علم التاريخ

نسطوريوس ومجمع افسس – "المجمع المسكوني الثالث" 428-441



نسطوريوس ومجمع افسس – “المجمع المسكوني الثالث” 428-441

نسطوريوس
ومجمع افسس – “المجمع المسكوني الثالث” 428-441

 شغور
الكرسي القسطنطيني: وتوفي اتيكوس أسقف القسطنطينية في خريف سنة 425. فترشح للخلافة
كلٌ من بروكلوس سكرتير اتيكوس وفيليبوس أحد كهنة العاصمة، وقد عُرِفَ بشغفه
بالآثار وباهتمامه بتاريخ المسيحية. ولكن الشعب آثر سيسينيوس أحد كهنة الضواحي
الذي اشتهر بمحبة المسيح وبتواضعه وزهده وعطفه على الفقراء. فتم انتخابه في الثامن
والعشرين من شباط سنة 426. ثم اختار الله له ما عنده فاصطفاه لجواره في ليلة عيد
الميلاد سنة 427. وعاد كلٌّ من بروكلوس وفيليبوس إلى سابق نشاطهما. ولكن ثيودوسيوس
الثاني آثر التفتيش عن خلف لسينسينيوس خارج العاصمة فاتجهت أنظاره نحو أنطاكية،
نحو الراهب نسطورويوس رئيس أحد أديارها الذي كان قد اشتهر بفضله وفصاحته.

 

نسطورويوس:
ولد نسطورويوس في ضواحي مرعش في الربع الأخير من القرن الرابع من أبوين سوريين
وفارسيين. وهو ابن عم ثيودوريطس المؤرخ أسقف قورش. درس اليونانية ومبادئ العلوم في
مرعش ثم انتقل إلى أنطاكية حيث أخذ العلوم الدينية عن ثيودوروس الموبسوستي. وقدم
النذر والتجأ إلى دير افبريبيوس في ضواحي أنطاكية. ثم سيم كاهناً على مذابح كنيسة
أنطاكية وكلّف بتفسير الأسفار المقدسة لتفوقه في اللغة والأسلوب ولجمال صوته. وشغر
الكرسي القسطنطيني واشتد نشاط المرشحين وأصحاب المصالح فوقع اختيار السلطات على
نسطوريوس، فقام إلى القسطنطينية في أوائل سنة 428.

 

 وجاء
في “أسطورة” سريانية أن نسطوريوس عرّج وفو في طريقه إلى القسطنطينية على
معلمه القديم الأسقف ثيودوروس فأقام عنده في موبسوستي يومين كاملين. وأن ثيودوروس
شيعه حتى مشهد القديسة تقلا وقال له عند الوداع: “إني أعرفك يا بُني. لم تلد
امرأة أشد حماساً منك. فعليك بالاعتدال إن رمت النجاح في معالجة الاختلافات في
الرأي”. فأجاب نسطورويس: “ولو عشت أنت يا سيد في زمن المسيح لقيل لك
وأنت أيضاً ذاهب”.

 

واحتُفِلَ
بتتويج نسطوريوس أسقفاً على القسطنطينية في العاشر من نيسان سنة 428. فخاطب
الأمبراطور على مسمع من الجمهور قائلاً: “أعطني بلاداً خالية من الهراطقة
أُقدم لك السموات بديلة. واستأصل الهراطقة لنا نستأصل الفرس معك”.

 

حمية
نسطوريوس واندفاعه: واندفع نسطوريوس في سبيل الإيمان القويم، فاستصدر أمراً بإغلاق
كنيسة الآريوسيين في القسطنطينية في الأسبوع الأول من رئاسته. وفي الثلاثين من
أيار صدرت إرادة سنية أمبراطورية تستأصل الهرطقة في جميع مظاهرها، فشلمت في حكمها:
الآريوسيين والمقدونيين والأبوليناريين والنوفاتيين والأفنوميين والفالنتينيين
والمونتانيين والمركيونيين والبوربوريين والمصلّين والأفخيتيين والدوناتيين
والبولسيين والمركلوسيين والمانويين وغيرهم. ونُفِّذت هذه الإرادة بحزم، فأغلقت
كنائس هؤلاء المبتدعين وأدى إغلاقها إلى استعمال العنف في بعض الأحيان وإلى خسائر
في الأرواح.

 

والدة
الله: كان الشقاق لا يزال مستحكماً في العاصمة بين أتباع آريوس وأتباع
أبوليناريوس. وكان من الطبيعي أن يشترك في الجدل بين هذين المعسكرين بعض الكهنة
والشمامسة الأرثوذكسيين. ويستدل مما جاء في بعض المراجع الأولية، أن كاهنا
أنطاكياً من ناحية نسطوريوس يدعى انستاسيوس تدخل في الجدل القائم وقال أن مريم بشر
وكبشر لا يمكنها أن تلد إلهاً ولذا فإنه لا يجوز القول عنها أنها والدة الإله
Theotokos. وتضيف هذه المراجع نفسها أن نسطوريوس أبى أن يلوم انستاسيوس وأنه
تحاشى هو بدوره استعمال التعبير “والدة الإله”. وجاء في مخلفات المجمع
المسكوني الثالث أن دوروثيوس أسقف مركيانوبوليس حرم استعمال الاصطلاح “والدة
الإله” وأن نسطوريوس سكت عن هذا التحريم ولم يقطع دوروثيوس من الشركة.

 

والاصطلاح
-الإيمان ب- “والدة الله” قديم العهد فيما يظهر. فالكسندروس الإسكندري
استعمله بدون تلكف وغريغوريوس النزينزي لعن من لا يعتبر مريم أم الله.

 

ورأى
نسطوريوس أن هذا الاصطلاح لم يرد في الأسفار المقدسة وأن الآباء لم يستعملوه في
نيقية. وذكر القول النيقاوي “ابن الله تجسد من الروح القدس ومريم
العذراء” فرأى في هذا اعترافاً بطبيعتين، طبيعة ابن الله المساوي للآب في
الجوهر وطبيعة الإنسان المولود من العذراء. فرأى في الاصطلاح “والدة
الإله” خلطاً بين اللاهوت والناسوت. واقترح القول “والدة المسيح”.

 

اللاهوت
والناسوت: علَّمت الكنيسة منذ البدء أن مخلصنا الوحيد إله كامل وإنسان كامل رب
واحد لمجد الله الآب. فقام آريوس وأنكر على الكنيسة الاعتقاد بطبيعة لاهوت الكلمة
المتأنس فعقد المجمع المسكوني الأول وحكمت عليه وعلى تعليمه وقررت حقيقة كمال
لاهوت المخلص. ثم قام أبوليناريوس وقال بنقص في طبيعة المسيح البشرية فعلَّم أن
اللاهوت في المسيح قام مقام العقل في الإنسان. فعقدت الكنيسة المجمع المسكوني
الثاني وحكمت على ابوليناريوس وقررت حقيقة كمال ناسوت المخلص. ولكن الكنيسة لم
تعيّن بعبارات محدودة مضبوطة وجه العلاقة بين الطبيعتين الإلهية والبشرية ووجه
الإتحاد بين اللاهوت والناسوت. فأدى هذا إلى تفاوت في فهم التعبير ونشأ عنه اختلاف
في العليم وخصام ونزاع أفضى إلى الانشقاق النسطوري والأوطاخي.

 

الإسكندرية
وأنطاكية: وتزعمت الإسكندرية الفكر المسيحي مدة من الزمن وشاطرتها أنطاكية في هذه
الزعامة. وكان لكل من هذين المركزين نهج خصوصي في التعليم واصطلاح في التعبير
كثيراً ما خالف اصطلاح المركز الآخر في تأدية المعنى الواحد.

 

وقالت
الإسكندرية بكمال الطبيعة البشرية في شخص المخلص وبكمال الطبيعة الإلهية ولكنها لم
تعين وجه اتحاد الطبيعتين. فقالت مثلاً بالإتحاد الطبيعي والإتحاد الشخصي والإتحاد
الجوهري بين الطبيعتين. وبعضهم نظر إلى الطبيعة الإلهية بنوع خصوصي فقال بطبيعة
واحدة متجسدة وما عنى بذلك سوى الإتحاد الحقيقي بين لاهوت الكلمة وناسوته وأن
الإله المتأنس شخص واحد وليس اثنين لأن كلمة طبيعة عندهم بمعنى الشخص والأقنوم.
ولكن أحداً منهم لم ينكر الطبيعتين بمعنى الجوهر اللاهوتي والعنصر البشري. ونظراً
لامتداد بدعة آريوس ووجوب محاربتها كان كلام الإسكندريين في لاهوت المخلص أكثر من
كلامهم في ناسوته. وهكذا فإنهم سموا سيدتنا مريم والدة الإله وقالوا أنها ولدت
إلها وأن الإله ولد وتألم وصلب.

 

وأما
مدرسة أنطاكية فإنها توخت البساطة والإيضاح فميزت بين اللاهوت والناسوت في شخص
المسيح الواحد. ومع أنها كانت تعتقد بأن المسيح واحد وليس اثنين فإنها كانت ترفض
التعليم بالإتحاد الطبيعي وبالمزاج بين الطبيعتين. وكانت تعتبر اتحادهما إضافياً
بمعنى السكنى والارتباط حفظاً لكمال الطبيعة البشرية، التي زعم ابوليناريوس أنها
كانت ناقصة. وكانت تنكر على الناسوت خواص اللاهوت، كالحضور في كل مكان والقدرة على
كل شيء وما شاكل ذلك، كما أنها أنكرت على اللاهوت أهواء الناسوت وآلامه كالولودة
والتألم والموت. ولهذا السبب ابتعد الأنطاكيون عن كل تعبير يؤدي على زعمهم إلى مثل
ذلك المعنى كتسمية العذراء والدة الإله وغيرها من العبارات التي عيَّنتها الكنيسة
بعد ذلك صيانة للتعليم القويم. وقالوا بوجوب كمال الطبيعة البشرية لأن لوقا يقول
أن يسوع “كان ينمو في الحكمة والقامة” وأوجبوا السجود للناسوت لأنه متحد
بالكلمة. ومن قولهم: “إنما نسجد للإرجوان من أجل المتردي به وللهيكل من أجل
الساكن فيه ولصورة العبد من أجل صورة الله وللحمل من أجل رئيس الكهنة وللمتخذ من
أجل الذي اتخذه وللمكوَّن من بطن البتول من أجل خالق الكل”. ولا يجوز القول
أن الأنطاكيين علموا بأقنومين فإنهم قالوا بأقنوم واحد ذي طبيعتين متحدتين بلا
امتزاج ولا اختلاط ولا تشويش.

 

وهكذا
فإن أساتذة المدرستين علّموا تعليماً مستقيماً ولكن بمناهج مختلفة وبانتقاء عبارات
معينة قضت باستعمالها ظروفهم الخصوصية. فالمصريون الإسكندريون توخوا العبارات التي
أوضحت كمال اللاهوت حذراً من بدعة آريوس والأنطاكيون طلبوا إيضاح كمال الناسوت
حذراً من بدعة أبوليناريوس. ولا عجب في ذلك إن عرفنا أن المبتدع الأول نشر وعلّم
بدعته في الإسكندرية أولاً والمبتدع الثاني نشر وعلّم بدعته في أنطاكية أولاً.

 

ويقول
الأسقف كاليستوس (تيموثي) وير: أن كل من هاتين النظريتين لو ذهبتا بعيداً كان
بإمكانهما الوصول إلى الهرطقة. ولكن الكنيسة كانت بحاجة لكل منهما لتثبت صورة
المسيح في تكاملها. وفي حين أنه كان بوسع كل من المدرستين أن تكمل الأخرى فقد
دخلتا في نزاع حوّل الأمر إلى مأساة بالنسبة للمسيحية.

 

{انطلق
كيرلس في دفاعه من وحدة شخص المسيح اكثر من انطلاقه من التمييز بين ناسوته ولاهوته
معتبرا ان القول بطبيعتين كاملتين في المسيح لا يعني التمييز بينهما الى حدّ الفصل
والتفريق، لان الطبيعة الانسانية فيه لم يكن لها كيان خاص اي لم تكن شخصا. ولذلك
اراد ان يفرض على خصومه القبول بعبارة “الاتحاد الشخصي ” في المسيح بين
العنصرين الإلهي والانساني. في حين إن لفظة “شخص” بحسب المدرسة
الانطاكية كانت تعني “الطبيعة”, والمبدأ السائد في الفلسفة الانطاكية
كان ان “كل طبيعة كاملة هي شخص”. اعتبر نسطوريوس وأتباعه ان قولة كيرلس
ان الإله والانسان اتحدا في يسوع اتحادا شخصيا تعني انهما اصبحا طبيعة واحدة.
فاتّهموا كيرلس بالسقوط في بدعة ابوليناريوس وخصوصا وان كيرلس كان يستعمل مؤلفات
ابوليناريوس المزوَّرة وكأنها صحيحة, ويردد -بثقة- عبارتَهُ “طبيعة واحدة
للإله الكلمة المتجسد” على أساس انها لاثناسيوس الكبير. رفض نسطوريوس تطبيق
خصائص الطبيعتين على شخص واحد لانه – في زعمه –يؤدي الى القول بأن المسيح تألم
ومات في الطبيعة الإلهية.

يرى
بعض مؤرخي اللاهوت اليوم أن افكار نسطوريوس لم تكن خاطئة، وان خلافه مع كيرلس هو
خلاف لفظي, وان ما رفضه مجمع افسس في البدعة النسطورية ليس تعاليم نسطوريوس شخصيا,
بل التفسير الذي اعطاه كيرلس لتلك التعاليم. من دون ان نهمل هذه النظرة نقول ان
الازمة النسطورية ارغمت الكنيسة على حسم النزاع وتوضيح ايمانها بوحدة الشخص في
المسيح.} (عن نشرة رعيتي)

 

وقام
في المدرستين أناس تطرفوا فسقطوا في الضلال. فإن نسطوريوس تطرف في التعليم
الأنطاكي بالطبيعتين إلى حد قال عنده بشخصين وأقنومين. وتطرف أوطيخة في التعليم
الإسكندري -كما سنرى- باتحاد الطبيعتين إلى حد قال عنده باختلاطهما طبيعة واحدة لا
يميز بعدها بين اللاهوت والناسوت -الناسوت كنقطة خل في محيط اللاهوت-. وهاتان
البدعتان أدتا إلى عقد المجمع المسكوني الثالث للنظر في بدعة نسطوريوس وعقد المجمع
الرابع للبت في بدعة أوطيخة. وعقد المجمع السادس للنظر في بدعة المشيئة الواحدة
التي تفرعت عن بدعة الطبيعة الواحدة.

 

نسطوريوس
واكليروس القسطنطينية: ومع أن نسطوريوس كان أنطاكي المذهب فإن رهبان الكرسي
القسطنطيني واكليروسه كانوا اسكندريين يعملون ضد آريوس والآريوسية. فلما قاوم
نسطوريوس القول باتحاد الطبيعتين اتحاداً طبيعياً وجوهرياً ونهى عن تسمية السيدة
العذراء والدة الإله وقع تعليمه موقع الاستغراب في جميع الأوساط الأرثوذكسية في العاصمة.
ثم وصمه المحامي افسابيوس بأتباع بولس السميساطي. واحتج الرهبان لديه فأمر بضربهم
وحبسهم. فاضطر الشعب أن يلجأ إلى الأمبراطور. فعقد الأسقف مجمعاً 329 وحرم جميع
الذين لم يقبلوا تعليمه.

 

كيرلس
ونسطوريوس: ولم يلبث خبر نسطوريوس أن ظهر وشاع فانتشر بريده في الأنحاء ووصل إلى
الإسكندرية. وكان كيرلس قد خلف خاله ثيوفيلوس -ألد أعداء الذهبي الفم- في كرسي
الأسقفية (412). وورث عنه شيئاً من الحسد والمنافسة بين الإسكندرية والقسطنطينية
التي كانت قد دبت إلى الصدور بعد المجمع المسكوني الثاني عندما أصبح أسقف
القسطنطينية الثاني بعد أسقف رومة في الكرامة. وإذا كان الحاسد يغتاظ على من لا
ذنب له -الذهبي الفم- فكيف به والذنب -نسطوريوس- خرج على الدين القويم. وهكذا فإن
كيرلس تلكم في منشوره الفصحي سنة 429 في تعليم الكنيسة عن الطبيعتين وحارب تعليم
نسطوريوس دون أن يذكر اسمه. ثم كتب إلى نسطوريوس يوضح الاصطلاح والدة الإله ويفسر
أن هذا الاصطلاح لا يعني أن مبدأ اللاهوت منها وإنما أن المولود منها كان إلهاً
كاملاً وإنساناً كاملاً. فأجابه نسطوريوس بعبارات مبهمة غامضة ولامه على جفاف
العبارة وقلة المودة الأخوية. وعقد كيرلس مجمعاً محلياً وعرض عليه الرسائل
المتبادلة فاستصوب المجمع رأيه -القديس كيرلس- وحكم بصحته.

 

كيليستينوس
ونسطوريوس: وكتب نسطوريوس إلى كيليسينوس أسقف رومة وإلى كثير من الأساقفة الغربيين
لتعزيز موقفه وتكثير أنصاره. ولكن كيليستينوس أنكل على نسطوريوس بقاء بعض الأساقفة
البيلاجيين في القسطنطينية واعتمد في رأيه على مشورة يوحنا كاسيانوس الذي عرف
الشرق جيداً. وبلغ كيرلس اتصال تسطوريوس برومة فكتب هو أيضاً لكيليستينوس وأفاد أن
الإيمان القويم معرض لخطر عظيم. وأرسل هذه الرسالة مع مخصوص اسمه بوسيذونيوس
وأوصاه أن يلاحظ ويفهم فإذا كان نسطوريوس قد كتب فيقدم الرسالة. وعلم بوسيبذونيوس
أن نسطوريوس كتب فدفع هو أيضاً رسالة كيرلس. فعقد كيليستينوس مجمعاً محلياً في صيف
430 واعتبر تعليم نسطوريوس غير قويم. وكتب بذلك إلى كيرلس الإسكندري ويوحنا
الأنطاكي وغيرهما من رؤساء الكهنة في الشرق. وأوجب التراجع عن الضلال في العشرة
أيام الأولى التي تلي التبليغ. وهدد بالقطع. وكتب أسقف رومة إلى نسطوريوس نفسه
أيضاً وإلى رعيته بمثل ما تقدم.

وكتب
كيرلس أيضاً إلى رؤساء الكهنة في الشرق راجياً التدخل لهدي نسطوريوس وردّه عن
الضلال. وكان بين هؤلاء الذين كتب إليهم أكاكيوس أسقف حلب وقد زاد سنه عن المئة
فكتب هذا الشيخ إلى كيرلس يرجوه أن يجتهد في إطفاء نار الخصومة ضناً براحة
الكنيسة.

 

البنود
الاثنا عشر: وكان أسقف رومة قد أوجب على نسطوريوس إظهار إيمانه كتابة. فكتب كيرلس
رسالة لنسطوريوس “يعلمه فيها كيف يجب أن يؤمن”. وأضاف إليها اثني عشر بنداً
يشمل كل واحد منها على قضية وحرم ضد من يعلم غير ذلك وكلفه أن يوقع هذه البنود!
ووصل الوفد الإسكندر إلى العاصمة في السابع من كانون الأول وأمّوا دار الأسقفية في
أثناء خدمة القداس الإلهي وطلبوا مواجهة نسطوريوس فأرجأ الأسقف المقابلة إلى الغد.
ولما اطلع على الرسالة والبنود رفض مقابلة الوفد الإسكندري. ولم يكتب نسطوريوس ضد
كل بند بنداً كما شاع بعد ذلك. وما ينسب إليه من هذا القبيل هو من قلم أحد
المعجبين به من المتأخرين. ولكنه أخبر يوحنا أسقف أنطاكية بالبنود الاثني عشر. وما
أن اطلع هذا على نص البنود حتى وصمها بالأوبولينارية وشجع علماء الكرسي الأنطاكي
على دراستها والرد عليها. فكتب ثيودوريطس أسقف قورش اثني عشر فصلاً كما صنف مؤلفاً
آخر في تجسد الكلمة. ووضع إيبا أسقف الرها دافع بها بها عن نسطوريوس. وألَّف
اندراوس أسقف سميساط أيضاً كتاباً ضد كيرلس وبنوده. وهكذا فإن الاختلاف في
الاصطلاح واندفاع كل من نسطوريوس وكيرلس و”انتفاخهما” وتسرعهما قسم
الكنيسة في ظرف سنوات ثلاث إلى شطرين رومة وآسية وأورشليم والإسكندرية من الجهة
الواحدة وأنطاكية ونسطوريوس من الجهة الأخرى.

 

الدعوة
إلى مجمع أفسس: (430) واتصل نسطوريوس بالأمبراطور ثيودوسيوس الثاني وأطلعه على
واقع الحال ورجاه أن يأمر بدعوة الأساقفة إلى مجمع مسكوني للنظر في القضية القائمة
بينه وبين كيرلس. وكان ثيودوسيوس يعطف على أسقف عاصمته، فأمر في 19 تشرين الثاني
سنة 430 بدعوة جميع “مطارنة” الأمبراطورية إلى مجمع مسكوني يعقد يوم عيد
العنصرة في السابع من حزيران سنة 431. وشملت هذه الدعوة كيليستينوس أسقف رومة
وكبار أساقفة الغرب.

 

ممثلي
الكنائس: وتوافدت الوفود على أفسس. وشمل الوفد الإسكندري خمسين أسقفاً وعدداً
كبيراً من الشمامسة والرهبان. ولم يعبأ كيرلس بنص الدعوة الأمبراطورية ووجوب
الاكتفاء بعدد قليل من الأساقفة. وجاء نسطوريوس إلى أفسس تصحبه حاشية مخلصة صادقة.
وكان من أعضاء هذه الحاشية القومس ايريناوس أحد كبار رجال البلاط الأمبراطوري. وفي
الثامن عشر من حزيران أطل أسقف أورشليم على رأس وفد مؤلف من خمسة عشر أسقفاً. ولا
يخفى أن يوبيناليوس الأورشليمي كان مشاغباً من الدرجة الأولى وطماعاً كبيراً. وكان
همه الوحيد أن يصطاد في الماء العكر ليرفع عن رأسه سلطة أنطاكية ويستقل بأبرشيات
فلسطين. ولك يرضَ ممنون أسقف أفسس ومئة غيره من أساقفة آسية عن تدخل أسقف العاصمة
في أمورهم فوقفوا إلى جانب كيرلس وناصروه مناصرة فعالة نظراً لكثرة عددهم. وأوفد
كيليستينوس أسقف رومة الأسقفين اركاذيوس وبرويكتوس والقس فيليبوس وأوجب عليهم
التقيد برأي كيرلس أسقف الإسكندرية. وكان اوغسطينوس قد توفي قبل صدور الدعوة إلى
المجمع في الثامن والعشرين من آب سنة 430 -وكانت الدعوة قد شملته كأحد كبار أساقفة
الغرب-. أما كابريولوس أسقف قرطاجة ورئيس كنيسة أفريقيا فإنه اعتذر عن الحضور
بداعي هجوم الوندال وأفود الشماس بسولة ليمثله في المجمع.

 

وترأس
يوحنا أسقف أنطاكية (428-441) الوفد الأنطاكي. وتألف الوفد من أربعة وثلاثين
أسقفاً: يوحنا أسقف أنطاكية والكسندروس أسقف أبامية ويوحنا أسقف دمشق وايلاذيوس
أسقف طرسوس والكسندروس أسقف منبج ومكسيموس أسقف عين زربة وذكسيانوس أسقف سلفكية
وكيروس أسقف صور واستيريوس أسقف آمد وانطوخيوس أسقف بصرى وثيودودريطس أسقف قورش
وبولس أسقف حمص ومكاريوس أسقف اللاذقية وابرنجيوس أسقف قنسرين وجيرونتيوس أسقف
كلوديابوليس وأوسونيوس أسقف هيميرية الرها وأوريليوس أسقف ايرينوبوليس أسورية
وبوليخروتيوس أسقف حماه وملاتيوس أسقف قيصرية الجديدة وموسايوس أسقف أرواد وطرطوس
وايلاذيوس أسقف عكة وهيسخيوس أسقف كستبالة بودروم قيليقية وتريانوس أسقف أوغوسطة
وسلوستوس أسقف كوريكوس وفالنتينوس أسقف ملوس وزوسيس أسقف اسبوس ويوليانوس أسقف
شيزر وديوجينس أسقف جسر شغور والياس أسقف بلقيس بالقرب من بيره جك وبلاكوس أسقف
اللاذقية ومركلوس أسقف عرقة ورابولا أسقف الرها.

 

تأخر
الوفد الأنطاكي عن الحضور: ونهض الوفد الأنطاكي إلى أفسس. ولم تخل رحلتهم هذه عن
المتاعب وبعض الحوادث ولا سيما أنهم سافروا براً. فأفدوا من سبقهم إلى أفسس ليؤكد
وصولهم إليها بعد حين ويرجو انتظارهم. ورأى رأي هؤلاء ثمانية وستون أسقفاً وأوصوا
كيرلس بالانتظار. ووافقهم على هذه النصيحة القمص كنديديانوس ممثل الأمبراطور. وكان
الوفد الروماني في طريقه إلى أفسس. ولكن بعض “الحقد والحسد” الموروث
وخوف كيرلس من مناقشة بنوده أمام المجمع بكامله وطمع يوبيناليوس أوقع الكنيسة
الجامعة في مأزق كان من الممكن تجنبه.

 

التآم
المجمع: وفي الثاني والعشرين من حزيران سنة 431 اجتمع في كنيسة السيدة في أفسس مئة
وخمسون أسقفاً برئاسة كيرلس أسقف الإسكندرية. فهرع ممثل الأمبراطور إلى هذه
الكنيسة يؤكد أن الأمبراطور لا يرضى عن مجامع ناقصة ويرجو الانتظار ريثما يصل وفد
أنطاكية. فامتنع الآباء عن الإصغاء وكادوا يطردون ممثل الأمبراطور من الكنيسة. فاضطر
هذا الممثل أن يدون احتجاجه ويعلنه للجمهور.

 

ثم
دُعي نسطوريوس إلى الحضور فلم يحضر. فدعي ثانية وثالثة لم يحضر، فحكم عليه بالقطع
ثم تليت رسائل كيرلس وبنوده الاثنا عشر ورسالة البابا كيليستينوس إلى نسطوريوس
وأساقفة الشرق وقرار مجمع رومة المحلي. فصدَّق المجمع على هذه كلها واعتبرها
أرثوذكسية. وكتب كيرلس باسم المجمع إلى الأمبراطور وإلى إكليروس العاصمة وشعبها
منبئاً بم تمَّ في أفسس. واحتج نسطوريوس وعشرة وسبعة عشر من مؤيديه على خروج كيرلس
ومجمعه على النظام ورفعوا احتجاجهم إلى الأمبراطور.

 

وفي
الرابع والعشرين من حزيران وصل يوحنا أسقف أنطاكية ووفد كنيسته. فأرسل المجمع من
أفاد بقطع نسطوريوس. فأسف يوحنا واعتبر عمل المجمع ظاهرة من ظواهر الرعونة
والاستبداد. ثم عقد يوحنا مجمعاً مؤلفاً من ثلاثة وأربعين أسقفاً حكم فيه بالقطع
على كيرلس وممنون لظلمهما ولكونهما تصرفا خلافا للشرع الكنسي. وحكم أيضاً بمثل ذلك
على سائر الأساقفة الذين قبلوا قرار المجمع بدون فحص ولا تروٍ، إلى أن يجتمعوا
ثانية ويلغوا ما قرروه ويحرموا بنود كيرلس الاثني عشر. وكتب يوحنا بهذا كله إلى
الأمبراطور والمجلس الأعلى والأمبراطورة والاكليروس والشعب.

 

ثم
وصل وفد رومة. فاجتمع مجمع كيرلس في دار الأسقفية في العاشر من تموز. وتُليت
تحارير كيليستينوس الجديدة وأعمال الجلسة الأولى. وفي الحادي عشر وافق أعضاء الوفد
على مقررات هذا المجمع. ثم عقد كيرلس وأتباعه جلستين في السادس عشر والسابع عشر من
تموز. ودُعي يوحنا أولاً وثانياً وثالثاً، فأرسل رئيس شمامسته فلم يقبل المجمع
فحكم حالاً بقطعه وقطع أربعة وثلاثين أسقفاً معه. وكتب يوحنا إلى الأمبراطور ضد
كيرلس ووافقه في ذلك ممثل الأمبراطور. فأمر ثيودوسيوس الثاني بتكدير كيرلس وتوبيخه
وببقاء جميع الأساقفة في أفسس ليجتمعوا مجمعاً جديداً واحداً.

 

واقتبس
في هذا المجمع كيرلس المصطلح “طبيعة واحدة متجسدة لله الكلمة” من كتابات
ظنَّ أنها لاثنايوس الكبير. وهي في واقع الأمر جملة أبولينارية بحسب الدارسين
كلهم. ولكن كيرلس استطاع أن يفسرها تفسيراً أرثوذكسياً فيما بعد. كما سنرى فيما
بعد عند الحديث عن مجمع خلقيدونية. ورفض القائلين بالطبيعة الواحدة له.

 

دستور
الإيمان: وبحث مجمع كيرلس في جلسته السادسة في الثاني والعشرين من تموز أمر دستور
إيمان كان قد فُرض في فيلادلفية على بعض التائبين من الهراطقة. فحرم المجمع كل
محاولة لإعداد دستور إيمان غير ذاك الذي أقره الآباء في نيقية بإلهام الروح القدس.

 

استقلال
كنيسة قبرص: وشملت ولاية الشرق قبرص فخضعت هذه الجزيرة لأنطاكية في شؤونها
المدنية. واعتبرت كنائس قبرص كنيسة أنطاكية كنيسة مؤسسة فنشأت مرتبطة بالكنيسة
الأم خاضعة لها. وكان ما كان من أمر آريوس والآريوسية ودب الشقاق في صفوف المؤمنين
في أنطاكية فتشاغلوا عن شؤون قبرص وتركوها رهن الطوارق. وقيض الله لقبرص في النصف
الثاني من القرن الرابع راعياً صالحاً عالماً وورعاً. فوجد صفوف المؤمنين فيها
وزادهم ثقة في النفس وإحساساً بالعزة والكرامة. والإشارة هنا إلى القديس ابيفانيوس
صاحب كتاب علبة الأدوية البناريون وكتاب الانكيرونس “الثابت في مرساه”،
وكتاب الأدوية ضد البدع وفيه محاولة لدحض ثمانين بدعة وهرطقة. وقد يفيد أن نعلم أن
بيفانيوس ولد في بيت جبرين وتنسك في بيت صدوق وأنه ذاع صيت علمه وقداسته فعين
أسقفاً على مدينة قسطنسية (سلامينة) سنة 367 وبقي حتى وفاته في سنة 403. والواقع
أن احترافم ابيفانيوس أدى إلى ممارسة الاستقلال قبل الاعتراف به. وفي سنة 415 نرى
الجدل محتدماً بين تروئيلوس متروبوليت الجزيرة والكسندروس أسقف أنطاكية. وترى هذا
الأخير يستعين بزميله الروماني انوشنتيوس الأول فيؤكد أسقف رومة وجوب الاعتراف
بسلطة أسقف أنطاكية في جميع أنحاء ذيقوسية الشرق ويضيف أن هذا التقدم عائد إلى
أمرين أولهما أن أنطاكية كانت مقر الرسول بطرس وأنها كانت عظيمة. ولكن أساقفة قبرص
لم يكترثوا بشيء من هذا كله. فلما كان ما كان من أمر نسطوريوس ومجمع أفسس سأل أسقف
أنطاكية يوحنا والي ذيقوسية الشرق أن يأمر بتأجيل انتخاب خلف للمتروبوليت ثودوروس
في قبرص إلى أن يرفض مجمع افسس. ولكن رجينيوس المتروبوليت الجديد كان قد انتخب
فأقلع للحال إلى أفسس ومعه أسقفان. وبات رجينيوس ينتظر فرصة مناسبة لإثارة قضيته.
فلما توترت العلاقات بين يوحنا وكيرلس تقدم متروبوليت قبرص بطلب رسمي إلى المجمع
في جلسته السابعة في الحادي والثلاثين من تموز سنة 431 يرجو به منح قبرص
استقلالها. فكان له ذلك.

 

بيان
أمبراطوري: وفي أوائل آب أطل على الآباء المجتمعين المختلفين أحد كبار رجال البلاط
يوحنا قمص العطايا المقدسة وبيده براءة أمبراطورية. ولدى وصوله أمر الحزبين
المتنافرين أن يجتمعا في مكان واحد. ثم قرأ عليهم البراءة وفيها خلع نسطوريوس
وكيرلس وممنون ووجوب الاستمساك بنص الدستور النيقاوي والعودة إلى الأوطان.

 

ووافق
الوفد الأنطاكي على مضمون هذا البيان وأعلن استمساكه بالدستور النيقاوي واعتقاده
بصفحة الاصطلاح “والدة الإله”. ولم يأتِ الوفد على ذكر نسطوريوس.
والواقه أنه منذ وصول الوفد إلى أفسس ونقطة الدائرة في البحث هي بنود كيرلس الاثنا
عشر. أما الوفد الإسكندري ومن شد أزره فإنهم صعقوا وراحوا يسعون للدفاع عن كرامة
كيرلس وممنون. وهنا رأى كيرلس أنه لا مفر من استخدام أساليب خاله ثيوفيلوس فنثر
الذهب في العاصمة ولا سيما في البلاط ووزع الهدايا على أنواعها. فأصغى الأمبراطور
إليه وقال بالتسوية.

 

في
خلقيدونية: واستقال نسطوريوس من منصبه وآثر العودة إلى الدير في أنطاكية ولم يطلب
شيئاً سوى إبطال بنود كيرلس الاثني عشر. ووافق الوالي أنطوخيوس فعاد نسطوريوس إلى
دير افبريبيوس. ودعا الأمبراطور ممثلين عن الحزبين المختلفين إلى خلقيدونية.
واستمع إلى أقوالهما وأمر بإعادة كيرلس وممنون إلى منصبيهما ونصَّب على كرسي
القسطنطينية مكسيميانوس الكاهن الوقور المحترم. ولكن هذا وحده لم يكف لإعادة السلم
والوئام إلى الصفوف. فبنود كيرلس الاثنا عشر كانت لا تزال موضع جدل عنيف بين
أنطاكية والإسكندرية.

 

ورجع
الأساقفة إلى أوطانهم وهم على شقاق لا على سلام واتفاق. وبعد رجوعهم عقد
الأنطاكيون مجمعين أحدهما في طرسوس والآخر في أنطاكية وأعادوا حرم كيرلس وبنوده.

 

مهمة
ارسطولاوس: فساء هذا كله في نظر الأمبراطور فشاور مكسيميانوس في الأمر فأشار بدعوة
كل من كيرلس ويوحنا إلى اجتماع خصوصي يعقد بينهما وحدهما في نيقوميذية. فاستدعى
الأمبراطور القائد ارسطولاوس ودفع له بإرادة سنية قضت بقيام كل من كيرلس ويوحنا
إلى نيقوميذية لأجل التفاهم وبامتناعهما عن خلع الأساقفة وسيامتهم حتى وصولهما إلى
الصلح والاتحاد.

 

ولدى
وصول ارسطولاوس إلى أنطاكية رأى من المفيد جداً أن يتصل بعميد الأساقفة وشيخهم
الوقور أكاكيوس متروبوليت حلب. ففعل وحمل إليه أيضاً جواب أساقفة أنطاكية وكان
هؤلاء قد أكّدوا للأمبراطور أرثوذكسيتهم واستمساكهم بدستور نيقية وبنص رسالة
اثناثيوس إلى ابيكتيش ولكنهم أعلنوا عدم استعدادهم لنقبل أية إضافة إلى التعاليم
الموروثة.

 

ورأى
أكاكيوس أن يطلع كيرلس على جواب أساقفة أنطاكية فأوصى ارسطولاوس بذلك. فكتب كيرلس
إلى أكاكيوس مبيناً شروط التفاهم المنشود. وأهمها الاعتراف بخلع نسطوريوس وتحريم
بدعته. وأما سائر الأمور المتعلقة ولا سيما البنود فإن كيرلس لم يقصد بهما سوى
نسطوريوس وعقديدته. فلمس الأسقف الشيخ استعداد كيرلس للمصالحة فكتب إلى ثيودريطس
قورش والكسندروس منبج يبين شروط كيرلس وينصح بقبولها ويرجو التفضل بالرد. فرفض
الكسندروس هذا النصح وأيده في الرفض عدد من زملائه الأساقفة وأجمعوا أن ما يقوله
كيرلس شيئاً من الأبولينارية. أما ثيودوريطس قورش واندراوس سميساط فإنهما لمسا
تقرباً في رد كيرلس ولكنهما رفضا ذم نسطوريوس والحكم عليه.

 

بولس
أسقف حمص: وكتب يوحنا أسقف أنطاكية كتاباً كريماً إلى زميله الإسكندري جاء فيه أنه
لا يطلب إلا السلام وأنه يغتبط لتمسك زميله برسالة اثناثيوس لابيكتيتس لأنه هو
أيضاً مستمسك بها.فرأى أكاكيوس أن يوفد صديقه بولس أسقف حمص إلى الإسكندرية لينقل
رسالة يوحنا ويفاوض كيرلس في التفاهم والاتحاد.

 

ووصل
بولس إلى الإسكندرية فوجد كيرلس مريضاً. ثم لمس شيئاً من الدس يزرعه البلاط
الأمبراطوري طمعاً بالمال فطالت إقامة الرسول الأنطاكي. ونثر كيرلس الذهب مرة
ثانية فسكتت القسطنطينية. ثم استأنف الفريقان التفاوض فاتفقا على أن يعلن بولس
اعترافه بقانونية انتخاب مكسيميانوس وبصحة التعبير “والدة الإله” وأن
يخطّئ نسطوريوس في ما ذهب إليه فيدخله عندئذ كيرلس في شركته. واعترف بولس بهذا كله
فاشترك في الذبيحة الإلهية في الإسكندرية مرتين متتالييتن في 25 كانون الأول سنة
432 وفي أول كانون الثاني سنة 433.

 

اتفاق
وسلام: وكان ارسطولاوس قد عرّج على أنطاكية حاملاً رسالة يبين فيها كيرلس موقفه
النهائي من المسألة وقد أوجب فيها قطع نسطوريوس ونبذ تعاليمه. ولم يُشر إلى بنوده
الاثني عشر. فقبل يوحنا وأرسل إلى كيرلس نص اعتراف كان قد حرره ثيوذوريطس في أفسس.
فوافق كيرلس وتم التفاهم بين الإسكندرية وأنطاكية. وأهم ما جاء في هذا الاعتراف::
“اننا نعترف بأن سيدنا يسوع الميسح ابن الله الوحيد هو إله تام وانسان تام من
نفس ناطقة وجسد, مولود من الآب بحسب اللاهوت وهو عينه مولود في الازمنة الاخيرة لاجلنا
من العذراء مريم بحسب الناسوت…. اذ قام فيه اتحاد الطبيعتين…. وأن القديسة
مريم بحسب هذا الاتحاد العادم الاختلاط هي والدة الإله, لأن الإله الكلمة تجسد
وتأنس منها ومن بدء الحمل أَتْحَدَ ذاته بالهيكل الذي منها….”.

 

وصدر
عن أنطاكية وعن الإسكندرية رسائل سلامية إلى كل من سيكستوس أسقف رومة ومكسيميانوس
أسقف القسطنطينية وثيودوسيوس الأمبراطور تنبئ بالحادث السعيد.

 

اختلاف
الكلمة في أنطاكية: واختلف الأساقفة الأنطاكيون في أمر هذا الاعتراف فاعتبره
الكسندروس منبج انتصاراً لكيرلس واندحاراً ليوحنا وأتباعه. وقال هذا القول معظم
أساقفة قيليقية الأول والثانية كما يتبين من مقررات مجمع عين زربة في ربيع 433.
وتفرقت الطرق بأساقفة وادي الفرات. فبعضهم أيد الكسندروس والبعض الآخر عاد إلى
الشركة مع يوحنا رئيس الكنيسة. وبين هؤلاء أندراوس أسقف سميساط ويوحنا أسقف مرعش.

 

وتوفي
مكسيميانوس في ربيع 433 وحلّ محله بروكلوس. وظل الكسندروس منبج وايلاذيوس طرسوس
ومكسيميانوس عين زربة وملاتيوس موبسوستي وثيودوريطس قورش مستبدين برأيهم منفردين
به. فأطلت السلطات المدنية وأكدت لهم أن الوقت قد حان للتواضع والتعقل. وضغطت بشكل
خصوصي على ثيودوريطس أعلم الأساقفة وأبعدهم أثراً فبعثت بسمعان العامود ويعقوب
وغيرهما من مشاهير الرهبان إليه ليتوسلوا إليه بوجوب المحافظة على الاتحاد. وشجعت
السلطات وجهاء رعية هذا الأسقف القديس على مطالبته بالأمر نفسه. وتعددت رسائل
زملائه الأساقفة للغاية نفسها. فقبل أن ينهض إلى أنطاكية لمقابلة يوحنا أسقفها.
ولدى وصوله إليها اشترك بالذبيحة مع يوحنا ووقع الاعتراف وكتب إلى كيرلس بذلك. ولم
يُطلب إليه أن يقطع نسطوريوس. وتبع ثيودوريطس في هذا عدد غير قليل من أساقفة
القيليقيتين وأسورية. وأصرَّ الكسندروس منبج على غيّه وأمعن في تيهه فنفي إلى
مناجم مصر. وهام في أودية الضلال حتى وافته المنية. وعميت وجوه الرشد على خمسة عشر
أسقفاً آخرين فخلعوا وأبعدوا. وأشهر هؤلاء ملاتيوس موبسوستي وانستاسيوس تنذوس.

 

اختلاف
الكلمة في الإسكندرية: وحدث أيضاً في الإسكندرية ما حدث في أنطاكية. إذ ظن بعض
الأساقفة السكندريون أن كيرلس في مصالحته مع يوحنا الأنطاكي انتصاراً ليوحنا
واندحاراً لكيرلس وبتراجعه عن إيمان أفسس. فأرسل رسائل إلى الأساقفة يشرح فيها كيف
أن مصالحته مع يوحنا لا تتعارض مع شرحه للإيمان في أفسس. ولنا في مجمع خلقيدونية
وقفة مع إيمان القديس كيرلس وعقيدته في أفسس.

 

إبعاد
نسطوريوس: وكان نسطوريوس لا يزال مقيماً في ديره في أنطاكية منذ أواخر السنة 431
يرقب سير الحوادث ويجمع المواد اللازمة للرد على خصومه. ورأى كيليستينوس في ذلك
ضرراً على الإيمان والوحدة فكتب بإبعاده من أنطاكية في سنة 432. ثم خشي يوحنا نفسه
أثر بقاء نسطوريوس في كنفه فكتب إلى الأمبراطور بإبعاده. بأُبعد إلى البتراء أولاً
ثم إلى الواحة الكبرى في صحراء ليبيا. وبقي فيها حتى وفاته. ولا نعلم تاريخ وفاته.
ولم يعلم سقراط المؤرخ الذي كان يدون تاريخه في السنة 439 ما إذا كان نسطوريوس قد
مات فعل وأنه كان لا يزال حياً.

 

وفي
الثالث من آب سنة 435 صدر قانون أمبراطوري قضى بتحريم تعاليم نسطوريوس وحرق كتبه.
واضطهد الولاة أتباعه وخصوا صديقه القومس ايريناوس والكاهن فوتيوس بعنايتهم فنزعوا
عنهما الألقاب والرتب وصادروا أملاكهما ونفوهما إلى البتراء.

 

فاتحة
الفصول الثلاثة: انتمى نسطوريوس إلى مدرسة أنطاكية فنزع إلى أساتذته فيها إلى
ثيودوروس الموبسوستي وديودوروس الطرسوسي. ولكن أحداً من الباحثين في قضيته في أفسس
والإسكندرية لم يُثر هذا النسب العلمي ولا سيما وإن كلا من ثيودوروس وديودوروس كان
قد توفي على إيمان وتقوى.

 

وكانت
الكنيسة في ارمينية في نهضة مباركة. وكان آباؤها قد آثروا نقل مؤلفات الآباء
اليونانيين إلى الأرمنية على التصنيف من جديد فتعرفوا على أقوال ثيودوروس
وديودوروس وغيرهما من الآباء الأنطاكيين ونقلوها إلى الأرمنية. وشاء القدر أن
تتاخم أبرشينا اكاكيوس ملاطية ورابولة الرها اللاد الأرمنية. وكان كل من هذين
الاسقفين كيرلسياً حساساً فكتبا إلى اخوانهما في الرب أساقفة أرمينية يرشدانهم إلى
الابتعاد عن مصنفات ثيودوروس الموبسوستي لأنه “أبو النساطرة”. وكانت
العقائد الأبولينارية أيضاً قد تسربت إلى بعض الأوساط الأرمنية. فقام أنصارها يعارضون
الاعتماد على مصنفات الآباء الأنطاكيين. فعقد الأرمن مجمعاً محلياً للنظر في هذا
الأمر وأوفدوا كاهنين إلى القسطنطينية ليعرضا القضية على بروكلوس ويستبصرا رأيه.

 

ورحب
بروكلوس بالوفد الأرمني ودرس نصوص ثيودوروس المحمولة إليه فألفاها تتطرف في
التفريق بين “ابن الله” و”ابن الإنسان” إلى درجة يصعب عندها
القول بوحدانية الأقنوم. فشجبها ودون “اعترافاً” خصوصياً عُرف باسمه
ودفع بهذا النتاج كله إلى الوفد الأمني موصياً بوجوب قبوله وتوقيعه.

 

ولم
يقف بروكلوس أسقف القسطنطينية عند هذا الحد. فإنه بعث بمثل ما خص الأرمن به إلى
الآباء الأنطاكيين وأوجب شجب بعض الأقوال التي نسبت إلى ثيودوروس. وأرفق هذا كله
بإرادة أمبراطورية توصي يوحنا أسقف أنطاكية وزملائه الأساقفة بالابتعاد عن كل ما
من شأنه الإخلال بالسلام والمحبة.

 

ودُهش
يوحنا ولفيف الأساقفة الأنطاكيين لهذا التجريم والتجني. فكتبوا إلى بروكلوس يشجبون
نسطوريوس والنساطرة ويؤكدون استمساكهم بالدستور النيقاوي. ولكنهم رفضوا شجب
ثيودوروس “كي لا يشجبوا اثناثيوس وباسيليوس وغريغوريوس وغيرهم ممن علّم
المبادئ نفسها”. وكتب يوحنا إلى الأمبراطور بالمعنى نفسه ولفت نظره بالإضافة
إلى الخطر الذي يتحتم وقوعه من جراء محاكمة آباء سبق رقادهم على إيمان وتقوى. وحرر
إلى كيرلس أيضاً يوجب تسكين هذا اللهيب وإطفاء جمره. وكان كيرلس يعد كتاباً للرد
على علماء أنطاكية ولكنه أحب السلام فيما يظهر فكتب إلى بروكلوس يذكره أن مجمع
أفسس شجب قولاً عزي إلى ثيودوروس ولكنه لم يذكر اسماً واحداً عند شجب هذا القول
وأضاف أنه يجدر به ألا يتطلب أموراً كثيرة من أساقفة الشرق.

 

وسكت
الأساقفة الكبار الثلاثة ولكن أسقف الرها خلف رابولةة لم يسكت، وكان يدعى إيبا،
فإنه شنها حرباً شعواء على بروكلوس في سبيل الدفاع عن ثيودوروس الموبسوستي
وديودوروس الطرسوسي المعلمين الأنطاكيين. وعرف فيما بعد برسالة امتدح فيها هذين
المعلمين ووجهها إلى ماري أحد أتباع ملك الفرس في سلفكية.

 

وفاة
يوحنا وكيرلس وبروكلوس: وتوفي يوحنا أسقف أنطاكية في سنة 441 و442 وخلفه ابن اخته
دومنوس. ثم لحق بيوحنا كيرلس أسقف الإسكندرية سنة 444 فتولى الرئاسة بعده
الأرشدياكون ديوسقوروس. وفي السنة 446 انتقل بروكلوس أسقف القسطنطينية. فرقي سدة
الرئاسة بعده فلافيانوس الكاهن. وبوفاة هؤلاء الثلاثة أصبح ثيودوريطس أسقف قورش
زعيم الكنيسة الأوحد في الشرق كله.

 

ثيودوريطس:
(393-457) ولد في أنطاكية ونشأ فيها وأخذ عن أساتذتها شطراً وافراً من العلوم
الدنيوية ثم نقل عن آبائها تفسير الأسفار المقدسة واللاهوت. وقبل النذر فالتجأ إلى
أحد الأديرة بالقرب من أبامية واشتهر بالعفة والطهارة والتقوى فسيم أسقفاً على
قورش سنة 423.

 

وكانت
أبرشية قورش كبيرة ولكنها لم تكن غنية ولم تخل من الوثنيين والهراطقة. فكرَّس
ثيودوريطس سنواته الأول (423-430) لمكافحة الوثنية والهراطقة بالوعظ والكتابة
والتأليف. ويجمع رجال الاختصاص على أن مصنفه
Curatio
في الدفاع عن المسيحية ظهر في هذه الحقبة. وأن عدداً كبيراً من سائله الضائعة التي
رشق بها الآريوسيين والمركيونيين والافنوميين والمقدونيين تعود إلى هذه الحقبة
نفسها.

 

وصادر
ثيودودريطس في أثناء حربه هذه أكثر من مئتي نسخة من دياتسرون تاتيانوس وأحل محلها
نسخاً من الأناجيل المفردة حرصاً على سلامة النص. وأعاد الأسقف إلى حظيرة الخلاص
أكثر من عشرة آلاف ضال. وواصل الأسقف أبناءه الروحيين حيثما كانوا في المدن والقرى
والمزارع وأصغى إلى شكاويهم ودافع عن حقوقهم ولا سيما أمام الجباة والشرطة.

 

ووصل
نسطوريوس إلى السدة القسطنطينية وحلت العاصفة ووضع كيرلس الإسكندري بنوده الاثني
عشر، وهبت أنطاكية تدافع عن موقفها العلمي اللاهوتي. فوكل أسقفها يوحنا أمر هذا
الدفاع إلى ثيودوريطس فصنف كتاباً أسماه “الرد على اللعنات” وقد ضاع هذا
المؤلَّف ولا نعلم عن محتوياته شيئاً سوى ما جاء في معرض الرد عليها في رسائل
كيرلس. ومثّل ثيودوريطس رئيسه الكسندروس منبج في اجتماع خلقيدونية المنبثق عن مجمع
أفسس وتولى الكلام باسم كنيسة أنطاكية. وما فتئ يدافع عن مدرسة أنطاكية حتى كان ما
كان من أمر التفاهم بين يوحنا وكيرلس. فطغت محبة المسيح على نعرة إقليمية ووقّع
ثيودوريطس ما أدى إلى توحيد الصفوف في الكنيسة الجامعة..

 

البيلاجية:
أدان المجمع أيضا البيلاجية التي انتشرت كرد على التعاليم الأوغسطينية.

أغسطين
كان قد اقتنع من حوادث حياته بأن قوى الإنسان الخاصة لا أهمية لها في الخلاص وأن
نعمة الله وحدها توجهه إلى طريق الحق وتخلصه.

بلاجيوس
أعطى كل الأهمية لقوى الإنسان وقال إن عمل النعمة المباشر على قوى الإنسان هو
بمثابة اغتصاب لحريته. الإنسان يولد بدون خطيئة وبالتالي لا داعي للمعمودية.

إن
تعليم اغسطين بالرغم من عدم صحته إلا أنه لا يقود إلى إنكار حقائق إيمانية كبيرة.
أما تعليم بلاجيوس فيقود إلى إنكار الحاجة للفداء وبالتالي إنكار الحاجة للتجسد.
فأدانه المجمع وحرم تعاليمه.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى