علم المسيح

63-" مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي"



63-” مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي”

63-” مَنْ يأكل جسدي ويشرب دمي”

كان
الحديث في موضوع الخمس خبزات والسمكتين مقصوراً على “الجسد” باعتباره
الخبز النازل من السماء بمفهوم المقابل للمن الذي نزل من السماء. ولكن أدخل المسيح
عنصر الفدية على مفهوم الجسد النازل من السماء لمَّا قال: “الخبز الذي أنا أُعطي
هو جسدي الذي أبذله من أجل حياة العالم” وهنا دخل بالضرورة عنصر
الفداء بالصليب، وهو أيضاً وبالتالي يحمل “سمة الكسر” في كسر الخبز، حيث
الكسر هو الجسد الذي تمزَّق على الصليب، فاعتُبر “كسر الخبز”
عملية تحمل في ذاتها سر ذبح المسيح وكسر جسده على الصليب. وبهذا اكتشف اللاهوتيون
أن سر الكثرة الذي تمَّ أثناء كسر الخبز راجع إلى أن كسر الخبز يحمل سر كسر الجسد
وذبحه على الصليب، أي يحمل سر الموت والحياة الذي أُكمل بالصليب والقيامة. بمعنى
أن كسر الخبز يحمل سر الفداء الذي نال الإنسان بواسطته غفران خطاياه والحياة الأبدية.

ولكن
كسر الجسد على الصليب وتمزُّقه يحمل مضمون سفك الدم. وهذان هما عنصرا
الفداء الأساسيان: الجسد والدم. وهذا ارتدّ على “كسر الخبز” بالضرورة،
فأصبح “كسر الخبز” يحمل أيضاً “سفك الدم”.

فأصبحت
الكنيسة حينما تقيم سر “كسر الخبز” تضيف إليه حتماً سر “سفك
الدم” كعملية واحدة تحمل معنى الفداء والكفَّارة.

لذلك
تقدَّم المسيح في حواره مع جماعة آكلي الخبز من الخمس خبزات والسمكتين خطوة جديدة
بعد أكل الخبز النازل من السماء الذي أشار إليه أنه جسده حينما أضاف: ” الذي
أبذله”،
فدخل في الحال عمل الصليب ومعه سفك الدم، لهذا أضاف:

+”
الحق الحق أقول لكم: إن لم تأكلوا جسد ابن الإنسان وتشربوا دمه فليس لكم حياة
فيكم”
(يو 53: 6)

والمعنى
يتقدَّم خطوة على أكل الجسد، بأنه “أكل المسيح ككل”، أي حياته
“البشرية الإلهية” التي استُعلنت وتحدَّدت على الصليب” بالجسد
والدم”،” فمن يأكلني فهو يحيا بي”
(يو 57: 6)

الجسد
يتحد بالجسد الجديد فينا، والدم يعطيه الروح الذي فيه، فيصير المسيح حيًّا فينا،
كما صرَّح بها ق. بولس: “فأحيا لا أنا بل المسيح يحيا فيَّ” (غل
20: 2)، هذا هو مصدر الحياة الأبدية.

وهكذا بدأ الشرط يظهر بوضوح: أنه لكي تدخل الحياة الأبدية
فينا يتحتَّم أكل جسده وشرب دمه.

ولكن
بدا الفهم صعباً للغاية، فالمسيح قائم أمامهم فكيف يأكلون جسده ويشربون دمه؟
فلمَّا أُعثر بعض التلاميذ وتركوه بالفعل، بدأ يوضِّح لتلاميذه هكذا: “فقال
كثيرون من تلاميذه، إذ سمعوا: إن هذا الكلام صعب! مَنْ يقدر أن يسمعه؟ فعَلِمَ يسوع
في نفسه أن تلاميذه يتذمَّرون على هذا، فقال لهم: أهذا يعثركم؟ فإن رأيتم ابن
الإنسان صاعداً إلى حيث كان أولاً! الروح هو الذي يحيي. أمَّا الجسد فلا يفيد
شيئاً. الكلام الذي أُكلِّمكم به هو روح وحياة” (يو 6: 60-63). والمعنى أنكم
تنظرون إليَّ بفكر جسدي، وكأن الأكل والشرب من لحمي ودمي على المستوى الحسِّي. هذا
خطأ. فما بالكم عندما ترونني صاعداً إلى السماء حيث كنت أولاً؟ هل سيكون لحم ودم
أم أن الكلام روحي ويلزم أن تفهموه روحياً بمعنى تأكلون الحقيقة الروحية، تأكلون
الواقع الروحي للجسد وتشربون الواقع الروحي للدم. الحق شيء والمادة شيء آخر.
المادة هنا في الخبز والخمر تحمل الحق، ولكن ليست هي الحق. الخبز المكسور يحمل
بالإيمان حق الجسد الروحاني القائم من بين الأموات، والخمر في الكأس كذلك يحمل
بالإيمان حق الدم المسفوك. وهكذا حينما تأكلون وتشربون الحق، تأكلون الخبز والخمر
بفم، وبآن واحد تأكلون وتشربون بالروح. لذلك أوضحها المسيح: “لأن جسدي مأكل
حق
ودمي مشرب حق” (يو 55: 6). فأكل الحق وشرب الحق هو عمل الإيمان
وليس عمل الفم والأكل، ومعناه الثبوت أو الاتحاد بالمسيح.

+”
مَنْ يأكل جسدي (الحق) ويشرب دمي (الحق) يثبت فيَّ وأنا فيه” (يو 56:
6)

فلو
كان الأكل والشرب مقصوراً على أكل وشرب الخبز والخمر(
[1]) أي أكلاً جسدياً وشرباً
جسدياً، فلا يستفيد الإنسان منه شيئاً، ولكن الأكل أكل الإيمان بالسر فهو روحي
والشرب روحي. لذلك أصبح الأكل والشرب الروحي يحيي بالضرورة، ووضَّحها المسيح هكذا:
الروح هو الذي يُحيي، أمَّا الجسد فلا يفيد شيئاً”. وعاد
المسيح على كل ما سبق من كلام عن الجسد والدم قائلاً: ” الكلام الذي
أُكلِّمكم به هو روح وحياة”.

وبهذا
أصبح سر الجسد والدم، لأنه روحي، قائماً في الكنيسة إلى اليوم وإلى الأبد وفي كل
كنائس العالم، لأنه ليس بالجسد المحصور ولا بالدم المحصور في الزمان والمكان، بل
أصبح المسيح الروحي مالئ السماء والأرض بكيانه وبجسده الروحي ودمه الروحي، موجوداً
في كل مكان وزمان. وبهذا أيضاً يتم الاتحاد
بين كل المؤمنين في كل مكان وزمان باتحادهم بالجسد الواحد والدم الواحد المالئ لكل
الكيان. وعلى هذا القياس الذي فهمه بولس الرسول يقول:

+
“أقول كما للحكماء: احكموا أنتم فيما أقول. كأس البركة التي نباركها، أليست
هي شركة دم المسيح؟ الخبز الذي نكسره، أليس هو شركة جسد المسيح؟ فإننا نحن
الكثيرين خبزٌ واحد، جسدٌ واحد، لأننا جميعنا نشترك في الخبز الواحد
(الجسد).” (1كو 10: 1517)

أمَّا
الذين حاولوا أن يستغنوا عن “الخبز” وعن “الكأس” ليكوِّنوا
وحدة بين المؤمنين بدون سر الجسد والدم، فقد تاهوا عن أصل الإيمان والإنجيل
والخلاص. لأن الذي صُلب على الصليب ليس فكرة ولا مبدأ ولا روحاً ولا مجرَّد إيمان،
بل جسد محسوس يجري فيه الدم كالتزام حتمي لكي يكمِّل به وفيه الفداء والخلاص، لكي
يُذبح ويُكسر على الصليب ويُسفك دمه بأيدي الناس. كذلك فإطعام الجموع الحاشدة:
خمسة آلاف رجل مع نساء وأطفال لم يتم بأن حرَّك المسيح يديه في الهواء وكأنه يكسر
رغيفاً ويعطي من الهواء خبزاً ليوزِّعه التلاميذ، بل مسك خبزاً محسوساً مصنوعاً من
الدقيق والماء، ومخبوزاً في النار، وكسره بكلتا يديه وأعطى الكسر للتلاميذ، والناس
أكلوا خبزاً حقيقياً وشبعوا بالجسد، وهو في
الحقيقة وبآن واحد، خبز روحاني غير بائد لم يستعلنه الشعب
لانغلاق بصيرتهم.
إذن، فالسر الإلهي الذي اعتمد على ذبح الجسد المحسوس اعتمد على كسر الخبز المحسوس.
إذن، فسر الاتحاد القائم أصلاً في الجسد المكسور على الصليب هو ذاته سر الاتحاد
قائماً بالتالي على الخبز المكسور! فالروح الذي يقول عنه المسيح إن “الروح هو
الذي يُحيي” هو الروح الكائن في الخبز المكسور، وبدون الخبز المكسور لا وجود
للروح الذي يُحيي برسم الجسد المكسور. وهذا هو نفسه روح سر الاتضاع الذي جعل ابن
الله يتجسَّد بالروح في جسد بشري. وبدون الجسد البشري لاستحال معرفة الابن أو
معرفة الآب والروح، ولاستحال الفداء والخلاص والحياة الأبدية.

والأمر
أوضحه إنجيل ق. يوحنا الأصحاح السادس: إن الإيمان بالجسد والدم والأكل من الجسد
والشرب من الدم هو أكل حقٌّ وشرب حقٌّ. والإيمان بالحياة الأبدية الكائنة في أكل
الجسد وشرب الدم، هذا الإيمان بالخبز والخمر والجسد المكسور والدم المسفوك هو
بعينه الذي فصل فصلاً نهائياً بين تلاميذ يؤمنون وتلاميذ لا يستطيعون أن يؤمنوا.
والمسيح كشف السر في هذه الفُرقة الخطيرة: ” ولكن منكم قوم لا يؤمنون، لأن
يسوع من البدء عَلِمَ مَنْ هم الذين لا يؤمنون، ومَنْ هو الذي يسلِّمه. فقال: لهذا
قلت لكم إنه لا يقدر أحد أن يأتي إليَّ إن لم يُعطَ من أبي”
(يو 6:
64و65)

ولا
يغيب عن البال أن عشاء الخميس الذي هو سر الإفخارستيا سمَّاه المسيح
“الفصح”: “فأرسل بطرس ويوحنا قائلاً: اذهبا وأعدَّا لنا الفصح
لنأكل” علماً بأنهم لم يذبحوا الخروف ولم يذكر في العشاء أنهم أكلوا من لحم
الخروف عن قصد مبيَّت أن يكون الفصح المذبوح الذي يأكلونه هو هو المسيح نفسه، الذي
قدَّمه لتلاميذه في سر كسر الخبز وسر سفك الدم!

وهنا
يتضح استحالة أن يكونوا قد أعدوا خروفاً للفصح أو أكلوا من خروف الفصح، لأن هذا
يلغي تدبير المسيح أنه بفصحه الذي أكمله في نفسه ألغى خروف الفصح إلى الأبد. وهنا
استحالة أن يكون المسيح أكل الخروف مع تلاميذه في هذا العشاء!

بهذا
نفهم أن الخبز المكسور برسم الجسد المكسور، والخمر في الكأس برسم الدم المسفوك،
أصبح هو فصحنا الحقيقي، وهذا هو السر في قول المسيح: “أنا هو الخبز الحي
الذي نزل من السماء.. والخبز الذي أنا أُعطي هو جسدي الذي أبذله عن حياة
العالم” وعقَّب بعد ذلك على أكل الخبز هكذا: “مَنْ يأكل جسدي (خبز
الإفخارستيا) ويشرب دمي (كأس الإفخارستيا) فله حياة أبدية وأنا أُقيمه في اليوم
الأخير” ثم عاد يؤكِّد على حقيقة أكل الخبز الذي هو جسده هكذا: “لأن
جسدي (خبز الإفخارستيا) مأكل حق (أي يؤكل بالروح) ودمي (كأس الإفخارستيا)
مشرب حق (أي يشرب بالروح)” إذن، فالخبز المكسور والكأس الممزوج يؤكل
ويُشرب على مستوى الحق، والحق روح! إنه فصح إلهي بالحق. إنه المسيح المذبوح.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى