علم المسيح

68- المرأة الكنعانية



68- المرأة الكنعانية

68- المرأة الكنعانية

[من
خلف صرامة وجهه كان يُخفي ابتسامته].

حدث بينما كان المسيح يواصل رحلته نحو الشمال أن اقترب من
الحدود الخارجية للجليل التي تفصلها عن فينيقية (لبنان) حيث أهالي الأُمم، ومرَّ
بتلاميذه قرب قرية كانت فيها امرأة كنعانية فينيقية سمعت بمرور المسيح مع تلاميذه،
وكانت لها ابنة مريضة بها روح شرير يعذِّبها عذاباً أليماً. فخرجت من دارها مسرعة
تتعقَّب المسيح بعويلها وصراخها: “ارحمني يا سيد يا ابن داود. ابنتي مجنونة
جداً” (مت 22: 15). عجب، ما لهذه الأُممية “وابن داود”؟ من أين أتاها
هذا اللقب اللاهوتي ومِمَّنْ استلمته؟

لو
سمعنا هذا التوسُّل من رئيس مجمع أو رابِّي من الرابيِّين لاستغربنا على انفتاح
بصيرته وقوة استعلانه، ولقد بحث المسيح عمَّنْ يستعلنه على مستوى هذا اللقب في كل
إسرائيل فما وجده! أيجده عند هذه الأُممية التي لا تملك ميراثاً لاهوتياً ولا تراثاً
تعليمياً؟ إنها عابدة وثن ابنة عابدي وثن! وها هي تنادي المسيح بأعز لقب عنده. وقف
المسيح مبهوراً أمام هذه المرأة “لا يجيبها بكلمة”، كان يتأمَّل في جحود
بني وطنه وهو للتو خارج من مؤامرة لقتله على أيدي قومه، وأمامه مندوبة فوق العادة
خرجت من تخوم الأُمم تحييه وتناديه باسم داود والرسالة. فلمَّا تغاضى عن صراخها
وواصل المسير ضاق صدر التلاميذ بصراخ المرأة، وكأنها تزفّهم في وسط هذه الأحياء
الغريبة. فطلبوا إليه أن يصرفها: “لأنها تصيح وراءنا” وهنا أجاب المسيح
بكلمة لتوعِّي التلاميذ بهدف الرسالة ومضمونها: “فأجاب وقال: لم أُرسَل إلاَّ
إلى خراف بيت إسرائيل الضالة” (مت 24: 15). فما أن سمعته هذه المرأة الذكية
الحصيفة، حتى اقتربت منه وقطعت عليه الطريق: “وسجدت له قائلة: يا سيِّد
أَعِنِّي” هنا أثبتت هذه المرأة إنها
تتعبَّد له كما يتعبَّد خرافه، فلها حق عنده إن كان هو
الإله!!

فتعجَّب المسيح من جرأتها واقتحامها الطريق إليه! ولكن
المسيح عاد ليضع خرافه الذين أتى إليهم موضع البنين ليرفع من قَدْر الهوَّة التي
تفصل الأولاد عن العبيد والغرباء: “فأجاب وقال: ليس حسناً أن يؤخذ خبز البنين
ويُطرح للكلاب” (مت 26: 15). فما أن سمعت حجَّته إلاَّ وأخرجت له حجَّتها، إذ
ردَّت عليه قائلة: ” نعم يا سيِّد، والكلاب أيضاً تأكل من الفتات الذي
يسقط من مائدة أربابها”
(مت 27: 15). وكأنها تقول له إن الفائض من البنين
هو من حق الكلاب. وهكذا كانت حجتها أقوى من مطلبها مما أذهل المسيح. فكأنها قدَّمت
دفاعاً مشروعاً للأُمم أن تأخذ حقها
من فائض قدسه، فتخصيص
الخبز للبنين وحدهم فيه إجحاف للجائعين. فهل من عُرف ابن داود أن يفيض الخبز عن

الشباعى ويموت الجياع. إنها لم تذهب إلى كفرناحوم لتقاسم البنين خبز ديارهم، بل ها
هو المسيح الذي عبر إليهم إلى عقر دارهم، فأصبح لهم عليه حق الضيافة، فلولا أنه
مرَّ على دارها ما جرأت أن تجري وراءه. ولو لم يقل: إن الخبز للبنين، ما كانت
تمسَّكت بحقِّها أن فائض البنين هو حق للكلاب!

إلى
هذا الحد قطعت عليه كل مهرب وأجبرته على الاستجابة وقد كان!” حينئذ أجاب
يسوع وقال لها: يا امرأة، عظيم إيمانك! ليكن لك
كما تريدين. فشفيت ابنتها من تلك الساعة”
(مت 28: 15). وهكذا اغتصبت الكنعانية حق الأُمم اغتصاباً!

لقد
دخلت إليه هذه المرأة اللوذعية(
[1]) حسنة المنطق ذربة([2]) اللسان، من الباب الذي دخل
منه هو إلى العالم، فإن كان قد أخلى ذاته ودخل إلى العالم بشكل العبد، فقد أخلت
ذاتها ودخلت إليه بشكل الكلب. لقد حاصرته في موهبته الأُولى والعظمى: في
“اتضاعه”!! فنزلت حتى التراب لتلحس ما يفيض من بركاته، فهل هو بمستطيع
أن يصدّها؟ وهل هي التي اقتحمت تخومه؟ أم هو الذي اقتحم تخومها؟ فعليه أن يدفع
الضريبة! وهل جاءت إليه لتغتصب الخبز من بنيه أو تخطفه من أيدي أولاده؟ أم إنها
انتظرت انتظار الأمم حتى تساقط الفتات تحت أرجلهم. فإن كان حقًّا عليه وله أن يطعم
بنيه أولاً، فما اقتحمت الأولوية عنده، ولكنها اصطبرت اصطبار الكلاب حتى شبع
البنون وامتلأوا، فابتدأت الكلاب تلعق الأرض من تحت أرجلهم، وكأنها لم تأخذ من
يديه شيئاً بل اغتصبت حقها من تحت رجليه!! لذلك لم يقل لها، إلاَّ أن يكون لها ما
أرادت، اعترافاً منه بأنها بإيمانها نهبت حقها نهباً! “فملكوت السموات يُغصب،
والغاصبون يختطفونه.” (مت 12: 11)

انظروا
يا إخوة ما صنعته هذه الكنعانية التي أثبتت أنه ليس كل الكلاب يُمنَع عنها القدس
في قول الرب: “لا تعطوا القدس للكلاب” فهنا “كلاب ناطقة”
اغتصبت القدس من يد القدوس.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى