اللاهوت المقارن

النعمة والجهاد فى خطة الخلاص



النعمة والجهاد فى خطة الخلاص

النعمة والجهاد فى خطة
الخلاص

القمص زكريا بطرس

مقدمة

يحتدم النقاش حول قضية الخلاص بالنعمة أم
بالجهاد. والواقع أن سر الخلاف هو التطرف، أي تمسك كل فريق بأحد النقيضين. ففريق
يري الخلاص بالنعمة فقط مستندين علي قول معلمنا بولس الرسول “لأنكم بالنعمة
مخلصون بالإيمان وذلك ليس منكم هو عطية الله” (أفسس 2: 8). وعلي النقيض من
ذلك نري قوماً آخرين يتمسكون بأن الخلاص هو بالجهاد فقط مثل أصحاب بدعة
(البيلاجية) أتباع بيلاجيوس في القرن الرابع الميلادي.

أما النظرة الأرثوذكسية فهي نظرة متوازنة
وحكيمة, ومن منطلق الفكر الأرثوذكسي الأصيل سوف نناقش

النعمة:
في
مفهومها، وأعمالها، وكيفية الحصول عليها، وبعض التوصيات بخصوصها.

الجهاد:
في
مفهومه، وحتميته، وجوانبه، وأسلوبه.

التوافق
بين النعمة والجهاد.

 

الفصل الأول: النعمة

سوف نوضح مفهوم النعمة، مفاعيلها، كيفية الحصول
عليها، ثم توصيات بخصوصها:

 

أولاً:
مفهوم النعمة:

 النعمة
هي عطية مجانية من الله للإنسان، وهذا ما قصد معلمنا بولس الرسول إيضاحه بقوله
“لأنكم بالنعمة مخلصون بالإيمان وذلك ليس منكم هو عطية الله” (أفسس 2: 8).
وهذا عين ما أفصح عنه سليمان الحكيم بقوله “يعطي نعمة للمتواضعين” (أم 3:
34). إذن فالنعمة عطية مجانية من الله تُعطى للمتواضعين.

 

ثانياً:
مفاعيل النعمة::

تقوم
النعمة بأعمال عديدة في حياة الإنسان نذكر منها:

(1)   
الرحمة والمعونة: يقول معلمنا
بولس الرسول “فلنتقدم بثقة إلي عرش النعمة لكي ننال رحمة ونجد نعمة
عوناً في حينه” (عب 4: 16).

فبالنعمة
نحصل على رحمة ربنا ومعونته الإلهية.

(2)
الخلاص:
وهذا
ما وضحه معلمنا بولس الرسول بقوله “لأنكم بالنعمة مخلصون بالإيمان
وذلك ليس منكم هو عطية الله” (أف 2: 8).

فالنعمة
هي عمل الله الذي به يخلصنا من خطايانا.

(3)
التبرير:
قال
معلمنا بولس الرسول “متبررين مجاناً بنعمته بالفداء الذي بيسوع
المسيح” (رو 3: 24). فالنعمة بررتنا بدم المسيح الذي سال على الصليب.

(4) الثبات: هذا ما ذكره معلمنا
بولس الرسول أيضاً بقوله “..حسن أن يثبت القلب بالنعمة” (عب 13: 9).

(5)
القوة:
يتضح
ذلك من قول معلمنا بولس الرسول “فتقو أنت يا أبني بالنعمة التي
في المسيح يسوع” (2تي1: 2). والنعمة نقوي ضعفنا وتسندنا في جهادنا.

 

ثالثاُ:
الحصول علي النعمة:

كيف
نحصل على نعمة ربنا؟

توجد
عدة وسائل للحصول علي النعمة منها:

(1)
أسرار الكنيسة:
التي تعتبر قنوات نعمة من خلالها يحصل المؤمن علي نعم الله
المتعددة. فبالمعمودية ننال الحياة الجديدة، وبالميرون ننال الروح القدس،
وبالاعتراف ننال غفران الخطايا، وبالتناول نثبت في الرب..

(2)
الإتضاع:
يقول
معلمنا بطرس الرسول “لأن الله يقاوم المستكبرين وأما المتواضعون فيعطيهم
نعمة
” (1بط5: 5). فالمتكبر لا يحصل على نعمة الله.

(3)
الإيمان:
الواقع
أن الإيمان هو اليد التي تمتد لتحصل علي النعمة كما وضح معلمنا بولس الرسول
بقوله” لأنكم بالنعمة مخلصون بالإيمان وذلك ليس منكم هو عطية الله” (أف
2: 8).

 

رابعاً:
توصيات بخصوص النعمة:

هناك
عدة توصيات بخصوص النعمة نذكر منها:

(1)
النمو في النعمة:
يقول معلمنا بطرس الرسول” ولكن أنموا في
النعمة
وفي معرفة ربنا يسوع المسيح” (2بط 3: 13). وهذا ما أكده معلمنا
بولس الرسول بقوله “.. ليتكم تزدادون في هذه النعمة أيضاً” (2كو7:
8).

(2)
عدم الازدراء بروح النعمة:
أي عدم تحقير النعمة، يقول معلمنا بولس الرسول
“فكم عقاباً أشر تظنون أنه يحسب مستحقاً من داس ابن الله.. وأزدري بروح
النعمة
” (عب 10: 29).

(3)
الحذر من السقوط من النعمة:
يوبخ معلمنا بولس الرسول أهل غلاطية لارتدادهم
عن النعمة بقوله “قد تبطلتم عن المسيح.. سقطتم من النعمة..”

(غل5:
4). كان هذا عن النعمة من زوايا متعددة، وسوف نلقي الأضواء علي الجهاد.

 

الفصل الثاني: الجهاد الروحي

 في حديثنا عن الجهاد سوف نتكلم عن: مفهومه،
حتميته، مجالاته، وأسلوبه.

أولاً:
مفهوم الجهاد:

 الجهاد
الروحي هو بذل الجهد والعمل من جانب الإنسان تجاوباً مع عمل النعمة لأجل
خلاص النفس.

ثانياً:
حتمية الجهاد:

 يوضح
لنا الكتاب المقدس بآيات عديدة ضرورة الجهاد وحتميته في الحياة الروحية نذكر منها:

1-
(1 تي 6: 12) يقول معلمنا بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس “جاهد جهاد
الإيمان
الحسن وأمسك بالحياة الأبدية التي إليها دعيت”.

2-
(2 تي 4: 7) يتكلم الرسول عن جهاده الشخصي فيقول “قد جاهدت الجهاد
الحسن أكملت السعي حفظت الأيمان أخيراً قد وضع لي إكليل البر..”.

3-
(عب 12: 1و 2) يحض الرسول المؤمنين علي الجهاد بقوله “.. ولنحاضر بالصبر في
الجهاد
الموضوع أمامنا ناظرين إلي رئيس الإيمان ومكمله يسوع..”

4-
(عب 12″ 4) ثم يستحثهم الرسول بالجهاد حتى الموت” لم تقاوموا بعد حتى
الدم مجاهدين ضد الخطية”

5-
(1 كو9: 25) يوضح الرسول حتمية الجهاد بضبط النفس فيقول “كل من يجاهد
يضبط نفسه في كل شيء”.

6-
(2تي 2: 5) يوضح الرسول حتمية الجهاد القانوني بقوله “إن كان أحد يجاهد
لا يكلل إن لم يجاهد قانونيا

من
هذه الآيات وغيرها الكثير يتضح أهمية الجهاد الروحي في حياة المؤمن.

 

ثالثاُ:
مجالات الجهاد:

للجهاد
الروحي ميادين متعددة فعلى المؤمن أن يجاهد:

1-
ضد الخطية:

 يوضح
هذا المجال معلمنا بولس الرسول بقوله “لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد
الخطية
” (عب4: 12).

2-
ضد الشيطان:

 يقول
معلمنا بطرس الرسول “اصحوا واسهروا لأن إبليس خصمكم كأسد زائر يجول
ملتمساً من يبتلعه هو، فقاوموه راسخين في الإيمان” (1بط 5: 8و 9).

3-
ضبط النفس:

 يتضح
ذلك من قول معلمنا بولس الرسول “كل من يجاهد يضبط نفسه في كل
شيء” (1كو 9: 25).

4-
قمع الجسد:

 يقول
معلمنا بولس الرسول عن جهاده الشخصي “أقمع جسدي وأستعبده حتى بعد ما
كرزت للآخرين لا أصير أنا نفسي مرفوضاً” (رو 15: 30).

5-
الصلاة:

 ينبغي
أن يجاهد المؤمن في مجال الصلاة كقول الرسول “فأطلب إليكم أيها الأخوة بربنا
يسوع المسيح ومحبة الروح أن تجاهدوا معي في الصلوات..” (رو 15: 3).

6-
النمو الروحي:

 يوضح
ذلك معلمنا بولس الرسول بقوله “ليس إني قد نلت أو صرت كاملاً ولكني أسعى لعلي
أدرك الذي لأجله أدركني أيضاً المسيح يسوع”. يكمل قائلاً: أيها الأخوة أنا
لست أحسب نفسي أني قد أدركت. ولكني أفعل شيئاً واحداً. إذ أنا أنسى ما هو وراء وأمتد
إلي ما هو قدام
، أسعى نحو الغرض لأجل جعالة دعوة الله العليا في المسيح
يسوع” (في 3: 12، 14).

من هذه الآيات وغيرها يتضح أمامنا أننا لابد وأن
نجاهد في كل هذه الميادين بكل مثابرة.

 

رابعاً:
أسلوب الجهاد:

ينبغي
أن يراعي المؤمن أن يكون جهاده:

1-
جهاد الإيمان:

بمعنى
أن لا يكون من منطلق الشك أو اليأس بل بثقة أكيدة في محبة الله ومعونته لذلك يقول
معلمنا بولس الرسول لتلميذه تيموثاوس “جاهد جهاد الإيمان الحسن وأمسك
بالحياة الأبدية التي إليها دعيت” (1تي12: 6).

2-
جهاد قانوني:

 أي
أن يكون في دائرة النعمة ليس خارجها، لذلك يقول الرسول “إن كان أحد يجاهد لا
يكلل إن لم يجاهد قانونيا” (2 تي 2: 5).

3-
في مثابرة:

 أي
باستمرارية حتى النهاية لذلك وبخ معلمنا بولس الرسول العبرانيين لعدم مثابرتهم
بقوله “لم تقاوموا بعد حتى الدم مجاهدين ضد الخطية” (عب 12: 4).

4-
في صبر:

 إذ
يعرف الرسول صعوبة الجهاد فيوضح ضرورة الصبر بقوله “ولنحاضر بالصبر في
الجهاد الموضوع أمامنا..” (عب 12: 1و 2).

وبهذا
نكون قد استوضحنا أيضا الجهاد الروحي من حيث مفهومه، حتميته، ومجالاته، وأسلوبه.
بقي أن نستعرض التوافق بين النعمة والجهاد.

 

الفصل الثالث: التوافق بين النعمة والجهاد

الواقع أن النعمة والجهاد نسيج واحد، فالنعمة هي
السدة والجهاد هو اللحمة في نسيج الحياة الروحية.

النعمة والجهاد ليسا عدوين ولكنهما توأم يعملان
في توافق تام لخلاص النفس. ولتوضيح ذلك نضع أمامك الأمثلة التالية من الكتاب
المقدس:

 

أولاً:
الانتصار علي عماليق:

 لكي
ينتصر شعب الله في حرب عماليق المذكورة في (سفر الخروج 17: 8 – 13) كان لابد من
التوافق بين دور موسى النبي في الصلاة الذي يمثل عمل النعمة، ودور يشوع في الحرب
الذي يمثل الجهاد.

1-
دور موسى النبي:

 الوقوف
علي رأس التلة رافعاً يديه للصلاة وممسكاً بعصا الله التي هي مواعيد الرب. حتى
يعطي الرب الغلبة.

2-
دور يشوع:

 الدخول
في الحرب ومواجهة العدو بالسلاح وهذا يمثل جهاد الإنسان في مواجهة الشيطان والخطية.

 والعجيب
أننا نقرأ في الكتاب أنه “وكان إذا رفع موسى يده أن إسرائيل يغلب وإذا خفض
يده أن عماليق يغلب” (خر 17: 1). لابد إذن من اتحاد النعمة والجهاد للانتصار.

 

ثانياً:
الانتصار علي جليات:

 واضح
أيضاً من قصة داود النبي وانتصاره علي جليات، التحام عمل النعمة مع الجهاد:

1-        
النعمة:

 تتضح النعمة
من قول داود النبي “أنت تأتي إلي بسيف وبرمح وبترس وأنا آتي إليك باسم رب
الجنود..
هذا اليوم يحبسك الرب في يدي فأقتلك.. وتعلم هذه الجماعة كلها أنه
ليس بسيف وبرمح يخلص الرب لأن الحرب للرب وهو يدفعكم ليدنا”

(1صم45:
17-47).

 

 واضح
جداً عمل الله في كلام داود النبي أنه يحبس جليات ويدفع الفلسطينيين لأيدي شعب
الله.

2-         
الجهاد:

 يتضح
دور جهاد الإنسان في هذه الواقعة إذ يقول الكتاب ” ومد داود يده إلي الكنف
(الكيس) وأخذ منه حجراً ورماه بالمقلاع وضرب الفلسطيني في جبهته..” (1 صم 17:
49).

 فأخذ
الحجر ورميه بالمقلاع وضربه للفلسطيني كلها أعمال قام بها داود تشير إلي جهاد
الإنسان في الانتصار علي الشيطان.

 

ثالثاً:
إقامة لعازر:

في
معجزة إقامة لعازر (يوحنا 11) نرى أيضاً توافق عمل النعمة مع الجهاد:

1-
الجهاد:
“ارفعوا
الحجر” يشير إلي الجهاد لأنه عمل بشري.

 2-
النعمة:
“هلم خارجاً” هذا هو عمل الله أي نعمة الله. فلابد إذن من
التحام عمل النعمة مع عمل الإنسان في جهاد حتى يكمل العمل الروحي في خلاص الإنسان
وانتصاره علي الشيطان وعلي الموت.

 

الفصل الرابع

بعض أقوال الآباء عن التحام عمل النعمة والجهاد

1-
القديس مقاريوس الكبير:

“يحرث
الفلاح الأرض ثم ينتظر الندى والأمطار من فوق فإذا لم يأتي الماء من فوق يصير
الكرم بلا ثمرة ويصبح الكرام بلا مكسب من فلاحته” ويكمل ويقول “هكذا
أيضاً في الروحيات يجب أن يعمل ويجاهد كل إنسان بإرادة وعزيمة لأن الله
يطالب كل إنسان بكده واجتهاده وعمل يديه ولكن إذا لم تدركه نعمة الله من
فوق
ويشرف عليه سحاب جوده وتحننه يبقى بلا ثمرة من جهاده”.

2-
القديس مار اسحق السرياني:

“بقدر
ما يشقى الإنسان ويجاهد ويغصب نفسه من أجل الله هكذا معونة إلهية
تأتي إليه وتحيط به وتسهل عليه جهاده وتصلح الطريق قدامه”.

 وهناك
أقوال كثيرة للآباء القديسين ولكن لضيق المجال نكتفي بهذا القدر وكل من يريد اكثر
فليقرأ في أقوال الآباء وبستان الرهبان وسير القديسين فيجد الكثير والكثير جداً.

 

خاتمة

أختم
هذا الحديث ببعض مما قاله قداسة البابا المعظم الأنبا شنوده الثالث عن النعمة
والجهاد أيضاً في كتابه الشهير (الخلاص في المفهوم الأرثوذكسي).

يقول
قداسة البابا:

1-
“إن عمل النعمة داخلنا لا يعني أن ننام ونتكاسل عن واجباتنا”

2-
“إن وجود خاطي واحد في هذا العالم لم يتب إنما هو اكبر دليل للتأكيد علي أن
النعمة وحدها لا تفعل كل شيء بمفردها”

3-
“إن النعمة تعرض مساعدتها عليك وأنت لك الخيار فلك أن تقبل عملها أو أن
ترفضه”

4-
“إن النعمة سلاح مقدم لك تستطيع أن تحارب به وتنتصر إن أردت وتستطيع أيضاً أن
تهمله وتواجه الشيطان بنفسك وأنت غير مسلح وفي هذه الحالة سوف تهزم. وفي كلتا
الحالتين أنت حر في أن تحمل سلاحك بإرادتك وهذا لفائدتك إن استخدمت هذا السلاح
المقدم لك من أجل خلاصك الشخصي”.

بهذا
قد حاولت أن أقدم توضيحاً لمفهوم الكنيسة القبطية الأرثوذكسية عن النعمة والجهاد
والتوافق بينهما في هذه النظرة المتوازنة غير المتطرفة يميناً أو شمالاً.

الله
يعطينا نعمة حتى نجاهد جهاد الإيمان الحسن في مجال النعمة لننال خلاصاً لأنفسنا.
آمين.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى