علم المسيح

الجزء الثاني



الجزء الثاني

الجزء الثاني

منهج الخدمة
عند المسيح من واقع الإنجيل

[بعد
أن أكمل ردع الشيطان على الجبل جهاراً،

نزل
ليردعه في الناس نهاراً.]
(بابيني)([1])

مقالات ذات صلة

سنقدِّم
تحت هذا البند ستة وثلاثين اتجاهاً كانت أساساً لخدمة المسيح

1-
الفكر والمشيئة والفعل هم واحد عند المسيح

الفكر
لا يسع الأعمال العظيمة دفعة واحدة، بل الأعمال العظيمة هي التي تُلهم الفكر.
فالفكر خادم الإلهام.

ولكن
في المسيح كان الإلهام والفكر شيئاً واحداً، لأن الفكر في المسيح إن حسبناه في
دائرة البَشري أو الإلهي فهو واحد، وهذا ما يميِّز المسيح عن كل نبي أو عالم، لأن
طبيعة المسيح موحَّدة الأصل والمنبع، لها كل ما للإنسان وكل ما لله بآن واحد.

فكل
ما شاءه المسيح وفكَّر فيه عمله، وكان عمله مطابقاً لمشيئته وفكره، لأن الكلمة
والفعل في المسيح هما واحد.

ولكن
المسيح لم يكن آلة في يد الله كمجرَّد إنسان أو نبي، بل كان كيانه منفتحاً على
الله؛ إذ كان في الآب والآب فيه، فكان الفكر والمشيئة أو الكلمة والفعل مصدرهما
واحد الله والمسيح.
لذلك كانت كلمة المسيح نافذة في الحال. وكل ما قال عمل.
وكان القول الذي يقوله يستعلنه هو نفسه، أي أن القول يستعلن المسيح، وكذلك الفعل
يستعلنه مَنْ هو: “إن كنت لست أعمل أعمال أبي فلا تؤمنوا بي. ولكن إن كنت
أعمل فإن لم تؤمنوا بي فآمنوا بالأعمال” (يو 37: 10و38). بمعنى إن لم تؤمنوا
بأقوالي آمنوا بأعمالي، فهذه وتلك هما من الله.

2- أساس عمل
المسيح هو إعداد الملكوت الذي يتَّسع لكل العالم

إن
أول إعلان قدَّمه المسيح ليتصدَّر العمل في العهد الجديد كان هو الإعلان عن اقتراب
ملكوت الله: ” من ذلك الزمان ابتدأ يسوع يكرز ويقول: توبوا لأنه قد اقترب
ملكوت السموات”
(مت 17: 4). بمعنى أن المسيح قد جاء ليؤسِّس ملكوت
الله بين الناس، لا كأنه عمل بلا أساس أو دون مقدِّمة كاملة الصورة! فالعهد القديم
تأسَّس كعمل خاص ليهوه الله العظيم، وكان يبدو وكأنه خاص باليهود، لكنه شمل في
مفاهيمه وأسراره احتياجات البشرية كافة، وإن كان تطبيقه على هذا الشعب القليل قد
كشف مستوى افتقاد الله للإنسان كعيِّنة.

إذن،
فملكوت الله الذي جاء المسيح ليعلنه كان قد وُضع أساسه في العهد القديم على مستوى
كيفية افتقاد الله للإنسان. هذا إذا أدركناه جيداً فإنه يوفِّر علينا السؤال عن
منهج المسيح وخطته في الكشف عن ملكوت الله وعمله، الذي ابتدأ به بالقول والعمل.

على
أن الفارق الكبير الذي يمتاز به ملكوت الله
الذي جاء المسيح ليستعلنه أنه بقدر ما كان القديم منظوراً في شكله
الظاهري ومنحصراً في شعب اليهود القليل المحدود الفكر والرؤيا، قد جاء المسيح
ينادي بملكوت يتَّسع للعالم كله في شركة إنسانية غير منحصرة في لون أو جنس. فهي
ترتفع عن مستوى البشر عامة لتأخذ صفتها ووجودها في الله ذاته، الذي فيه تأخذ
وحدتها السرِّية الكبرى لحياة هي النموذج الأمثل لإنسان الله الذي يليق لكل البشر.
فعِوَض أنْ كان الله يحكم إسرائيل بحكومة تتناسب مع بداءة الإنسان وتهذيبه
إنسانياً، جاء المسيح لينادي بملكوت الله للإنسان الكامل المؤيَّد بالنعمة
والمسنود بالروح القدس.

وبدل
أن كانت قوانين الحكومة الأُولى
الناموس تعالج كافة متعلقات الإنسان الجسدية من
نحو حياته على الأرض وعلاقته بالله بواسطة أشخاص تعيَّنوا من الله، يأخذون إلهامهم
الأوَّلي من الله سواء كانوا أنبياء أو كهنة أو ملوكاً؛ جاء ملكوت الله الذي نادى
به المسيح ليقرِّب الإنسان إلى الله. الأول كان يعالج عنصر الخطية المتأصِّل في
الطبيعة البشرية المتغربة عن الله، أمَّا الثاني فجاء لينزع هذا العنصر
عنصر الخطية من الطبيعة البشرية التي وُلد بها
المسيح بدون الخطية. فكانت طبيعة المسيح بالتالي هي التي تؤخذ منها مكوِّنات هذا
الملكوت الروحي: “تعلَّموا مني..” (مت 29: 11). ولهذا الأمر
بالذات، أي الاقتداء بالمسيح في الإعداد للملكوت، صار استعلان الله في تعاليم
المسيح يُقرِّب الإنسان أكثر فأكثر نحو الله! فأصبح نداء المسيح وعمله باقتراب
ملكوت الله من الإنسان هو بعينه الوسيلة العظمى لاقتراب الإنسان من الله. وهو
المحور الأساسي في الكرازة بملكوت الله. لا لشعب إسرائيل بعد بل لكل العالم!

 

3- معنى
ملكوت الله وعلاقة الملكوت بالخلاص

معنى
الملكوت منذ القِدَم هو “حكم الله كملك”. فالملكوت هو العلاقة الأبدية
التي تربط الله بالإنسان. ولا مجال للسؤال هنا هل هي علاقة في الحاضر أو المستقبل؟
بسبب عدم صحة السؤال هل أبوَّة الله هي في الحاضر أو في المستقبل؟ فالعلاقة بين
الله والإنسان تسمو فوق الإحساس بالزمن والمكان، أي أنها علاقة مطلقة أبدية. فهي
تقوم من قِبَل الله بالمحبة الأبوية وتقوم مع الإنسان بالخضوع البنوي. فقبول الله
على هذا الوضع هو بعينه قبول ملكوت الله. وهكذا لحظة أن يقبل الإنسان الله كآب يحبّه ويرعاه؛ يكون ملكوت السموات
قد تحقَّق له كحقيقة حاضرة معه وله. وبهذا يكون استعلان ملكوت الله في الحاضر يعني
وجود مؤمنين خاضعين لله من كل قلوبهم
وطائعين
لمحبته يعيشونه. أمَّا في نهاية الزمان حينما يبلغ الملكوت مِلأه، حينما
يأتي المسيح ويُستعلن المجد النهائي، فهذا هو ملكوت المستقبل الذي يترجّونه.
فالملكوت هو حقيقة قائمة فوق الزمان والمكان، وحقيقة معاشة في الحاضر الزمني،
وحقيقة نرجوها في المستقبل، برجاء قوي صادق كما وصفها بولس الرسول:

+
“وبعد ذلك النهاية، متى سلَّم (المسيح) المُلك (الملكوت) لله الآب، متى أبطل
كل رياسة وكل سلطان وكل قوة. لأنه يجب أن يَمْلِكَ (الملكوت الآن في الحاضر) حتى
يضع جميع الأعداء تحت قدميه. آخر عدوٍّ يُبطَلُ هو الموت. لأنه أخضع كل شيء تحت
قدميه.. ومتى أُخضع له الكل، فحينئذ الابن نفسه أيضاً سيخضع للذي أخضع له الكل، كي
يكون الله الكل في الكل.” (1كو 15: 2428)

واضح
غاية الوضوح التفريق بين الملكوت كحقيقة واقعة حاضرة معلنة في حياة الناس الآن،
وبينه في النهاية العامة التي بها يبلغ المُلك النهاية على الأرض في الحاضر الزمني
ويُستعلن الدهر الآخر، حيث الملكوت يدخل الأبدية تحت مُلك الله ليكون بالنهاية
الله الكل في الكل. فالملكوت في الحاضر الآن هو ملكوت يسوع المسيح الذي يتحتَّم أن
يملك ويحكم حتى يضع جميع أعدائه تحت قدميه، ثم يأتي المنتهى حينما يزول آخر عدو
ويُخْضَع، وهو “الموت” الذي يتلاشى بالظهور الإلهي المجيد، ويقوم الجميع
في قيامة واحدة، أي الذين هم للمسيح يسوع. حينئذ يسلِّم المسيح ملكوته المتكامل
لله أبيه مصدر كل قوة وسلطان ومجد، الذي تبلغ به النصرة منتهاها.

ولكن
مفهوم الملكوت بالنسبة للإنسان المسيحي، المنحصر في العلاقة بين المسيح وبينه، لا
يخرج عن مفهوم الخلاص. فالمسيح نفسه بحسب اسم يسوع الذي تسمَّى من الملاك ليوسف هو
“الخلاص”، وسمعان الشيخ لمَّا حمله على يديه عندما دخل به أبواه الهيكل
قال: “الآن تطلق عبدك يا سيد حسب قولك بسلام، لأن عينيَّ قد أبصرتا
خلاصك” (لو 2: 29و30). فترجمة ملكوت الله بلغة العلاقة الشخصية مع المسيح هو
الخلاص والفداء، الذي هو عمل المسيح، وهو حادث الآن ولكن لن يكمل إلاَّ بالنهاية.
فالخلاص هو الصورة الزمنية المصغَّرة للملكوت.

4- إخفاء
المسيح لمسيَّانيته كان أمراً هاماً في رسالته

المسيح
كان يعي مسيَّانيته منذ بدء نزوله للخدمة حتى ختامها، ولكن لم يكن إعلانه عنها في
البدء كما كان في الختام. إذ كان حذراً أشد الحذر في بداية خدمته
بعد أن كشف عن سلطانه الفائق على
الشيطان والأمراض بكل أنواعها وعلى الطبيعة
أن يكتشف الناس أنه مسيَّا الآتي.
والسبب في ذلك لم يكن في شيء ينقصه؛ بل للتعاليم الخاطئة التي سَرَتْ بين الشعب
بكل فئاته أن المسيَّا الآتي سيكون على مستوى السياسة: ملك مُحارب، وعلى مستوى
الخلاص يخلِّص الشعب من عبوديته تحت أيدي الرومان. حيث فُهمت الآيات في النبوَّات
والمزامير فهماً خاطئاً يتناسب مع عقلية الشعب وتصوُّراته، فالمسيَّا “سيضرب
الأُمم بعصا من حديد”، “تحطِّمهم بقضيب من حديد مثل إناء خزَّاف
تُكسِّرهم” (مز 9: 2)، “أَفِضْ رجزك على الأُمم الذين لا يعرفونك وعلى
الممالك التي لم تدعُ باسمك.” (مز 6: 79)

لذلك
حرص المسيح أشد الحرص أن لا يفهم الشعب أنه المسيَّا الآتي للحرب والسياسة والخلاص
من أيدي الرومان والأعداء. فكان يوعِّي تلاميذه أن لا يقولوا إنه المسيَّا، وأيضاً
المرضى وكل الذين أخرج منهم الشياطين أمرهم أن لا يقولوا لأحد. والشياطين التي
كانت تعترف أنه ابن الله وأنه جاء ليعذِّبهم كان ينتهرهم حتى لا يتكلَّموا. كل ذلك
كان بقصد أساسي أن لا يخطئ الشعب في فهم مسيَّانيته. ولكن عدا ذلك كان يقولها
صراحة أنه ابن الله وأنه جاء ليخلِّص من الخطية والعدو الحقيقي وهو الشيطان.
ولمَّا سأل المسيح تلاميذه ماذا يقولون عنه: مَنْ هو، واعترف بطرس أنه المسيح ابن
الله الحي، تهلَّل المسيح بالروح وعلَّق على ذلك بأن الآب نفسه
وليس لحم ولا دم هو الذي أعلن له هذا. وبعدها ابتدأ
المسيح يُعلن عن آلامه المزمعة وموته وقيامته.

بمعنى
أن المسيح كان يتمشَّى في إعلانه عن نفسه بالقدر الذي يتساوى مع إمكانية التلاميذ
والشعب في إدراك مسيَّانيته الإدراك الحقيقي والصحيح.

أمَّا في أواخر خدمته للملكوت فابتدأ يُعلن صراحة سواء
بأقواله أو بأعماله
أنه هو مسيَّا الآتي. كما أعلن ذلك صراحة ومواجهة لرؤساء الكهنة:
“فأجاب رئيس الكهنة وقال له: أستحلفك بالله الحي أن تقول لنا هل أنت المسيح ابن
الله؟ قال له يسوع أنت قلت، وأيضاً أقول لكم: من الآن تبصرون ابن الإنسان جالساً
عن يمين القوة وآتياً على سحاب السماء.” (مت 26: 63و64)

أمَّا الشعب فقد استخدم معهم التعليم المتدرِّج والتعبيرات
المخفية، مثل: ابن الإنسان، وهو الاصطلاح النبوي الذي تكلَّم عنه دانيال أنه هو
مسيَّا الآتي، صاحب الملكوت والمملكة الآتية، ذلك حسب التقليد. وبالرغم من ذلك لم
يستطع أن يمنع الشعب
الذي أطعمه من الخمس خبزات والسمكات القليلة من أن يكتشف أنه هو
المسيَّا الملك الآتي إنما بمفهوم الخلاص المادي والحربي ومُعطي خبز الراحة. فقاموا
قومة واحدة وانضم لهم التلاميذ ليمسكوه عنوة ويجعلوه ملكاً، مما جعل المسيح يُلزم
تلاميذه بركوب السفينة في الحال وبأن ينطلقوا عبر البحيرة. واستطاع بسلطانه أن
يهدِّئ هذه الزوبعة وانطلق وحده في الجبل ليُصلِّي، إذ كانت هذه تجربة قد ساقها
العدو ليفسد عليه استعلان ملكوته الروحي.

لذلك
ولا محالة قد خسرنا كثيراً جداً من إمكانيات استعلان المسيح لنفسه على المكشوف
أثناء تعليمه وخدمته. أمَّا هو في ذاته فكان إحساسه بمسيَّانيته وببنوَّته لله
أمراً واضحاً شديد الإشعاع، مع تواضع ووداعة فائقة التصوُّر. اسمعه وهو يتكلَّم عن
نفسه: “فالذي قدَّسه الآب وأرسله إلى العالم، أتقولون له: إنك تجدِّف،
لأني قلت إني ابن الله!” (يو 36: 10). ثم اسمع تواضعه العجيب في
احتجاج لطيف: “قال لهم يسوع: لو كنتم أولاد إبراهيم لكنتم تعملون أعمال
إبراهيم. ولكنكم الآن تطلبون أن تقتلوني
وأنا إنسان قد كلَّمكم بالحق الذي سمعه من الله، هذا
لم يعمله إبراهيم” (يو 8: 39و40).
فمن هذين التصريحين نتيقَّن كيف كان يحمل الإحساس المتعاظم جداً بلاهوته والمتواضع
جداً ببشريته!! فلما أرادوا إحراجه أن يكشف عن نفسه علانية، زادها خفاءً دون أن
يُنقص من حقيقة نفسه: “فاحتاط به اليهود وقالوا له: إلى متى تعلِّق أنفسنا؟
إن كنت أنت المسيح فقل لنا جهراً. أجابهم يسوع:
إني قلت لكم ولستم تؤمنون. الأعمال التي أعملها باسم أبي هي تشهد لي” (يو

10: 24و25). إلى هذا الحد كان حريصاً جداً أن يترك لهم هم أن يقولوا: مَنْ هو؟
وكانوا متحيِّرين ومنقسمين بسبب تدخُّل الفرِّيسيين في التقليل من تعاليم المسيح
ومعجزاته: “وها هو يتكلَّم جهاراً ولا
يقولون له شيئاً! ألعلَّ الرؤساء عرفوا يقيناً أن هذا هو المسيح حقا؟” (يو

26: 7)

 

5- حركة الامتداد بالملكوت على أساس وجود المسيح الذاتي وتعليمه

لقد
ابتدأ المسيح بضرورة التوبة لأن ملكوت السموات قد اقترب، ولم يكن في الحقيقة يقصد
إلاَّ نفسه. فالملكوت اقترب باقتراب صاحبه ومُعلنه. ليس بتجسُّده فقط بل وبكرازته.
أمَّا التوبة عند المعمدان فكانت بمعنى الرجوع من البُعد عن الله وعبادة الأصنام
بأشكالها إلى عبادة الله كما هي معلنة لهم في الناموس؛ وأمَّا مناداة المسيح
بالتوبة فهي على أساس العودة بالقلب إلى الله بالإيمان بشخصه: “أنا هو الطريق
والحق والحياة، ليس أحد يأتي إلى الآب إلاَّ بي.” (يو 6: 14)

فإن
كان الملكوت قد اقترب إليهم بدخول المسيح في الخدمة والتعليم، أي على أساس
استعلان ذاته أنه ابن الله، فالملكوت امتد أول امتداده واضحاً ومشهوداً له بإخراجه
الشياطين عنوة بكلمة واحدة آمرة ناهرة: “ما هذا؟ ما هو هذا التعليم الجديد.
لأنه بسلطان يأمر حتى الأرواح النجسة فتطيعه” (مر 27: 1). لذلك صرَّح بإعلانه
الثاني عن الملكوت أنه قد “أقبل إليهم”: ” ولكن إن كنت أنا بروح
الله أُخرج الشياطين فقد أقبل عليكم ملكوت الله”
(مت 28: 12). وهنا
الإقبال بالنسبة للملكوت يعني رفع أكبر عائق كان يحجزه عن الشعب المكبَّل تحت
سلطان الشيطان، سواء في الجسد بالأمراض والاستحواذ، أو بالفكر في الضلالات وتلويث
العبادة. على أن رفع هذه العوائق كلها كانت
بمجيء المسيح أو إقباله على الشعب بالخدمة
والكرازة.

فهكذا
بقدر ما كانت أعمال المسيح تتقدَّم في الارتقاء بالشعب من الظلمة
بكافة أركانها الفكرية والنفسية
والجسدية والروحية
إلى نور الحق والحرية والحياة؛
بقدر ما كان استعلان المسيح لنفسه كابن الله وقبول الشعب الإيمان به وامتداد
الملكوت، كان يزداد.

 

6- نقل الملكوت من وضعه الخاص لإسرائيل إلى وضعه العام لجميع الأُمم

ظهرت
هذه الحقيقة كبذرة صغيرة في لحظة دخول المسيح الهيكل وهو طفل على ذراعي أُمه،
حينما حمله سمعان البار الذي أُوحي إليه بالروح القدس أن يتقدَّم وترى عيناه خلاص
الله. فلمَّا حمله قال نبوَّته: “لأن عينيَّ قد أبصرتا خلاصك الذي أعددته
قدَّام وجه جميع الشعوب، نور إعلان للأُمم
ومجداً لشعبك إسرائيل.” (لو 2:
3032)

كانت
بداية الإعلان عن ملكوت الله أنه الخاص جداً بخراف إسرائيل الضالة. فقد صرَّح
المسيح للمرأة الكنعانية بوضوح عندما ألحَّت عليه أن يرحمها، هكذا: “لم
أُرسَل إلاَّ إلى خراف بيت إسرائيل الضالة” (مت 24: 15). بل وحينما أرسل
تلاميذه للخدمة أوصاهم قائلاً: “إلى طريق أُمم لا تمضوا وإلى مدينة للسامريين
لا تدخلوا. بل اذهبوا بالحري إلى خراف بيت إسرائيل الضالة” (مت 10:
5و6). هذا يشكِّل لنا بحسب الظن بداية منهج الخلاص والملكوت. وهذا بالتالي يكشف
لنا بحسب هذا الظن أنها كانت أيضاً هي أصل رسالة الآب للمسيح في عملها الأول:
“لم أُرْسَل إلاَّ إلى خراف بيت إسرائيل الضالة” وكان رجاء البشرية أن
يقبل اليهود هذه الرسالة المخصَّصة لهم كأُمة كانت محبوبة ومختارة، وعليهم وبهم
يكمل المنهج كما كُنَّا نظن: أن تقوم
إسرائيل المجدَّدة بدور المسيح لتكون نوراً للعالم. هذا هو الذي كنَّا نفهمه من
النبوَّات بخصوص المسيح أنه “مجد إسرائيل”، “ونور للأُمم”.
فالمجد إذا كَمُل وتجلَّى في إسرائيل صار نوراً للأُمم بالضرورة. لأن قيام أُمة
مستنيرة بالله ومدفوعة بالنعمة وقوة الخلاص لتبشير العالم أسهل من كرازة واحد. هذا
كان في ظن الإنسان، بل إن ما أبداه المسيح من نحو إسرائيل لآخر لحظة كان لتكميل هذا
الأمل.

ونحن
لا يمكن أن ننسى البداية المشرقة التي أعلنها المسيح بنفسه عن نفسه
كما حكى إشعياء النبي منذ سبعمائة سنة وهو يقرأ نبوَّته في مجمع الناصرة حيث
تربَّى، مؤكِّداً للشعب أنه اليوم قد تمَّت النبوَّات وانفتح على إسرائيل باب
مراحم الله لعهد جديد، عهد رحمة وشفاء مجَّاني وسنة مقبولة للرب. واختتم النبوَّة
الطويلة بروح مبتهجة وبكل أملٍ ورجاء:

+
“فدُفع إليه سفر إشعياء النبي. ولمَّا فَتَحَ السفر وجد الموضع الذي كان
مكتوباً فيه: روح الرب عليَّ، لأنه مسحني لأُبشِّر المساكين، أرسلني لأشفي
المنكسري القلوب، لأُنادي للمأسورين بالإطلاق والعمي بالبصر، وأُرسل المنسحقين في
الحريَّة وأكرز بسَنَةِ الرب المقبولة. ثم طوى السفر وسلَّمه للخادم وجلس. وجميع
الذين في المجمع كانت عيونهم شاخصة إليه. فابتدأ يقول لهم: إنه اليوم قد تمَّ هذا
المكتوب في مسامعكم.” (لو 4: 1721)

ولقد
استجمع المسيح كل ما يمكن أن يستوعبه ملكوت الله من صفات وأعمال وشحنها شحناً في
عظته الخالدة على الجبل، كمن يلقي خطاب العرش، ويستعرض مناهج خدمته وتعليمه التي
بذل فيها كل ما يملك من وسائل تعليم وآيات ومعجزات. بل ورأى أن تجديد الأُمة وشيك
إن انفتحت آذانهم وعيونهم، فخاطب تلاميذه واعداً: “أنتم الذين تبعتموني في
التجديد متى جلس ابن الإنسان على كرسي مجده تجلسون أنتم أيضاً..” (مت 28:
19). ولكن واحسرتاه، منهج التجديد أُكمل حتى
الغاية والنهاية، ولكن رفضته إسرائيل بإصرار وحكمت على نفسها بالحرمان منه
لتتلقَّفه
الأُمم.

7- رفض
إسرائيل للملكوت هو الذي نقله للأُمم

لمَّا
رفضت إسرائيل الملكوت نهائياً بكى عليها المسيح وهو في موكبه كملك يطلب مُلْكَه،
عندما دخل أبوابها راكباً على جحش رمز اتضاعه، وتلاميذه والجموع من أمامه وخلفه
تصرخ له: “مبارك الآتي باسم الرب! مباركة مملكة أبينا داود الآتية باسم
الرب!” (مر 11: 9و10). ولكنه رثاها وهو يبكي عليها وكأنه يعاتبها: “كم
مرَّة أردت أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها ولم تريدوا”
(مت 37: 23)، “وفيما هو يقترب نظر إلى المدينة وبكى عليها قائلاً: إنكِ لو
علمتِ أنتِ أيضاً حتى في يومكِ هذا ما هو لسلامكِ ولكن الآن قد أُخفي عن
عينيكِ” (لو 19: 41و42). فالمسيح ظلَّ يرجو لهم ملكوت الله إلى آخر لحظة، وفي
آخر يوم من خدمته أدرك مصير الأُمة، فواجه اليهود بمثله عن الكرَّامين الأردياء،
الذي اختتمه بسؤال حرج جعلهم هم الذين ينطقون بما ينبغي أن تكون العقوبة:
“فأخذوه وأخرجوه (ابن صاحب الكرم) خارج الكرم وقتلوه. فمتى جاء صاحب الكرم،
ماذا يفعل بأولئك الكرَّامين؟ قالوا له: أُولئك الأردياء يُهلكهم هلاكاً رديًّا،
ويُسلِّم الكرم إلى كرَّامين آخرين يعطونه الأثمار في أوقاتها” (مت 21: 3941).
فكان تعقيب المسيح على حكمهم هذا: “لذلك أقول لكم: إن ملكوت الله يُنزع
منكم ويُعطى لأُمة تصنع أثماره.
” (مت 43: 21)

 

8- العقبات
والمصادمات

كانت تدفع
المسيح أكثر للخدمة وتكميل الرسالة

لم
يكن المسيح متغاضياً أو مستهيناً بحركات المقاومة التي بدت مبكِّرة، ولا المصادمات
المتوالية مع الكتبة والفريسيين، أو أنه قد غاب عنه إدراك مدى الضعف في روح الشعب
وقدرة الكتبة والفرِّيسيين ورؤساء الكهنة في السيطرة عليه والاستحواذ على صوته
وضميره. ولكن كل هذه العقبات والعثرات والعداوات لم تقلل من سرعة اندفاعه في
الكرازة والخدمة ومن مستوى استعلانه لنفسه وللملكوت، ولكنه التجأ أخيراً إلى أسلوب
الأمثلة التي أخفى فيها سر ملكوت الله حتى لا يستعلنه إلاَّ للذين أُعطي لهم. لأن
رؤيته للمخدومين ارتفعت لتشمل الآتين من بعيد، كل صنوف الأُمم مع الأخصاء من
التلاميذ والخواص المختارين من رجال ونساء انفتحت عيونهم واستوعبوا التعليم
وترجُّوا الآتي. فلم يؤثِّر تقهقر الكتبة والفرِّيسيين والرؤساء وكثير من الشعب
وحتى التلاميذ على امتداد وعمق الاستعلان لشخصه وللملكوت. فالمنهج ظلَّ بقوته
وعمقه واندفاعه للنهاية، لأنه وُضع أصلاً للإنسان الذي يطلب وجه الله. فلمَّا
استعفت إسرائيل، صار الذي كان لها بالكامل للآخرين وأزيد، وخرجت هي من الملكوت
مأسوفاً عليها!

وبعد
أن انجلى كل شيء وأكملت إسرائيل جريمتها، وقام المسيح من بين الأموات، طرح المسيح
مشروعه الضخم على أكتاف التلاميذ ليكرزوا به هو نفسه إلى كل العالم: “دُفع
إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض. فاذهبوا وتَلْمِذُوا جميع الأُمم وعمِّدوهم
باسم الآب والابن والروح القدس. وعلِّموهم أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به.”
(مت 28: 19و20)

ولكن
لا ينبغي أن نقلِّل من أهمية كرازة المسيح لإسرائيل، لأن إسرائيل لم تعدم أبناءً
فيها آمنوا وقبلوا المسيَّا وانفتحت عيونهم وقلوبهم ليفهموا المكتوب في الأسفار
ويمسكوا بالمسيح والخلاص والملكوت ويصيروا كما أراد الله تماماً: “نوراً
للعالم”، ويكرزوا لجميع الأُمم وإلى أقصى الأرض كمطلب المسيح.

كذلك
فإن كرازة المسيح لإسرائيل بكل ظروف هذه الكرازة من عنت ومصادرة من كل فئات المتعلِّمين
والرؤساء، أعطت لنا أعمق التعاليم عمَّا يميِّز وصايا الملكوت عن وصايا التوراة
والناموس ونواحي الضعف في العهد القديم. علماً بأن المسيح كان ينطلق في تعليمه عن
الملكوت من العهد القديم كأساس ليبني فوقه متطلبات الملكوت اللائقة به في العهد
الجديد. فلولا الأساس، أي كرازة المسيح عن أصول التوراة والناموس، ما بلغنا إلى
الصورة الكاملة للملكوت في العهد الجديد.

وكان
القليلون الذين يسمعون لصوت الابن ويجتذبهم الآب ليتبعوا المسيح، نقطاً مضيئة
وعلامات واضحة في خدمة الملكوت، كشهادة صلاحية للإنسان الذي يعي الكلام ويؤمن.
أمَّا الذين انتحوا ناحية الرفض فكانوا ومازالوا حتى اليوم عبرة للسائرين في طريق
الملكوت.

9- رسالة
الملكوت نجحت بالمؤمنين والرافضين

فالملكوت
نجح بالمؤمنين وبالرافضين، هؤلاء شهادة صحة وأولئك عِبْرَة. كذلك فإنه لم يستطع
الرافضون والمعوِّقون والمعاندون أن يقلِّلوا أو يضغطوا من عمل المسيح في الإعلان
عن ذاته والتعليم عن ملكوته. فكان المسيح يرصد طاقة التجديد التي ينشرها على
القِلَّة التي تتبعه، ويقتنع بقوتها وفاعليتها التي ستنتهي يوماً إلى موجة عارمة
من التجديد المسيحي على وجه كل الأرض. فكان يقولها وهو عالم بمدى فعلها وأثرها:
“أنتم نور العالم” “أنتم ملح الأرض” (مت 5: 14و13). أمَّا
الغيوم والعواصف التي كان يفتعلها الرافضون فلم تكن في نظر المسيح سوى عثرة زائلة:
“اتركوهم، هم عميان قادة عميان.” (مت 14: 15)

ولم
يغب عن فكر المسيح مدى عنف المعارك التي سيعبر عليها مع الكتبة والفرِّيسيين
ورؤساء الكهنة منذ أول لحظة دخل فيها شاهراً الطهارة والقداسة والتقوى في تعليمه
عن ملكوت الله كوصية الآب. بل والأكثر من ذلك فقد استطاع أن يُصوِّر من واقع
أفكارهم وقلوبهم أي ميتة بدأوا يدبِّرونها له.

10- الملكوت
ازداد قوة بعد ذهاب المسيح

في كل
هذا كان عمله للملكوت يزداد نمواً وارتقاءً في الفكر والضمير البشري، ولم يشعر ولا
في لحظة واحدة أن عمله للملكوت سيتراخى أو يضمر بعد ذهابه. بل في أمثاله السبعة عن
الملكوت أكَّد على نمو الملكوت. وفي مَثَل الزوان يتضح أنه سينمو حتى وقت الحصاد
أي الدينونة!!

كما أوضح أن نمو الملكوت من الداخل هو كما تنمو حبة الخردل
حتى تصير شجرة، هكذا ينمو الملكوت في قلوب الناس ولا يلحظه أو يراه أحد في نعمة
التجديد التي تنضح بها حياتهم الداخلية في النهاية.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى