علم الكتاب المقدس

عهد سيناء



عهد سيناء

عهد
سيناء

(سفر
الخروج)

نجاة
إسرائيل من عبودية مصر، موسى وسيط بين الله وشعبه

الموجز

يدوم
نفي إسرائيل في مصر أربعمائة سنة على ما جاء في الكتاب (تك13: 15)، والمحن التي
يبلي بها الله شعبه طويلة وقاسية. ولذا فإن إنقاذ إسرائيل من النير المصري سيكون
خلال كل تاريخه العلامة الكبرى لأمانة الله ورحمته (خر1: 20، هو1: 11، مز8: 135- 9،
مز10: 136- 16 الخ..) والأساس الأول للعهد الذي يقطعه مع شعبه.

 

يروي
لنا سفر الخروج – كما يدل عليه اسمه – انطلاق إسرائيل إلى أرض الميعاد ثم بداية
حياته في البرية ونواله الشريعة من الله. ويتابع سفر العدد رواية حياة الشعب
المختار في البرية بينما يتناول سفرا التثنية واللاويين أحكام شريعة الله
ويشرحانها (8).

 

1-
إله الآباء يتراءى لموسى (خر1- 4)

آ-
(يذكر) الله عهده ويسهر على خاصته (خر 17: 1 و20، 1: 2- 10، 23: 2- 24).

 

ب-
يتضامن موسى مع شعبه المستعبد، ولكن عليه انتظار الوقت الذي يعينه الله لإنقاذه
(خر 11: 2- 22، أع 20: 7- 29، عب24: 11- 26).

 

ج-
يتراءى الله لموسى وهو الإله القدوس والمقتدر، إله ابراهيم واسحق ويعقوب، الإله
المنقذ (خر 3- 4)، ويعلن له (اسمه) (13: 3- 15).

 

2-
الله ينقذ شعبه بيد قوة وساعد رفيع (خر 5- 18)

آ-
يظهر الله قدرته بإنقاذه شعبه من النير المصري. ولا ينجو إسرائيل من حكم الله إلا
بنعمة خاصة إذ أن دم الحمل الفصحي يوقف ذراع الملاك المهلك. ويحتفل عيد الفصح
بذكرى (عبور) الرب هذا (خر1: 12- 28، 1: 13- 6، تث1: 16- 8)، ثم يشق الله لشعبه
طريقاً عبر البحر (خر 14- 15)، ويقوته في البرية (خر22: 15- 36: 16).

 

ب-
إسرائيل شعب مفتدى: هو ملك للذي أجازه من العبودية إلى الحرية، ومن الموت إلى
الحياة (خر2: 20- 3، عد41: 15، مز1: 81- 11، مز105 و114، هو1: 11). ولكن الذين
يصدقون مواعيد الله يدخلون وحدهم أرض الميعاد (عد20: 14- 38).

 

ج-
يرى العهد الجديد في هذه الأحداث التاريخية بشارة بالخلاص الآتي والدينونة الأخيرة.
ولذا فالمختارون في سفر الرؤيا ينشدون ترنيمتي موسى والحمل معاً (رؤ2: 15- 4). إن
العهد الجديد يرى في يسوع المسيح الحمل الفصحي الحقيقي المذبوح لخلاص العالم (يو
29: 1، 1كو 7: 5، 1بط 17: 1- 21) وفي عبور البحر الأحمر رسماً للاصطباغ في موته
(1كو1: 10- 5). إنه الخبز الحقيقي النازل من السماء (يو6) وينبوع الماء الحي الذي
لا ينضب (يو 7: 4- 14 و37: 7).

 

3-
عهد سيناء (خر19 و24 و32- 34)

آ-
يجعل الله من إسرائيل (شعبه الخاص) والشاهد له بين الشعوب (خر1: 19- 6). إن
إسرائيل كنيسة العهد القديم ولكنه أيضاً شعب بين الشعوب ولذا فلتاريخه صفة مضاعفة
إذ هو تاريخ فريد ولكنه مكتوب أيضاً في صميم واقع الشعوب.

 

ب-
الله قدوس ويعين الحد الذي لا يستطيع شعبه أن يتخطاه دون أن تحرقه تلك القداسة
(خر7: 19- 25 و24). وبيت العهد احتفالياً مع جميع الشعب، ويعلن الله للشعب شريعته،
ويوقع العهد برش الدم (3: 24- 8).

 

ج-
إن موسى، رسول الله لدى الشعب وشفيع الشعب لدى الله ومعلن العهد (خر3 و4 و4: 17 و8:
17- 16 و19 و24 و33 و34)، يقبله الله القدير في حضرته بإنعام وحيد (2: 24، 15- 18
و11: 33 و34- 35). هو يرمز في وظيفته هذه إلى الوسيط الوحيد العتيد أن يأتي أعني
يسوع المسيح (أنظر عب 1: 3- 6 و11: 9- 24) وينبئ به، ولكن بعض الأحيان فقط إذ يبقى
إنساناً وإنساناً خاطئاً (خر20: 33 و34: 40- 35، 2كو 13: 3، عد12: 20، تث 23: 3-
28، مز6: 99- 9).

 

4-
دور الشريعة في صد الله الخلاصي (خر20 وما يليه، تث 5- 10 و28- 30)

آ-
الشريعة هي الدستور الذي يمنحه الله لشعبه بعد إنقاذه من الموت. (إنها حارسة
للحرية التي نلناها وحد لكياننا كأبناء لله) (ر. دي بوري). فهي تكشف لنا إرادة
الله نحو هذا العالم، تلك الإرادة التي يترتب على عصيانها الهلاك والموت (تث 1: 8
و12: 10- 20 و9: 30 و11- 20).

 

ب-
أعطيت لنا الشريعة في الوصايا العشر (خر2: 20- 17، تث 1: 5- 21) وهي تلخص في وصيتي
محبة الله والقريب (تث 5: 6، لا18: 19) اللتين قال عنهما يسوع: (اعمل ذلك فتحيا)
(لو25: 10- 28).

 

ج-
الوصايا العشر تضع أساس نظام الله، والشرائع المدنية والطقسية التي تليها ليس سوى
تطبيق عملي لها وفق الظروف الزمنية. إنها تبين شمول إرادة الله لسائر العلاقات
البشرية وللحياة الاجتماعية بكاملها، فليس هناك، في عرف التوراة، (مجال دنيوي) يخرج
عن نطاق مراقبة الله.

 

د-
الشريعة المعطاة لنا كنعمة تمسي دينونة لنا إن خالفناها (تث15: 28 و15: 30 ورو 19:
3- 24 و7). والعهد الجديد يرى فيها (المؤدب) الذي يكتشف لنا حالتنا الحقيقية
ويقودنا إلى يسوع المسيح الذي به وحده ترفع دينونة الشريعة (غلا 21: 3- 29 ورو 6: 5-
21 و7: 7- 25).

 

ه-
لا يبطل الإنجيل الوصية إنما يجعل فينا طاعة الإيمان، وهي جوابنا الفرح للنعمة
التي نلناها في المسيح، بقوة الروح القدس (رو 1: 8- 17 و12، غلا 13: 5- 33، مت 5).

 

لقد
أُبطلت فرائض الذبائح وحدها لأنها كانت (ظل الخيرات العتيدة)، فكملت نهائياً بيسوع
المسيح (عب 8- 10).

 

1-
إله الآباء يتراءى لموسى (خر1- 4).

آ-
إن الذي (ألف سنة في عينيه كيوم واحد) لا يفهم الزمن كما نفهمه نحن البشر. فبعد أن
كلم الله ابراهيم واسحق ويعقوب ويوسف صمت أربع مئة سنة (تك13: 15 وأع 6: 7). فهل
هذا يعني أنه نسي عهده ووعده؟ الواقع أن ما حدث يحمل إلى مثل هذا الظن.

 

لقد
استقرت ذرية يعقوب في مصر (تك22: 50- 26 وخر 1: 1- 7) ولكن أسرة جديدة احتلت عرش
الفراعنة فعرف إسرائيل الاضطهاد بواسطتها لأول مرة في تاريخه. بل يأتي وقت يتمنى
فيه فرعون التخلص من هذا الشعب المزعج ويستخدم لهذه الغاية كل الوسائل (خر8: 1-
16). إن احتقار الحياة البشرية من خصال الطغيان الوثني وهنا يكمن وجه الشر فيه
لأنه يخرق القانون الأساسي للخلق (تك 5: 9- 7). وإلى جانب ذلك فسياسة فرعون ملآى
بالمتناقضات إذ كان يحتقر الإسرائيليين من ناحية لكنه كان يحتاج إليهم كفعلة من ناحية
أخرى: (هؤلاء بنَوا لفرعون مدناً للتموين). فصار فرعون يعمل لإبادتهم وفي الوقت
ذاته يمنعهم من مغادرة البلاد.

 

حينئذ
تدخل الله: بالصمت بادئ ذي بدء ثم بالوضوح والعلانية: (وتنهد بنو إسرائيل من
خدمتهم وصرخوا وصعد صراخهم إلى الله، فسمع الله أنينهم وذكر عهده مع ابراهيم واسحق
ويعقوب ونظر الله إلى بني إسرائيل وعرف شدائدهم) (خر 23: 2، 24).

 

صار
الله أولاً يتسلى بمشروعات فرعون ويسخر منها، ومن أعماله الإلهية الأولى أنه بارك
الامرأتين القابلتين اللتين تمردتا على الطاغية مخافة لله. ثم خلّص من مياه النيل
طفلاً سيكون في المستقبل مخلّص إسرائيل، وربّاه في كنف الفرعون ذاته (خر إصحاح2)،
وهذا منتهى السخرية. (هذا ما يسمى بإمساك الفرعون بمنخريه فها إن ابنة الملك
العظيم مرغمة على أن تخدم الرب) (لوثر).

 

إن
الله يختار الأمور الضعيفة ليخزي القوية وفي الواقع إن موسى في سَفَطه ويسوع في
مغارته ونجاتهما الأول من يد فرعون والثاني من يد هيرودوس علامتان تدلان على كلية
قدرة الله التي تتفجر في الضعف البشري. ومن ناحية ثانية يجسّد الفرعون وهيرودوس كل
قوى الشر والعالم التي تتضافر لتطفئ مقصد الله في خلاص البشر وتقتله في مهده.

 

إن
السفط المطلي بالحمر والزفت، كما كان فلك نوح (خر 3: 2 وتك 14: 6)، يحمل في طياته
مستقبل شعب الله بكامله. وعلى حد قول كلوين: (لا شك أن الله قد أنقذ موسى من القبر
وهو الذي كان مزمعاً أن يصبح مخلص شعبه لكي يبين أن بدء خلاص الكنيسة هو بمثابة
خلق جديد من العدم).

 

ب-
لما كبر موسى غادر قصر فرعون وراح يتضامن مع شعبه المستعبد. كذلك يسوع المسيح وهو
ابن ملك الملوك سوف يترك منزل أبيه لكي يصبح إنساناً بين البشر. وتقول لنا الرسالة
إلى العبرانيين أنه (بالإيمان لما كبر موسى أبى أن يدعى ابناً لابنة فرعون واختار
المشقة مع شعب الله على التمتع الوقتي بالخطيئة واعتبر عار المسيح غنى أعظم من
كنوز مصر لأنه كان ينظر إلى الثواب) (عبر24: 11- 25). إن عملية الترك والمغادرة
تعود إلى الظهور هنا في قصة موسى كما ظهرت قبلاً في قصة ابراهيم.

 

ولكن
موسى لم يعرف أن ينتظر ساعة الرب بل قبض بنفسه على زمام قضية شعبه ففشل واضطر إلى
الهرب إلى البرية (خر 11: 2- 22). وهناك علّمه الله ودرّبه طيلة أربعين سنة (أع 29:
7، 30) (9) قبل أن يعلن له ذاته ومن هو ويجعله أداة له.

 

ج-
إن الله يعلن ذاته لموسى في العليقة الملتهبة دون احتراق فيعيّن بذلك الأبعاد
القائمة بينه وبين خليقته، لأن الدالة التي عاشتها الخليقة في الفردوس أُلغيت إلى
الأبد. (لا تدنُ مني) (خر5: 3).

 

ويرمز
اللهيب عادة إلى القداسة الإلهية (تك17: 15 وخر18: 19 وتثنية 12: 4 و36 و5 و2 صم9:
22). والعليقة لا تحترق لأن الله يبقى هو هو ناراً آكلة لا تُفني ذاتها. لكنّ الله
من وسط اللهيب يتكلم. يكلم موسى كما كلم آباءه من قبله ويظهر من جديد ظهور الإله
الوافي بوعده. لذلك يقول الكتاب (تذكّرَ) عهده مع ابراهيم واسحق ويعقوب. وبذلك
يكون قد أكد من جديد وبصورة رسمية استمرار قصده في خلاص الجميع.

 

ويسأل
موسى الله عن اسمه، ولا عجب في ذلك لأننا رأينا أهمية الاسم كما رأينا أن معرفة
اسم الله في نظر ذلك العصر كانت تعني أخذ قوة سحرية من الله وامتلاكه إلى حد، لكن
يستحيل امتلاك الله.

 

لذلك
كان جواب الله لموسى من نوع اللغز. لقد جرت محاولات متعددة لتفسير هذا الجواب بطرق
مختلفة. فقد قيل أن اللفظ العبري ذا الأحرف الأربعة الساكنة (يهوه) يعني (أنا
الكائن) أو (أنا الكائن الذي يكون) (10). وكلمة (الأزلي) التي تستعمل في بعض نصوص
الكتاب المقدس تفسيراً لكلمة يهوه موضوع جدلٍ قوي. إنها تعبر عن جوهر إعلان الله
عن ذاته لموسى في الإصحاح الثالث من الخروج، هذا مما لاشك فيه، ولكن يجب أخذ معنى
اللفظ بطريقة متحركة لا بطريق جامدة لأن الله هو الحي أزلياً والفاعل أزلياً وهو
الذي يعمل لخلاص البشر منذ البدء لأنه أمين لنفسه وصادق على الدوام.

 

نعم
إن الله يشدد على أنه (الكائن) لكنه يبقى الإله المحتجب الذي لا يعرفه الإنسان إلا
بمقدار ما هو تعالى يشاء أن يعتلن. ولن يرفع الحجاب عن سر اسم الله إلا بيسوع
المسيح الكلمة الصائر جسداً: (الله لم يره أحد قط. الابن الوحيد الذي في حضن الآب
هو الذي أخبر) (يو 18: 1 و8: 14- 9 ورو 15: 8).

 

وكل
ما كان موسى يحتاج إلى معرفته هو أن الله سيكون معه تماماً كما كان مع آبائه،
فالله كان خلال كل العصور ولا يزال إله ابراهيم واسحق ويعقوب (خر 13: 3- 15) ذاك
الذي يقود خاصته ويحميها من كل عواصف التاريخ.

 

2-
الله ينقذ شعبه بيد قوية وساعد رفيع (خروج 5 إلى 18).

آ-
إن الله يعلن أنه الإله الحي لإسرائيل من خلال عملية إنقاذ. إذ يجب فهم الصراع
الذي يقوم بين موسى وفرعون فهماً عميقاً يتبارز فيه إله إسرائيل من جهة وآلهة
المصريين يمثلهم السحرة من جهة أخرى (خر 22: 7 و7: 8 و18: 8- 19).

 

على
الجميع أن يروا في ضربات مصر إصبع الله وقد اعترف السحرة بذلك أمام فرعون (خر 19: 8)
لأن قوى الشر يمكن أن تقلّد أعمال الله ولكن إلى حد، وهي إنما تُخذل عند وصولها
إلى هذا الحد وتجاوزها له.

 

إن
كل تدخل إلهي في التاريخ يثير تحالفاً بين القوى المعادية لله، فيتحفز العالم
لمحاربته. أما هنا فيصبح فرعون تجسيداً لهذه القوى الشريرة المقاومة، ولا بدّ من
أن يستخدم الشر كل قوته لكي تصل الضربة إلى عميق معناها ولكي يتفجر مجد الله في
النهاية. ولذا يعتبر الكتاب المقدس قضاء الله على مصر ليس فقط حدثاً تاريخياً بل
طريقة نرى بها مسبقاً يوم الدينونة الأخير، كما أن نجاة إسرائيل تصبح إشارة
للقيامة النهائية. ولا شيء ينجي إسرائيل من القضاء إلا التدخل الخاص من الله، أعني
دمَ الحمل الفصحي الذي كان إذا دهنت به أعتاب الأبواب يوقِفُ يد ملاك الموت. وهذا
هو المعنى لليوم العظيم يوم الفصح (وهو يعني (العبور) أي عبور الله في ليلة
القضاء) فأصبح تخليداً لخروج الإسرائيليين من مصر (خر1: 12- 28 و1: 13- 16): (وتخبر
ابنك في ذلك اليوم قائلاً هذا لسبب ما صنع الرب لي حين أخرجني من مصر ويكون علامة
لك على يدك وذكراً بين عينيك..) (خر13، 9). وإذا كان الفصح يؤكل والناس وقوف فلأن
إسرائيل منذ الآن فصاعداً سيكون جوّالة أبدياً في الطريق إلى أرض الميعاد.
وسيذكّره الفصح بأنه إلى الأبد غريب عن الأرض ونزيل فيها (أبط 11: 2).

 

إن
شرذمة من الإسرائيليين غادرت أرض مصر واجتازت البحر الأحمر ولكنّ الكتاب المقدس
يتكلم عن الجزء ليقصد به الكل، لأن في وحدة الإيمان كل الجماعة تنعم بما يُنزل
الله من مواهب على البعض. وانطلاقاً من هذا المبدأ يعيّد الإسرائيليون الفصح
(تذكاراً لما صنعه الرب لي أنا). وعندما يتكلم التلمود البابلي عن نجاة إسرائيل
يقول: (لهذا فُرض علينا أن نشكر ونعلن ونسبح ونمجد ونرفع ونكرم ونعظم الرب الذي
اجترح هذه العجيبة من أجل آبائنا ومن أجلنا نحن جميعاً والذي قادنا من العبودية
إلى الحرية ومن الألم إلى الفرح ومن الحزن إلى التعييد ومن الظلمة إلى النور ومن
الاستعباد إلى الخلاص.. هليلويا!). كذلك يقول بولس الرسول (إن آباءنا كلهم كانوا
تحت الغمام وكلهم جازوا في البحر وكلهم اصطبغوا على يد موسى في الغمام وفي البحر
وكلهم أكلوا طعاماً روحياً واحداً وكلهم شربوا شراباً روحياً واحداً) (1كو 3: 10)
(11).

 

ويؤدي
التضامن في الإيمان إلى أن يعيّد كل إسرائيلي عبر العصور للإنقاذ الذي خصّ الله
آباءه به كعيد لإنقاذ شخصي، كما يرى فيه الضمانة على عبوره هو شخصياً من العبودية
إلى الحرية ومن الموت إلى الحياة.

 

ب-
هذا الحدث بالنسبة إلينا نحن المسيحيين إشارة لخلاص أسمى، فإن الفعل الحسي الذي
سجله الله في التاريخ هو بالنسبة إلينا علامة تدل على أمانته الأبدية وغلبته
الأخيرة على كل قوى الشر والموت.

 

هكذا
وعلى ضوء ما سبق يجب فهم صيحة التسبيح والظفر التي أطلقتها النبية مريم بشيء من
البربرية قائلة: (سبّحوا الرب لأنه بالمجد قد تمجّد، الخيل والركاب طرح في البحر)
(خر21: 15). كما يجب في الضوء ذاته فهم تسبحة موسى الرائعة (خر15) تلك التي تطن
أيضاً في اليوم الأخير (رؤ3: 15).

 

وضمن
الاعتبارات ذاتها يجب أن نفهم اللازمة التي تتردد في المزمور136:

(احمدوا
الرب لأنه صالح ولأن إلى الأبد رحمته

(الذي
ضرب مصر مع أبكارها لأن إلى الأبد رحمته

(وأخرج
إسرائيل من وسطها لأن إلى الأبد رحمته

(بيد
مقتدرة وساعد رفيع لأن إلى الأبد رحمته).

 

هذا
الحادث التاريخي يصبح هنا إشارة وتسبيقاً لغلبة الله الأخيرة بعد أن يضع كل أعدائه
موطئاً لقدميه.

 

وقد
يتساءل بعض الناس: وماذا يصير بالهالكين؟ وماذا يصير أيضاً بشأن فرعون الذي (قسّى
الله قلبه)؟ وأخيراً ماذا يحل بتلك الشعوب الوثنية التي أبادها الله بدون رحمة؟

 

في
الحقيقة يبقى ذلك سراً من أسرار الله. ولكن يُسمح لنا أن نتذكر وعد الخلاص الذي
أعطاه الكتاب المقدس لمصر ذاتها (اش23: 19- 25). وما يذكرنا به الكتاب نفسه بإلحاح
وفي كل صفحة من صفحاته تقريباً أن الله لا يُهزأ به وأن ثمرة التمرد عليه هو الموت.
لذلك فإن البشرية من ناحية الطبيعة مقضي عليها. أما المختارون فيُنتزعون من مخالب
الموت بمعجزة النعمة فقط. وإذا كان الكتاب يضع إلى جانب هابيل أخاه قايين وإلى
جانب اسحق أخاه اسماعيل وإلى جانب يعقوب أخاه عيسو ومقابل شخص موسى شخص فرعون فذلك
لكي يذكرنا بوضعنا البائس من ناحية ومن ناحية أخرى بأن النعمة تأتي مجاناً. ولا
شيء لدينا يجيز التصريح بأن رذل قايين واسماعيل والفرعون هو رذل نهائي. والواقع
كما رأينا أن بعض الوعود أعطيت لهم بتكرار. وإذا كان العهد القديم. يضع ذرية
المختارين وينصب أمامها ذرية المطروحين خارجاً فإن في المسيح يسوع تلتقي الذريتان
لأن يسوع يحمل لعنة المرذولين في التاريخ وبفعلته هذه يفتح لهم باب الخلاص. في
يسوع كلنا مقضي علينا ومخلصون في الوقت ذاته. والمختارون في العهد القديم يدخلون
في مداره الضوئي كعلامات حسية للخلاص الآتي. أما الآخرون فلا يزالون في الظلام.
والسؤال الآن ماذا يحدث لدى قدوم النور العظيم النهائي؟ الجواب الله وحده يعرف.
وإن اختيار إسرائيل كأداة للخلاص لا يمكن أن يعني رفض الوثنيين النهائي كما أن
اختيار الوثنيين في العهد الجديد لا يعني الرفض النهائي لإسرائيل (رو25: 11- 36).
ولكي نفهم قضاء الله في العهد القديم ومعنى فرز إسرائيل واختياره يجب أن لا يغيب
عن ذهننا لحظةً الطابع الانتفاعي لهذا الاختيار. ويجب ألا ننسى أن في داخل
الاختيار وصميمه تبقى حرية قبول نعمة الله أو رفضها كاملة. ولنأتِ إلى زمن
الامتحان في الصحراء، ذلك الزمن الذي فيه يتفجر صبر الله وأناته ويعلّم الله شعبه
الحياة اعتماداً على النعمة وحدها، فإنه برهان على أن كثيرين من الإسرائيليين حسب
اللحم يدوسون بالأقدام الرحمة الإلهية التي صنعها الله لهم. وهذا ما يتضح في قصة
عجل الذهب وفي استقبال وفد المرسلين إلى كنعان لدى عودتهم من كنعان. وفي النهاية
لن يدخل أرض الميعاد إلا الذين صدّقوا وعود الله وآمنوا بها (عدد20: 14- 38).

 

ج-
يأخذ الخروج في تاريخ إسرائيل مكان الحدث المهم جداً الذي لا يُفهم تاريخ إسرائيل
بدونه، لأنه سيكون المرجع بعد الآن لكل المدعوين إلى قيادة الشعب نحو مصيره. ففي
هذا الحدث تكشَّف الله لإسرائيل عن أنه إله النجاة، ومنذ ذلك الحدث بدأ تاريخ
إسرائيل كأمّة (وكشعب الله).

 

غير
أن لهذا الحدث معنى خاصاً أعمق بكثير من معناه الظاهر. إنه في منظار خلاص الله
(علامة) للخلاص الآتي. ونقصد بكلمة علامة حدثاً يحوي مسبقاً في ذاته شيئاً من
الحقيقة المتوقعة. وإذا كان لدم الحمل، الذي دهن به الإسرائيليون أعتاب أبوابهم،
القدرة على حمايتهم من قضاء ملاك الهلاك فذلك لأن يسوع المسيح مزمع أن يقدّم حياته
لخلاص العالم ولأنه سيكون الحمل الفصحي الحقيقي (يو 29: 1 و1كو 7: 5 و1بط 17: 1-
21). لقد كان إسرائيل يعيش مسبّقاً تحت علامة النعمة الموعود بها ولكنه لم يكن يدرك
ذلك. وقد شقّ موسى للشعب طريقاً في البحر الأحمر (كما لو كان يرى ذلك الذي لا
يُرى)، وبإيمانه وطاعته فتح لإسرائيل الطريق المادية المؤدية إلى الأرض الموعود
بها كما أن إيمان يسوع المسيح وطاعته تفتح للمسيحيين الطريق إلى الملكوت. إن
إسرائيل يجوز في نوع من الموت والقيامة. ولذلك يرى بولس الرسول أن اجتياز البحر
الأحمر معمودية حقيقية (1كو2: 10 ورو 2: 6- 4). وبما أن التاريخ لم يعرف سوى خبز
واحد نازل من السماء (يو6)، وينبوع واحد للحياة، لذلك فإن الإسرائيليين كانوا
يعيشون في الصحراء بنعمة المسيح ولكن دون أن يعرفوا أنه هو الذي كان يسقيهم
ويطعمهم (1كو3: 10- 4 وخر16 و1: 17- 7) وأنه هو الذي انتشلهم من مخالب الموت.

 

ولذلك
فإن المختارين يرنمون في آخر الأزمان بصوت واحد ترنيمة موسى وترنيمة الحمل (رؤ2: 15-
4).

 

3-
عهد سيناء (خر19 و24 و32- 34)

آ-
في سيناء جدّد الرب مع شعبه العهد الذي عقده مع ابراهيم وجعل من إسرائيل شعباً له:
(قد رأيتم ما صنعتُ بالمصريين وكيف حملتكم على أجنحة النسور وأتيت بكم إليّ والآن
إن امتثلتم أمري وحفظتم عهدي فإنكم تكونون لي أثمن جوهرة من بين جميع الشعوب لأن
جميع الأرض لي وأنتم تكونون لي مملكة كهنة وأمة مقدسة) (خر4: 19- 6).

 

يقول
الله (إن جميع الأرض لي) فهو إذاً سلطان جميع شعوب الأرض، لكنه اختار من بين
الشعوب أوضعها وأضعفها وقرر أن يعمل من قطيع العبيد هؤلاء (أثمن جوهرة). القديس هو
ذاك المكرّس أو المفروز لله، وإسرائيل منذ الآن فصاعداً يُفرز من أجل خدمة الله
وحدها. وكما أن الكاهن يقف أمام مذبح الرب من أجل جميع الشعوب كذلك هذا (الشعب
الكهنوتي)، والكهنوت الملوكي، سيقف أمام الله من أجل كل شعوب الأرض.

 

ومنذ
ذلك الوقت صار إسرائيل كنيسة العهد القديم، وستكتفي رسالة بطرس باستعادة التعابير
السابقة نفسها لتحدد الكنيسة في العهد الجديد (1بط 9: 2).

 

غير
أن الميزة الفريدة التي يمتاز بها إسرائيل هي أنه الشعب الكنيسة الذي سُجّل في
التاريخ في كل الواقع الجسدي للأمم وبكلام آخر إنه كان جماعة دينية وسياسية معاً: ولاية
إلهية.

 

ب-
ويتخذ الله خطوة أولى بتحديده المدى بينه وبين شعبه فلن يجسر أحد على الاقتراب من
الجبل المقدس تحت طائلة الموت إلا إذا كان مدعوّاً (خر12: 19- 13 وخر24). ويظهر
الله في وسط اللهيب فيتولى إسرائيل الرُّعبُ والهلعُ (خر16: 19- 18 و17: 24) لأن
الإنسان لا يستطيع أن يرى وجه القدوس ويحيا. ولا يبقى سوى موسى هذا الذي يمثل
الوسيط الآتي، فهو يقدر أن يبقى على جبل الله لكي يستلم الوصايا (خر20: 19 و1: 24-
2 و12: 24- 18).

 

ويعقد
الله مع شعبه ميثاقاً رسمياً. وما يسمى (بكتاب العهد) يُتلى على مسامع الجميع كما
يرشّهم موسى بما يسمى (دم العهد) (خر8: 24). ومن المرجح هنا أن الشيوخ السبعين
(خر9: 24) يمثلون مجموعة الشعوب (12) وهكذا يقف الشعب الكاهن أمام الله من أجل كل
الأرض وفي ميثاقه المعقود وعدٌ بخلاص جميع الأمم.

 

ولم
يعقد هذا الميثاق مع جيل واحد فقط ولكن على جبل حوريب قد تقيّد كل إسرائيلي إلى
الأبد: (لا مع آبائنا قطع الرب ذلك العهد بل معنا نحن الذين ها هنا اليوم وكلنا
أحياء) (تثنية 3: 5).

 

ويبدو
الله الإله الوحيد الذي يحب شعبه حباً ممزوجاً بالغيرة ولا يقبل أيّ مشاركة. وهذا
ما يبرز أن عبادة الأوثان مهما كان الشكل الذي ترتديه تبقى عبر العصور الخطيئة
الجوهرية التي يرتكبها شعب الله، لأنها خيانة للحب الإلهي، والكتاب المقدس يسميها،
دون تحفظ، (بالزنى).

 

ومن
أعظم المآسي التي وردت في الكتاب تلك التي تصف لنا أول نقض للميثاق بواسطة العجل
الذهبي. (فاجتمع الشعب على هارون وقالوا له قم فاصنع لنا آلهة تسير أمامنا، فإن
ذلك الرجل موسى الذي أخرجنا من أرض مصر لا نعلم ماذا أصابه) (خر1: 32). وهنا يقف
موسى موقف الوسيط الحقيقي بين الله وشعبه فيقاصص الشعب ويوبخه من جهة ولكنه أمام
الله يأبى إلا أن يتضامن مع الشعب المذنب فيقول: (اغفر خطيئتهم يا رب وإلا فامنحني
من كتابك) (خر32: 32). فتسكّن شفاعته غضب الله ويرضى الله بأن يعود إلى قيادة شعبه
ولكنه يرفض أن يسكن بينهم بصورة دائمة (خر3: 33، 14، 15)، ويفعل الله ذلك للحفاظ
على مطلق حريته لأنه يستحيل امتلاكه. إنه الكلي الاقتدار الذي (يصفح عمن يصفح
ويرحم من يرحم) (خر19: 33).

 

ج-
ولكن لماذا يقول الكتاب إن الرب كلّم موسى وجهاً لوجه كما يكلم إنسان صديقه (خر11:
33) ثم بعد آيات معدودات يقول لا أحد يستطيع أن يرى وجه الله ويحيا حتى ولا موسى؟
(خر20: 33). ذلك لأن الإنسان الطبيعي الخاطئ لا يقدر أن يتحمل لمعان المجد الإلهي،
وموسى كغيره من الناس في هذا الموضوع، لأن قداسة الله نار آكلة. ولكن الله بعطف
خاص على موسى كان في بعض الأحيان يقبله في حضرته العليّة لا بل يدخله في صداقته
ويجعل منه لسان حاله ونجيّه، أفلا يكون هنا موسى إذاً الوجه المخبّر عمن هو أعظم
منه أعني به الوسيط الوحيد بين الله والبشر، الذي وساطة موسى ليست بالنسبة إلى وساطته
سوى رهن وانعكاس؟ (خر7: 33- 11، قارن مع خر29: 34- 35 ومع خر8: 17- 13، ومن جهة
أخرى خر17: 33- 23 تقارن مع خر35: 40 وعبر1: 3-6 و2كور 12: 3- 18).

 

 

4-
دور الشريعة في مقصد الله الخلاصي (خر20- 23 و34- 40 تثنية 5-10 و28- 30)

آ-
كان أول إنعام خصّ به الله شعبه الذي ارتبط معه بميثاق رسمي أنه أعلن له شريعته أي
إرادته الإلهية لكي يحيا. فالإنسانية المنفصلة عن الله فقدت الحس والمعرفة بإرادته
تعالى، لكنّ الله سيعلن عنها بكلمته، ويصبح إسرائيل منذئذ حاملَ وصايا الله
والشاهد لها. إن الشريعة على حد قول بوري (حامية الحرية المقتبَلة) لأنها ترسم خط
الحدود أمام شعب الله لكي لا يتجاوزه حتى لا ينقض الميثاق ويهبط ثانية في ظلمة
عالم بدون الله. وهي توضح بشدة أن الحياة كلها يجب أن تخضع لأمر الله. فالشريعة لا
تنظّم فقط علاقات الإنسان بإلهه وعلاقاته بقريبه ولكنها تنظم أيضاً كل أوجه الحياة
الدينية والمدنية. وتتردد عبارة (أنا هو الرب) (لاويين 19) كما لو كانت توقيعاً
يثبت أصالة المرسوم أو إمضاءً يثبّت الكلام.

 

ب-
وتُستهل الوصايا العشر بهذه الكلمات البليغة: (أنا الرب إلهك الذي أخرجك من مصر من
بيت العبودية) (خر2: 20 وتثنية 6: 5 وعدد41: 15). هذا كلام الإله المخلص الذي جذب
إسرائيل من العبودية والموت وهو القدوس والكلي الاقتدار. وقيمة الشريعة مستمدة
بكليتها من سلطة المشرِّع.

 

الوصايا
الثلاث الأولى تتحدث عن علاقة الإنسان بالله أما بقية الوصايا فموضوعها علاقة
الإنسان بالقريب (13).

 

إن
رب إسرائيل ومخلصه لا يرضى بشريك له لذلك فهو يعتبر كل لجوء إلى آلهة أو قوى أخرى
مسّاً لكرامته أو كما سماه إيليا النبي (عَرَجاً بين الجانبين) (أملو21: 18).
سيكون هذا العرج في الواقع تجربة إسرائيل في كل الأوقات، فإن هذا الشعب سيتخذ يهوه
ربّاً في الأيام العصيبة ويلتفت إليه أيام المحن ولكنه يتجه إلى آلهة أخرى فيما
بقي من حياته أعني بذلك البعول الكنعانية. في الوصيتين الأوليين حكمٌ على كل وثنية،
وقد كانت هذه الوثنية شائعة في تلك الأيام في تماثيل مادية للآلهة وكان الشعب
يساوي بين هذه التماثيل والآلهة ذاتها كما حدث في قصة العجل الذهبي. ولذلك لم يكن
من العبث أن يُترك العرش القائم في وسط خيمة الاجتماع فارغاً لأن إله إسرائيل هو
روح وحق ولا يقطن في منازل مصنوعة بالأيدي. هذا الأمر الجوهري يميّز فوراً عبادة
إسرائيل عن سائر الديانات الوثنية المجاورة. غير أنه يحسن التذكر بأن هنالك أصناماً
غير الأصنام الغليظة المصنوعة من الخشب أو المعدن والتي يقصدها النص الذي نحن
بصدده. وهذه الأصنام ترمز إلى حقائق أعمق لأن كل ما يحتل في قلب الإنسان المرتبة
الأولى التي تعود لله وحده يصبح صنماً. (لا تقدرون أن تخدموا الله والمال) على حد
قول يسوع. إن كل سلطة تسيطر على الإنسان سيطرة مطلقة تحل محل سلطة الله الشرعية
ولا فرق إذا كانت سلطة إنسان أم جماعة أم نظام. وهنالك وثنية من أشد الوثنيات
هولاً يفضحها الكتاب المقدس ألا وهي وثنية الدولة التي تتأله، أعني التي تعتبر
ذاتها غاية كما حصل لبابل في سفر الرؤيا.

 

ثم
قدوس هو اسم الله، وليس فقط التلفظ باسمه باطلاً يكون تجديفاً بل كل مساس بالكرامة
الإلهية يكون كذلك، وشعب الله مدعو إلى القداسة بما أن الله قدوس (لاويين2: 19).
كذلك كل مسيحي يحمل اسم المسيح وعليه أن يعزز هذا الاسم بطاعته وسلوكه.

 

ثم
تأتي الوصية التي تخص يوم السبت فتكوِّن انتقالاً من الوصايا الأولى إلى الوصايا
الأخيرة. إنها تعتمد على استراحة الله في اليوم السابع (تك، 2: 2- 3) فيتخذ السبت
طابع التذكير والإشارة إلى يوم راحة الرب العظيم الذي سيدخله المختارون في اليوم
الأخير. إن الرب ينتزعهم من حمّى الأرض لكي يثبّت أنظارهم على ما هو ثابت وأزلي.
لكن في هذه الوصية غاية بشرية واجتماعية أيضاً: (تسبت لكي يسبت ثورك وحمارك ويتنفس
ابن أمتك والغريب) (خر12: 23) – نلاحظ أن الخالق يسهر حتى على مخلوقاته الصامتة.

 

وتأتي
بعدئذ الوصايا الست الأخيرة وهي تتعلق بالقريب. ونجد التشديد على سلطان الأب والأم
بكل إلحاح ليس في هذا المكان فقط ولكن في مقاطع أخرى (خر12: 20 وتثنية18: 21- 21
وام 8: 1 و22: 23 الخ). وهنا يجب أن نرى أكثر من توصية بسيطة بالاحترام البشري.
لأن العائلة تقوم على أساس إلهي (تك 27: 1- 28 و24: 2) والأبوة والأمومة فيهما
انعكاس لأبوة الله على الأرض. وهذا سيقول فيه بولس الرسول: (إني أحني ركبتيّ أمام
أبي ربنا يسوع المسيح الذي منه تسمّى كل عائلة في السماوات وعلى الأرض) (أفسس 14: 3).

 

أما
تحريم القتل فيذكرنا بالوصية التي أعطيت لنوح والتنبيه الذي رافقها (تك 5: 9، 6): فمن
يقتل عليه أن يؤدي حساباً عن جريمته إلى الله ذاته لأن الله خلق الإنسان على صورته
وسيحاسب كل من يقتله. هذا الكلام خطر لأن هنالك أشكالاً مختلفة للقتل كما أن القتل
ليس للجسد فقط ولكن للنفس أيضاً.

 

أما
الوصية التي تحرّم الزنى فترتكز على نظام الخلق وهي تكرِّس عدم إمكانية فصم عرى
الزواج (تك 24: 2 ومر1: 10-11). وهنا أيضاً في الزواج نجد أن وحدة الزوجين
البشريين مدعوة لأن تعكس وحدة أسمى، ولن نفهم كل عمق الزواج إلا في المسيح (أفسس
25: 5).

 

أما
حق الملكية فنراه محدوداً في التوراة أكثر مما هو في الشرع الحديث، كما سنرى فيما
بعد، لأن الأرض لله بما فيها وليس الإنسان عليها إلا وكيلاً عن الله. ولهذا السبب
عينه لا تجوز سرقة الغير. وهنا أيضاً لنذكر أن طرق سرقة الغير متعددة (عاموس 6: 2-
8 و4: 8- 6).

 

أما
شهادة الزور فتقوِّض كل حق وكل عدل في العلاقات البشرية، وسيقول يسوع (ليكن كلامكم
نعم نعم، ولا لا، وما زاد على ذلك فو من الشرير) (متى37: 5). لأنه إن عمّت شهادة
الزور انعدم الحق وساد الشرير.

 

وأما
اشتهاء ما للغير فهو الجذر الخفي للقتل والسرقة والزنى سواءً في علاقات الأفراد أو
في علاقات الشعوب. وعن طريقها يتسلّل إبليس إلى القلوب ليتسلّط عليه، إذ يأبى
الاعتراف بالحدود المرسومة من الله ويحثّنا على تخطّيها بالفكر قبل أن نتخطاها
بالفعل (تك7: 4 ومت 28: 5- 30).

 

ج-
الوصايا العشر تضع أساس النظام الإلهي أما الفرائض التي تليها (خر21- 23) فهي
تطبيق عملي لها يتناسب مع ظروف الزمن، وهي تتطور معه كما تطورت النظرة إلى مسائل
الرّق وحق الملكية في كل من الخروج والتثنية واللاويين – والمعلوم أن هذه الأسفار
تصور ثلاث مراحل مختلفة من حياة إسرائيل – لذلك يصعب تطبيق مثل هذه الفرائض
بحرفيتها على أزمنتنا الحاضرة، لكن قيمتها تبقى تدل على شيء أو تشير إليه فتزوّدنا
بمقاييس لنقيس بها فرائضنا ومؤسساتنا الحالية. وما دمنا هنا فلنعد إلى قراءة
الفرائض المختصة بحماية الفقير والأرملة واليتيم وخصوصاً الغريب (خر21: 22- 24
وخر6: 23- 9 وتثنية17: 10- 19 ولاويين33: 19- 34) والمختصة أيضاً بالعمل والراحة
(خر 8: 20- 11 و12: 23) وتحديد حق الملكية (لاويين 23: 25- 28 و35- 38 و47- 55).

 

وإلى
جانب الفرائض المدنية نجد في سفر الخروج وفي سفر اللاويين فصولاً بكاملها مكرّسة
للفرائض الطقسية وتشييد خيمة الاجتماع وتنظيم الكهنوت. الواقع أن إسرائيل هو شعب
كهنة ومبرر وجوده أن يقدم لله العبادة المفروضة له ويمجّده. ولكي تُرضي العبادة
الله يجب أن تتفق ومشيئته لذلك لا يمكن لإسرائيل أن ينظم شيئاً من نفسه بل ينتظر
الإملاء من كلمة الله.

 

إن
المكان المقدس الذي يُعلن الله فيه نفسه لشعبه هو خيمة الاجتماع لكن الله لا يسكن
فيها باستمرار بل ينزل إليها فقط متشحاً ببهاء مجده الباهر (خر34: 40- 38).

 

وكان
لدى الوثنيين في هياكلهم تمثال للإله الذي يعبدون ولكن قدس الأقداس عند إسرائيل لم
يكن ليحوي سوى تابوت العهد وفيه لوحا الوصايا. وكان العرش الذي يعلوه فارغاً لأن
الله لا يعيش في هيكل مصنوع بيد الإنسان. وكان الكيروبان المنتصبان فوق العرش
يذكّران بعظمة الله. أما أفود رئيس الكهنة فكان يحمل أسماء أسبط إسرائيل الاثني
عشر، وكانت ملابسه فخمة موشاة بالذهب والحجارة الكريمة، وكل هذا كان ليدل على أبهة
وظيفة كاهن العهد الإلهي (14).

 

ويميل
عالمنا الحديث إلى فصل الأمور الدينية عن الأمور الدنيوية بينما الأمر لم يكن كذلك
في الكتاب المقدس. فالشرائع المدنية فيه تختلط بالشرائع الدينية وكلاهما ينبع من
نبع واحد هو مشيئة الله وله غاية واحدة هي مجده. وبما أن لله الأرض بكمالها فقد
كانت تقدم له بواكير المواسم والقطعان، وللسبب ذاته كان يجب الاعتناء بثور الجار وحماره
وإعطاء كل ذي حق حقه. وبما أن الله أعلن عن ذاته إلهاً منقذاً في ساعة حاسمة من
تاريخ إسرائيل نجد إسرائيل يعيّد إلى الأبد فصح الله العلي. ولما كان إسرائيل
شعباً خاطئاً فإنه يقدم ذبائح تكفير عن خطاياه. وهكذا نرى أن الشريعة تشمل في
واقعيتها كل حياة شعب الله. إنها ميثاقه، لا ميثاق حقوق الإنسان بل ميثاق حقوق
الله، لأن الله هو في النهاية الحارس الحقيقي لحقوق الإنسان وحرياته، والشريعة هي
النظام الذي إذا خرج عليه الناس والشعوب أسرعوا إلى حتفهم.

 

عندما
وكل الله إلى إسرائيل أمر المحافظة على شريعته خصّه بمرتبة فريدة بين الشعوب وقد
فهم إسرائيل ذلك وحفظ للشريعة حباً عنيفاً عبر العصور بالرغم من كل تلكؤ، معتبراً
إياها ختم الله على واقع الاختيار (مز119).

 

د-
صحيح أن هذه الشريعة أُعطيت في الأصل كنعمة لإسرائيل ولكنها بمجرد المخالفة تصبح
دنيوية. هذا ما يمكن أن نشتمّه منذ الآن من اللعنات المرتبطة بمخالفتها (تثنية15: 28-
68 و15: 30). وهذا أيضاً ما يعبّر عنه بولس الرسول بقوة هائلة في الإصحاح السابع
من الرسالة إلى أهل رومية: (فوُجدتْ الوصية التي للحياة أنها هي نفسها للموت.. إن
الناموس روحي وأما أنا فجسدي مبيع تحت الخطيئة لأني لست أعرف ما أنا أفعله بل ما
أكرهه من الشر فإياه أفعل.. فبحسب الإنسان الباطن أفرح بشريعة الله ولكني أرى في
أعضائي ناموساً آخر يحارب ناموس روحي ويأسرني تحت ناموس الخطيئة الساكن في أعضائي.
الويل لي أنا الشقي من ينقذني..) (رومية 10: 7 و14 و15 و22و23).

 

القضية
قضية أسر أشد هولاً بكثير من أسر مصر كما أنه أشمل وأعم، ولكن صراخ المسيحية هو
ذاك الذي تفوّه به بولس الرسول: (الشكر لله بيسوع المسيح ربنا) (رو25: 7).

 

ذلك
لأن المسيحي يعرف أن في المسيح يسوع تُرفع دينونة الناموس. وهذا الأمر الذي كان
يستحيل على أيّ كان قد أتمّه يسوع المسيح لأنه عاش عيشة خضوع كلي لوصايا الله
وعشية طاعة حتى الموت (عب 8: 5- 10)، بل قام بأعظم من هذا إذ أخذ على عاتقه
الدينونة التي استحقها الناس فأرضى بذلك متطلبات الشريعة التي تطلب موت الخاطئ،
لقد غلب بطاعته وتضحيته القوى التي كانت تقيدنا وفتح أمامنا أبواب حياة جديدة
نعيشها في الإيمان به. إنه حرّرنا إلى الأبد من التعصب اليهودي للشرع وأهّلنا بقوة
روحه القدوس للحرية المجيدة حرية أبناء الله. هذا هو موضوع رسائل بولس الرسول
الكبرى لأنه لم يوازن أحد بين ثقل الشريعة ومعجزة التحرير مثلما وازن ذلك الفرّيسي
السابق المدعو بولس – وهنا نستبق ما سنتوسع به في حينه عند شرحنا المعطيات
الجوهرية للعهد الجديد (غلا 15: 2 حتى 14: 3، ورو 21: 3 حتى 21: 5).

 

إذاً
ماذا كان دور الشريعة أو الناموس؟ كان في أن يفتح الله أعيننا على وضعنا الحقيقي،
وبهذا المعنى اعتبرها بولس الرسول وكأنها المؤدّب الذي يُعدّنا ويقودنا إلى المسيح
(غلا 21: 3 حتى 7: 4).

 

ه-
يبقى السؤال الآن عما إذا كانت الشريعة في مقصد الله الخلاصي ذات قيمة وقتية فقط؟
الجواب كلاّ:

 

1-
إنها باقية في داخل الإنجيل ولكنها تصبح ميثاق المخلصين مواطني الملكوت، والتذكير
الدائم بقيمة الحياة التي تُعاش تحت علامة انتصار المسيح وبقوة الروح القدس (مت 5
رو 1: 8- 17 و1: 12- 21 وغلا 1: 5 و12- 25 أنظر الفصل الثالث من القسم الثالث من
هذا الكتاب).

 

2-
وهنالك معنى آخر للنظام الإلهي الذي أُعلن عنه في التشريع الموسوي وهو أن هذا
النظام يوضح أن الإرادة الإلهية هي الأساس لكل حق، وأنه بتأثير النعمة الإلهية
المتواصل يستمر نظام بعض المجتمعات البشرية ولا يهبط إلى مستوى البلبلة الكلية.
ويحدث في الأوقات التي نسميها (طبيعية)، والتي فيها تسير الأمور بكل سهولة، أن
ننسى مصدر النظام، ولكن عندما تأتي ساعة المحنة نكتشف فجأة ضعف النواميس الأخلاقية
والشرائع الحقوقية المنقطعة عن إرادة الله، وكان الأحرى أن تعطيها هذه الإرادة
شرعيتها ومبناها. ونلاحظ أنه لم يعد هنالك قواعد عامة ولا مقاييس أكيدة يأخذ بها
الجميع بدون استثناء لأن كل شيء قد أصبح وليد الانتهازية السياسية والاجتماعية.
لكن أيّ مجتمع يخرق الوصايا العشر (من احترم الشخص البشري والعائلة إلى كرامة
العمل) ينتهي إلى الانهيار، ولا يمكن قيامه إلا بعودته إلى مصدر كل حق وكل حقيقة.
ومن مسؤوليات المسيحي التذكير المستمر بأن فوق كل تشريع بشري نسبي وزائل يوجد
عدالة إلهية لا تسخر منها المجتمعات ولا الأفراد دون عقاب.

 

3-
أما الفرائض الطقسية في العهد القديم فمن نوع آخر، إذ قد زالت لأنها لم تكن سوى: (ظل
الأمور الآتية)، ولأنها وَجدت في يسوع المسيح تمامها وكمالها: فعلى حد قول فيشر
كما أن أوراق العملة لا قيمة لها إلا بمقدار ما لها من تغطية من الذهب هكذا ذبائح
العهد القديم لا تتخذ معنى إلا من الذبيحة الوحيدة الأبدية ذبيحة يسوع المسيح. هذه
الذبائح كانت تشير إلى الخلاص الآتي فلم يبق لها مبرر بعد أن ظهر الخلاص (عبر8-
10).

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى