علم المسيح

البذار في التربة: الأمثال



البذار في التربة: الأمثال

البذار في التربة:
الأمثال

لماذا
لا نقع جملى مثل هذه البساطة، وذاك الأسلوب البليغ البين، في جميع التعاليم
الإنجيلية؟ ففي الفترة التي عقبت، عن كثب، تاريخ خطبة الجبل، أي حوالي شهر تشرين
الثاني، سنة 28، عدل المسيح –على ما يبدو – عدولاً تاماً عن أسلوبه الأوّل، وطفق
يتكلم ” بأمثال “! لماذا؟.. إننا بإزاء معضلة شهيرة، لم تصادف، حتى
اليوم، على كثرة ما وقف لها من أبحاث، حلاّ مرضيأ من جميع جوانبه. فهناك من يذهب
إلى أنهَ لم يطرأ على طريقة يسوع الخطابية، تبدّل وبالمعنى الصحيح؟ وأنّ ”
المثل “، في مفهومه الواسع، توجد له نماذج في خطبة الجبل. من ذلك قول المسيح:
” أنتم ملح الأرض. لكن إذا فسد الملح فبماذا يرُدّ إليه طعمه؟ ” (متى5:
13). فالمؤمنون، إذا فترت عبادتهم، يشُبهون بالملح العتيق الذي تعرّض للهواء
والشمس طويلاً، ففقد ملوحته.. فذلك، توسعّا، ضربٌ من ضروب ” المثل “.
إلاّ أن هناك من المفسّرين من يعتقد – بالعكس – أن تبدّلاً مقصوداً قد طرأ على
طريقة المسيح في تعليمه. فلربما أقلق المسيحَ ما صادفه، منذ مطلع رسالته، من
مقاومات الفريسين وسعاَياتهم، فآثر الاستعانة بأساليب التورية، ريثما تحين الساعة،
فيعمد إلى أسلوب أوضح. إننا نجد في إنجيل متى (13: 10-17) شبه تعليل لذاك السرّ.
ولكن كم يبقى غامضا، ذاك التعليل، ومُثيراً للجدل! وذلك أن التلاميذ، إذ سمعوا
المعلّم يتكلّم بأمثال، استفسروه عن طريقة تعليمه هذه، فأجاب: ” قد أعطي لكم
أن تعرفوا أسرار ملكوت السماوات. وأمّا لأولئك، فلم يعط. فإن من له سيعطى ويزداد.
وأماّ من ليس له، فالذي عنده سيؤخذ منه.. لإن قلب هذا الشعب قد غلظ، وآذانهم قد
ثقل سماعها. وغمضوا عيونهم.. ولكن، طوبى لعيونكم لأنها تبصر، ولآذانكم لأنها تسمع!
“. عبارات غريبة، تكاد أن تبعث على الريبة والشكّ. وَلتُصبحُ أشدّ إحفاظاً وإثارة،
إذا قورنت بالآيات التي يومىء إليها المسيح، في سفر أشعيا النبي، حيث جاء: ”
اسمعوا سماعاً ولا تفهموا، وانظروا نظراً ولا تعرفوا. غلّط قلب هذا الشعب، وثقل
أذنيه، وأغمض عينيه، لئلاّ يبصر بعيونه، ويسمع بآذانه ويفهم بقلبه، ويرجع فيشفى!
” (أشعيا 6: 9- 10). ” لئلاّ! “: تعببر مخيف! ولكأنّ المسيح قد
تبنىّ ما استشهد به من آيات النبيّ! ولكن الواقع أن هذا التعبير، وهو من أساليب
البيان الشرقي، قد استعُمل هنا لا بمعنى الإنشاء، بل بمعنى الخبر [مفاد ذلك أن
النبي لا يأمر الشعب بالتصلب، بل يخبر بواقع ذاك التصلب]. أفيكون إذن أن المسيح قد
سئم

 

.
جحود الشعب المطيف به، فتركه لمصيره المشؤوم؟ كلا! بل إن تتمة الإنجيل تؤيد عكس
ذلك وتثبت أن رحمة الله اْوسع حلما مما يطيقه قلب الإنسا ن.

 

. ففي
هذه الأقوال الشديدة التي تنمّ على لوعة حبّ خائب، ما ينبغي أن نتبينّه قبل غيره،
إنما هو حكم شامل على وضع الإنسان، وما يكمن في إرادتنا وفي إخلاصنا من وَهن
عُضال. لقد علم المسيح حقّ العلم – وهو كاشف خفايا القلوب – أن أولئًك الذين
يهتفون اليوم بحياته، بسبب المعجزات التي بات يصنعها، سوف يرتدون عنه يوم تتحوّل
رسالته إلى مأساة. إن سرّ تصلّب إسرائيل – وقد جاء يوحناّ على ذكره، مستشهدأ بنفس
تلك الآيات من سفر أشعيا (يوحنا 12: 17- 40) – ليس أبعد غوراً من سرّ تصلّب
المسيحين الذين سوفُ تخفق الأقوال والآيات، عبر الأجيال، في استرجاعهم إلى اللّه!
فماذا يبقى إذن؟.. إن الأقداس إنما هي للقديسين! ” لا تعطوا القدس للكلاب،
ولا تطرحوا درركم قدام الخنازير ” (متى 7: 6). فليع كلامَ الله إذن من لهم
آذان لسماعه! فعندما يبدو المسيح كأنه يماطل ويتأنىّ في تبليغ الوحي كاملاً، ويعمل
على تقنيعه وتحويطه بالسرّ، فهو، بذلك، يتسلّف الحكم على الكنيسة، تلك الجماعة
البشرية الخاضعة، في كثر من ذاتها، لصروف الدهر وصغائر الحياة، والتي لا تنفك، مع
ذلك، حاملة في جوهرها (بوجه خفيّ)، وفي بعض أعضائها، (بوجه ظاهر) المواهب الكبرى
التي تصوغ القديّسين

 

.
هذا، وإنه من العبث، نوعاً ما، أن نتمحّل في تحديد مفهوم ” المثل “،
بالاستناد إلى التصنيفات المدرسيةّ المألوفة عند اليونان. فإن كانت هذه اللفظة
باللغة اليونانية (
IIarobolh)، وهي
مشتقة من فعل (
IIarabollw = قذف،
ألقى) تعني “التشبيه “، وتتميزّ، من ثمّ، عن ” الأحجيةّ ”
و” الرمز ” و” الاستعارة “، فإن لفظة ” مثل “، في
العبرية، هي أشد إغراقاً في الإبهام والإشكال. والدليل على ذلك، أن يوحنا يستعمل
لفظة يونانية أخرى (
IIaramia) أي:
حكمة. فكل قول مأثور، مثل ” أيها الطبيب اشف نفسك! “، وكل خبر يستهدف
درساً، مثل قصة ” لعازر والغنى “، كَل ذلك يدخل في نطاق ” المثل
“، كما تدخل فيه، على حدّ سواء، الأمثال الإنجيلية الكبرى، “كالزارع
” و” الابن الضال “. وكان هذا الأسلوب شائعا جداً عند اليهود،
يعمدون إليه ليس فقط كلون من ألوان البديع، بل كأبلغ وسيلة من وسائل الإقناع.
فاللغة العبرية مقتضبة منمّقة. ولكنّها تعيا في التعبرً عن المجرّدات والحقائق
العُليا، فتعمد، إذ ذاك، إلى الصور والرموز والتشابيه. ” فالمثل ” إنما
هو تلك الطريقة في التزام وجه أو وضع من أوضاغ الحياة الواقعية، بحيث يتناوله
العقل والمخيلة، فيصبح، في نظرهما، نموذجاً، أو يثير مشكلة. وما القصص الإنجيلى،
بصيغته المقتضبة، ورونقه الخيالي، والعبرة التي تشُتقّ منه، سوى لون من ألوان
“المثل ” العبراني. وكان معروفاً عند الرابيين، وقد ورد منه في التلمود
مئات. هذا، ولا بد من الإشارة إلى أن الفكرة الساميّة بعيدة كل البعد عن أنماط
الفكر الإغريقي، وأنها لم تكن لتفرض على ذاك اللون القصصي ما يتوخّاه أهل الغرب من
دقّة منطقية وتشدّد منهجي

 

. تلك
الأمثال الإنجيلية، في صيغتها الراهنة، هي من عيون الأدب. وقد أصاب رينان عندما
ذهب إلى أنها ” أشبه بروائع النحت الإغريقي، حيث الكمال ملموس ومستحبّ!
“. ونحن نقع عليها في جميع مرإحل الإنجيل وحتى إلأيام الأخيرة، من حياة
المسيح. وإن بعضا منها، – كمثل الزارع، ومثل الزؤان،،العذارى الحكيمات والجاهلات،
والابن الضال، والسامري الصالح – قد اندمج في ذاكرتنا اندماجاً بات معه جزءأ لا
يتجزّأ من جوهر التراث المسيحي. وتتميزّ كلهّا بطابع واحد من البساطة في الأداء
والواقعية السليمة، تجللّهما صبغة شعرية خالصة، من معدن تلك التي لا تستوحى روعتها
إلاّ من طاقات القلب

 

.
ونجد عدداً من تلك الأمثال قد أدرج عمداً في مواضع معينّة من الأناجل المؤتلفة، في
شبه مجموعات متماسكة (لوقا 8؛ مرقس 4؛ متى 13) [وأما إنجيل يوحنا فلا نجد فيه
أثراً لهذا اللون من الأدب التهذيبي]. وتنتظم هذه المجموعات حول موضوع واحد: هو
ملكوت الله. وقد شبهّه يسوع بالبذار يلقيه الزارع في حقله، فما يتأصّل منه إلاّ ما
وقع في الأرض الطيبّة؛ أو بالحقل يبذر فيه صاحبه بذاراً جيدّأ، فيأتي عدوه ليلاً،
ويزرع بين الحنطة زؤاناً؛ أو بحبةّ الخردل (وهي أصغر الحبوب جميعاً) تصبح شجرة
فتستظل. بها الطيور؛ أو بالخمير يخمر العجين كله؛ أو بالشبكة تلقى في البحر فيزدحم
فيها السمك: من جيّدُ يحتفظ به، وقبيح ُيهمل؛ أو باللؤلؤة الحسنة، يبُذَلُ كلّ شيء
في سبيل اقتنائها؛ أو بالكنز المدسوس في التراب، يملأ قلب واجده اغتباطاً.. ولا شك
أن هناك تسَلَسْلاًً مقصوداً في سياق تلك الأمثال. فالمسيح قد أراد أوّلاً وصف
ملكوت السماوات، في مرحلته التأسيسية، بالزرع الذي يبُذرُ في التراب، ثم ينمو من
تلقاء ذاته؛ وأمّا الخردل والخميرة فإنما يرمزان إلى مرحلة التطوّر والنشوء.
ويشيُر الكنز واللؤلؤة إلى أهمية الملكوت. ويوحي الزؤان والشبكة بضرورة الاختيار
ووعورته. أجل! قد لا يصيب المنطق غرضه في مثل هذه التشابيه!.. ولكن من بوسعه أن
ينكر عليها بلاغتها ووقعها في أغوار قلبنا الإنساني

 

.
” يشبه ملكوت السوات إنساناً زرع زرعاً جيداً في حقله، وفيما الناس نيام، جاء
عدوه، وزرع زواناً في وسط الحنطة ومضى. فلما طلع النبات وصنع ثمراً، حينئذ ظهر
الزوان ايضاً. فجاء عبيد رب البيت وقالوا له: يا سيد، أليس زرعاً جيداً زرعت في
حقلك، فمن أين له الزوان؟. فقال لهم: إنساناً، عدو، فعل هذا. فقال له العبيد:
أتريد ان نذهب ونجمعه. فقال: لا، لئلا تقلعوا الحنطة مع الزوان، وأنتم تجمعونه.
دعوهما ينميان كلاهما معاً إلى الحصاد، وفي وقت الحصاد أقول للحصادين، أجمعوا
أولاً الزوان، واحزموه ن حزماً ليحرق، وأما الحنطة، فاجمعوها إلى مخزني! ”
(متى 13: 24 – 30)

 

. ما
أروعه، في خطوطه الصافية، هذا المثل الذي نقله البشير متى في أسلوب بارع! وكم كان
ينبغي أن يجيدوا فهم تعابيره، أولئك الفلاحون الجليليون، وكل شئ فيه ناطق بلغتهم،
نابض باختبارات حياتهم. فذاك الحقل المفلوح فلاحة جيدة، ذاك البذار الطيب الملقي
في التراب، ذاك الزوان الذي قلما يتميز عن الحنطة في الفترات الأولى من نموه، ولا
يعرف إلا بحباته المرة السوداء السامة. (وكانوا يظنون أنها تصيب الدماغ، وتولد فيه
الميول الرديئة)؛ ذاك الحصاد الذي يروزه ربه بنظرة، فيكمد إذا كانت الحبة ”
وسخة ” – كما يقول الفلاحون – والأعشاب الرديئة مستفحلة.. أي وقع ن وقع هذا
المثل الذي ترتسم لنا، من خلاله، صورة الحصاد الأخير، ساعة يأتي الديان ليدين
الناس، ويتلف الزوان. وكم يبلغ، في النفس، مدى تأثيره، إذ يكشف لنا عن مصادر الشر
الدفينة ويثبت لنا ما نعهده من اختبارنا اليومي، من أن البذار الجيد لا يلفى وحده
على وجه الأرض، وأن العدو سرعان ما يقذف بينه بذار الخطية.. إن فن المثل هذا منصرف
كل الإنصراف عن الزخرف الأدبي، ومع ذلك فهو قمة من قمم البراعة!.. وليس هناك من
” رابي ” – ممن عالجوا هذا اللون الأدبي -، بل ليس هناك من رسول – وقد
أقلعوا كلهم عن مجاراة المعلم في هذا المضمار – قد وفق إلى إصابة تلك الروعة
المعجزة، وذاك الكمال العفوي

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى