اللاهوت الدفاعي

الفصل التاسع



الفصل التاسع

الفصل
التاسع

الحياة
المسيحيّة، فعل عبادة
روم 12:
1-15: 13

يتحدّث
الأب كاستون فيسّار، وهو فيلسوف قرأ هيجل وشرحه كما أنه درس لاهوت رسائل القديس
بولس، عن علاقات جدليّة ثلاث يستخرجها من علاقة الفكر الفلسفي بالوحي الكتابي:
وهذه العلاقات هي:

علاقة
الرجل بالمرأة

علاقة
السيد بالعبد

وعلاقة
اليهودي بالوثني.

ولا
شكّ أننا نجد خلفيّة هذه الجدليّات الثلاث في آية القديس بولس في غل 3: 28: (فلم
يعد من بعد يهودي أو يوناني، عبد أو حرّ، ذكر وأنثى، لأنكم جميعًا واحد في
المسيح). وتعتبر هذه العلاقات التي تقوم على الاختلاف بين الطرف الواحد والطرف
الآخر، هي علاقات شبه انتروبولوجيّة، أعني مدوّنة في حقيقة الانسان. فانطلاقًا
منها وعليها تُبنى الوحدة، كما وأنها تكون سببًا في الصراعات والخلافات التي تنشأ
بين الناس تاركة وراءها العداوات والانقسامات. أما انجيل يسوع المسيح فإنه يحتوي
هذه الانقسامات ويتجاوزها نحو علاقة جديدة في الرحمة والمصالحة.

يقرأ
الأب شارل بيرو الرسالة إلى أهل رومة من زاوية مسألة الانقسامات الجديدة التي طرأت
على المجتمع في القرن الميلادي الأول من جرّاء حدث حياة السيّد المسيح. فما كان
على بولس كما فعل في باقي الرسائل، إلاّ أن يبحث ولكن بأسلوب أشمل وأدقّ عن طرق
جديدة للوحدة. فانطلاقًا من هذه الزاوية، يقترح هذا المفسّر البيبلي في دراسته حول
الرومانيين تقطيعًا للرسالة يُبرز الصراعات القائمة بين مختلف الفئات اليهوديّة
والوثنيّة المنتصرة حديثًا، والتي لا بدّ لها من أن تبحث عن وحدة جديدة.

أما
ما نريد أن نعرضه نحن في هذه الدراسة الوجيزة، فهو خاتمة الرسالة إلى الرومانيّين
12: 1-15: ،13 وفيها يقول بولس تحت شكل عظة ما حاول أن يعرضه مطوّلاً تحت شكل
تعليم لاهوتي. وفيها كما ذكرنا يتعرّض لمسألة العلاقات بين المؤمنين بالمسيح فيما
بينهم وبين المؤمنين وغيرهم. فالسؤال الذي نحاول أن نجيب عليه انطلاقًا من هذه
الخلاصة هو التالي: هل العبادة في الحياة المسيحيّة هي بحث دائم عن وحدة جديدة في
المسيح يسوع أم هي طقوس خارجيّة لا تخاطب حريّة الانسان وقراراته المصيريّة؟ سوف
نرى كيف أن القدّيس بولس يُدخل مفهومَ التمييز في العبادة، لأن العبادة لم تعد
طقوسًا خارجيّة بل هي بالدرجة الأولى تقوم على علاقة حيّة مع المسيح، تتجسّد في
العلاقات مع الناس. ولذلك فإنه يبدأ الجزء الأخير من الرسالة على الشكل التالي:
(إني أسألكم، أيها الاخوة، برأفة الّله أن تجعلوا من أنفسكم ذبيحة حيّة مقدّسة
مرضيّة عند الّله. فهذه هي عبادتكم الروحيّة. ولا تتشبّهوا بهذه الدنيا، بل
تبدّلوا بتجدّد عقولكم لتميّزوا ما هي مشيئة الّله وما هو صالح وما هو مرضي وما هو
كامل) (روم 12: 1-2).

 

البنية
الأدبيّة

يحتوي
هذا الجزء الأخير من الرسالة إلى أهل رومة 12: 1-15: 13 على مجموعة من الأوامر،
ومن التعاليم الأخلاقيّة ومن الكلمات المشجّعة للالتزام في الحياة المسيحيّة.

إن
أردنا أن ننطلق من وجهة نظر أدبيّة وجدنا أولاً أن هذه الخاتمة ترتبط بالجزء الذي
سبقها عن طريق الكلمة (الرأفة) (12: 1)، وفيها نجد صدى لكلمة (رحمة) الواردة في
11: 13-23. كما أن الجزء الثالث الذي يحتوي على الفصول 9-11 يعالج الموضوع نفسه:
فموضوع الرحمة هو أيضًا محوري في هذه الخاتمة كما في 12: 18 وفي 15: 9: (أمّا
الوثنيّون فيمجّدون الّله على رحمته).

باستطاعتنا
أن نقسّم أيضًا هذه الخاتمة إلى ثلاث فقرات كما يلي:

– مجموعة من
التعاليم حول العلاقة بين أعضاء الجماعة الواحدة (12: 3-16).

– نصائح تتعلّق
بطريقة التعامل مع الناس الذين لا ينتمون إلى الجماعة نفسها، ولا سيّما أصحاب
السلطة السياسيّة (
12: 17-13: 14).

– أخيرًا، وداخل
الجماعة الرومانيّة، كيف تعاش العلاقات بين (الأقوياء) و(الضعفاء) (14: 1-15: 13).

 

أهميّة
مفردات العبادة في الخاتمة

تستعمل
هذه الخاتمة مفردات طقسيّة نجدها في حياة الهيكل، وقد بدأ المسيحيّون يستعملونها
في ما يخصّ تصرّفاتهم اليوميّة: انطلاقًا من ذلك نفهم التعبير (ذبيحة حيّة)، وكلمة
ذبيحة لها صلة بذبائح الهيكل (راجع الرسالة إلى العبرانيّين وأهميّة مفهوم الكهنوت
والذبائح في العهد القديم وكهنوت المسيح).

إنّ
كلمة (مرضيّة)، وباليونانيّة
euare6to6 لها صلة أيضًا بالخدمة الطقسيّة المرتبطة بالكلام (رو 12: 1-2)،
ولكنه كلام فيه عبادة روحيّة تُعارض الطقوسَ الخارجيّة.

نلاحظ
أيضًا في روم 15: 16 أن بولس عندما يتحدّث عن الوثنيّين يذكر أنهم هم أيضًا عليهم
أن يتحوّلوا إلى قربان: (فأكون خادم المسيح يسوع لدى الوثنيّين وأقوم برسالة بشارة
الّله قيامي بخدمة كهنوتيّة، فيصير الوثنيّون قربانًا مقبولاً عند الّله قدّسه
الروح القدس) (15: 16).

 

أهميّة
مفردات الوحدة

(روم
12: 3-18) وراجع أيضًا (1 قور 12-14)

يعالج
القدّيس بولس مسألة كانت تهمّ حياة الكنيسة، وهي مسألة الوحدة في تعدّد الوظائف.
إنه يلجأ إلى التشبيه بالجسد الواحد الذي هو المسيح الذي يحتوي كل الأعضاء.

(روم
13: 1-7)

لا
شكّ أن القدّيس بولس يسعى في الحفاظ على الجماعات المسيحيّة التي تكوّنت بعد أن
انفصلت عن (المجامع) اليهوديّة وفقدت بالتالي ما كان لها من امتيازات سياسيّة
عديدة. إنّه يبحث بذلك عن علاقات جديدة ووحدة جديدة.

(روم
14: 1-15: 13)

الأقوياء
والضعفاء: من هم الأقوياء ومن هم الضعفاء في هذه الفقرة؟ كيف باستطاعتنا أن نربط
بين انذارات بولس لمن يحكم على أخيه وضرورة القبول المتبادل وسياق الرسالة إلى
الرومانيّين العام والعبادة؟

 

تعمّق
في موضوع العبادة والوحدة

بعد
المقدّمة (12: 1-2) التي تتحدّث عن الذبيحة الحيّة، والعبادة الروحيّة، وتجدّد
العقول في سبيل تمييز ما هي مشيئة الله، ينتقل القدّيس بولس إلى الفقرة الأولى 12:
3-18 لمعالجة مسألة الوحدة في الكنيسة.

من
سياق الفقرة، نلاحظ الإشارة إلى العُجب بشكل واضح كما في فل 2: 3، والعُجب هو
مرادف للكبرياء في المفردات الدينيّة. كما أن بولس يختم هذه الفقرة الأولى ب (لا
تطمعوا إلى المعالي، بل ميلوا إلى الوضيع، لا تحسبوا أنفسكم عقلاء) (12: 16). من
الواضح أن الفقرة محتواة ما بين نفي للعجب أو الكبرياء وتشديد على الاتضاع الذي هو
طريق لتحقيق الوحدة بين الأعضاء الذين لهم مواهب مختلفة: النبوءة، الخدمة،
التعليم، الوعظ، العطاء، الرئاسة، الرحمة.

يستعمل
القدّيس بولس العبارة: (تنافسوا في إكرام بعضكم لبعض). فالمنافسة جُعلت عامة بين
من يتهافتون وراء مصلحة معيّنة. إلاّ أن بولس يفاجئنا بهذا التعبير ملفتًا
انتباهنا إلى منطق الانجيل الجديد: (تنافسوا في إكرام بعضكم لبعض)، فالمنافسة
تتحوّل إلى قوّة حبّ واحترام في سبيل بنيان الجسد الواحد.

بعد
أن عدّد بولس المواهب المختلفة، حثّ مستمعيه على اليقظة في كل عمل يقومون به،
وكأني به يستعمل تعليم يسوع في السهر والصلاة والخدمة، بلغة ممتلئة من روح يسوع:
(إعملوا للربّ بهمّة لا تني وروح متّقد. كونوا في الرجاء فرحين، وفي الشدّة
صابرين، وعلى الصلاة مواظبين). فالحياة المسيحيّة تتحوّل إلى فعل عبادة، والعبادة
الحقّة هي طريق نحو المصالحة مع جميع الناس.

في
الفقرة التي تتبع (12: 18-13: 14)، يعرض بولس تعليمًا حول علاقة المسيحيّين مع
جميع الناس: (سالموا جميع الناس) (12: 18)، وذلك بعد أن يكون تحدّث عن العلاقات
داخل الكنيسة. إنه يتوسّع أيضًا في علاقة المسيحيّين بالسلطات المدنيّة والعسكريّة
(13: 1-7)، وأخيرًا يختم بالتشديد على المحبّة كونها أساس الشريعة، وعلى السهر
والسير سيرة كريمة.

تبرز
فكرة السعي نحو الوحدة في هذه الفقرة أيضًا، في مسالمة جميع الناس، والامتناع عن
الانتقام: (لا تنتقموا لأنفسكم أيها الأحبّاء) (12: 19)، بل واطعام العدو: (إذا
جاع عدوّك فأطعمه) (12: 20)، وكأني في عرض بولس تدرّج في العلاقة الساعية نحو
السلام والمتخطّية كل الحواجز، حتى الرغبة في الانتقام من الأعداء لكيما يُقهر
الشرّ بالخير: (كن بالخير للشرّ قاهرًا) (12: 21).

لا
ينصّب في النهاية الانسان نفسه على أخيه الانسان، فليس على الانسان إلاّ أن يترك
الحكم النهائي في يد الّله، فله الانتقام وهو يعاقب، وليس على الانسان إلاّ أن
يحاكي الّله في قهر الشرّ بفعل الخير، وهي عبادة وهي طريق نحو الوحدة.

لَعَلَّ
خاتمة هذه الفقرة 13: 11-14 تلخّص على أكمل وجه ما ورد فيها. يشدّد فيها بولس على
التنبه من النوم، وهذا يذكّرنا بالنهوض للصلاة قبل شروق الشمس، كما أنه يصف الحياة
المسيحيّة كخروج من الليل إلى النهار، بعمليّة خلق مستمرّة تجعل الانسان المسيحيّ
يلبس المسيح القائم من بين الأموات: (قد تناهى الليل واقترب النهار، لنلبس سلاح
النور. إلبسوا الربّ يسوع المسيح:

تتحوّل
الحياة المسيحيّة إلى استنارة بالمسيح إلى استيقاظ دائم في وسط الليل للسعي إلى
لقاء المسيح الحيّ.

روم
14: 1-15: 13

يتوجّه
بولس بالكلام إلى (الأقوياء)، (نحن الأقوياء). فأفعال الأمر في صيغة الجمع
(تقبّلوا)، (فليكفّ بعضنا عن الحكم على بعض) (روم 14: 1و13)، موجّهة إلى الأقوياء
في علاقتهم بالضعفاء. وعندما يستعمل بولس المخاطب المفرد (أنت)، فإنه يتوجّه
بالكلام نحو الضعفاء ونحو الأقوياء من دون إمكانيّة الفصل بينهما (الآيتان 4 و10)

ما
هو الموقف الذي على المسيحي أن يتّخذه من أخيه؟ عليه ألاّ (يزدري) من له وساوس في
مسألة الطعام (الآيتان 3 و10). وعليه ألاّ (يدين) الآخر الذي ينتمي إلى مجموعة أخرى
(14: 3-4 و10 و13). وعلى الانسان المؤمن ألاّ يكون سبب (سقطة) و(هلاك) لأخيه
(الآيات 13و 15 و21)، لأن في ذلك تعريض الكرامة لحديث السوء (الآية،16 راجع أيضًا
15: 2). وعلى العكس من ذلك، يجب تقبّل بعضكم بعضًا كما أنه يجب العمل من أجل
(البنيان والسلام) (14: 19 و15: 2)، وبكلمة علينا أن نسعى نحو الوحدة (15: 5-6،
راجع أيضًا 12: 6). فهذه المواقف تتأصّل في الله ومسيحه (14: 3): (فإن الله قد
تقبّله) و15: 7 (كما تقبلكم المسيح لمجد الله). فعلى مثال المسيح الذي (لم يطلب ما
يطيب له) (15: 3)، فالانسان المسيحي لا يعيش لذاته ولكن للرب (14: 9-8).

لا
شكّ أننا نجد الدعوة إلى المحبّة في كل الرسائل البولسيّة، ولكننا نجدها بشكل أقوى
في روم 12: 9 و13: 8 و9-10. إلاّ أننا في روم 14: 1-15، نجد أن بولس لا يشدّد على
المحبّة المتبادلة في المجموعة نفسها، بقدر ما يطالب بموقف تقبل واحترام تجاه
مسيحيّين يتصرّفون تصرّفًا مختلفًا. لأن الأقوياء ينزعون نحو ازدراء الضعفاء، في
طريقة تصرّفهم التي (لا زالت يهوديّة)، والضعفاء يحكمون على الأقوياء الذين لا
يحترمون الشريعة الإلهيّة والشعب الذي منه خرج فرعٌ من أصل يسّى (روم 15: 12).

فلتعليم
بولس علاقة بموضوع الرسالة الرئيسيّ الذي يدور حول العلاقات (المسكونيّة) الجديدة
التي لا بدّ لها من أن تُبنى في مختلف المجموعات التي نشأت. إننا نفهم موقف بولس
إذا أخذنا في عين الاعتبار حالة المسيحيّين في رومة التي دفعته إلى التطلّع نحو
الوحدة.

فحالة
المسيحيّين الجديدة في رومة قد حملت بولس مع الحديث في آخر الرسالة 15: 7-12، عن
المسيح (خادم أهل الختان) (الآية 8)، ومن ثمّ عن (الوثنيّين) استنادًا إلى آيات
تخصّ المسيح والوثنيّين (الآيات 9-12).

إن
موضوع الرجاء هو مركزي في هذه الرسالة (4: 18 و5: 5 و8: 21 و22-25 و12: 12 و15: 4
و12). وهنا في خاتمة الرسالة التي تذكر الثالوث، تأتي الرسالة على ذكر (إله
الرجاء) (الآية 13). وهكذا نلاحظ أن موضوع العلاقات بين اليهود (ومنهم اليهود
المتنصّرون) والوثنيّين (ومنهم الوثنيّون المتنصّرون) هو موضوع أساسي في ترابط
أقسام الرسالة إلى رومة.

للرسالة
إلى الرومانيّين اليوم قيمة شموليّة تضعنا على طريق تجاوز الانقسامات التي تهدّد
حياة الانسان. فتعليمها في العلاقات بين اليهود والوثنيّين، واليهود المتنصّرين،
والوثنيّين المتنصّرين، لا يزال له قيمة فريدة تقود خطانا نحو الوحدة مع الله، ومع
بعضنا البعض، وتلك هي العبادة الحقّة.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى