علم المسيح

نظرة إله



نظرة إله

نظرة إله

. يوم
هبط يسوع من الجبل، ورجع إلى ضفاف الأردن، ربما كان ذلك، في أوائل آذار سنة 280 في
ذلك الفصل من السنة يصفر القمح والشعير حول أريحا. ويكون النهار حارا، وأما
الليالي فتبقى، فيه، باردة. ومن الأمثال اليهودية السائرة ” أن الثور، في
آذار، يرتجف من البرد، صباحا؛ وأما عند الظهيرة فهو يتفيأ ظلال التين يلين فيها
إهابه “. ولا بد أن هجائر” الغور” كانت قد بدأت، إذ ذاك، تشتد
وطأتها. وكان المعمدان نفسه على وشك أن يغادر المعبر ويشخص إلى منطقة الهيكل، عند
” ينابيع السلام ” ليتابع فيها رسالة التعميد؛ فيسوع لن ينزل في تلك
البقعة طويلا

 

. ومع
ذلك فقد تميز مروره العابر بذاك المكان بحادثة على جانب فريد من الأهمية، تفرد
الرسول يوحنا بروايتها (يوحنا 1: 35 – 50). وهناك تقليد مستند إلى أساس متين من
المنطق، يرى في تلك الصفحة من إنجيله صدى مباشرا للذكرى التي حفظها التلميذ الحبيب
من تلك اللحظة الرائعة المذهلة التي وضع فيها الإله المتأنس، نظره عليه

 


لقد كانت الساعة العاشرة “، على حد ما سجله في ملاحظته الدقيقة، أي نحو
الساعة الرابعة من بعد الظهر. وكانت الشمس قد بدأت تنحدر فوق ذرى مشارف يهوذا.
وكان يوحنا يسير بصحبة رجل آخر من الجليل، واحداً من رواد المعبر، اسمه أندراوس.
وكان أندراوس من جملة الكثيرين الذين هرعوا إلى سافلة الأردن ليستمعوا إلى، كلام
يوحنا ويقبلوا منه المعمودية. وكان قد ترك الزوارق والشباك التي كان يملكها مع
أخيه سمعان، على ضفاف بحيرة جنيسارت ” شراكة مع زبدى والد يوحنا. وكان يوحنا
وأندراوس، كلاهما، قد سمعا النبي المتمنطق بجلود الحيوان، ينادي بالجماهير إلى
التوبة. وكانا قد شهدا أيضا الساعة التي وفد فيها على المعمدان وفد من أهل الحصافة
يسألونه: هل هو المسيح؟

 

. لقد
كانا، إذن، ذاك المساء، بقرب معلمهم، إذ مر بهما رجل شهد له المعمدان، قائلا:
” هو ذا حمل الله! ” فأدركا، على الفور، فحوى تلك العبارة، وعرفا أنه
إنما أراد بها الإجابة عن أسئلة الرابيين، وعما كانا، هما، يترقبانه! وكان مشهد
حلول الروح القدس على هامة ذاك الرجل، المجهول، ساعة عمده المعمدان، لا يزال، ولا
شك، ذكره حيا وسط الجماعة المتعبدة التي كانت تختلف إلى ” بيت عبرا “.
ومن غير تردد، تعقب التلميذان الرجل العابر. فلما رآهما يتبعانه، قال لهما: ”
ماذا تطلبان؟ “، فعمدا إلى استعمال الألقاب، شأن القرويين البسطاء إذا
انفعلوا، وأجاباه بإحدى تلك العبارات المرتبكة التي كثيرا ما تنكشف من خلالها أصفى
العواطف: ” ربي!الذي تفسيره يا معلم، أين تمكث؟ “. فقال، لهما: ”
تعاليا وانظرا! ” ويضيف النص فقط أنهما ذهبا ” إلى حيث كان يقيم ”
وأنهما ” مكثا عنده ذلك اليوم “. وأما أن يكون المسيح قد استحوذ، دفعة
واحدة، على قرارة نفسيهما، فتتمة الصفحة، بل الأناجيل كلها تشهد بذلك شهادة كافية.
وهكذا منذ اللحظة التي اعتلن فيها المسيح، تجلت فيه تلك الميزة التي سوف تتكرر
مرارا، تلك القوة السرية التي كانت تمكنه من النفاذ، توا، إلى أعماق مصطفيه،
والاستحواذ عليهم استحواذا كاملا. فأندراوس، ويوحنا، وسمعان، وفيلبس، ونثنائيل،
والمرأة السامرية، والمجدلية الخاطئة.. كم من مثل هؤلاء سوف يتملك المسيح قلوبهم
بمثل تلك القوة التي تفوق الإنسان؟..أجل، ” إن الله ينقض على النفس انقضاض
النسر على العصفور “، على حد ما سوف يتردد على ألسنة الصوفيين! ولئن كانت قد
ظهرت، في مشهد التجربة، بشرية المسيح، فإن لقاءه بالتلاميذ الأولين قد كشف عن
الناحية الأخرى من طبيعته المزدوجة: فإن وجه الله، ههنا، قد تجلى! وأما سمعان، أخو
أندراوس، فلم يكن مع يوحنا وأندراوس عندما صادفا المسيح. فلما أفضيا إليه، صاح به
أندراوس: “لقد وجدنا مسيا، الذي تفسيره المسيح “. وفي الحال طلب أن يذهب
إليه. فحدق إليه يسوع – على حد ما وردفي الإنجيل – وقال له: ” أنت سمعان بن
يونا. أنت تدعى صفا، الذي تفسيره بطرس “. ولا شك أن هذا الكلام قد استبهم
عليه، بادئ الأمر، ولم تنكشف له معانيه إلا بعد بضة أشهر. ولقد ملك يسوع على ذاك الرجل
قلبه. دفعة واحدة، وإلى أبعد، وإلى أبعد مما وقع للتلميذين الأولين. ولقد رمقه
بنظرة واحدة، وبدل اسمه بسلطة مطلقة، وكان معروفا، عند كل يهودي، ما المغزى من
تبديل الأسماء. ففي العهد القديم، كان نسخ الاسم القديم باسم جديد، إشارة رمزية
إلى اصطفاء من الله، وإيذانا برسالة خارقة. وذلك ما وقع لإبرام يوم أصبح اسمه
إبراهيم، وليعقوب يوم تجول اسمه إلى إسرائيل

 

.
أندراوس، ويوحنا، وسمعان.. ثلاثتهم جليليون، وقد اصطفى النبي الجليلي مواطنيه
هؤلاء من بين التأبين الذين كانوا قد تتلمذوا للمعمدان. ورجع يسوع، مع أصحابه، إلى
إقليمهم. وأما أقصر طريق إلى الناصرة فكانت تجاري وادي الأردن أي بعد ميلين من
برية طبرية (90 كيلو مترا، تقريبا)، ولكن من غير أن تتطرف كثيرا إلى النهر
والأدغال التي تكتنفه، ثم كانت تنعطف غربا، وتسلك في منبطح فسيح يطل عليه ثابور
بأردافه الشقراء. ذهب يسوع، إذن، مع أتباعه الثلاثة، في تلك الطريق القديمة، التي
كان يسلكها حجاج الفصح، في قوافلهم الطويلة، منذ أقدم العصور. ولا بد أن مرأى
المدينتين الكافرتين – أرخيلاييس وسكيتوبوليسبى – وما كان ينجسهما من قصور فاحشة
وأبهة عاهرة، بل من قيام صنم لعشتاروت بين ظهرانيهما، قد أعاد إلى ذهنهم الوضع
الأليم الذي كان فيه إسرائيل. وإذ أفضوا إلى المنعطف الذي كان يجب أن يفترق فيه
يسوع عن أصحابه، عدل عن طريقه، ورافقهم حتى شمالي البحيرة، حيث كانوا يزاولون مهنة
الصيد. وهناك، في بيت صيدا، بلدة أندراوس وبطرس استتبع المسيح رجلين آخرين، على
نحو ما جرى للثلاثة الأولين

 

.
صادف فيلبس، أولا، أحد مواطني أندراوس وبطرس، فقال له: ” اتبعني ” ولا
يورد الإنجيل شيئا آخر من مشهد ذاك اللقاء. وإنما ينبغي أن يكون المسيح قد تمكن من
قلب ذاك التلميذ الجديد، إلى حد بعيد.. فهو ينطلق على الفور، ويبشر أصدقاءه بما
اكتشف، ويروج له الدعوة بحمية الحديثي الإيمان

 

.
” وجدنا الذي كتب موسى والأنبياء “. وإذ يستطلعونه الأمر، يقول: ”
هو يسوع بن يوسف، الذي من الناصرة “. لقد أجاب، كما كان في وسعه أن يجيب، ولم
يكن ليعلم شيئا آخر عن ذاك الذي كان، منذ فترة، قد فوض إليه إيمانه. ولكن الناس،
في بيت صيدا، كانوا على علم بالناصرة وبأهل الناصرة: فالقرية كانت – على مسيرة نصف
نهار من بيت صيدا – مثابة لبعض الريفيين من أهل، الوعور، لا يعرف لها اسم ولا
تاريخ. فأجابه نثنائيل، أحد مستمعيه: ” أمن الناصرة يمكن أن يكون شئ صالح؟
“. لقد كان نثنائيل أعرف الناس بالقرية، ولاغرابة في ذلك، فقد كان من قانا
الجليل (يوحنا 2: 2)، على مسافة فرسخين أو ثلاثة. من الموضع الذي زعم فيلبس أنه
موطن المسيح. بيد أن فيلبس، ذاك الحديث في الإيمان، لم يكن ليغير رأيه، فقال:
” تعال وانظر! ”

 

. إذ
ذاك جرى، مرة أخرى، واحد من تلك المشاهد السريعة التي اعتاد فيها المسيح أن يأخذ
بمجامع القلب بغتة، ولا شك أن ذاك المشهد قد فاق سواه إعجازا وبعد إيحاء.. لقد كان
نثنائيل هذا رجلا صديقا، ربما على شيء من الخشونة، والنزوع إلى الانتقاد، ولكنه
حسن النية، لا يشوبه التواء. فمن اجتماعه بيسوع، وجها لوجه، انفجر له ذاك الضياء
المفاجىء، حيث تنكشف النفس عن ذاتها انكشافا تاما، فإذا بها، في آن واحد، خفاقة من
الترقب والحنين، وريانة من السعادة. قال يسوع: ” هو ذا، إسرائيلي حقاً لا غش
فيه “، فقال له نثنائيل مستغربا: ” من أين تعرفني؟ ” فأجاب يسوع:
” قبل أن دعاك فيلبس، وأنت تحت التينة، رأيتك.. ” عبارة مختزلة!.. تلك
الهواجس التي باتت مطوية عنا، وتلك التأملات الوجيعة التي كان نثنائيل يتابعها في
سر عزلته، لقد نفذ إليها الناصري! إننا، نوعا ما، رهن الذين وقفوا على سر كياننا
الصميم، حتى وإن شق علينا ذلك! وأما ذاك الرجل، فما إن كاشفه المسيح بدخيلة أمره،
حتى انهد قلبه، وأخذت منه النشوة مأخذا مقدسا، فقال: ” يا معلم! أنت ابن
الله! أنت ملك إسرائيل! “.ولكنه، هذه المرة، بات يتسرع في أقواله، فأعاده
يسوع إلى حدود الاعتدال بقوله: ” هل آمنت لأني قلت لك إني رأيتك تحت التينة! سوف
ترى أعظم من هذا! ” ولأول مرة يصرح المسيح – بصفته المسيا- يتعهد بنفسه صدق
مواعيده، ويعلن (مشيرا إلى السلم التي رآها يعقوب في حلمه الشهير، والنصر الذي
وعده به الله) أن السماء والأرض به ستلتقيان، وأن معجزات أخرى سوف تؤيد صدق الدهشة
العلوية التي اهتز لها قلب نثنائيل

 

. فما
بين “بيت عبرا” و”بيت صيدا” وفق المسيح، ببضع كلمات، إلى
استتباع خمسة رجال، من ذوي الإيمان الراسخ، وسوف يتأثرن به حتى الموت. ولسوف
يكونون خمستهم في عداد الرسل. وأما الذي يدعوه الإنجيل الرابع ” نثنائيل
“، فهو- على الأرجح – ذاك الذي تسميه الأناجيل الثلاثة ” برثلماوس
“. فاللفظة الأولى هي لقب الرجل، وأما الثانية فهي كنيته. فبرثلماوس معناها:
ابن ثلماوس.. وإن أربعة من هؤلاء الخمسة سوف يستشهدون من أجل المسيح

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى