علم الله

الفصل السابع عشر



الفصل السابع عشر

الفصل السابع
عشر

الخليقة

 

ظهر
قضاء الله أولاً في خلق الكائنات، سواء كانت روحاً أو مادة، وليس منها ما هو أزلي،
بل لكلها بدء أنشأته مشيئة الله. وكان أوَّل ما خلقه الله تتميماً لما سبق أن قضى
به، فخلق الكائنات والمخلوقات على درجاتها وأنواعها. وحين خلق الجنس البشري أسكنهم
أرضه، وابتدأ تاريخ هذا العالم.

مقالات ذات صلة

1 – ما معنى كلمتي “الخَلْق” و”الخليقة” في
الكتاب المقدس؟

*
معنى “الخَلْق” في الكتاب “الإيجاد من العدم”. وليس معناه
إبداع شيء من مادة موجودة بصورة جديدة. يختلف الخلق عن النشوء وعن التحوُّل وعن
النمو، فالنشوء يدل على تنوُّع موجودٍ بالارتقاء، والتحوُّل يدل على انتقال موجودٍ
من حال إلى حال، والنمو يدل على التقدم للكمال بموجب أسباب خُلقت في الذي تقدَّم.
وكل ذلك على وفق طبيعة الناشئ أو المتحوِّل، وبموجب قوانين ثابتة. ومعنى “الخليقة”
في الكتاب “ما خلقه الله” أي ما أوجده من العدم. فكلمة “الخلق”
مصدر، وكلمة “الخليقة” وزن فعيل بمعنى المفعول. على أن المصدر قد
يُستعمل بهذا المعنى أيضاً (تك 1: 1 وكو 1: 16 ورؤ 4: 11).

2 – مَنْ هو مصدر تعليم الخلق من العدم؟

*
هو الخالق نفسه، ولا تصح نسبة الخلق للعقل البشري، لأن العقل لا يقدر أن يتصوَّر
خلق المخلوقات من لا شيء. وقد اصطلح الفلاسفة القدماء على أنه لا يمكن أن يكون شيء
من لا شيء. وشاع اعتقاد بين البشر القدماء، حتى صار عاماً، وهو أن نسبة الخلق من
لا شيء إلى الله يجعلنا نعتقد أنه أصل الشر. وهذا لا يليق بالإله الكامل في جميع
صفاته. ولم يكن تعليم أن الله هو الخالق إلا عند الذين تعلموه من الوحي وقبلوه
بالإيمان. ولو كان مفهوم القدماء بقولهم “لا يمكن أن يكون شيء من لا شيء”
أنه لا يمكن أن يكون شيء بدون سبب كافٍ لإبدائه، لسلَّمنا معهم بصحة هذا المبدأ.
ولكن مفهومهم هو أنه لا يمكن خلق شيء من لا شيء. وهذا باطل، أولاً لأنه لا يمكن
إثباته. وثانياً لأنه يعني أن قدرة الله محدودة، وأن ما أعلنه لنا في شأن خلق
الكائنات من العدم بكلمة قدرته غير صحيح.

وقد
رأى البعض أن تعليم
الخلق من لا شيء يعني نسبة
أصل الشر إلى الله، وقالوا إن المادة أزلية واجبة الوجود، وإنها هي أصل الشر، وإن
الله قد لطَّف فعل الشر في الكون على قدر ما أمكن. وذلك مرفوض: (أ) لعدم صدق
اعتقادهم أن الله هو أصل الشر، فالصواب هو أن الله أوجد خلائق عاقلة ذوات إرادة
حرة، كان اختيارهم الخاطئ هو أصل الشر، لأنهم تمرَّدوا على الله عمداً وقاوموا
مشيئته. غير أن ذلك بسماح منه لأهداف حسنة مكتومة عنا في الدهر الحاضر. وأما هو
فلا يزال قدوساً مع وجود الشر بين الخلائق، وقادراً على منعه إذا شاء. و(ب) ببُطل
قولهم إن المادة هي مركز الشر، بدليل ما يأتي:

(1)
لا علاقة للشر بالمادة، بل علاقته بالنفس والمشيئة التي تخالِف مشيئة الله.

(2)
ليس في الكتاب المقدس ما يدل على أن الجسد المادي هو أصل الخطية.

(3)
قول الله إن ما خلقه من مواد الكون هو حسنٌ جداً.

(4)
تجسُّد المسيح الذي تمَّ باتحاد اللاهوت بجسد مادي حقيقي.

(5)
الوعد بأن الخليقة المادية، المُستعبدة الآن للبُطل بسبب خطية الإنسان، ستتجدد
وتصير هيكلاً للمسيح يحل فيه إلى الأبد (رو 8: 19-23 وعب 12: 26، 27 و2بط 3: 10-13
ورؤ 5: 9، 10 و21: 1-5).

(6)
تعليم الكتاب أن أجسادنا المادية هي أعضاء المسيح وهياكل للروح القدس، وأنها في
القيامة تتغير وتصير مشابِهة لجسد المسيح الممجد، فتشترك في الفداء الذي أعدَّه
لنا (1كو 6: 15، 19).

(7)
بُطل مذهب القائلين إن المادة أزلية ومستقلة عن الله، وإن الخطية صدرت منها على
رغم إرادة الله، وإنه اجتهد في تخفيفها وإبطالها، لأن هذا المذهب يهين الله، ولا
يمكن إثباته، بل يرفضه الكتاب المقدس وحكم العقل السليم.

3 – ما هي الأدلة على الخلق
من لا شيء
؟

*
(1) نص الكتاب المقدس على هذا التعليم، فتقول فاتحة التوراة “في البدء خلق
الله السماوات والأرض”. والكلمة العبرانية المترجمة “البدء” هي في
الأصل بدون “أل” التعريف، وهي تدل على زمنٍ قبل الوقت الذي شرع الله فيه
في إيجاد المواد. وليس في الكتاب المقدس أقل تلميح إلى وجود شيء من المخلوقات قبل
ذلك الوقت المُعبَّر عنه بالبدء. ويؤيد تفسيرنا أن كلمة “البدء” هنا تدل
على زمنٍ معلوم قبل إيجاد الكائنات قول المسيح “الآن مجدني أنت أيها الآب عند
ذاتك بالمجد الذي كان لي عندك قبل كون العالم” (يو 17: 5) وقول بولس “كما
اختارنا فيه قبل تأسيس العالم” (أف 1: 4) وقول الحكيم “منذ الأزل مُسحت،
منذ البدء منذ أوائل الأرض” (أم 8: 23) وقول البشير يوحنا “في البدء كان
الكلمة”. فيتضح من ذلك أن كلمة “البدء” تُستعمل هنا لتدل على زمن
في الأزل قبل إيجاد شيء من المخلوقات، وهو بمعنى قول المرنم “من قِدَمٍ أسست
الأرض، والسماوات هي عمل يديك” (مز 102: 25). والكلمة المترجمة “خلَق”
تدل على الإيجاد من العدم بكلمة الله القدير.

ونجد
في العهد القديم ثلاثة أفعال عبرية تصف إيجاد الكون وتنظيمه وهي “بَرَا”
وتُرجمت إلى العربية “خلَقَ” و”يَتْسَر” وتُرجمت “جبَلَ”
و”عَسَا” وتُرجمت تارة “عمل” وأخرى “صنع”. وقد جاء
الفعل برأ في الكتاب المقدس على وزني الفعلين العبريين: “قال” و”نِفْعَل”
(“قال” للمعلوم كفعل، و”نِفْعل” للمجهول كفُعِل) نحو 48 مرة
للدلالة على عمل الله، ولم يُستعمل مطلقاً على أحد هذين الوزنين للدلالة على عمل
الإنسان. وأما وزن “فعَّل” منه فهو كما في العربية للتكثير والمبالغة،
وقد جاء في الكتاب المقدس بمعنى “قطع” أو “صوَّر” خمس مرات
منسوباً إلى البشر (يش 17: 15، 18 وحز 21: 19 و23: 14). ويتضح مما تقدم أن كتَبَة
التوراة خصَّصوا الوزن المعلوم من هذا الفعل للعمل الإلهي دلالةً على الخلق المطلق
من لا شيء، أو الخلق بمعنى إبداع شيء جديد من مواد موجودة. وكلاهما دائماً يفيدان
إيجاد شيء بقوة الله مباشرةً بدون سبب طبيعي. أما قوله: “في البدء خلق الله
السماوات والأرض” (تك 1: 1) فيدل على أن الخلق من العدم هو بقوة الله، أي
إيجاد المواد الأصلية من لا شيء، لأنه لم يذكر مادة صنع الله منها السماوات
والأرض، وهذا ما نستنتجه من كلمة “البدء”. ولا يمكن أن يكون المقصود
بذلك نظام الأرض على هيئتها الحاضرة، لأن آية 2 تقول إنها بقيت مدة بعد إيجادها
خربة وخالية، ولورود خبر تنظيمها في بقية الأصحاح. فواضح أن تكوين 1: 1 يدل على
الخلق من العدم، وهو ما تقوله آيات أخرى كثيرة، وهذا ينفي القول بأزلية المواد
وألوهية الكون.

(2)
تدل بعض آيات الكتاب المقدس على هذا التعليم، ومنها القول “وبارك الله اليوم
السابع وقدَّسه، لأنه فيه استراح من جميع عمله الذي عمله خالقاً” وهو يدل على
أن العمل الذي استراح منه هو الخلق أي الإيجاد من العدم (تك 2: 3). ويؤيد ذلك نسبة
الخلق إليه فقط. “بالإيمان نفهم أن العالمين أُتقنت بكلمة الله، حتى لم
يتكوَّن ما يُرى مما هو ظاهر” (عب 11: 3) “فإنه فيه خلق الكل، ما في
السماوات وما على الأرض، ما يُرى وما لا يُرى سواءٌ كان عروشاً أم سيادات أم
رياسات أم سلاطين. الكل به وله قد خلق” (كو 1: 16) “بكلمة الرب صُنعت
السماوات، وبنسمة فمه كل جنودها” (مز 33: 6) “لتسبح اسم الرب لأنه أمر
فخُلقت” (مز 148: 5). ولم يرد في هذه الآيات وأمثالها ذكر وجود مواد قبل
الخلق صنع الله منها الموجودات، بل بالعكس أُشير إلى أنها وجدت بكلمة الرب أو أمره
أو قوته، وأنه قال “ليكن كذا” فكان. ومما يثبت ذلك تمييز الكتاب بين
أزلية الخالق وحداثة المخلوق، فقال المرنم “من قبل أن توجد الجبال أو أبدأت
الأرض والمسكونة، منذ الأزل إلى الأبد أنت الله” (مز 90: 2). وقال “الحكمة”:
“منذ الأزل مُسحت، منذ البدء منذ أوائل الأرض. إذ لم يكن غمرٌ أُبدئت، إذ لم
تكن ينابيع كثيرة المياه. من قبل أن تقررت الجبال قبل التلال أُبدئت. إذ لم يكن قد
صنع الأرض بعد ولا البراري ولا أول أعفار المسكونة” (أم 8: 23-26). وقال
المسيح “لأنك أحببتني قبل إنشاء العالم. مجدني.. بالمجد الذي كان لي عندك قبل
كون العالم”.

(3)
شهادة الشعور ولسان حال الطبيعة المادية، فكلنا يشعر بوجوده واستقلاله عن غيره
وعدم أزليته، وبالنتيجة أنه مخلوق نفساً وجسداً، وله بداية. فإذا سلّمنا بخلق
النفس من لا شيء سهُل علينا التسليم بإمكان إيجاد المواد من لا شيء. وإذا تبرهن من
الشعور ومن شهادة الطبيعة ومن تعليم الكتاب المقدس الصريح وجود علة أصلية قادرة
عاقلة واجبة الوجود حكيمة مختارة، وجب أن ننسب إليها إبداء الكون. ولا شك أن ذلك
يسهّل فهم حقائق الخليقة ويعلّل حوادث الكون وغرائبه تعليلاً وافياً، فلا تبقى
حاجة بعدُ إلى تكثير الافتراضات والتخمينات لاكتشاف أصلٍ آخر للخليقة.

ويشهد
لسان حال الطبيعة المادية بوجود خالق للمخلوقات، ليس فقط بواسطة ما يُرى من علامات
القصد في نظامها، بل بواسطة ما يُرى من ذلك في طبيعة المواد الأصلية التي تكوّنت
منها، لأن وجودها في تلك تستلزم وجودها في هذه. وإذا بحثنا في المواد الأساسية
الأصلية رأينا فيها أدلة قاطعة على أنها صُنعت لهدفٍ، لما بينها من العلاقة
والمشابهة والموافقة. وإذا سلّمنا بذلك كان لا بد من التسليم بوجود أصل عقلي
لتعليل تلك العلاقات.

4 – ما هو الفرق بين الخلق بدون واسطة والخلق بواسطة؟

*
“الخلق بدون واسطة” هو إيجاد شيء من لا شيء، كخلق الله مواد الكون
الأصلية من العدم. و”الخلق بواسطة” هو إبداع أشياء جديدة من المواد
الأصلية، كإبداع الله البحر واليابسة والنباتات والحيوانات وجسد الإنسان من المادة
التي أوجدها قبلاً. وتم الخلق بدون واسطة بعمل الله مباشرةً، وتم الخلق بواسطة
بعمل الله بوسائط ثانوية وشرائع مقرّرة.

5 – ما هو تعليم الكتاب المقدس في أصل الكون؟

*
هو أن الله أوجد مواد الكون الأصلية من العدم، ثم أبدع من تلك المواد كل الموجودات
بقوته كما شاءت إرادته، ووهب الطبيعة المادية قواها وخصائصها، ووهب لبعضها الحياة،
وزيَّن الإنسان بالنفس الناطقة، وكل ذلك لأهداف سامية. وأعلن لنا ذلك في كتابه،
كما أعلن أيضاً أنه كائن أزلي واجب الوجود ذو مشيئة وحكمة وقدرة، لأنه لا يمكن
التوصل بواسطة العلوم الطبيعية إلى هذه المعرفة. غير أن تلك العلوم ترجح وتؤيد كل
ذلك. أما آيات الكتاب التي تنص على ذلك فكثيرة، إليك بعضها (تك 1: 1 ومز 33: 6
و90: 2 و148: 5 وإر 10: 10-12 ومر 13: 19 ويو 1: 3 ورو 11: 36 و1كو 8: 6 وكو 1: 16
وعب 1: 2 و11: 3). ولهذا التعليم أهمية عظيمة إذ يتَّضح منه وجود إله واحد مستقل
عن خلائقه، له كل ما يلزم من الصفات ليكون كاملاً. وهو موجد الكون من العدم بكلمة
قدرته، والمعتني به على الدوام. وهذا التعليم هو أساس الشريعة الأخلاقية وجميع
التعاليم الدينية ومواعيد الإنجيل. وكل ما اكتُشف وعُلم من أسرار الطبيعة وخواصها
يبيّن رفعة شأن الخالق وقدرته وغزارة حكمته وسمو مجده، وأنه هو وحده الجواب الكافي
لما ينشأ من المشاكل والمسائل في البحث عن غرائب الطبيعة وأصل حياتنا وقُوانا،
ولإيضاح أسرار الدين الصحيح وعجائبه التي أعظمها الخليقة الأصلية وكل ما يجريه
الله في الطبيعة مما يُظهِر قوته الفائقة وتدخله الحقيقي. فإذا سلّمنا بذلك في
مسألة الخلق سهُل علينا التسليم به في المعجزات كما نرى في العهدين القديم
والجديد. وتظهر أيضاً أهمية هذا التعليم من أنه يبرهن أن مواد الكون غير أزلية،
وإن الطبيعة ليست مجموع ظهورات إلهية، أو هي نفسها الله. وهو ينفي القول بالتوالد
الذاتي، وبمذهب النشوء على كل صوره الإلحادية التي تقلل من شأن الخالق، لأن مذهب
النشوء ينسب للطبيعة نفسها كل ما فيها من علامات الحكمة والقصد.

6 – هل يمكن تعيين الوقت الذي فيه شرع الله في خلق الكون؟

*
لا. لأن الكتاب المقدس الذي هو المصدر الوحيد لمعرفة ما نجهله من أمور الله لا
يعيّن ذلك. وأما قوله “في البدء خلق الله السماوات والأرض” فيشير إلى
شروعه في الخلق لا إلى الوقت الذي شرع فيه. والأيام الستة التي تم فيها تكوين
العالم هي حقب طويلة جداً. وليس في الكتاب المقدس ولا في الطبيعة ما يدل على مقدار
طولها.

7 – ماذا يُستفاد من الطبيعة عن طول المدة التي
مرت منذ شروع الله في خلق الكائنات إلى أن وجد الإنسان؟

*
اتَّضح من اكتشافات علم الجيولوجيا وغيره من العلوم أن تلك المدة كانت طويلة جداً.
ويقول أشهر المذاهب العلمية، وهو الرأي السديمي، إن المواد الأصلية التي تكونت
منها العوالم كانت أولاً على هيئة غازية ممتدة جداً كالضباب في الجو، ثم أخذت تبرد
بالإشعاع وتتقلص وتنفصل أجزاؤها البعيدة عن الكتلة الأصلية الواحد بعد الآخر. ثم
أن ما ينفصل يستمر في دورانه ويتحول إلى كرة مستقلة. ولما انفصل عالمنا هذا ابتدأ
تكوينه بواسطة التغيُّرات المادية إلى أن صار يابسة وبحاراً، ثم أبدع الله فيه
الحياة النباتية والحيوانية. ولما صار بعد أدوار طويلة وكثيرة جاهزاً لسكن الإنسان
خلق الله آدم. وليس في هذا المذهب ما يهين شأن الخالق، فهو المبدئ لكل شيء.

وليس
في سفر التكوين ما يضاد علوم الطبيعة في شأن مدة الخلق، لأن كلمة “يوم”
تحتمل أربعة معانٍ:

(1)
اليوم الطبيعي المعلوم على ما في الوصية الرابعة (خر 20: 8-11).

(2)
توالي النور والظلمة (تك 1: 5).

(3)
عدد معلوم من الأيام، ومن ذلك الكناية عن أيام الخليقة الستة بيوم واحد (تك 2: 4).

(4)
حقب طويلة غير محدودة، مثل يوم الرب ويوم النقمة ويوم الدينونة ويوم الخلاص، وهو
كناية عن عصر الإنجيل (إش 49: 8) الذي مضى منه عشرون قرناً “لأن ألف سنة في
عينيك مثل يوم أمس” (مز 90: 4). وقال بطرس “إن يوماً واحداً عند الرب
كألف سنة، وألف سنة كيوم واحد” (2بط 3: 8). وليس في عبارة التكوين “في
البدء خلق الله السماوات والأرض” ما يحدد مدة الخلق مطلقاً.

8 – ما هي أشهر المذاهب الوثنية القديمة في أصل الكون؟

*
(1) يقول المذهب الأول إن الكون أزلي، وهو على صورتين: (أ) مواد الكون الأصلية
كانت منذ الأزل غير منظمة، تائهة في الفضاء، خربة وخالية، ثم انتظمت في زمن ما
بالصدفة على ما هي عليه الآن. وأول من اشتهر في نشر هذا الرأي ديموقراط وليوسبّوس،
وتبعهما أبيقور. وهو من أفسد المذاهب الوثنية في هذا الشأن، لأنه ينسب هذا الكون العظيم
وكل ما فيه من علامات القصد والحكمة إلى الصدفة. وهو يخالف العقل السليم، بل هو
مستحيل، فلو استخدمنا نفس المنطق في تأليف كتاب، لاحتجنا إلى حقب طويلة لتجتمع
حروف صفحة واحدة منه من نفسها بالصدفة. ولو حلّلنا مواد منزل واحد إلى دقائقها
المفردة، وفرضنا أن هذه المواد منتشرة في الجو لاقتضت الصدفة دهوراً لا تُحصى
لتنتظم بيتاً! وكم نحتاج من الدهور لو فرضنا ذلك في مدينة كاملة، أو في الكون
أجمع! فهذا المذهب أحد ثمار الفلسفة القديمة في زمن الجاهلية. (ب) لم يوجد الكون
مطلقاً في حالة الخراب، بل كان منذ الأزل على ما نراه الآن. وفساد هذا المذهب واضح
من أنه إذا كان الكون منظَّماً فلابد له من منظِّم، فمن المحال أن ينظِّم نفسه.
وقد اجتهد أرسطو في نشر هذا المذهب وقال إن الله أزلي وكذلك المواد أزلية مثله
ومستقلة عنه، وقد عمل في تنظيمها منذ الأزل. وهذا الرأي مرفوض، فالمادة ليست أزلية
حسب تعليم الكتاب المقدس. وكان اعتقاد أفلاطون شبيهاً باعتقاد أرسطو من بعض
الوجوه، ولكنه يخالفه في غيرها، فقال إن الله والمادة أزليان، وكلاهما واجب الوجود
ومستقل عن الآخر، وقد صدرت من الله أرواح الآلهة الثانوية والبشر. وخلق أحد الآلهة
الثانويين (واسمه في اليونانية ديميورغوس أي العامل أو الخالق) باقي الكون من
المادة الأزلية. وقال أفلاطون إن “يهوه” إله العبرانيين خرج من هذا
الإله العظيم الأزلي، وقال تلاميذ أفلاطون إن المسيح أيضاً خرج منه! وهذا المذهب
مرفوض لأننا لا نقدر أن نثبت أزلية المادة، لكننا نقدر أن نثبت أنها غير أزلية،
لأن القول بأزلية المواد على هيئة غير منتظمة كانت واجبة الوجود ومستقلة عن
الخالق، ولها ما له من الصفات الكاملة يقلل من شأن الله (1) لأنه يعني وجود أزلي
غيره. و(2) لأن للمواد من الصفات ما يجعل قوة الله مقيّدة حتى لا يقدر أن يعمل
شيئاً بالمواد بدون أن يراعي صفاتها، وذلك ما حمل أفلاطون وتابعيه (عندما رأوا في
الكون نقائص وعيوباً وخطية) أن يقولوا إن الله لم يقدر أن يعمل أحسن من ذلك.
ونتيجة ذلك يكون الله قاصراً في القدرة والحكمة. وهذا يخالف تعليم كتاب الله أنه
هو الإله الأزلي القدير الحكيم الذي أوجد الكون بكلمة قدرته.

(2)
يقول المذهب الثاني إن الكون صدر من الله كجزء منه، فكأن الموجودات على أنواعها
كانت فيه أولاً خلايا، ثم نشأت وخرجت منه أو انبثقت كما ينبثق النور من الشمس. وقد
اشترك أفلاطون أيضاً في هذا المذهب، غير أنه اعتقد بأزلية المواد. وممن اعتقده
أيضاً الغناطسة الذين قالوا مع أفلاطون إن الأرواح صدرت من الله، وإن الكائنات
المادية صدرت من المادة الأزلية، وإن المادة هي مركز كل شر. وقالوا إن القصد من
صدور المسيح أن يعطي للأرواح الممسكة بالمادة قدرةً على التخلص منها لترجع إلى
حالة الطهارة والسعادة. وواضح أنه لا يمكن إثبات هذا المذهب، لأنه يناقض شهادة
الحواس وبديهيات العقل ونور الوحي.

(3)
يقول المذهب الثالث إن الكون هو الله، وهو المعروف بمذهب “ألوهية الكون”.
واشتهر هذا المذهب في القديم ولا يزال موجوداً في الفلسفة الملحدة، مثل فلسفة
سبينوزا وفِختِه وشيلنج وهيجل (انظر فصل 10 س 12-14).

9 – ما هي أشهر المذاهب الإلحادية الحديثة في أصل الكون؟

*
نشأت تلك المذاهب عن آراء القدماء، بالرغم من نور الوحي الكامل عند العصريين،
وبالرغم من الأدلة الطبيعية والتاريخية والروحية على وجود الله وعلاقته الحقيقية
بالكون. فخطؤهم في هذه المسألة أشد من خطأ القدماء الذين لم يكن لهم مثل هذا
النور. والغريب أن أكثر المذاهب الوثنية القديمة لا تزال عاملة في عقول العصريين،
ولو أنها اتخذت أشكالاً جديدة توافق ذوق أهل هذا العصر وما فيه من المعارف والعلوم
الكثيرة. ومن المذاهب الإلحادية الحديثة ما يأتي:

(1)
مذهب “ألوهية الكون” (أو وحدة الوجود) الذي جدده أهل الفلسفة الإلحادية
في القرن 17 وما بعده. ومن أشهر هؤلاء سبينوزا اليهودي أصلاً والهولندي موطناً،
وأيضاً فِختِه وشيلنج وهيجل (انظر فصل 10 س 12-14).

(2)
مذهب الماديين، وهو أن المادة أزلية مستقلة عن الله (عند من اعتقد بوجود الله
منهم) وأنها مركز الحياة والقوى العقلية والروحية، ومنها صدرت جميع الموجودات على
أنواعها بدون استثناء ونمت وتقدمت بدون عمل الخالق. وهم يعتقدون أن المادة قادرة
بنفسها على إيجاد الحياة والقوى العقلية، وأن العقل ناشئ منها ولا يختلف عنها في
شيء من صفاته، وأن الأفكار تتولد بواسطة حركات مواد الدماغ كما تتولد الصفراء في
الكبد، إذ لكلٍّ منهما أصل مادي. وهذا المذهب يعظم الحس الجسدي ويرفع شأن الحواس
الخمس على قوى الإنسان العقلية الروحية، لأن الضمير والمشاعر الدينية والبديهيات الأخلاقية
والتمييزات العقلية والشعور وأصل الكون وكل ما فيه عند أهل هذا المذهب إنما هي
المادة على هيئات متنوعة. وقد أوضحنا سابقاً تعاليم الماديين وخصائصها وأضرارها (راجع
فصل 10 س 6).

(3)
مذهب النشوء، وهو أن أصل هذا الكون جوهر مادي له خواص التوالد والنمو والارتقاء،
وأنه من فعل النواميس الطبيعية. وقد نشأ النبات والحيوان والإنسان والعالم أجمع من
ذلك الجوهر. واختلف أهل هذا المذهب في ماهية ذلك الجوهر الأصلي وفي أصله. وكل
آرائهم افتراضات عقلية، فجماعة منهم اعتقدت أنه مخلوق، وأقرُّوا بوجود خالق،
وآخرون قالوا إنه طبيعي الأصل، فشابهوا مذهب الماديين. وسنتحدث عن هذا المذهب
بالتفصيل في الفصل التالي. وأما المسيحي فيجب أن يتمسك باعتقاده أن الله هو خالق
هذا الكون والمعتني به، وأن يقبل كل ما يتحققه من الطبيعة في شأن كيفية إتمام ذلك.

10 – ما هي المذاهب الشائعة في كيفية خلق الكون؟

*
أوردنا في إجابة السؤال السابق المذاهب المختلفة القديمة والحديثة في أصل الكون،
وبينّا أن الصحيح منها نسبه لعلة واحدة مستقلة عنه، وهو الله الخالق. والآن نبحث
كيف أتقن الله الكون بعدما أوجد المواد الأصلية، وعن علاقته بهذا الكون: هل ترك
المخلوقات لنفسها أو هل اعتنى بها؟ وقسمنا الكلام في ذلك ثلاثة أقسام كبرى:

(1)
مذهب النشوء الذاتي أي بدون عناية الله وهو نوعان: (أ) أنه كان بدون تدخُّل الله
على الإطلاق، (ب) أنه كان بتدخله بخلق خلايا الحياة الأصلية فقط.

(2)
مذهب النشوء بواسطة عناية الله.

(3)
مذهب الخلق المباشر بغير النشوء.

11 – ما هو مذهب “النشوء الذاتي”؟

*
هو أن الكون بكل ما فيه من الأجناس الحية على أنواعها نشأ بالتقدم البطيء من درجة
لأخرى في سلم الارتقاء، وأن جميع أنواع الحياة النباتية والحيوانية والعقلية أيضاً
نشأت عن تغيرات طفيفة كانت تزداد وتتقدم من دور لآخر إلى أن بلغت حالتها الحاضرة
من الكمال. أي أن كل ما في الكون نشأ من الطبيعة نفسها. وينقسم أهل هذا المذهب إلى
قسمين، أحدهما ينكر لزوم تدخل الخالق في إبداع أصول الحياة، والآخر يسلم بلزوم
تدخله في خلق خلايا الحياة الأصلية فقط، وينكر تدخله بعد ذلك، فيكون تاريخ الكون
طبيعياً. وعلَّلوا تنوّع الأحياء بطرق مختلفة، فقال قوم إن الأنواع نشأت من عمل
أسباب خارجية في الأحياء أوجبت النمو والتقدم. وهو قول لا يلقى اعتباراً الآن عند
أهل العلوم الطبيعية. وقال غيرهم (وأشهرهم دارون الإنجليزي) إن تنوع الأحياء نشأ
عن الجهاد بينها دفعاً لخطر الفناء بسبب ازدياد عددها أكثر مما تحتمله وسائل
المعيشة، فهلك الأضعف وبقي الأقوى والأصح. ولما كان من دأب ما بقي أن يتقدم في سلم
الحياة والارتقاء للسبب المذكور، كان لابد له من التقدم البطيء من درجة لأخرى في
سلم الكمال، فنشأت عن ذلك أنواع مختلفة، لكلٍّ منها صفة التقدم لحالة أفضل وأقوى،
إلى أن صارت النباتات والحيوانات على ما نراها من التنوع المختلف الآن. وكذلك حدث
مع البشر، حتى أن دارون قال بنشوء الجنس البشري من الحيوان. غير أن بعض تابعيه
اعتقدوا أن هذا الرأي يصدق على النباتات والحيوانات فقط، لا على الإنسان. وهذان
الرأيان أفضل من المذهب الإلحادي، لأنهما يحتملان اعتقاد وجود خالق أبدع الحياة
أصلاً وأودع فيها قوة التوالد. على أنهما لا يزالان دون إثبات، بل إن الأدلة على
عدم صحتهما أقوى من الأدلة على صحتهما.

12 – ما هي الأدلة على خطأ مذهب النشوء الذاتي؟

*
في هذا المذهب قولان، ونورد الأدلة على خطأ كل منهما:

(1)
القول الأول: “ليس للخالق يدٌ في خلق العالم”. وكل الأدلة التي تثبت
وجود الله وخلقه تبرهن بُطل هذا المذهب، الذي يقول إن المادة ذات قوى حيوية
وعقلية. كما أن كل الأدلة على خطأ الفلسفة المادية أدلة على خطئه أيضاً. ولما كان
يقول إن الله لا يتدخل على الإطلاق، لا في الطبيعة ولا في البشر ولا في كل ما
يتعلق بهما، كانت الأدلة على تدخل الله في أمور البشر مثل العجائب والنبوات وأعمال
العناية كافةً، تدل على خطأ هذا القول. ومن الأدلة على خطئه (غير ما ذُكر) ما يأتي:
(أ) إنه ينسب للمادة الخالية من الحياة قوةً عظيمة أصلية وعقلاً وقصداً وأهدافاً
سامية، ونحو ذلك مما لا يجوز أن يُنسب إلا إلى للخالق. (ب) ينسب للطبيعة قوة
الانتقال من حالٍ لأخرى تختلف عن الأولى بخواص لا يمكن أن تنشأ إلا بقدرة الخالق،
فبحسبه تتحول المادة الخالية من النظام أو الحياة (من نفسها) إلى ذات قوات طبيعية،
كالقوات الميكانيكية والكيماوية، ثم تتحول هذه إلى الحياة النباتية، ثم إلى الحياة
الحيوانية، ثم إلى الحياة العاقلة كحياة الإنسان! وهذا التقدم الذاتي التدريجي في
الطبيعة بدون تدخل الخالق لا يقبله العقل السليم، ولا يشهد بصدقه لسان حال
الطبيعة، فليس لهذا الارتقاء في هذا السلَّم ما يثبته ولا ما يرجحه ولا ما يدل على
إمكانه. (ج) إنه يستلزم التسليم بإمكان التوالد الذاتي الذي تناقضه كل الأدلة
العلمية، وقد فشلت كل المحاولات في إثبات صدقه. (د) إنه يستلزم عدم وجود ما يميّز
المادة عن الروح، ولا الغريزيات عن العقليات، ولا الحياة الحيوانية عن الحياة
الروحية، ففيه الغرائز البهيمية تساوي إحساسات البشر القلبية وعواطفهم الروحية،
وعبادة البشر لله تشبه محبة حيوانٍ لصاحبه، والفرق بينهما في الدرجة لا في النوع.

ورفض
الفلاسفة والطبيعيون مبادئ وأركان هذا المذهب لأسباب علمية، ومن مفنديه دارون
وهكسلي وتندل وفِرْجو الذين لو أمكنهم التسليم به لما تأخروا عن ذلك.

(2)
يقول المذهب الثاني إن الله خلق أولاً خلايا الحياة، ثم تركها لنفسها، فانتظمت من
ذاتها على ما هي عليه بالارتقاء، بحسب قوانين طبيعية. وهو مرفوض بأدلة قوية منها:
(أ) الحقائق الطبيعية التي تأسس عليها ضعيفة، مثل أساس ضيق جداً لبناء واسع! ولما
رأى دارون أن قانون الانتخاب الطبيعي لا يكفي لتعليل كثير من أسرار الحياة وغرائب
التنوُّع افترض انتخاب الأنواع على أساس افتراض الانتخاب الطبيعي. ومع ذلك بقيت
حقائق كثيرة غير قابلة للتعليل بموجب هذا المذهب، بل تبين خطؤه بسبب البُعد الكبير
الشاسع بين الأنواع والأجناس الحية كما يقول علم الجيولوجيا، فكثيراً ما نشاهد
أنواعاً كاملة تتلاشى، وأنواعاً أخرى تبدأ بكثرة دون دليل على الانتقال البطيء من
نوع لآخر، وليس لذلك تفسير بموجب مذهب النشوء. كما توجد في مملكتي الحيوان والنبات
أجناس وأنواع لا يمكن تعليلها بموجب مذهب النشوء. وقبول هذا المذهب يحتاج إيماناً
بصحته أعظم جداً من الإيمان الذي يحتاجه الإيمان بالدين. وأهل هذا المذهب يعتنقونه
بالتسليم لا باليقين، كأنهم يعيشون بالإيمان لا بالعيان!.. ونشأ عند أهل العلوم
الطبيعية اعتراض آخر على المذهب الداروني له اعتبار عظيم لديهم، وهو أن هذا المذهب
يستلزم بالضرورة لإتمام مطالبه مدة من الزمان أطول جداً من المدة التي يقدر أهل
العلوم الطبيعية أن يسلموا بها. فحرارة الشمس ومدة دوامها يمنع اعتقاد وجود النظام
الشمسي مدة بمقدار المدة التي يقتضيها المذهب الداروني. وقال علماء النبات إن مدة
وجود الحياة الحيوانية على الأرض لا تزيد على خمسين مليون سنة. ومع أن هذه المدة
طويلة جداً، لكنها أقل مما يقتضيه المذهب الداروني، لأنه يستلزم مدة أطول بكثير.
(ب) ثبوت الأنواع المطلق على الدوام من أقوى الأدلة على خطأ هذا المذهب، فقد برهن
علم الجيولوجيا أن الأنواع الحية لا تزال منذ وجود الإنسان إلى الآن على ما كانت
بدون اختلاط ولا انتقال. وضاعت كل محاولات أهل العلوم الطبيعية أن يبيّنوا إمكان
انتقال الأنواع. نعم بيّنوا إمكان حدوث الانتقال بين فروع نوع واحد، غير أنهم لم
يقدروا أن يبرهنوه بين نوعين مختلفين، بدليل امتناع توالد مولود من نوعين. ولو صح
هذا المذهب لرأينا تحوُّل نوع لآخر في طبقات الأرض الصخرية المملوءة من بقايا
متحجرات الأنواع الحية في الأدوار القديمة. ولكن لم يوجد من تلك البقايا ما يكفي
لإثبات هذا المذهب. فلو صحَّ أن الإنسان متسلسل من الحيوان لوجب أن تكون الأرض
مملوءة من الأدلة على هذا التسلسل، مثل وجود هياكل قرود كثيرة متحجرة، لأن الجنس
البشري حديث العهد، فكنّا ننتظر أن بقايا أسلافه توجد بكثرة في الطبقة العليا من
الأرض، حتى لا يبقى شك في علاقة الإنسان بالقرد. وهذا ما حمل هيجل الألماني
المتمسك بمذهب دارون والمشهور بإلحاده أن يفترض وجود نوعٍ يكون حلقة متوسطة بين
القرود والبشر، سماه “القرد الإنسان” وزعم أن كل آثار له ضاعت! (ج) ينتج
عن الاعتقاد بصحة هذا المذهب أن الحياة العقلية والروحية والضمير قد صدرت من غريزة
الحيوانات. وهو يخالف شهادة الوحي في أصل الإنسان، وليس له دليل يثبته أو يرجحه،
وليس في تاريخ البشر ما يثبت مذهب دارون، لأن تقدم البشر في القرون الماضية لم يكن
بموجب ناموس الانتخاب الطبيعي وبقاء الأصلح، بدليل أنهم لا يزالون على ما كانوا
عليه، وأن عوامل تقدمهم هي من التعليم المُنزَل والوسائط الدينية والأخلاقية.
ويؤيد ذلك انحطاط بعض الأمم العظيمة في القرون الماضية وتلاشي بعضها بسبب توغلهم
في الرذائل. ولا نبني رجاء البشر في التقدم على فعل القانون الداروني فينا، بل على
فعل التعاليم الإلهية والمبادئ الأخلاقية والنعمة السماوية والاجتهاد في الانتصار
على الميول الطبيعية والخضوع التام لله وطلب إرشاده.

13 – ما هو مذهب “النشوء الإلهي” المصحوب بالعناية؟

*
هو أن الله خلق الحياة الأولى، ثم خلق منها بعنايته أنواعاً جديدة بحسب الاقتضاء،
إلى أن خلق الإنسان. وقالوا إن كيفية الخلق ربما كانت على صورة النشوء بعنايته
وقوته إتماماً لمقاصده، إذ ليس ما يمنع خلقه نوعاً جديداً من نوعٍ آخر إذا شاء،
لأن ذلك يتوقف على استحسانه، ولا يليق بالعقل البشري القاصر في أسرار الخليقة أن
يعترض عليه. فإذا بيّن مذهب النشوء كيف تمم الله مشيئته ومقاصده في الخلق، كان
المذهب موافقاً لطبيعة الله وحكمته وقوته ولتعاليم الوحي وكان قريباً لما نراه في
نظام الكون، بل إنه يشبه في بعض الوجوه كيف يتمم الله مقاصده في إخراج ثمار الأرض
من بزورها وإنمائها وتوليد الأجناس الحية. فالتسليم بقدرة الله أنه يتمم مقاصده
بإبداع نوع حي من آخر بالطريقة التي يستحسنها لا يكون صواباً فقط بل واجباً أيضاً.
ومتى تبرهن أن الله أجرى عمله بهذه الطريقة، حسب مذهب “النشوء الإلهي”
وجب التسليم بذلك وقبول كل ما أعلنه عن ذاته وعمله في كتاب الطبيعة، كما يجب قبول
كل ما أعلنه في كتاب الوحي. وهناك كثيرون من أفاضل العلماء المسيحيين مستعدون
لقبول مذهب النشوء على هذه الصورة، متى أُثبت بأدلة أقطع وأوضح مما لنا الآن. ولكن
هناك صعوبات في برهنة هذا المذهب. ولكنه يسهّل فهم أمور كثيرة، ويوضح أسرار
الخليقة، ويحفظ كرامة الخالق لأنه يسلّم بوجوده وتدخله على الدوام كما يشاء بقوته
الفائقة في معاملة خليقته. وأما مذهب النشوء الذاتي فيخالف تعاليم الكتاب المقدس
في أصل الكون لأنه لا يسلّم بأن الله هو الخالق الذي خلقنا على صورته، بل ينسب
البشر للحيوانات.

14 – ما هو مذهب الخلق المباشر بطريقة غير النشوء؟

*
هو أن الله خلق مواد الكون الأصلية من لا شيء بكلمة قدرته، ثم أعدها في أثناء
أدوار طويلة لإبداع الحياة. ولما صارت مهيأة لذلك أبدع أولاً النباتات على
أجناسها، ثم الحيوانات غير العاقلة على أجناسها، بالتتابع في أدوار كثيرة. ولما
حان الوقت لخلق الإنسان أبدعه على صورته مميّزاً إياه بالنفس عن سائر الحيوانات،
أي أن الإنسان يشبه الخالق في نفسه الناطقة، ويشبه الحيوانات في بنيته الجسدية. ثم
استراح من جميع عمله الذي عمل خالقاً، واستمرّ ما أوجده من ذوات الحياة حياً يثمر ويتكاثر
على الأرض. وقد قبل هذا المذهب كثيرون من المؤمنين بالوحي في جميع القرون الغابرة
بناء على مفهوم الكتاب، لأنه ينسب الخلق كله لمشيئة الله وقدرته، وهو كافٍ لتعليل
حوادث الكون منذ إنشائه، ولا ينسب للخالق عملاً يناقض نظام الكون، بل يبيّن
التوافق الكامل بين الكائنات، ويقول إن الله أوجد الكائنات حسب نظام كان مقرراً
سابقاً في فكره. ويتضح من الكتاب المقدس والطبيعة أن الله تدرَّج في عمله من
المواد البسيطة إلى المركبة، وفي الحياة من الأدنى إلى الأعلى بالترتيب، إلى أن
وصل إلى الإنسان تاج الخليقة. وذلك باستعمال المواد الموجودة، واستخدام القوات
الطبيعية بمقتضى قوانينها، وجعل الأنواع الجديدة مشابهة لما سبقها في أمور كثيرة،
وأجرى ذلك بطرق مختلفة حسب استحسانه. وليس في هذا المذهب ما ينفي فعل الأحوال
الخارجية في المخلوقات وإحداثها بعض التغييرات في طبيعة المخلوقات وعوائدها، دون
مساسٍ بخواصها النوعية، فالبشر مثلاً نوع واحد، تفرّعوا صنوفاً يتميّز بعضهم عن
بعض في أعراض كثيرة، بفعل أسباب خارجية وداخلية، غير أن الخواص النوعية استمرت على
أصلها. وبحسب هذا المذهب يمكن تعليل كل ما أورده أهل مذهب النشوء من الحقائق
لإثبات مذهبهم بغاية السهولة، كالمشابهة التي تُرى بين الأنواع الكائنة والتي كانت
في الأدوار الجيولوجية، والتي تُرى بين أنواع مختصة بمكانٍ واحد، ومن علامات القصد
في بنية الحيوانات، ووجود أعضاء ابتدائية غير كاملة وغير مستعملة في بعض الأنواع،
والتسلسل المتتابع في الأنواع الحية. فبحسب مذهب “الخلق المباشر” نرى
مقاصد الخالق الذي استحسن إبداع الكائنات على المنوال المذكور. ولا يناقض هذا
المذهب ما يمكن إثباته من النشوء في الخليقة، بل ينسبه إلى فعل عقل الخالق لا إلى
الطبيعة نفسها، مستقلة عنه.

وبما
أن المباحثات العلمية والمجادلات العنيفة في المسائل الطبيعية قد كثرت في هذا
العصر، وجب على المسيحي أن يتمسك بإيمانه بوجود الله، وبأنه هو الذي خلق الكائنات
من العدم، ولو أن الكتاب لم يذكرها. وعليه فإن صحة إيماننا لا تتوقَّف على صحة
مذهبٍ ما، ما دام ذلك المذهب يعظم الخالق ويتفق مع الكتاب المقدس.

15 – من أين استقى موسى أخبار الخليقة المذكورة في سفر التكوين؟

*
لا شك أن الله أعلن ذلك لموسى بالوحي، فليس للبشر وسيلة للوصول إلى ذلك بدون
الإعلان الإلهي. وقال قومٌ إنه أُعلن لموسى في رؤيا، كما أُعلن سفر الرؤيا ليوحنا.
لكن ليس عندنا ما يثبت هذا، بل بالعكس، فإن سفر التكوين يخلو من أية عبارة تدل على
أنه رؤيا، فلم يبدأ بالقول “الرؤيا التي رآها موسى” ولا “رفعتُ
عينيَّ وهوذا كذا” بل يبدأ كتابه كما يبدأ غيره من المؤرخين. واعتبر آخرون
خبر سفر التكوين بالخلق من أنواع الشِّعر وحسبوه “مزمور الخليقة” وهذا
أيضاً مشكوك فيه، فليس فيه خصائص الشعر العِبري، بل هو نثرٌ بسيط، ذُكرت فيه سلسلة
حوادث خلق الكون على نسقها الطبيعي. وليس لنا دليل مقنع على كيفية حصول البشر على
هذا الخبر، والأرجح أن الله أعلنه مباشرةً لآدم أو لغيره من رؤساء الآباء القدماء،
فكُتب وحُفظ لعهد موسى الذي افتتح به هذا السفر، وكتبه فيه بإرشاد الله ووحيه.

16 – ما الهدف من كتابة موسى خبر خلْق العالم؟

*
ليس القصد منه بيان حوادث الخليقة بأسلوب علمي، لأن موسى لم يقصد تعليم الناس
حقائق طبيعية علمية. ولا قصد ذكر تفصيلات عمل الخلق، بل اكتفى بذكر أهمّ حوادثه
بالتتابع، بدون تفسير كيفية إجرائها أو تعيين زمن إبداعها ولا تحديد المدة التي
اقتضاها، وأن الخالق أبدع الكون من لا شيء ونظمه وأعده لأجل أهدافه، وأن له
السلطان التام على جميع الأسباب الثانوية والنواميس الطبيعية. والهدف الأهم فيه هو
تعليم الإنسان صفات الخالق وأعماله، وخلقه الإنسان مباشرةً، وبيان مقام الإنسان
بين المخلوقات وعلاقته بها، فإنه رأسها. ولما كان الهدف الأهم في الكلام عن
الخليقة تعليم البشر أموراً دينية تتعلق بخلق العالم، جاء أسلوبه خالياً من
الاصطلاحات العلمية.

17 – هل يخبرنا موسى بنظام خلق العالم؟

*
التعليم الجوهري في الوحي هو أن الله هو الخالق، لكننا نتعلم منه حقائق أخرى مفيدة
جداً، منها أن ذلك العمل جرى بكل نظام وترتيب، وبالتقدم التدريجي من البسيط إلى
المركب ومن الأدنى إلى الأعلى، وأن درجات ذلك التقدم مثل حلقات سلسلة واحدة تتصل
بعضها ببعض، الحلقة الأولى منها إيجاد المواد الأصلية من لاشيء، والأخيرة إبداع
الإنسان رأس الخليقة على صورة الله. أما الأعمال التي جرت بعد إيجاد المواد
الأصلية فهي بالتفصيل:

(1)
خلق النور، والأرجح أن المقصود به موجات كهرومغناطيسية منتشرة في كل أنحاء الكون.

(2)
الفصل بين مياهٍ ومياه، وتوسُّط الجلَد (القبة الزرقاء) بينهما، والجلَد في الأصل
شيء مبسوط، وهو الغلاف الجوي المحيط بالأرض.

(3)
فصل اليابسة عن المياه، أي الأرض عن البحر، وإبداع الحياة النباتية.

(4)
إقامة أنوار في جلَد السماء للفصل بين النهار والليل ولتمييز الفصول، أي ترتيب
الشمس والقمر والنجوم في النظام الشمسي وعلاقتها الحاضرة بالأرض. والمقصود
بالأنوار الكواكب التي تحمل النور أو تعكسه، ومفردها في اللغة العبرية الأصلية ليس
هو نفس الكلمة المستعملة عن النور الأصلي الذي أُبدع في اليوم الأول.

(5)
خلق الحيوانات الأدنى التي تعيش في المياه والهواء، أي الحيتان العظام وكل متحرك
في الماء، ثم الطيور.

(6)
خلق الحيوانات العليا التي تعيش على وجه الأرض، أي البهائم والحيوانات التي تتحرك
على الأرض، والوحوش كأجناسها، ثم خلق الإنسان على صورة الله ليتسلط على جميع
المخلوقات.

(7)
راحة الله في اليوم السابع من عمل الخلق، ودخوله في علاقة جديدة مع مخلوقاته، هي
أنه يحفظها ويباركها ويتمم فيها مقاصده الأزلية الحكيمة.

ويمكن
حصر جميع أعمال الأيام الستة في قسمين: (أ) إعداد الأرض لسكانها، وهو ما تم في
الأيام الثلاثة الأولى، ويشمل على الغالب المواد الجامدة. (ب) ملء الأرض بالسكان،
وهو ما تم في الأيام الثلاثة الثانية، وهو يشمل غالباً المواد الحية:

أولاً:
إعداد الأرض وسكانها:

اليوم
الأول: خلق النور.

اليوم
الثاني: فصل مياه عن مياه، وظهور الكرة الأرضية.

اليوم
الثالث: (أ) فصل اليابسة عن المياه. (ب) إبداع الأعشاب (وهي الأولى من المواد
الحية).

ثانياً:
ملء الأرض بالسكان:

اليوم
الرابع: إبداع النور الشمسي.

اليوم
الخامس: إبداع الحيوانات الدنيئة.

اليوم
السادس: (أ) إبداع الحيوانات العليا. (ب) خلق الإنسان.

وبين
عمل كل يوم من الثلاثة الأولى وما يقابله من الثلاثة الثانية مشابهة: فأول عمل في
القسم الأول هو فصل النور عن الظلمة، ويقابله في القسم الثاني تنظيم النور الشمسي
وجعله على بُعد معيَّن من الأرض، ثم الفصل بين الأرض وجوّها (أي بين المياه التي
تحت الجلَد والتي فوق الجلد) ويقابله إبداع طيور الهواء وحيتان البحر. ثم فصل
اليابسة عن البحار وإخراج العُشب، ويقابله خلق الحيوانات التي تعيش على اليابسة،
والإنسان. وفي كل ذلك أدلة على إبداع الله الكائنات بغاية النظام والترتيب، فإنه
أولاً هيأ المسكن، ثم ملأه بالسكان، متقدماً في هذا العمل من البسيط إلى المركَّب،
إلى أن وصل إلى الإنسان تاج عمله العظيم. ويتضح من هذا كمال الجمال والنظام
والتوافق مع العقل السليم، بغير شرح علمي أو فلسفي. ويتضح منه وجود الله وعلاقته
بالكون، وسلطانه المطلق، وأنه هو وحده يستحق عبادة الجميع.

وفي
سفر التكوين خبران يختصان بالخليقة، أولهما في الأصحاح الأول وهو يوضح خلق كل
الكائنات ويذكر خلق الإنسان بالاختصار، ليبيّن علاقته بكل الخليقة. وثانيهما في
الأصحاح الثاني، وهو تكملةٌ للأول غير مستقل عنه، وهو يذكر خلق الإنسان بالتفصيل،
تمهيداً لذكر أحواله في الفردوس وسقوطه. والاسم المستعمل للخالق في الخبر الأول “إلوهيم،
أي الله” يوافق علاقته بالكون أجمع، ويُستعمل له في الخبر الثاني اسم “يهوه
إلوهيم، أي الرب الإله” وهو يوافق علاقته بالإنسان. وجاء الاسمان معاً في
افتتاح الخبر الثاني كاسم واحد للجلالة فقيل “يوم عمل الرب الإله الأرض
والسماوات” ليبيّن أن الإله المنسوب إليه الخلق في الخبر الثاني هو نفس الإله
الذي نُسب إليه الخلق في الخبر الأول.

ونتعلم
من خبر الخليقة أنه يوجد إلهٌ واحدٌ خلق كل الكائنات، ذو مشيئة واختيار، متميّز عن
مخلوقاته، وأن المادة ليست أزلية، وأن خلق الكون تم بالتتابع والتدرج من المادة
الجامدة إلى الإنسان المخلوق على صورة الله. وهذا ينقض المذاهب الإلحادية التي
ظهرت بين البشر على أنواعها، كاعتقاد عدم وجود الله، واعتقاد وجود آلهة كثيرة،
واعتقاد أزلية الكون أو مواده، واعتقاد ألوهية الكون (وحدة الوجود) واعتقاد تسلسل
الإنسان من البهائم، واعتقاد النشوء الذاتي، إلى غير ذلك مما لا يسعنا الآن ذكره.

18 – هل هناك تناقض بين ما ذكره موسى عن خلق العالم والاكتشافات
العلمية الحديثة؟

*
لا. لأنه لما كان هدف سفر التكوين أن يعرّف البشر بخالقهم وبعلاقته بالمخلوقات،
اقتضى أن يكون كلامه بسيطاً، يقتصر على الأمور الرئيسية دون التفاصيل، وخالياً من
الاصطلاحات العلمية، دون أن يكون فيه ما يخالف الحقائق العلمية. وكل ما اعتُبر
خلافاً نشأ إما عن اختصار كلام سفر التكوين وعدم وضوح معناه، أو من عدم صحة
المذاهب العلمية التي يُقال إنها تناقض سفر التكوين. وحُصرت الشُّبهات المنسوبة
إلى سفر التكوين في ثلاثة أبواب:

(1)
الشبهات الجيولوجية ومنها: (أ) يُستفاد من أقوال موسى أن نظام الكون تمّ في ستة
أيام، ولكن يُستفاد من علم الجيولوجيا أن ذلك استغرق حقباً كثيرة وطويلة. فنجيب أن
ليس بينهما تناقض لأن كلمة “يوم” جاءت في الكتاب المقدس بمعنى مدة طويلة
(انظر إجابة س 7 في هذا الفصل).
(ب) يُستفاد من أقوال موسى أن النبات أُبدع
قبل الحيوان، ولكن يظهر من الاكتشافات الجيولوجية حتى الآن أن آثار الحيوانات أقدم
من آثار النباتات. فنجيب: ربما كان ذلك لأن آثار النباتات الأولى فنيت لأنها لم
تحتمل البقاء وقبول التحجر كآثار الحيوانات. ويؤيد احتياج الحيوانات للنباتات صدق
كلام موسى، لأن النباتات غذاء الحيوان، فلا بد من وجود النباتات أولاً. ولقد برهنت
الاكتشافات الحديثة هذه البديهية. (ج) على ما يظهر من كلام موسى أن كل أنواع
النباتات أُبدعت معاً في اليوم الثالث، وأن الحيوانات على أنواعها خلقت دفعةً
واحدة في اليومين الخامس والسادس، ولكن يظهر من علم الجيولوجيا أن أنواع كل منهما
لم تظهر دفعةً واحدة بل ظهرت متفرقة على فترات طويلة. فنجيب: إن هذه الشبهة تزول
تماماً إذا حسبنا كلمة “يوم” تدل عن مدة طويلة (انظر إجابة س 7 في
هذا الفصل).
(د) نتعلم من أقوال موسى أن الموت دخل العالم بسبب معصية الإنسان،
ولكن يظهر من البقايا الجيولوجية أن الموت وجد في الأدوار الطويلة التي مرت قبل
خلق الإنسان. فنجيب: جاء كلام الوحي عن موت الإنسان لا عن موت البهائم (انظر رو 5:
12).

(2)
الشبهات الفلكية، ومنها: (أ) قال موسى إن الله خلق النور في اليوم الأول، ثم قال
إنه عمل الشمس في اليوم الرابع، وبين القولين تناقض. فنجيب: النور الذي أبدعه الله
في اليوم الأول كان نوراً كهرومغناطيسياً ممتداً في أرجاء الكون ناتجاً من حالة
المواد الأصلية قبل تنظيمها، وهو غير نور الشمس المندفع لأرضنا على الدوام. (ب) ذكر
موسى عمل النجوم في اليوم الرابع، مع أنها خُلقت قبل ذلك. فنجيب: نعم إن الشمس
والقمر والنجوم خلقت قبل اليوم الرابع، ولكن موسى قصد أنها دخلت في علاقتها بأرضنا
في ذلك الوقت. والمقصود بالنجوم في تك 1: 16 إما الكواكب السيارة في مجموعتنا
الشمسية، أو جميع نجوم الكون.

(3)
الشبهات الفسيولوجية، المتعلقة بعلم الحياة: (أ) يقول موسى إن الله أوجد الحياة
مباشرةً، ولكن بعض أهل الفلسفة المادية ارتابوا في ذلك وقالوا بإمكان تولدها من
تلقاء نفسها. فنجيب: هذا مجرد افتراض بلا دليل، لأن كل ما عُرف من أمر الحياة
يبيّن أن أصلها من الله لا من نفسها. (ب) يقول موسى إن الله خلق النبات والحيوان
على أنواعها بعنايته الخاصة، دون توضيح كيفية ذلك، فقيل “خلق الله التنانين
كأجناسها، وكل طائر كجنسه”. وقال الله “لتُخرج الأرض ذوات أنفسٍ كجنسها”.
فقول الوحي “خلق الله” و”قال الله” يدل على قصده وعنايته دون
شرح كيفية إتمامها.

وقال
أصحاب مذهب النشوء الذاتي إن النباتات والحيوانات نشأت بالتدريج بعضها من بعض،
بنواميس طبيعية تفعل من نفسها مستقلة عن مشيئة الله وسلطانه وعنايته، وأخيراً نشأ
منها الإنسان. فنجيب: لما كان هذا المذهب غير مثبت بعد، وكانت الأدلة على عدم صحته
أقوى مما يوردونه من الأدلة على صحته، كانت الاعتراضات على أقوال موسى الموحى به
بلا قيمة ولا تأثير في اعتقادنا أن الله أبدأ كل أنواع الحياة بالكيفية التي
استحسنها هو.

19 – من أي شيء نشأت الشبهات السابق ذكرها وأمثالها؟

*
نشأت من:

(1)
اعتبار أن كلام موسى على أسلوب علمي.

(2)
سوء فهم ما كتبه موسى أو سوء تفسيره.

(3)
الخطأ في فهم الحقائق العلمية وجعل ما كان منها غير ثابت بمنزلة الثابت.

وما
ذكرناه الآن كافٍ لتعليل ما يظهر من التشويش والتناقض بين الوحي والعِلم. فإذا
أدركنا أن ما كتبه موسى ليس مادة علمية، بل كتابة بسيطة للفائدة الدينية، لا نرى
تناقضاً بين كلام الوحي والحقائق الطبيعية، بل نرى توافقاً بينهما في أمور كثيرة،
كما سترى.

20 – ما هي بعض أوجه الاتفاق بين ما قاله موسى عن الخليقة والحقائق
العلمية؟

*
(1) قال موسى إن للكون بداية، ويتضح من البحوث العلمية الحديثة في الطبيعة أن
للجنس البشري بداية، وكذلك للحيوانات والنباتات، وللمادة ونواميسها وقواتها. فيتضح
من العلم (الذي يتفق مع الوحي) عدم أزلية المادة.

(2)
كانت السماوات قبل الأرض، وإن كان موسى قد أطال الكلام عن الأرض. وتبيّن الحقائق
العلمية أن هذه الأرض ليست مركز الكون كما توهَّم القدماء، وليست لها أهمية في
نظامه إلا لأنها مسكن البشر، وذلك يوافق الرأي السديمي الذي بموجبه تكونت عوالم
الأفلاك قبل نظام أرضنا.

(3)
الحرارة والماء هما الوسيلتان العظيمتان لتكوين الأرض، فالنور الذي أُبدع في اليوم
الأول نتج عن الحرارة النارية الناشئة من حركات المواد الأصلية في حالتها الغازية
وهي مشتعلة، وكانت الحرارة والمياه تُحدثان التغيرات والانقلابات الطبيعية
المتوالية أثناء مدة إعداد الأرض مسكناً للحياة. وفي الطبيعة أدلة كافية لإثبات
أنه بالحرارة والمياه تكونت قشرة الأرض وأُعدت اليابسة مسكناً للحيوانات والبشر.
ويتضح أيضاً من سفر التكوين ومن مز 104: 6-9 ومن طبقات الأرض أن اليابسة تكوّنت
تحت المياه.

(4)
تتابع إبداع المخلوقات، فيتضح من الكتاب والطبيعة أن الله لم يبدع الكائنات دفعةً
واحدة بل على التوالي، الواحد بعد الآخر. وقد تبيَّن من البحوث العلمية أن ذلك
اقتضى حقباً طويلة جداً.

(5)
التقدم من درجةٍ لأخرى في سلَّم الحياة، وأن الإنسان خلق آخر الكل. وذلك واضح من
كلام موسى ومن البراهين العلمية على أن أنواع الحياة الدنيا وجدت أولاً، ثم تلاها
ما هو أعلى منها، وهكذا إلى أن انتهت السلسلة بالجنس البشري. أما اعتقاد البعض أن
ذلك كان بالنشوء الطبيعي والتدرج الذاتي من نوع لآخر بسلسلة متصلة فلا دليل عليه (انظر
إجابة س 12 في هذا الفصل).

(6)
توافق تعبيرات موسى عن الخلق مع الاكتشافات الطبيعية. ومن ذلك: (أ) الكلمتان
الأصليتان اللتان تصفان النور المخلوق في اليوم الأول (كلمة نور أي نور أصلي)
والنور المخلوق في اليوم الرابع (أي كلمة أنوار أي حاملات النور) تتفقان مع ما حدث
فعلاً. (ب) الكلمة المترجمة “جلَد” توافق طبيعة الجو المنبسط والمتّسع.
(ج) الكلمتان المترجمتان “تنانين” و”دبابات” موافقتان لصفات
الحيوانات العِظام التي أُبدعت في ذلك الوقت على ما يظهر من آثارها في طبقات
الأرض. (د) الكلمة المترجمة “خلَق” (بَرَا) في فاتحة سفر التكوين تناسب
تمامًا التعبير عن خلق الله للمواد الأصلية (آية 1) وخلق الحياة الحيوانية (آية
21) وخلق الإنسان (آية 27). وفي كل ما سواها استُعملت ألفاظ تدل غالباً على الخلق
بوسائط ثانوية، ومن ذلك قوله “وقال الله ليكن”. “فعمل الله”.
و”قال الله لتجتمع”. و”قال الله لتُنبِت”. “وقال الله
لتكن أنوار”. “فعمل الله النورين”. ومن هذا يظهر أن سفر التكوين
يقول إن الخلق الجديد مباشرةً من لا شيء لم يحدث إلا قليلاً، وإن أكثر الأعمال
الإلهية تمت بإبداع أشياء جديدة بوسائط ثانوية من مواد موجودة، وذلك مطابق لما
نستنتجه من الطبيعة نفسها. ومما يستحق ذكره أن العبارات التي وردت فيها كلمة “خلق”
(تك 1: 1، 21، 27) هي التي أعجزت أصحاب مذهب النشوء عن إثبات صحة مذهبهم وعن أن
يبيّنوا كيفية النشوء من لا شيء، لأن ذلك محال، وكذلك افتراض نشوء الحياة
الحيوانية من مادة خالية من الحياة، وافتراض نشوء الحياة العقلية البشرية من
الحياة البهيمية مما لا يصدقه العقل السليم.

(7)
للإنسان المقام الأول في الطبيعة، فقد قال موسى إن الله خلق الإنسان على صورته،
وإن بينه وبين الخالق علاقة لم يشاركه فيها غيره، فهو أسمى مما سواه من المخلوقات
أصلاً ومقاماً. وهذا يبيّن فساد القول بتسلسل الإنسان من البهائم بالتناسل
الطبيعي. ويؤيد ذلك ما جاء في إنجيل لوقا 3 في ذكر نسب المسيح، فإنه قيل في خاتمة
الكلام “ابن أنوش ابن شيث ابن آدم ابن الله”. وكل ما ذُكر فيه من علاقة
الإنسان بالخالق وخلقه في آخر اليوم السادس بعد الحيوانات العليا يطابق البحوث
العلمية عن مقام الإنسان ومكانه في سلسلة الحياة.

(8)
بيان وحدة النوع البشري المنسوب إلى أصلٍ واحد هو أبوانا الأولان آدم وحواء، فهو
من صريح أقوال الكتاب المقدس (تك 1: 27، 28 و2: 7، 22 و3: 20 ومت 19: 4 وأع 17: 26
ورو 5: 12، 19 و1كو 15: 22) وتوافقه كل الحقائق العلمية (قارن مع فصل 22 س
1-7).

وهكذا
يثبت كل ما أوردناه من الاتفاق بين أقوال موسى في خلق الكون وأحدث الاكتشافات
العلمية أن موسى كتب بالوحي، وأنه لولا ذلك لوقع في أخطاء كثيرة. فيصح القول إن كل
الحقائق العلمية تثبت أقوال موسى في خلق العالم.

21 – ما هي غاية الله العظمى من خلق الكون؟

*
يقول الكتاب المقدس إن غايته بيان مجد الله وعظمته بإظهار صلاحه وقدرته وحكمته وكل
صفاته الفائقة، فقد حسُن في البدء عند الله الآب والابن والروح القدس، لأجل إظهار
مجد قدرته السرمدية وحكمته وصلاحه، أن يخلق من لا شيء العالم وكل ما فيه. ولما كان
الله غير محدود في صلاحه، وكانت معرفة البشر له أعظم واسطة لخيرهم وارتقائهم، كان
هذا الهدف ليس لمجرد تعظيم شأنه فقط، بل لسعادة مخلوقاته أيضاً بإظهار نفسه وبيان
صفاته ليعرفوه، فيُدخلهم في شركة حياته. ويقول الوحي في ذلك “الكل به وله قد
خلق” (كو 1: 16). “لأنه منه وبه وله كل الأشياء” (رو 11: 36). “أنت
مستحقّ أيها الرب أن تأخذ المجد والكرامة والقدرة، لأنك أنت يا رب خلقت كل
الأشياء، وهي بإرادتك كائنةٌ وخُلقت” (رؤ 11: 4).

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى