كانت
كلية أو جزئية، في موضع الكلام عن الخلاص.. وإلا فأين الحديث عن الإيمان
والمعمودية، والدم والكفارة والفداء، وسائر الأمور الأخرى المتعلقة بالخلاص، مثل
عمل النعمة، أو عمل الروح القدس في موضوع الخلاص..؟! إن كان مجرد ترك خطية واحدة
يعتبر خلاصاً!

 

7 ينبغى أن يكون مفهوم الخلاص واضحاً أمامنا
بمعناه الواسع..

هذا الخلاص الذى عمل الرب ومازال يعمل من أجله،
وهذا الخلاص الذي نجاهد بكل قوانا، وبكل ما أوتينا من نعمة لكى نصل إليه، بعد أن
أخذنا جزءاً منه، واضعين أمامنا قول الرسول: (تمموا خلاصكم بخوف ورعدة) (فى 2: 12)
هذا الخلاص الذي من أجله (مصارعتنا ليست مع لحم ودم، بل مع أجناد الشر الروحية)
(أف 6: 12) وتحتاج إلى سلاح الله الكامل لكى نقدر أن نقاوم، وأن نثبت، وأن نطفئ
جميع سهام الشرير الملتهبة.. (أف 6: 13، 16)..

 

8 ليس هو مجرد تخلص من خطية معينة، أو من جملة
خايا، فهذا هو الجانب السلبى. ويبقى جانب إيجابى، ليس الآن مجاله..

 

إن الخلاص كما قلنا – موضوع واسع، التوبة جزء
منه.

 

والتوبة أيضاً موضوع واسع، يقظة القلب جزء منه،
وإنسحاق القلب وندمه جزء آخر، وترك الخطية جزء ثالث، وعدم محبة الخطية جزء رابع،
والاعتراف والتناول والتحليل عناصر أخرى في التوبة. تشترك فيها الكنيسة مع التائب
بمساعدته على التوبة ونوال الغفران.

وواضح أن كل هذه العناصر، لا تتم في لحظة.

ومن له أذنان للسمع فليسمع.

حديثنا الحالى عن الفارق بين المفهوم الواسع
الذي للخلاص، ومفهوم التوبة يجرنا هذا الحديث إلى موضوع مشابه هو:

 

82- الخَلط بين التغيير والخلاص

1 قرأت في أحد الكتب فقرة يقول فيها قائلها:

,, شاول الملك عندما مسحه صموئيل النبى، قال له:
(يحل عليك روح الرب.. وتتحول إلى رجل آخر) (1صم 10: 6). وقد تم هذا القول لشاول في
لحظة. إذ يسجل الكتاب قائلاً: (وكان عندما أدار كتفه لكى يذهب من عند صموئيل، أن
الله أعطاه قلباً آخر) (1صم 10: 9) ولاحظ تعبير الكتاب أنه (عندما أدار كتفه)
وادارة الكتف لا تستغرق وقتاً (أه)

 

وفى الواقع لست أجد في هذه القصة دليلاً على
الخلاص في لحظة، إنما أرى فيها دليلاً على عكس هذا‍‍‍!!

 

شاول الملك تغير فعلاً، وتغير في لحظة، وأعطاه
الله قلباً آخر، وعمل روح الرب فيه، فتنبأ مع الأنبياء، حتى قال الناس في تعجب: (أشاول
أيضاً بين الأنبياء؟!)

 

كل هذا حدث حقاً. ولكن ماذا كانت نهاية شاول؟

 

2 إن شاول الذي تغير في لحظة، وحل عليه روح الرب
وتنبأ، لم يخلص أبداً، بل هلك!

 

فقد ختمت حياة هذا الإنسان بمأساة، قال فيها
الوحي الإلهي: (وفارق روح الرب شاول، وبغته روح ردئ من قبل الرب) (1صم 16: 14)
وكان يحتاج إلى داود، لكى يضرب له على العود فيهدأ. (والرب ندم لأنه ملك شاول على
إسرائيل) (1صم 15: 35) ولما ناح عليه صموئيل النبى، قال له الرب: (حتى متى تنوح
على شاول، وأنا قد رفضته؟!) (1صم 16: 1)

 

3 حقاً إن التغير شئ، والخلاص شئ آخر.

ولا يجوز أن نأخذ الكلام عن التغير، كلاماً عن
الخلاص

إن شاول الملك لم ينل الخلاص بتغيره، ولا بحلول
روح الله عليه، ولا بموهبة النبوة التي منحت له، ولا بالمسحة المقدسة التي نالها
من صموئيل النبى!! وكانت نهايته إلى الهلاك. ولهذا فإن الكتاب لا يعطى الأهمية
الكبرى، ولا اسم الخلاص للتغيرات التي تحدث حتى للقديسين، وإنما يقول: (أنظروا إلى
نهاية سيرتهم) (عب 13: 7)

 

4 وما أسهل أن التغير إلى أفضل، يعقبه تغير آخر
إلى أسوأ.. وحياة الإنسان دائمة التغير. والمهم هو كيف تنتهى أيام غربته في العالم.

ومثال شاول الملك هذا، عن التغير اللحظى، لا
يخدم بدعة الخلاص في لحظة، بل هو ضدها تماماً

ونفس الكلام نقوله أيضاً إن التغير في حياة
التوبة، حتى لو تم في لحظة..!

 

5 وقد يتغير إنسان في لحظة، من خاطئ إلى تائب!

ولكن ذلك لا يعنى أنه قد خلص، فقد يفقد توبته.

توبته قد تنقله من الموت إلى الحياة! ثم يعود
إلى الموت مرة أخرى، إن لم تستمر معه التوبة، وعاد إلى الخطية، وأجرة الخطية موت
(رو 6: 23)

وقد تكون التوبة قوية جداً، وعمل النعمة قوياً
جداً.

 

6 ويتحول في التوبة من خاطئ إلى قديس، ثم يفقد
قداسته ويسقط ولا يكون قد خلص في لحظة!

وبغض النظر عن أن كلمة قديس، أطلقت في الكتاب في
أحيان كثيرة على عموم المؤمنين، كما قال بولس الرسول: (سلموا على قديس في المسيح
يسوع) (فى 4: 21) (ساهرين لهذا بعينه بكل مواظبة وطلبة لأجل جميع القديسين) (أف 6:
18) وأرسل القديس بولس رسائله إلى (جميع القديسين في المسيح يسوع الذين في فيلبي
مع أساقفة وشمامسة) (فى 1: 1) وإلى (القديسين أجمعين الذين في أخائية) (2كو 1: 1)
وإلى (القديسين الذين في كولوسى) (كو 1: 2) (انظر أيضاً في 4: 22، 13: 24، 1 كو 1:
2، 2 كو 13: 13)

 

بغض النظر عن كل هذا، نقول: كم من قديسين سقطوا،
وفقدوا الدفعة الأولى في حياتهم التي حولتهم إلى قديسين، واحتاجوا إلى تكرار
التوبة والتغير من جديد..

 

داود النبى كان قديساً، وسقط، واحتاج إلى توبة
ودموع. وشمشون كان قديساً، ومن رجال الإيمان (عب 11: 32) ومع ذلك سقط، واحتاج إلى
توبة لكى يخلص. وسليمان كان قديساً، وتحدث مع الله أكثر من مرة وتراءى له في جبعون،
ومنحه قلباً حكيماً مميزاً لم يكن مثله من قبل ولا من بعد (1مل 3: 5 12) وتراءى له
ثانية بعد تدشين الهيكل، وأخبره أنه سمع صلاته (1مل 9: 2، 3) ومع ذلك سقط سليمان
(1مل 11: 4) وأحتاج إلى توبة.

 

ويعوزنا الوقت إن تحدثنا عن قديسين في التاريخ
سقطوا، واحتاجوا إلى توبة لخلاصهم، ومن أمثلتهم يعقوب المجاهد، وموسى السائح،
وبائيسة.. وغيرهم.

 

إذن الوصول إلى القداسة شئ، والوصول إلى الخلاص
شئ آخر، إّ يمكن فقد القداسة. والإنسان دائم التغير.

 

7 يمكن أن يتغير الإنسان من خاطئ إلى قديس، ولا
يكون قد خلص بعد، لأنه محتاج إلى الثبات في القداسة، وليس إلى مجرد التحول إليها..

 

وهوذا الرسول يقول: (فإذا لنا هذه المواعيد أيها
الأحباء، لنطهر ذاوتنا من كل دنس الجسد والروح، مكملين القداسة في خوف الله) (2كو
7: 1) ويقول: (يثبت قلوبكم بلا لوم في القداسة) (1تس 3: 13)

 

8 لذلك نقول إن الخلاص هو قصة العمر كله، يمر
فيها الإنسان على الإيمان والتوبة والمعمودية والقداسة، ويحتاج إلى أن يثبت.

 

إنه يتغير في سلوكه في حالة إلى أخرى. ولكن عليه
أن يثبت في الحالة الفضلى التي يصل إليها. ولا يظن أن مجرد التغير هو الخلاص..

 

9 وهناك من يتغير ويخلص، ولكنه لا يخلص في وقت
تغيره.

 

شاول الطرسوسى مثلاً: تغير قلبه من مضطهد
للكنيسة إلى مؤمن بالرب يسوع وصار أناء مختاراً (أع 9) ولكنه لم يخلص في لحظة
لقائه بالرب، وفى لحظة هذا التغير.

 

بل أرسله الرب إلى حنانيا الذى قال له: (أيها
الأخ شاول.. لماذا تتوانى؟ قم اعتمد واغسل خطاياك) (أع 22: 16) إذن خطاياه لم تكن
قد غسلت حتى ذلك الوقت. فلما اعتمد اغتسل منها وخلص (مر 16: 16).

إذن ساعة التغير، ليست هى ساعة الخلاص

كما أن كثيرين يحتاجون إلى مدة طويلة للتغير..

 

10 ما أكثر نواحى التغير في حياة الإنسان. ولكن
ليس كل تغير خلاصاً. إنك قد تتأثر بعظة أو بقراءة معينة، فتغير شيئاً من حياتك، أو
تغير حياتك كلها. ولكن هذا التغير ليس هو الخلاص ربما مزمور واحد يغير حياتك، أو
آية تغير حياتك، أو معجزة تغير حياتك. تغيرها إلى التوبة او التكريس مثلاً.

 

11 ولكن تكريس الحياة شئ، والخلاص شئ آخر

إن آية واحدة سمعها الأنبا أنطونيوس، استطاعت أن
تغير حياته فذهب وباع كل ماله واعطاه للفقراء، واتجه إلى حياة الرهبنة. أيجرؤ أحد
أن يقول إن الأنبا أنطونيوس نال الخلاص، حينما سمع هذه الآية وتغير؟‍!

حقاً إنه تغيير. ولكن الرهبنة شئ، والخلاص شئ
آخر.

إذن لا يجوز أن نأخذ كل تغيير على أنه خلاص!

 

12 حدث أيضاً أن القديس أوغسطينوس جلس جلسة
روحية مع نفسه، قادته إلى التوبة وتغيير الحياة. وكانت جلسة تاريخية حاسمة، ولكنه
لم ينل الخلاص في تلك الجلسة. ولقد قرأ كتاب حياة الأنبا أنطونيوس، وتأثر به جداً.
ولكن هذا التأثر وما تبعه من تغيير لم يكن هو الخلاص، إنما كان خطوة في الطريق.

 

إن الجلسة مع النفس هامة، وقد تكون نتيجتها
تغيراً أو سعياً إلى التوبة. ولكنها مجرد خوات إلى الله.

 

ليست هذه الخطوات هى الخلاص، إنما تقود إليه.

 

قد تأخذ من الجلسة قوة من الله ونعمة تعينك في
حياتك. وقد تنتهى إلى تصميم داخلى على التوبة. كل هذا حسن ومفيد، ولكن ليس هو
الخلاص. إنها مجرد وسائل.. هكذا كان القديسون يجلسون إلى أنفسهم، أو يدخلون داخل
أنفسهم. ولكنهم لم ينالوا الخلاص في تلك اللحظات، إنما نالوا نعمة وبركة.

 

بعض من الذين تغيروا، ونالوا خلاصاً بالإيمان
والتوبة والمعمودية، تعرضوا لتغيير عكسى أوصلهم إلى الردة.

 

وقص هذه الردة كثيرة في الكتاب المقدس: منها قصة
ديماس الذي كان أحد مساعدى القديس بولس الرسول في الكرازة (كو 4: 14) والذى ذكره
في إحدى المرات قبل القديس لوقا (فل 24) هذا تغير وارتد وقال عنه القديس بولس: (ديماس
قد تركنى إذ أحب العالم الحاضر) (2تى 4: 9)

 

ومن أمثلة ديماس، أولئك الذين قال عنهم الرسول: (لأن
كثيرين ممن كنت أذكرهم لكم مراراً، والآن أذكرهم أيضاً باكياً، وهم أعداء صليب
المسيح) (فى 3: 18)

 

إن الردة رد على من يضعون عبارة (التغير) في
موضع كلمة (الخلاص) وما أسهل أن يتغير الإنسان في لحظة، من خاطئ إلى تائب، إلى
قديس. وينتقل من ظلمة إلى نور، ومن موت إلى حياة، وينال قوة.

ثم يتغير إلى العكس مرة ثانية، وقد يهلك أخيراً!

 

83- لحظات مُباركة.. ليست لحظات خلاص

1 في حياة كل إنسان، لا شك توجد لحظات مباركة:

قد تكون لحظات مباركة أو مقدسة.

أو لحظات مصيرية.

أو لحظات ممجدة.

أو لحظات زهد ونسك.

أو لحظات تغيير أو تحول في التفكير والقرارات.

أو لحظات اتفاق أو عهد مع الله.

أو لحظات توبة، أو مصالحة مع الله.

أو لحظات تأمل.

ولكن ولا واحدة من هذه، يمكن تسميتها لحظة خلاص.

وسنحاول أأن نضرب أمثلة لكل هذه أو بعضها:

 

2 اللحظة التي تأمل فيها القديس أنطونيوس جثة
أبيه، وقال له: [أين عظمتك وقوتك وسلطانك؟! لقد خرجت من العالم بغير إرادتك.
ولكننى سأترك العالم بارادتى، قبل أن يخرجوننى كارهاً]

 

كانت هى لحظة زهد ونسك، وكانت لحظة مصيرية.
ولكنها لم تكن لحظة خلاص. لأننا لا نستطيع أن نقول عن القديس أنطونيوس انه خلص في
تلك اللحظة.

 

ولكن يمكننا أن نقول إنها لحظة مباركة، لحظة
تأمل، شعر فيها القديس أنطونيوس بفناء هذا العالم، في هذا، وخط لنا الطريق
الملائكى الجميل..

 

3 – كذلك اللحظات التي جلس فيه الابن الضال إلى
نفسه، وهو بين الخنازير في تلك الكورة البعيدة، وأدرك سوء حالته، وعزم على التوبة
والرجوع إلى بيت أبيه..

 

كانت لحظات مصيرية، غيرت حياة الابن الضال،
وارجعته إلى بيت أبيه، ولكنها لم تكن لحظة خلاص، لأن الخلاص لا يمكن أن يتم في
الكورة البعيدة!

 

4 كذلك كانت لحظة مباركة تلك التي جلس فيها
القديس أوغسطينوس إلى نفسه، وأيضاً تلك الساعات التي تأثر فيها جداً بقراءة سيرة
الأنبا أنطونيوس ولكنها لم تكن مطلقاً لحظة خلاص.

 

إن القديس لم يخلص وهو يقرأ حياة الأنبا
أنطونيوس!

 

5 كذلك قد تمر على الإنسان لحظات توبة، يشعر
فيها بكراهية الخطية، أو يرى فيها أن محبة الخطية قد انتزعت تماماً من قلبه ولم
يعد يشتاق إليها، سواء الخطية عموماً، أو خطية معينة.. ولكن كل لحظة من هذه، ليست
لحظة خلاص.

 

إنها لحظة توبة، وليست لحظة خلاص. وما أسهل أن
يعود إلى الخطية مرة أخرى، بعد شعوره أن محبتها قد انتزعت من قلبه.

 

6 وقد تمر على الإنسان مقدسة، يتمتع فيها بزيارة
من زيارات النعمة، ويسمع بها صوت الله في قلبه، ويكون في حالة روحية يشعر به تماما
أنه في الملكوت. ألم يقل الرب: (ملكوت الله داخلكم) (لو 17: 21).

 

زيارة النعمة لحظة مقدسة، ولكنها ليست لحظة خلاص.

 

إنها متعة بالله، وشعور بوجوده، وشعور بعمل الله
داخل الإنسان. ولكنها لا تستمر. هى مجرد مذاقة للملكوت، ثم يعود الإنسان إلى حالته
الأولى، أو إلى حالة أفضل قليلاً، ولكنه لا يستمر في هذا الملكوت طول حياته..

 

7 وقد تمر على الإنسان لحظات توبة أو لحظات تغير،
ولكنها ليست لحظات خلاص كما شرحنا وقد يشعر الإنسان بضرورة التوبة الآن، وعدم
تأجيلها مطلقاً، كما حدث لأوغسطينوس، وكما حدث للأبن الضال.. ولكن التوبة وليست هى
الخلاص. هى مجرد فرع منه، وتحتاج إلى خطوات بعدها. كما يمكن أن تحدث ردة أو نكسة
للإنسان، فيرجع إلى الخطية مرة أخرى بعد توبته. والشيطان قد يترك الشخص (إلى حين)
(لو 4: 13) ثم يعود إلى تجاربه مرة أخرى.

 

مزمور واحد قد يغير حياة الإنسان ويجذبه إلى
الله. ثم تجربة بعد ذلك قد تقذف به بعيداً. وهكذا يجتاز مراحل عديدة من التغير،
حتى يستقر في حضن الله، ولكن ليس في لحظة!

 

8 كذلك قد تمر على الإنسان لحظات اتفاق أو عهد
مع الله. يكون في حالة روحية يبرم فيها مع الله عهداً. ثم يقول: (تعهدات فمى
باركها يارب) (مز 119) لأنه ما أكثر تعهدات الإنسان التى لا يثبت فيها، كما قيل:

 

كم وعدت الله وعداً حانثاً ليتنى من خوف ضعفى لم
أعد.

 

حقاً إذا اقتنع القلب، تستطيع في لحظة أن تصل
إلى اتفاق مع الله إن أردت..

 

ولكن الاتفاق شئ، وتنفيذ الاتفاق شئ آخر. ربما
تتفق مع الله في لحظة، ثم تكسر اتفاقك في لحظات أخرى.

 

9 هناك أيضاً لحظات مقدسة قد تقود إلى الإيمان.
فلا شك أنها مقدسة ومملوءة بركة تلك اللحظة التي جلس فيها مارمرقس إلى انيانوس
الاسكافى ليصلح حذاءه ولكن احظة اصلاح الحذاء، لم تكن هى لحظة الخلاص. إنما كانت
بداية لحديث وشرح أدى إلى الإيمان وإلى المعمودية فيما بعد. ولم يتم كل ذلك في
لحظة.

 

ومع ذلك فقد كانت مقدسة ولحظة مباركة، كبداية
لطريق روحى اقتنع فيها ذلك الاسكافى بزيف الوثنية، كما أقتنع بالإيمان المسيحى.
ولا يمكن أن يكون هذا الإيمان قد تم في لحظة.

 

10 وقد تمر على الإنسان لحظات في العمل الروحى
الداخلى.

 

لحظات صلاة، أو مناجاة، أو صراع مع الله. يجلس
فيها مع الله ويقول له: ,, يارب قد رجعت إليك بعد زمان طويل من الغربة قضيته وأنا
بعيد عنك. أنا أريد أن أكون معك دائماً.. أريد أن أجلس إليك اصالحك، وأصالحك بأى
شرط،،

 

صلاة جميلة، ورغبة في المصالحة، ولكنها ليست
لحظة خلاص.

 

فقد تقف عوائق كثيرة ضد هذه المصالحة، ويتعرض
الإنسان إلى مقاومات عملية، وحروب داخلية وخارجية، حتى يصل إلى هذا الصلح.. ويثبت
فيه. لأنه ما أسهل أن يصطلح الإنسان مع الله، ويرجع فيغضبه مرة أخرى.

 

11 ومن اللحظات المقدسة، لحظة المغفرة.

فى اللحظة التي أسلم فيها المسيح نفسه على
الصليب، قدم مغفرة شاملة. هذا جهته هو. أما من جهة الناس فلم ينالوا هذه المغفرة
في لحظة. إنما نالها كل شخص على حدة، أو كل مجموعة بعد خدمة الكلمة والكرازة، وبعد
معجزات وآيات، وبعد شرح واقناع، وبعد إيمان وتوبة ومعمودية. ولم ينلها أحد في لحظة.

 

فرق بين عمل الله الذي يتم فى لحظة، وعمل
الإنسان.

إن الله يقدر أن يغفر لك في لحظة. ولكنك لكى تصل
إلى استحقاق هذه المغفرة قد تحتاج إلى جهاد طويل ووقت.

 

ومع ذلك قد غفر الله أحيانا، ثم عاقب بعدها.

ولعل من ابرز الأمثلة على ذلك قصة ذلك العبد
المديون الذي ترك له السيد عشرة آلاف وزنة. ثم تقابل هذا مع رفيق له مديون بمائة
دينار فأمسكه وألقاه في السجن. فما الذي حدث لهذا العبد المديون الذي ترك له سيده
كل الدين؟ يقول الكتاب:

 

(فدعاه حينئذ سيده وقال له: أيها العبد الشرير،
كل ذلك الدين تركته لك، لأنك طلبت إلى. أفما كان ينبغى أنك أنت أيضاً ترحم العبد
رفيقتك، كما رحمتك أنا؟! وغضب سيده وسلمه إلى المعذبين، حتى يوفى كل ما كان عليه..
فهكذا أبى السماوى يفعل بكم، إن لم تتركوا من قلوبكم كل واحد لأخيه زلاته) (مت 18:
24-35).

 

وأخيراً هناك لحظة مجيدة قد تساوى حياة..

 

مثل لحظة وقوف موسى وإيليا مع المسيح على جبل
التجلى، ومثل لحظات من رؤيا يوحنا الحبيب التي رأى فيها عرش الله والقوات السمائية،
ومثل اللحظة التي رأى فيها يعقوب أبو الآباء سلماً بين السماء والأرض والملائكة
صاعدة زنازلة عليه، ومثل لحظة وقوف موسى أمام العليقة، أو أمام البحر المنشق إلى
نصفين..

 

كلها لحظات مجيدة، ولكنها ليست لحظات خلاص.

 

أخيراً

لا نأخذ كل جملة وردت فيها عبارة (لحظة) لكى
تكون دليلاً على (الخلاص في لحظة)!! إن كل عبارة لها معناها واستخدامها، الذي قد
لا يكون له علاقة على الاطلاق بموضوع الخلاص.

 

كل كلمة في الموضوعات اللاهوتية تحتاج إلى عمق
في فهمها، لأن لفظة قد تختلف تماماً تماماً عن لفظة أخرى.

ومن له أذنان للسمع فليسمع (لو 14: 35)

 

84- المغفرة قبل الصليب

يركز الاخوة البروتستانت في موضوع الخلاص على
مجموعة من الآيات، يريدون أن يثبتوا بها أن المغفرة قد تمت بدون تدخل من الكنيسة،
وبدون الأسرار، وبدون الكهنوت..! فما هى هذه الآيات لنفهما معاً؟

 

آيات يلزمنا فهمها:

1 قول الرب للمفلوج: (مغفورة لك خاياك) (مر 2: 5)

2 قول الرب للمرأة الخاطئة: (مغفورة لك خاياك)
(لو 7: 48)

3 قوله عن زكا: (اليوم حصل لهذا البيت) (لو 19: 9)

4 قوله عن العشار: (إنه نزل إلى بيته مبرراً)
(لو 18: 14)

 

وقاعدتنا التي نسير عليها،، هى أن نفهم النصوص
المقدسة في ضوء المفهوم الاهوتى السليم،

 

خوفاً من أن يحدث تناقض بين النصوص، والمفاهيم
اللاهوتية الثابتة. فما هى القواعد اللاهوتية الثابتة. فما هى القواعد اللاهوتية
التي نضعها أمامنا، لكى نفهم هذه هذه الآيات وغيرها فهما سليماً؟

 

القاعدة الأولى هى أنه (بدون سفك دم لا تحصل
مغفرة) (عب 9: 22) وهذه القاعدة هى أساس الفداء عند الكل.

 

وهذه المغفرة تم نوالها، حينما سفك السيد المسيح
دمه على الصليب من أجلنا بعد أن (وضع الرب عليه إثم جميعنا) (إش 53: 6) وهكذا (حمل
خطايا العالم كله) ومات كفارة لخطايا العالم كله (يو 1: 29، يو 2: 2)

 

استناجاً من هذا نضع أمامنا قاعدة لاهوتية أخرى
وهى:

 

لم ينل أحد الخلاص قبل صلب المسيح، حتى الآباء
والأنبياء.

 

بل ان القديس بولس الرسول عن كل أبطال الإيمان
من الآباء والأنبياء: (فى الإيمان مات هؤلاء أجمعون. وهم لم ينالوا المواعيد، بل
من بعيد نظروها وصدقوها) (عب 11: 13)

 

وكل الآباء والأنبياء انتظروا فى الجحيم، على
رجاء، دون أن ينالوا الخلاص، إلى أن نقلهم المسيح إلى الفردوس بعد صلبه.

 

لما مات المسيح، ودفع أجرة الخطية التي هى الموت
(رو 6: 23)، حينئذ (نزل إلى أقسام الأرض السفلى) (وسبى سبياً) (أف 4: 9، 8) (ذهب
وكرز للأرواح التي في السجن) (1بط 3: 19) وهكذا منح (الخلاص الذي فتش وبحث عنه
أنبياء) (1بط 1: 10) هذا الخلاص الذى لم ينله أحد إلا بدم المسيح، الذي كان
معروفاً سابقاً قبل تأسيس العالم، ولكن قد أظهر في الأزمنة الأخيرة من أجلكم) (1بط
1: 20).

 

فالذى ينادى بخلاص ومغفرة قبل صلب المسيح،، إنما
ينكر عقيدة الفداء ويكون المسيح قد تجسد إذن عبثاً، بلا هدف!

 

إن كان يمكن للرب أن يمنح الخلاص والمغفرة،
بكلمة، بدون الدم والفداء، فلماذا إذن التجسد والصلب والآلام والجلجثة؟ وأين يكون
موضع العدل الإلهى؟!

 

حقاً إن الله يستطيع كل شئ، ويستطيع أن يمنح
المغفرة بكلمة.. ولكنه لا يفعل ذلك على حساب عدله!

 

وعدله يقتضى دفع ثمن الخطية، وثمن الخطية هو
الموت. والموت حدث على الصليب. لذلك تأجل منح كل مغفرة، إلى أن يتم الفداء على
الصليب. مادام الأمر هكذا، فكيف نفهم كل مغفرة قبل الصليب؟

 

كل مغفرة قبل الصليب، هى وعد بالمغفرة، أوصك
بالمغفرة. وقد تم نوال هذه المغفرة لما مات المسيح على الصليب.

 

على الصليب غفر الرب خطايا المفلوج، وخطايا
المرأة الخاطئة، وخطايا زكا والعشار. وأيضاً على الصليب، وعليه وحده، تمت المغفرة
لكل الذين أخذوا كلمة أو صكاً بالمغفرة في العهد القديم، عن طريق ذبائح الخطية
والإثم، وعن طريق المحرقات وتصريحات الكهنة والأنبياء.

 

وبهذا لا يكون الخلاص من الخية قد تم في لحظة،
بالنسبة إلى المفلوج، والمرأة الخاطئة، والعشار، وزكا، وأمثالهم..

 

إنما أخذوا صكاً بالمغفرة، ونالوا هذه المغفرة
على الصليب.

 

انهم استحقوا المغفرة بكلمة المسيح، لأنها تصريح
إلهى ونعمة إلهية. ولكن هناك فرقاً بين استحقاق المغفرة ونوال المغفرة.

 

فلو كان النفلوج أو العشار أو زكا.. قد مات قبل
الصلب، لكان عليه أن ينتظر في الجحيم، إلى أن ينقله المسيح إلى الفردوس حسب وعده
بعد الصلب والفداء نقطة أخرى نضيفها، أو مفهوما لاهوتياً آخر:

 

لو عاش كل هؤلاء الذين سمعوا كلمة المغفرة، إلى
ما بعد تأسيس الكنيسة وأسرارها، لكان عليهم أن ينالوا نعمة العماد، وباقى نعم
الأسرار الكنسية، حسب قول الرب: (من آمن واعتمد خلص) (مر 16: 16) وحسب قوله: (إن
لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه، فليست لكم حياة فيكم) (يو 6: 53)

 

إن مغفرة الرب لهم قبل صلبه، لا تعنى أن يخرجوا
عن تعليمه الذي أودعه رسله قائلاً لهم: (تلمذوا جميع الأمم، وعمدوهم.. وعلموهم أن
يحفظوا جميع ما أوصيتكم به) (مت 28: 19، 20)

 

فى وقت منح المغفرة لكل هؤلاء، لم تكن الأسرار
الكنسية قد تأست. وما كانوا مطالبين بمعمودية، لأن المعمودية هى موت مع المسيح (رو
6: 3، 4) ولم يكن المسيح قد مات بعد..

 

إن الأسرار الكنسية قد تأسست على استحقاقات دم
المسيح. ولم يكن المسيح قد سفك بعد في ذلك الحين، فلا داعى إذن للحديث عن هذه
الأسرار، واشتراطها قبل تأسيسها..

 

فإن قال أحد إنه في كل أمثلة المغفرة السابقة،
لم يرد ذكر لكنيسة والكهنوت والأسرار، فلا لزوم لكل هذا!.! نقول أيضاً إنه لم يرد
في أى منها ذكر للفداء والدم والكفارة والإيمان فادياً ومخلصاً فهل على نفس القياس،
لا لزوم لكل هذا؟!

 

85- الإيمان والخلاص

لا يوجد أحد يجادل في أن الإيمان لازم للخلاص.

فالذى لا يؤمن يهلك. والسيد المسيح يقول: (ومن
لم يؤمن يدن) (مر 16: 16) ويقول الكتاب أيضاً: الذي يؤمن به لا يدان. والذى لا
يؤمن قد دين، لأنه لم يؤمن باسم ابن الله الوحيد) (يو 3: 18) انظر أيضاً (يو 3: 36)
ولا داعى لأن نورد كل الآيات الخاصة بالإيمان، فلزوم قاعدة مسلم بها من الجميع.

 

إنما الأمر غير المقبول هو التعليم بأن الخلاص
يكون بالإيمان وحده، مع تجاهل مسائل إيمانية من تعليم المسيح نفسه!

 

فالمسيح هو الذي قال: (من آمن واعتمد خلص) (مر
16: 16) ولم يقل: (من آمن خلص) بحذف المعمودية. والمسيح هو الذي قال عن التوبة: (إن
لم تتوبوا، فجميعكم كذلك تهلكون) (لو 13: 3، 5) وهو الذي قال عن الأعمال: (ليس كل
من يقول لى يارب، يدخل ملكوت السموات) (مت 7: 21).

 

لماذا إذن التركيز على الإيمان وحده في موضوع
الخلاص، وتجاهل المعمودية والتوبة والأعمال، وكلها من تعليم المسيح؟! وكذلك
التناول من جسده ودمه (يو 6: 53)!

 

إنه نوع من التطرف أن يتحمس إنسان لشئ، فيدعى
أنه كل شئ، وإن ما عداه لا شئ!

 

الإيمان له أهميته. والمعمودية أيضاً لها
أهميتها. والتوبة لها أهميتها. وباقى الأمور لها أهميتها. فما معنى إنكار كل شئ.
والاصرار على عبارة (آمن فقط)، بينما الكتاب يذكر إلى جوار الإيمان أموراً كثيرة..

 

إننا نشدد على الإيمان، في الكرازة لغير
المؤمنين..

 

وهكذا كان يفعل الآباء الرسل فى التبشير
بالإنجيل لغير المؤمنين، على اعتبار أن كل أعمالهم الصالحة بدون إيمان، لا يمكن أن
تخلصهم. فلابد من الإيمان بالفداء، والايمان بالمسيح فادياً ومخلصاً.

 

وإيمانهم هذا هو الخطوة الأولى التي تقودهم إلى
باقى النقط التي هى من حقائق الإيمان المسيحى وجزء منه.

 

إن الرسل ما كانوا يستطعيون أن يحدثوا غير
المؤمنين عن المعمودية واهميتها للخلاص.. فإن آمنوا، حثوهم عنها، وعمدوهم. وهم لا
يستطيعون أن يبدأوا الحديث مع غير المؤمنين عن التناول من جسد المسيح ودمه، إنما
عليهم أولاً أن يؤمنوا بالمسيح، وذبيحة المسيح على الصليب. وبعد ذلك يحدثونهم عن
جسد المسيح ودمه.. فهذا هو المنطق الطبيعى لخطوات التعليم.

 

سجان فيلبي، يحدثونه أولاً عن الايمان بالمسيح
لكى يخلص. فإن آمن بالمسيح، يحدثونه عن المعمودية، ويعمدونه هو والذين له أجمعين
(أع 16: 30 33)

 

إن كلام الرسل عن الإيمان، لا يلغى أهمية
المعمودية والأسرار الكنسية التي تأتى بعده. بل الإيمان هو خطوة ممهدة لها، لأنه
لا ينال من أسرار الكنيسة إلا المؤمنون.. المؤمنون بالمسيح والمؤمنون بها. فهى جزء
من الإيمان.

 

وهنا نأخذ الإيمان بمعناه الواسع، أى الإيمان
بكل الحقائق الإيمانية، التي ترد في قانون الإيمان، وفى كل عقيدة الكنيسة في كل
تعليم المسيح.

 

هل الإيمان، هو فقط الايمان بالمسيح فادياً
ومخلصاً؟ أم هو الإيمان أيضاً بلاهوت المسيح وتجسده وصلبه وقيامته وصعوده ومجيئه
الثانى.. وأيضاً الإيمان بالثالوث القدوس، وبعمل الروح القدس في الكنيسة، والإيمان
بالمعمودية والقيامة العامة، وكل حقائق الإنجيل.

 

والإيمان ليس هو الحقائق النظرية، بل أيضاً حياة
الإيمان.

وحياة الإيمان تشمل الإيمان الحى (يع 2: 17، 20)،
والعامل بالمحبة.

وحياة الإيمان تشمل الإيمان الحى (غل 3: 11، يع
17، 20)، والإيمان العامل بالمحبة (غل 5: 6) الذي يثمر ثمر الروح (غل 5: 22) حقاً
إن كلمة (إيمان) كلمة واسعة للذين يفهمونها، قد تشمل الحياة الروحية كلها (اقرأ
الفصل الخاص بالإيمان في كتابنا: الخلاص في المفهوم الأرثوذكسى).

 

والحديث عن الإيمان، حتى الإيمان وحده، لا يلغى
أهمية الكنيسة. لأن الإيمان يناله عن طريق الكنيسة.

 

كيف وصل الإيمان إلى العالم؟ أليس عن طريق
الكنيسة؟ أليس عن طريق معلمى الكنيسة الذين نشروا الإيمان في المسكونة كلها: أولاً
الآباء الرسل، ثم تلاميذهم الآباء الأساقفة والقسوس.. إلى كل المعلمين في جيلنا.

 

هوذا بولس الرسول يقول: (لأن كل من يدعو باسم
الرب يخلص. فكيف يدعون بمن لم يؤمنوا به؟ وكيف يؤمنون بمن لم يسمعوا به؟ وكيف
يسمعون بلا كارز؟ وكيف يكرزون إن لم يرسلوا؟) (رو 10: 13 15).

 

ماذا نقول إذن عن الذين نالوا الإيمان عن طريق
الكنيسة لكى يخلصوا. ولما آمنوا، أكروا أهمية الكنيسة في موضوع الخلاص!

 

تبقى بعد ذلك نقطة خاصة بعلاقة الإيمان
بالمعمودية:

 

فالبعض يمنعون معمودية الأطفال، لأنهم لم يصلوا
بعد إلى الإيمان الواعى وينتظرون عليهم بلا معمودية حتى ينضجوا!

 

فما مصير هؤلاء الأطفال إذن، بلا معمودية، وبلا
إيمان، هل نتركهم ليهلكوا؟!

 

لقد خصت باباً طويلاً عن معمودية الأطفال) في
الجزء الخاص بالمعمودية في كتابنا (اللاهوت المقارن) أنصح بقراءته. أما ألان فأقول
إن الأطفال ليست لهم أية عوائق ضد الإيمان. ونحن نعمدهم على إيمان والديهم ليخلصوا،
كما خلص الأطفال الأبكار بإيمان والديهم الذين لطخوا الأبواب بدم الفصح (خر 12)
وكما خلص الأطفال بإيمان آبائهم وأمهاتهم في عبور البحر الأحمر، وكما خلصوا بإيمان
الآباء والأمهات بالختان في اليوم الثامن (تك 17) وكان الختان يرمز إلى المعمودية
(كو 2: 11، 12)

 

نعمد الأطفال حرصاً على خلاصهم (يو 3: 5، مر 16:
16) وبالمعمودية يدخلون الكنيسة ويتلقون فيها الإيمان من نعومة أظفارهم. يعيشون
فيه إيماناً حياً، وليس مجرد إيمان عقلى.

 

أما أن تركنا الأطفال بدون عماد، وبدون عضوية
الكنيسة والاشتراك في حياتها، وفى عمل الروح القدس في أسرارها، فإننا نكون بذلك قد
أبعدناهم عن الإيمان العملى الذي يحبونه بالممارسة، ويتشربونه من حياة الكنيسة..!

 

يقولون: وماذا إن كبر الطفل ولم يؤمن أو فسد؟

 

نقول إن تعليمه الإيمان هو المسئولية والديه،
ومسئولية الكنيسة. فإن رفض الإيمان حينما يكبر، يكون كأى مرتد (عب 10: 38) ونكون
نحن قد أدينا واجبنا من نحوه، ولم نمنع هنه وسائط الخلاص. وفى نفس الوقت لسنا نرغم
حرية إرادته..

 

هنا ونود أن نقول ملاحظة عن (الإيمان الواعى):

 

هل كل الكبار لهم النضوج الروحى والذهنى، الذي
يدخلهم تحت عبارة (الإيمان الواعى)؟ ألا يوجد كبار كثيرون ليس لهم هذا الوعى ولا
هذا النضوج، ولا يعرفون من الإيمان إلا أموراً بسيطة. ولا يستوعبون كثيراً من
أعماق الإيمان وحقائقه.. ما هى مقاييس هذا الإيمان الواعى؟ وما مدى انطباقه على
طبقات من الشعب تحتاج إلى مدى زمنى طويل لكى تصل إلى هذا الوعى، وقد لا تصل
إطلاقاً..! وعلى الرغم من هذا، قد سمح بعمادهم من جهة السن. أما من جهة المعرفة
فلا فرق بينهم وبين الصغار..! هل لا يسمح بعماد هؤلاء أيضاً؟ وإلا لماذا إذن
التركيز على الأطفال، الذين قال عنهم المسيح: (دعوا الأولاد يأتون إلى ولا تمنعوهم،
لأن لمثل هؤلاء ملكوت السموات) (مت 19: 14).

 

86- التبرير أم التقديس؟

يقولون: نحن في الكلام عن الخلاص في لحظة، إنما
نقصد التبرير وليس التقديس، لأن التقديس يحتاج إلى مسيرة العمر كله..!

 

فنجيبهم. ولكننا هنا نتحدث عن الخلاص. ولسنا
نقول التبرير أو التقديس، وإنما الخلاص بوجه عام.

 

فإن كنتم تقصدون مجرد التبرير، إذن حددوا كلامكم
وقولوا: إنما نقصد التبرير في لحظة، وليس الخلاص في لحظة.

 

فإن قصدتم بالتبرير، الخلاص من الخطية الأصلية،
ومن الخطايا السابقة للمعمودية، وليس البر الذي في المسيح يسوع (غلا 3: 27) حينئذ
نقدم السؤال الثانى:

 

وهل هذا التبرير، هو أيضاً يتم في لحظة؟!

 

إن كان لابد من الإيمان والمعمودية حسب قول
السيد المسيح: من آمن وأعتمد خلص) (مر 16: 16) وإن كان لابد من التوبة حسب قول
القديس بطرس في يوم الخمسين (أع 2: 38) فكيف يمكن أن يجتمع الإيمان والتوبة والمعمودية
فى لحظة؟!

إذن هذا التبرير لا يمكن أن يتم في لحظة..

إن قلنا إنه يتم في (لحظة) المعمودية، نكون قد
تجاهلنا الإيمان، وتجاهلنا التوبة

التى ينبغى أن تسبق المعمودية.

وإن قلنا إنه يتم في (لحظة) الإيمان، نكون قد
تجاهلنا المعمودية والتوبة..

ومع ذلك فالإيمان لا يتم في لحظة، ولا المعمودية
في لحظة. وقد شرحنا هذا من قبل في نفس هذا الكتاب، في القسم الخاص ب”الخلاص
بالإيمان والتوبة والمعمودية”.

 

87- الإجابة بآية واحدة لا تكفي

درج البعض في كثير من الأمور اللاهوتية، أن
يضعوا سؤالاً يجاب عليه بآية ويحاولون بهذا أن يقنعوا (البسطاء) وغير العارفين،
على أساس أن هذا هو تعليم الكتاب! أو أن هذا هو الحق الإنجيلى..

 

هكذا فعل السبتيون الأدفنتست فى كتابهم (الله
يتكلم). وهكذا يفعل كثير من كاتبى النبذات، وواضعى الكتب المخالفة للعقيدة. ونحن
نقول لكل هؤلاء:

 

إن آية واحدة من الكتاب في الأمور المختلف عليها
لا تكفى، ولا تقدم الحق الكتابى. إنما يقدمه تجميع آيات الكتاب المتعلقة بالموضوع،
حتى يتكامل الفهم..

 

وفى كتابنا (الخلاص في المفهوم الأرثوذكسى)
تجدون موضوعاً كاملاً بعنوان (خطورة الآية الواحدة) يمكن الرجوع إليه. أما في هذا
المجال فسوف أقدم لكم بضعة أمثلة، تظهر لنا خطأ الإجابة بآية واحدة:

 

1 لنفرض أن إنساناً سألك عن كيفية الولادة من
الله؟

أتستطيع أن تجيب عليه، بأن تقدم له هذه الآية: (إن
علمتهم أنه بار هو فاعلموا أن كل من يصنع البر مولود منه) (1يو 2: 29)!! هل يمكن
بهذه الآية وحدها أن تقدم تعليماً كتابياً، خلاصته أن الإنسان يولد من الله، عن
طريق أعمال البر التي يعملها! دون ذكر اطلاقاً للإيمان والمعمودية!!

 

وبالمثل هل يمكن للإجابة على نفس السؤال، أن تضع
الآية التي تقول: (شاء فولدنا بكلمة الحق) (يع 1 ك 17) ويصبح الميلاد الثانى بمجرد
الكلمة، دون ذكر لقبول والإيمان والمعمودية والتوبة..!

 

أم إنك في الإجابة على السؤال الخاص بالميلاد
الثانى، تضع كل الآيات المتعلقة بالميلاد، هاتين وغيرهما..

 

مثل قول السيد المسيح: (إن كان أحد لا يولد من
الماء والروح، لا يقدر أن يدخل ملكوت الله) (يو 3: 5) وأيضاً قول الكتاب: (بل
بمقتضى رحمته خلصنا، بغسل الميلاد الثانى وتجديد الروح القدس) (تى 3: 5)

 

2 ولنفرض أن إنساناً سألك: ما هى الديانة
المقبولة من الله؟

أتستطيع أن تجيبه بآية واحدة هى: (الديانة
الطاهرة النقية عند الله الآب، هى هذه: افتقاد اليتامى والأرامل في ضيقتهم، وحفظ
الإنسان نفسه بلا دنس من من العالم) (يع 1: 27) وهل تمثل هذه الآية وحدها، كل الحق
الكتابى، دون أى حديث عن الإيمان السليم؟!

يقيناً أنك لن تقبل. فلماذا إذن تستخدم أسلوب
الآية الواحدة في مواضع أخرى، لتخدم أفكارك؟!

 

3 وإن سألك أحد: كيف ينتقل الخاطئ من الموت إلى
الحياة؟

أتستطيع أن توقفه أمام آية واحدة فقط هى قول
القديس يوحنا الرسول: (نحن نعلم أننا انتقلنا من الموت إلى الحياة، لأننا نحب
الإخوة) (1يو 3: 14) هل بهذه الآية وحدها، تكون قد قدمت التعليم الكتابى والحق
الإنجيلى في كيفية الانتقال من الموت إلى الحياة، دون أن تقدم آية أخرى عن الفداء
والكفارة والصلب، والتوبة والإيمان والمعمودية..؟‍‍‍‍‍!

 

لا يوجد أحد يقبل هذا الكلام.. إنما يجدر بنا أن
نضع آيات أخرى مثل: (ونحن أموات بالخطايا، أحيانا مع المسيح) (أف 2: 5) و(إذ كنتم
أمواتاً في الخطايا.. أحياكم معه، مسامحاً لكم بجميع الخطايا، إذ محا الصك الذي
علينا.. مسمراً إياه بالصليب) (كو 2: 13: 14) (مدفونين معه بالمعمودية، التي فيها
أقمتم أيضاً معه..) (كو 2: 12) (فدفنا معه بالمعمودية للموت. حتى كما اقيم المسيح
من الأموات.. نسلك نحن أيضاً في جدة الحياة. لأنه إن كنا متحدين معه بشبه موته،
نصير أيضاً بقيامته) (رو 6: 4، 5)

 

4 وبالمثل أيضاً، إن سألك أحد: كيف أخلص؟

أتستطيع أن تضع أمامه آية واحدة هى (لاحظ نفسك
والتعليم، وداوم على ذلك فإنك إن فعلت هذا، تخلص نفسك والذين يسمعونك أيضاً) (1تى
4: 16)

 

هل هذه الآية وحدها يمكنها أن تكون إجابة كافية
في الخلاص؟! بلا ذكر للدم والإيمان والمعمودية!! أراك تنكر هذا، ولك حق.

 

وبالمثل أيضاً من يجيب بآية أخرى هى: (لأنك إن
اعترفت بفمك بالرب يسوع، وآمنت بقلبك أن الله أقامه من الأموات، خلصت) (رو 10: 9)

 

إنها آية. ولكنها وحدها لا تكفى. لماذا لا تضع
إلى جوارها آية أخرى هى: (من آمن واعتمد خلص) (مر 16: 16)

 

ولماذا لا تضع إلى جوارها أيضا هذه الآية: (إذ
كان الفلك يبنى، الذي خلص قليلون، أى ثمانية أنفس بالماء. الذي مثاله يخلصنا نحن
الآن، أى المعمودية) (1بط 3: 20، 21).

 

وبهذا يتكامل الحق الكتابى، ولا تتعبنا ضمائرنا،
إذ نتعمد أخفاء الآيات، أى إخفاء أجزاء من الحق الإنجيلى، لكى نقدم مفهومنا الخاص،
وليس مفهوم الكتاب!!

 

إنه سؤال، دائماً يحيرنى، ولا أجد له جواباً:

 

هؤلاء الإخوة، الذين ينادون بالتعلمي الإنجيلى،
ويدافعون عن الحق الكتابى، لماذا لا يعلنون هذه الآيات وأمثالها، إلى جوار الآيات
الأخرى؟! لماذا يتعمدون إخفاءها؟! أليست هى أيضاً من الإنجيل ومن الكتاب؟! إنى
أسال..

 

88- أية اللحظات؟!

الذين يتحدثون عن الخلاص في لحظة، يترددون
أحياناً في تحديد هذه اللحظة ما هى؟ ومتى تكون؟

 

1 هل هى لحظة الإيمان؟ أو لحظة قبول المسيح
فادياً ومخلصاً؟ علماً بأن الإيمان لا يتم في لحظة، بل هو ثمر لعمل النعمة وخدمة
الكلمة، ربما في مدى زمنى..

 

2 أم هى لحظة المعمودية؟ علماً بأن المعمودية
لها طقس خاص، لا يمكن إتمامه في لحظة!

 

3 أم هى لحظة التوبة؟ والتوبة لا تهبط على
الإنسان في لحظة، وإنما هى اقتناع القلب بالحياة الروحية، وتخلصه من محبة الخطية،
وليس كل هذا ابن لحظة!

 

4 أم هى لحظة إنفتاح الذهن بالوعى؟ أو لحظة
(اشراق النور في الظلمة). وكل هذا قد يأتنى بالتدريج. والبعض لم يدركوه، أو لم
يدركوا أعماقه..!

 

5 أم هى لحظة التحول في التفكير، في القرارات
وفى التصرفات، كما يقول البعض. بينما لا يوجد إنسان يتحول فكره في لحظة، وإلا كان
تصرفه إنفعالياً أو سطحياً، ما أسهل أن يتحول إلى عكسه.

 

6 أم هى لحظة (تفجير مفاعيل المعمودية) حسب
تعبير البعض. ولا شك أن هذا التعبير إن صح، يكون بالتدريج، وقد يشمل الحياة كلها..

 

7 أم هى لحظة الادراك؟ كما قيل عن إدراك بطرس
لوجود المسيح، بينما كان يصيد السمك بعد القيامة (يو 21: 7) أو ما قيل عن معرفة
تلميذى عمواس بأن الذي يكلمهم هو المسيح (لو 24: 31).. أو اللحظة التي فاق فيها
يعقوب من رؤيا السلم السماوى وقال: (حقاً إن الرب في هذا المكان، وأنا لا أعلم)
(تك 28: 16).

 

ومع أن كل قص الأدراك هذه لا علاقة لها بالخلاص
اطلاقاً، فلم يخلص بطرس ولا تلميذا عمواس ولا يعقوب في ذلك الوقت.. إلا إن هذا
الادراك لم يأت أيضاً فجأة في لحظة. وكمثال ذلك ما قيل عن تلميذى عمواس في (لو 24:
31، 32، 35)

 

ومع ذلك،فإن كل هذه الافتراضات حول كنه اللحظة،
تدل على عدم يقين من جهة الإيمان بها.. كما تدل على فرض كلمة اللحظة فرضاً، ثم
البحث عن تفسيرها لها، أو تعليل لها، ولا يدل هذا على وجود قاعدة لا هوتية ثابتة.

 

لماذا إذن التشبث بفكرة (اللحظة) هذه، وكد الذهن
عبثاً للحصول على تفسير لها، ومحاولة تسخير الآيات فى غير موضعها، لكى تساند موضوع
اللحظة، وتمنعه من الانهيار..؟‍‍‍! لماذا؟

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى