علم المسيح

61- المسيح يمشي على المياه



61- المسيح يمشي على المياه

61- المسيح يمشي على المياه

من
متابعة قصة معجزة الخمس خبزات والسمكتين يقابلنا في الرواية كلمة استرعت انتباهنا
على غير العادة، وهي بعد أن شبع الشعب حاول الجمع القبض على المسيح عنوة وإعلانه
ملكاً من فوق الرؤوس، وهنا نسمع أن المسيح كما يقص ق. مرقس: ” ألزم تلاميذه
أن يدخلوا السفينة ويسبقوا إلى العبر”
(مر 45: 6). ولماذا الإلزام؟ وهل
لم يذعنوا في البداية؟ وماذا دار في أفكارهم؟ الحقيقة هنا تكاد تكون واضحة، فالجمع
لمَّا التفَّ حول المسيح ليجعلوه ملكاً، اشترك معهم التلاميذ، إذ كانوا أيضاً
منفعلين من المعجزة، فكان الأمر بالنسبة للمسيح خطيراً، فهنا شبه اتفاق وتمرُّد
على انتظار تعليمات المعلِّم. لأن التلاميذ
كانوا أكثر انبهاراً من الجموع من واقع المعجزة، إذ كانوا داخلين فيها!

وهنا
ابتدأ المسيح يتحرَّك أولاً تجاه التلاميذ: فبالأمر والإلزام وجّههم نحو سفينتهم
ليركبوها في الحال ويمضوا عبر البحيرة، “وللوقت ألزم تلاميذه” ليفك هذا
الاشتباك. ويُكمل ق. مرقس: “حتى يكون قد صرف الجمع” (مر 45: 6)، أي بعد
التلاميذ اتجه نحو الجمع الهائج وبسلطانه المعهود أمرهم بالهدوء، فهدأوا وبدأوا يتفرقون عائدين إلى بيوتهم: “وبعد ما
ودَّعهم مضى إلى الجبل
ليصلِّي” (مر 46: 6). فقد كانت تجربة استطاع
الشيطان أن يضع فيها أصبعه كالسابق حينما كان على جبل التجربة: “وقال له:
أعطيك هذه جميعها إن خررت وسجدت لي” (مت 9: 4). وهكذا تقهقر الشيطان من هذه
الموقعة مدحوراً، فذهب إلى التلاميذ وهم في عرض البحر يهيِّج عليهم الطبيعة التي
تحت سلطانه. فقامت زوبعة عصفت بالمركب، وهيَّج البحر فطمت عليهم أمواجه، فأخذ
التلاميذ يترنَّحون يميناً وشمالاً، وجذبُ الأمواج يتقاذف بالسفينة عائدة إلى
الوراء بعنف تيَّارات الماء العميقة. فأدرك المسيح ما أصاب التلاميذ وسمع صراخهم
على بعد الأميال فعوَّل على إنقاذهم. وهكذا وقد قرب الفجر، بعد أن أصاب التلاميذ
ما أصابهم من خوف وهلع؛ ورأوا المسيح آتياً إليهم على وجه المياه، وهو مقبل عليهم
كنور يتحرَّك، ولكنه أراد أن يتجاوزهم، فصرخوا لأنه انتظر عليهم حتى يتعرَّفوا
عليه أولاً، فللوقت كلَّمهم: “ثقوا. أنا هو. لا تخافوا” (مر 50: 6)،
“فصعد إليهم إلى السفينة فسكنت الريح، فبُهِتُوا وتعجَّبوا في أنفسهم جداً
إلى الغاية.” (مر 51: 6)

وهنا
وفي هذه الوقفة بالذات يذكر ق. مرقس أمراً يجعلنا ملتزمين أن نعود مرَّة أخرى إلى
معجزة الخمس خبزات، إذ يقول: “فبهتوا وتعجَّبوا في أنفسهم جداً إلى الغاية. لأنهم
لم يفهموا بالأرغفة إذ كانت قلوبهم غليظة
” (مر 52: 6)، فما هذا؟

هنا
يرى ق. مرقس رؤية خاصة لهاتين المعجزتين، فما هي؟ نعتقد أنها سرِّية للغاية، فكسر
الخبز إن كان قد أشار إلى موت المسيح، فالسير على المياه قد أشار إلى قيامته.
فبالأُولى أي الخبز حوَّل الطبيعة من الخبز إلى جسده، وبالثانية ارتفع
فوقها (العاصفة والبحر جميعاً).

 

62- الذين
أكلوا الخبز فشبعوا يتبعون المسيح

كانوا يطلبون يسوع، لأنهم أكلوا الخبز وشبعوا بتعبير
المسيح. هنا يرفع تفكيرهم من الخبز الذي
يُشبع إلى الخبز الذي
يُحيي. كان ذلك في كفرناحوم وفي المجمع حينما عيَّرهم المسيح بأنهم يطلبونه من

أجل الخبز الذي أكلوه: ” أنتم تطلبونني ليس لأنكم رأيتم آيات، بل لأنكم
أكلتم من الخبز فشبعتم”
(يو 26: 6).
وفجأة يرفع المسيح فكرهم إلى السر الذي جعل الخمس خبزات تُشبع الخمسة آلاف: ”
اعملوا لا للطعام البائد، بل للطعام الباقي للحياة الأبدية الذي يعطيكم ابن
الإنسان، لأن هذا
الله الآب قد
ختمه”
(يو 27: 6). والمعنى أن
الخبز العادي صار في يد ابن الإنسان خبزاً سماوياً فائقاً
للطبيعة أعلى من الأرقام والكميات. فأصبح ليس الخبز بعد، بل
المسيح هو الذي يشبعهم من فوق. والمعنى
ببساطة:
لا تطلبوا خبز الجسد، بل اطلبوا المسيح نفسه فهو خبز الروح، الذي نزل من عند الآب

وعليه ختم الروح القدس، والذي يأكل منه لا يجوع إلى الله بعد، بل يشبع شبع الحياة
الأبدية ولا يموت.

ولكن
كان القوم مربوطين بفكر الجسد وخبز الجسد، ولم يستطيعوا أن يتسلقوا على هذه
المعجزة ليدركوا سر الروح والمسيح فيها، فطلبوا مزيداً من الآيات تأتيهم من السماء
ليؤمنوا بالمسيح. وكان في تقليد اليهود أن المسيَّا حينما يأتي سيُنزل لهم المن من
السماء كأيام موسى باعتباره موسى الجديد. فالمسيح ببساطة أخذها من فمهم وقال لهم:
أنا هو الخبز النازل من السماء، أنا هو المن الجديد. فتشجَّعوا ببساطة هم أيضاً
وقالوا له: أعطنا هذا الخبز يا سيد في كل حين!!
(حتى لا نجوع، كرد السامرية: أعطني هذا
الماء حتى لا أعطش وأجيء إلى البئر كل يوم!)
فما كان الماء الحي سوى المسيح نفسه،
وما كان الخبز الحي الباقي إلى الأبد إلاَّ المسيح نفسه أيضاً، وقد نزل من السماء
بشبه المن، ولكن المن كان لا يبقى للغد والمسيح باقٍ بقاء الحياة الأبدية. والذي
كان يأكل المن يأكله ويموت أيضاً، وأمَّا المسيح فالذي يأكله يحيا به إلى الأبد
ولا يأتي إلى موت.

ولأول
مرَّة يكشف المسيح عن أكل يتم بالروح وشرب يتم بالروح. فكما يغتذي الجسد بالخبز،
هكذا تغتذي الروح بالكلمة، والكلمة هو المسيح الذي كان عند الله، وكان هو الله،
تجسَّد فصار جسده روحاً هو وجسداً معاً، وهو الكلمة المتجسِّد. فلما أمسك المسيح
بالخبز وكسره استودع المسيح ذاته في الخبز المكسور، فأصبح مَنْ يأكل من الخبز
المكسور بيد المسيح يأكل المسيح بالسر، يأكل جسده وروحه معاً.

كانت
علامة وجود المسيح في الخبز المكسور واضحة، إذ أنه أطعم من خمس خبزات خمسة آلاف
شخص ويزيد. هذا الإطعام الإعجازي الفائق أصبح من صميم طبيعة المسيح. فالخبزة
المكسورة خبزة قمح، ولكن الإطعام الفائق إلى حد الشبع ليس من عمل القمح بعد، بل من
عمل المسيح وطبيعته التي أصبحت تؤكل من داخل الخبزة المكسورة. فأصبحت الكنيسة
حينما تقدِّم الخبز على المذبح وتصلِّي عليه وتطلب حضور المسيح، وكسره للخبز،
قادرة أن تُعطي المسيح في الخبز المكسور، وأصبح مَنْ يأكل الخبز المكسور يأكل
المسيح. وكل مَنْ يأكل المسيح يأكل الحياة الأبدية ولا يموت. لذلك سمَّى الآباء
الخبز المكسور: “ترياق عدم الموت”، أو خبز الخلود أي دواء الحياة
الأبدية. كل هذا تمَّ بالفعل المنظور والمحسوس في معجزة الخمس خبزات والسمكتين
التي أطعم بها المسيح خمسة آلاف رجل ما عدا
النساء والأطفال، وفاض منهم اثنتا عشرة قفة مملوءة بالكسر.
حيث الكسر الفائضة من هذه الوليمة السمائية لا تزال
شاهدة على وجود المسيح في الخبز المكسور. فكل زيادة بعد الخمس خبزات أصبحت شاهدة
على وجود المسيح، وتعني أن المسيح يُعطي أكثر من الشبع! فلو تصورنا أن الخمسة آلاف
رجل كانوا هم العالم كله، فالعالم كله كان سيأكل حتى
الشبع ويفيض عنه. فالشبع يغطِّي الواقع الزمني، والفائض يغطي
المستقبل. هذه هي كفاية المسيح للعالم، حاضره
ومستقبله.

إذن،
فأكل المسيح عملية حقيقية من داخل الخبز المكسور.

فالمسيح
حقَّ له أن يقول: ” أنا هو الخبز الحي الذي نزل من السماء”،
أو” أنا هو خبز الحياة” (يو 6: 51و35)، وأن: ” مَنْ يأكل
من هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد”
(يو 58: 6)،” والخبز الذي أنا
أعطي هو جسدي”
(يو 51: 6)

على
أن المسيح بعمل الفداء “حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة” (1بط
24: 2) لمَّا حوكم على أنه خاطئ، وقَبِلَ
الحكم وصُلب بناءً على هذا الحكم،
ومات بالجسد الذي حمل عليه
خطية الإنسان. فأكمل حكم الموت الذي كان على البشرية
كلها في جسد البشرية الذي حمله، وقام من الموت
بجسده بعد أن أمات الخطية
فيه، وبرَّأ الإنسان من حكم الموت، فقام الإنسان الجديد بقيامة جسده.

وهكذا
أصبح أن الذي يأكل جسد المسيح يأكل حقا الفداء والخلاص والحياة الأبدية مع البراءة
من حكم الموت. لهذا أكمل المسيح القول بصورة مستيكية قائلاً: ” والخبز
الذي أنا أعطي هو جسدي الذي أبذله (بموت الفدية) من أجل حياة العالم”
(يو
51: 6)

لذلك أصبح هو الوسيط الوحيد بين الله والناس: “ليس أحد
يأتي إلى الآب إلاَّ بي” (يو
6: 14)، لأنه أصبح هو الوجود الإلهي على الأرض الذي يصل
الإنسان بالله. والجسد الذي يقدِّمه في الخبز المكسور أصبح طعام الحياة الأبدية.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى