علم المسيح

69- التجلِّي



69- التجلِّي

69- التجلِّي

+”
وبعد هذا الكلام بنحو ثمانية أيام، أخذ بطرس ويوحنا ويعقوب وصعد إلى جبل
ليصلِّي. وفيما هو يصلِّي صارت هيئة وجهه متغيِّرة، ولباسه مُبْيَضًّا
لامعاً”
(لو 9: 28و29)

حادثة
التجلِّي تُحسب بالفكر الروحي خروجاً عامداً متعمَّداً عن مستوى الأرض والزمن
والأجساد لتلاحُمٍ روحي فائق بالسماويات، ولكن على مستوى الاختبار الذهني وحضور
الوعي المفتوح لإعادة رسم وصياغة الرؤيا لتجئ على المستوى التاريخي والتسجيل
الفعلي المقروء والمفهوم. فالتجلِّي رؤية سماوية بمعنى الكلمة، إنما تسجَّلت لينعم
بتصوُّرها كل مَنْ لم يشترك في مضمونها الإلهي الفائق.

وقد
أخذ ق. بطرس على عاتقه أن يسرد لنا اختباره بتدقيق وحماس شديدين كشاهد يشهد:
“لأننا لم نتبع خرافات مصنَّعة، إذ عرَّفناكم بقوة ربنا يسوع المسيح ومجيئه،
بل قد كنا معاينين عظمته، لأنه أخذ من الله الآب كرامة ومجداً، إذ أقبل عليه صوت
كهذا من المجد الأسنى: هذا هو ابني الحبيب
الذي أنا سررت به. ونحن سمعنا هذا الصوت مقبلاً من السماء، إذ كنا معه في الجبل

المقدَّس” (2بط 1: 1618). كذلك يشهد ق. يوحنا في إنجيله نفس هذه
الشهادة: “والكلمة صار جسداً وحل بيننا
(عمانوئيل)، ورأينا مجده مجداً كما لوحيدٍ من الآب، مملوءًا نعمة
وحقًّا.” (يو
14: 1)

أمَّا
النعاس الذي عاناه الثلاثة تلاميذ الذين رافقوا المسيح: بطرس ويعقوب ويوحنا، فهو
في حقيقته لحظة مفارقة الذهن للارتفاع إلى المستوى الروحي العالي حيث يرتخي الجسد
في شبه نعاس، ولكن من شهادتهم يتضح أن الجزء الفائق الذي أراد المسيح أن يشتركوا
فيه كانوا على منتهى الوعي به. كذلك التعرُّف على موسى وإيليا وسماع وفهم حديثهما
مع المسيح عن الخروج، أي الموت المزمع أن يكمِّله خارج أُورشليم، الأمر الذي ظلَّ
لاصقاً بعقلهم حتى سجَّلوه لنا في الإنجيل.

والقصة
تبدأ هكذا:

تاقت
نفس المسيح أن يُمضِّي ليلة في الصلاة مع تلاميذه الثلاثة المحبوبين: بطرس ويعقوب
ويوحنا، فأخذهم وصعد بهم إلى الجبل ليصلِّي. وكلمة “صعد” هنا بحسب
التقليد تفيد ضمن ما تفيد “التجلِّي”! صعد وقد غابت الشمس وبدأ نسيم
الليل الآتي من فوق الجبل يبلِّل جباههم المجهدة. فبرودة الجو على أعلى الجبل
كافية أن تزيل عن الإنسان عناء النهار وحرّه، وما أن بلغوا أعلاه حتى كان الليل قد
أسدل ستاره. وهكذا بدأ هدوء المكان وهَدْأة الليل السادر توحي للنفس التي تشتهي
الصلاة بالانطلاق. بدأ المسيح الصلاة وجلس التلاميذ يراقبون، وإذا بهم قليلاً
قليلاً يرون هالة من النور يتوسَّطها المسيح وهو رافع يديه نحو السماء. وهذه
الهالة من النور هي التي تسمَّى في اللغة العبرية في التوراة بالشاكيناه.
والشاكيناه هي نور حضرة الله، ولكنه نور يختلف عن نور الشمس والقمر وأي نور صناعي،
فهو نور من درجة فائقة بالرغم من عدم إيذائه للعين، ولكنه نفَّاذ يخترق كل شيء،
الأجسام والأفكار والقلوب والضمائر. هذا النور عينه هو المدعو باللغة اليونانية
بالذُّكصا العظمى، أي المجد الأسنى، فنور الله هو مجده. وحينما نقول: المجد للآب
والابن والروح القدس، فنحن نطلب أن يشرق الله علينا بنوره أو يدخلنا حضرته.
والمسيح حينما يقول: إنه هو “النور” فهو مجد الآب. وحينما تقول الآية:
“الجالسون في كورة الموت وظلاله أشرق عليهم نور” (مت 16: 4)، فهذا هو
مجد الله في وجه يسوع المسيح (2كو 6: 4). وحينما يقول ق. بطرس: “الذي دعاكم
مِنَ الظلمةِ إلى نورهِ العجيب” (1بط 9: 2)، معناه أنه نقلنا إلى حضرته بعد
أن كنا مرفوضين وعائشين في الظلمة. وإذا انتبه القارئ إلى أن معنى النور الإلهي هو
المجد، سيجد في تطبيقها مجالاً للتأمل لا ينتهي. هكذا كان التجلِّي صورة فريدة
لابن الإنسان في شركته السرية مع الآب. وجهه بدأ يضيء، وشيئاً فشيئاً صارت الأعين
غير قادرة أن تحدِّق في بؤرة هذا النور. لقد اكتسى ابن الإنسان بالنور، وملابسه
ابيضَّت ولمعت واختفت معالمها: “وفيما هو يصلِّي صارت هيئة وجهه متغيِّرة
ولباسه مُبْيَضًّا لامعاً” (لو 29: 9)، “وتغيَّرت هيئته قدَّامهم وأضاء
وجهه كالشمس وصارت ثيابه بيضاء كالنور” (مت 2: 17)، “رأينا مجده مجداً
كما لوحيدٍ من الآب” (يو 14: 1)، هنا المجد هو النور الإلهي.

وظهر
بجانبه من هنا ومن هنا رجلان تبيَّنوهما في الحال بالروح أنهما: موسى النبي كليم
الله، وإيليا عظيم الأنبياء. وكانت هيئتهما هيئة القيامة: وجوه مضيئة، وثياب
لامعة. وفي صمت الكون وهدوء الليل السادر سمعوهما يتكلَّمان مع المسيح عن الموت
الذي حان ميعاده وصلبه خارج أُورشليم. وإلى هنا انحجبت الرؤيا، وضاع الصوت،
وتوقَّف الوعي، وضغط عليهم النعاس اللاإرادي؛ فدخلوا في اللاوعي. وبعد مدة مديدة
لا تقل عن الليل بطوله تيقظوا فجأة على المنظر وهو يذوب في الظلام المحيط، ولكن
المسيح لا يزال بسطوع نوره يتألَّق كالشمس في الظهيرة ومعه النبيَّان العظيمان
يؤديَّان تحية الخضوع والوداع. فاندفع بطرس، وكأنه يريد أن يمنع النهاية ويمسك
بتلابيب النور حتى لا يزول، يتوسَّل إلى
المسيح أن يكون حسناً لو صَنع لهم ثلاث مظال تكريماً وتذكاراً على هذا

الجبل!

ولكن
كان قد أُخفي عن عيني بطرس مجد الصليب ومظلة الآب على الجلجثة والابن يسجِّل مجد
وجوده مذبوحاً إلى الأبد!

وبينما
بطرس غارق في أحلامه يشتهي البقاء في التجلِّي ولو في مظلة، إذا سحابة نيِّرة من
السماء أحاطت بالمكان ودخل الكل في نورها الأخَّاذ حتى كلَّت عيونهم من بهاء
نورها، وصوت مُقبل من السماء من المجد الأسنى مرَّة أخرى: هذا هو ابني الحبيب له
اسمعوا. فخافوا جداً وسقطوا مغشياً عليهم حتى أفاقهم المسيح، فرفعوا رؤوسهم ووجدوا
كل شيء كما كان ونور الفجر يبزغ من وراء الجبل!! “كنا معاينين عظمته.. ونحن
سمعنا هذا الصوت مقبلاً من السماء، إذ كنا معه على الجبل المقدَّس”
“وأمَّا هم فسكتوا ولم يخبروا أحداً في تلك الأيام بشيء مما أبصروه.”
(لو 36: 9)

 

70- إيليا
قد جاء وعملوا به كل ما أرادوا

كان ظهور إيليا مع المسيح على جبل التجلِّي حافزاً شديداً
ليسألوا المسيح

عن حقيقة دور إيليا، فلماذا يقول الكتبة إنه ينبغي أن يأتي إيليا أولاً قبل
المسيَّا؟

ويُلاحظ
أن في بدء السؤال الذي تقدَّم به التلاميذ هنا جاء في مقدِّمته باللغة اليونانية
حرف
oân
الذي يساوي
الفاء في كلمة “فلماذا”، مما يشير أن التلاميذ إنما كانوا يكمِّلون
حديثاً آخر مع المسيح، وهو الذي جاء في إنجيل ق. متى (21: 16)، الذي فيه كشف
المسيح عمَّا سيحدث قريباً: “من ذلك الوقت ابتدأ يسوع يُظهر لتلاميذه أنه
ينبغي أن يذهب إلى أُورشليم ويتألَّم كثيراً من الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة،
ويُقتل، وفي اليوم الثالث يقوم” فلما رأى التلاميذ منظر التجلِّي وظهور إيليا
مع المسيح وقول المسيح عن نفسه أنه سيموت خارج أُورشليم، بادروا بالسؤال الذي
حيَّرهم وهو كيف يقول الكتبة إذن أن إيليا ينبغي أن يأتي أولاً أي قبل المسيَّا.
فإن كان الموت للمسيَّا على الأبواب، فأين زمن مجيء إيليا؟ هنا كشف المسيح سرَّ
المعمدان أنه هو إيليا الذي جاء ذكره في النبوَّة: “فأجاب يسوع وقال لهم: إن
إيليا يأتي أولاً ويردُّ كل شيء. ولكن أقول لكم: إن إيليا قد جاء ولم
يعرفوه، بل عملوا به كل ما أرادوا. كذلك ابن الإنسان أيضاً سوف يتألَّم منهم.
حينئذ فهم التلاميذ أنه قال لهم عن يوحنا المعمدان.” (مت 17: 1113)

71-
التلاميذ يتعذَّر عليهم إخراج شيطان

في
الصباح الباكر نزل المسيح مع تلاميذه من فوق جبل التجلِّي، وأحاطت به الجموع
كالعادة حاملين مرضاهم. وإذا برجل يحمل ابنه المريض ويتقدَّم حزيناً غاية الحزن.
وكانت عوارض المرض كنوبات الصرع المعروفة مع هلوسة. ولكن الذي كشف أنه ليس مجرَّد
مرض، بل كان روحاً شريراً يتقن علامات الصرع إتقاناً شديداً، أنه أراد أن يقتل
الصبي بأن يلقيه إجباراً في النار أو في البحر، وكان الأب قد عرض الحالة على
تلاميذ المسيح فعجزوا عن إخراج الروح الشرير، فالتجأ أخيراً إلى المسيح. وتهيَّأ
للتلاميذ أن هذه حالة غير عادية، وكان بعض الكتبة حاضرين، وفجأة ظهر المسيح
وتقدَّم إليه أبو الولد بالشكوى: “يا معلِّم، قد قدَّمت إليك ابني به روح أخرس،
وحيثما أدركه يمزِّقه فيزبد ويَصِرُّ بأسنانه وييبس (يتشنَّج). فقلت لتلاميذك أن
يخرجوه فلم يقدروا” (مر 9: 17و18). ولكن بدت من أبي الولد كلمة لفتت نظر
المسيح إذ قال له: “إن كنت تستطيع شيئاً فتحنَّن علينا وأعنّا” (مر 22:
9)، فردّ عليه المسيح بنفس سؤاله: ” إن كنتَ تستطيع أن تؤمن. كل شيء
مستطاع للمؤمن”
(مر 23: 9). هنا يرد المسيح المعجزة أو الشفاء إلى
الإيمان عند الرجل، وليس إلى عامل الرحمة من عنده. فهو يرحم الجميع، ولكن المعجزة
والشفاء رهن إيمان الإنسان، الذي يربطنا بالله من جهة استجابة الصلاة، إذ تتوقَّف
على مقدار إيماننا وثقتنا في الله: ” كل ما تطلبونه حينما تصلُّون فآمنوا
أن تنالوه فيكون لكم”
(مر 24: 11). بمعنى أن يكون لنا الإيمان والدالة
معاً في الله الآب وابنه يسوع المسيح، بحيث حينما نريد شيئاً مُلحًّا منه نمد
أيدينا فنأخذ من سخاء الله كطفل يمد يده ويأخذ ما يشاء من جيب أبيه، لأن كل ما عند
أبيه له، فالله غنيّ ومحب ومتواضع جداً. وقد أوضحها المسيح هكذا: “اطلبوا تأخذوا
ليكون فرحكم كاملاً” (يو 24: 16). فالذي يطلب يطلب على أساس أنه يأخذ.

وحينما اختلى المسيح مع تلاميذه سألوه: “لماذا لم نقدر
نحن أن نُخرجه؟

فقال لهم: هذا الجنس لا يمكن أن يخرج بشيء
إلاَّ بالصلاة والصوم.” (مر 9:
28و29)

وبحسب
إنجيل ق. متى: “وقالوا: لماذا لم نقدر نحن أن نخرجه؟ فقال لهم يسوع: لعدم
إيمانكم.
فالحق أقول لكم: لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا
الجبل: انتقل من هنا إلى هناك فينتقل، ولا يكون شيء غير ممكن لديكم” (مت 17:
1921). هذه هي الإضافة التي أضافها ق. متى على القصة وذكر بعدها موضوع
الصلاة والصوم. ولكن كما سبق وشرحنا، فالصلاة والصوم إنما هما عمل روحي على قاعدة
الإيمان المسيحي. فبدون الإيمان بالذي صنعه المسيح على الصليب بالنسبة للخطايا وغفرانها
وغلبة الموت والشيطان، فلا الصلاة تفيد ولا الصوم. فالصلاة والصوم هما قوتان
تعملان مع الإيمان كجناحين يطيران بالإيمان ليحلِّق في السماء حيث العون والقوة
العظمى. كذلك فالإيمان يعمل في الصلاة والصوم ويجعل لهما فاعلية نارية تحرق كل ما
هو باطل وشرير. لأن بالصلاة ندخل حالة وجود في حضرة الله، ويصبح عملنا منظوراً
أمامه، ومنه نستمد القوة والسلطان؛ وبالصوم ندخل في حالة تجرُّد من العالم والجسد
التي هي أدوات الشيطان وملجأه، فلا يصبح للشيطان مدخل فينا ولا شكوى ضدنا يعيِّرنا
بها. وهكذا ندخل للعدو أقوياء باسم الله قادرين أن نهدم كل أعماله وظلمه.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى