علم الكتاب المقدس

السبي



السبي

السبي

(عاموس،
هوشع، إشعياء، ميخا، إرميا، حزقيال، أنظر الملوك الثاني)

رسالة
الأنبياء – إعلان أحكام الله وأزمنة ماسيا

الموجز

تتصف
المدة الواقعة بين القرن الثامن والقرن السادس قبل الميلاد بظهور الأنبياء الكبار
الذين بلغت أقوالهم إلينا. وهؤلاء ينبئون جميعاً بقضاء وشيك الوقوع من لدن الله،
يتخذ شكل غزوات عدائية وينتهي إلى الجلاء والسبي. وهذا السبي الذي يقتلع نخبة
إسرائيل من أرضهم ومن مؤسساتهم العريقة في القدم سوف يمتحن أمانتهم ويضطرهم إلى
وضع إيمانهم ورجائهم في الله وحده. فتأديب السبي إذن هو بالنتيجة نداء يميز الإسرائيليين
بالاسم عن (البقية) الأمينة. السبي، وإن لم تطل مدته، مرحلة حاسمة في تاريخ الشعب
المختار.

 

ويرى
الأنبياء ما وراء المحنة فينبئون باستعادة عرش داود، ولكن رؤيتهم لهذه الاستعادة –
الموصوفة أحياناً بصورة جد مادية – تتجاوز إطار الحادث الأرضي: إنها تبشر رمزياً
بأزمنة ماسيا وبيوم الله العظيم الذي تتجلى فيه دينونته ويقوم ملكوته.

 

فنبوءات
الأنبياء تتناول أحداثاً تاريخية غير أن الغاية التي يسير نحوها التاريخ كله هي
مجيء ملكوت الله وظهور خلاصه. وليست تدخلات الله المباشرة في التاريخ، سواء بتأديب
أو بإنقاذ، سوى علامات تنبئ بهذا المجيء (19).

 

1-
رسالة النبي:

 

آ-
النبي (فم الله) (أر 9: 1 و16: 15 وحز 8: 2 إلى 3: 3) و(رسوله) (اش 8: 6). إنه
الحارس (حز33) الذي يسهر على إسرائيل وينتصب أمام الملوك والكهنة والشعب ليذكر
بحقوق الله ويعلن أحكامه:

(زأر
الأسد فمن لا يخاف

تكلم
الرب فمن لا يتنبأ؟) (عا 8: 3).

 

ب-
وإلى جانب النبي الحقيقي يقوم النبي الكذاب الذي تنطق شفتاه (بأحلام كاذبة) (أر 13:
6 و15: 23- 32 و28 ومي 5: 3- 8).

 

2-
أحكام الله. – الله سيد التاريخ

آ-
قضاء الله على إسرائيل: خطيئة إسرائيل الجوهرية نكرانه للجميل: لقد أحبه الله حباً
فريداً، أما إسرائيل فقد (زنى) بإتباعه آلهة غريبة (1ملو29: 16 إلى46: 18 وهو1- 3
وأر 2 و1: 3- 5 الخ..).

إنه
يدوس الحق والبر ويستسلم لحياة الترف (عا 6: 2- 8 و10: 5- 15 و1: 6- 7 و4: 8- 6
وأش 8: 5- 24 ومي 1: 2- 2 الخ..).

 

فعباداته
بالتالي تهين الله بدل أن تكرمه (عا 4: 5- 7 و21: 5- 27 ومي 6: 6- 8 وأش 10: 1- 15
و58 وأر7).

 

ولكي
يرجع إسرائيل إلى الله ينبغي أن تؤخذ منه كل ضماناته البشرية وذلك هو معنى السبي
(هو 13: 2- 25 وحز33: 20- 38).

 

ب-
قضاء الله على الأمم: للأمم الوثنية مكانها في قصد الله الخلاصي فهي تحت سلطانه
وخاضعة لحكمه (عا 1 و2 وأر15: 25- 31).

 

ويستخدمها
الله من أجل تأديب إسرائيل، وأيضاً من أجل خلاصه (اش 26: 5- 30 وأر8: 25- 9 واش1: 45-
6).

 

أما
خطيئتها الجوهرية فهي الكبرياء ولذلك ستباد بدورها (اش5: 10- 19 واش13 و14 وما
يليهما وأر25 و50 وما بعده وحز28 الخ..) ولكن هناك لها أيضاً خلاصاً ممكناً (اش18:
19- 25 و1: 60- 5).

 

3-
الأنبياء بأزمنة ماسيا

 

آ-
تبشر الأسفار النبوية بعودة إسرائيل إلى أرض الميعاد وبمجيء ملكوت الله، وكثيراً
ما يختلط الأمران (اش 1: 2- 4 و23: 8 إلى 6: 9 و1: 11- 10 وأر1: 31- 14 و23: 31-
34 و32 واش40).

 

ب-
ويرتبط خلاص إسرائيل ارتباطاً وثيقاً بمجيء ملك، هو مسيح الرب، ماسيا (اش 5: 9 و2:
11 ومي 3: 5 وأر5: 23- 6 وحز23: 34- 24)، وهذا العبد البار سيفتدي إسرائيل بآلامه
ويخلصه (اش1: 42- 9 و1: 49- 13 و50، 4- 10 و13: 52 إلى12: 53، أنظر مز22 و69). وسيفتتح
مجيئه عهداً جديداً من البر والسلام (اش55 و60- 61 و66).

 

مقدمة

إن
ظاهرة التنبؤ- كظاهرة الكهنوت والملكية – ليست بحد ذاتها ميزة خاصة بحياة إسرائيل.
ولكن الله يستخدم مؤسسات شعوب العصور القديمة ويعطيها معنى جديداً ويجعلها أداة
لإتمام مقاصده. فقد كان لكل الديانات القديمة عرّافون يقصدهم الناس لاستطلاعهم في
الأوقات العصيبة (1صم 9: 9). وعندما ذهب شاول إلى صموئيل للمرة الأولى ذهب ليجد
أتنه المفقودة، ولكنه بدل أن يجدَ عرّافاً شعر أنه أمام رجل الله الذي يكشف (ما في
قلبه) (1صم 19: 9). وفي الملوك الأول الإصحاح 18 يزاحم كهنة البعل كهنة الله العلي.
غير أن إيليا يختلف عن أولئك بأنه الوجدان الحي لإسرائيل وهو الذي يكلّم الملك
والشعب باسم الله.

 

إن
وجه إيليا يحتل مكاناً مرموقاً في التقليد الإسرائيلي، فهو خصم عنيد للوثنية كما
أنه يجسد الأمانة لإله آبائه. أمام إيليا الرهيب يرتجف الملك آخاب لأن كلمات النبي
كانت دائماً تفعل ولأنه كان في إمكانه إما جلب الجفاف والخراب على البلاد أو
الأمطار والبركات. ويشير انتصاره على كهنة البعل وإبادته إياهم إلى النصر الإلهي
الأخير على الأعداء (1ملو17- 21). وإيليا واحدٌ من اثنين في العهد القديم قيل
فيهما أنهما اختطفا إلى السماء دون أن يعرفا الموت (2ملو 1: 2- 12 وتك 24: 5).
وكان يُعتبرُ مُبشِّر التوبة الأول كما كان يُظن أن عودته إلى الأرض تسبق أزمنة
ماسيا وتبشّر بها (ملا 5: 4- 6). وفي العهد الجديد يُعتبر يوحنا المعمدان إيليا
بالذات المزمع أن يأتي (مر 11: 9- 13). وعلى جبل التجلي يتحدث يسوع مع (موسى
وإيليا) اللذين يجسدان كلاهما العهد القديم أعني الشريعة وروح النبوءة (مر 4: 9).

 

واعتباراً
من القرن الثامن من يلعب الأنبياء دوراً عظيماً في تاريخ إسرائيل على الصعيدين
الروحي والسياسي. فقد كان النبي يقف أمام الملك والكاهن وقفة الحارس على حقوق الله.
وكان في كل مناسبة يتوجه إلى القادة المسؤولين وفيهم الملك والقادة العسكريون
والقضاة والكهنة، فإذا لم يصغوا إليه لم يتردد أن يعرض قضاياه في الأماكن العامة
ويلجأ إلى الشعب. وكان الأنبياء عادة يرتبون أقوالهم ويصوغونها بشكل أشعار إما
للغناء أو للتلاوة. وكان تأثيرها عظيماً إلى حد أن المسؤولين كانوا يحاولون بكل
الوسائل إسكات (رجل الله). ولكنه بالضبط لأنه كان رجل الله كانوا يخافون من رفع
اليد عليه (عاموس10: 7- 17 وإرميا10: 26- 19). فكان هذا يُعطي النبي نوعاً من
الحصانة ولكنه لا يعني أن عدداً من الأنبياء لم يموتوا شهداء (إرميا20: 26- 24
ومت29: 23- 30، 37).

 

ولكي
نفهم الرسالة النبوية يجب أن نعرف الظرف التاريخي الذي كانت فيه رسالة النبي. لأن
هذه الرسالة ذات طابع واقعي بالدرجة الأولى، ولا يمكن أن نستخلص منها مداها الذي
يتجاوز التاريخ، أي المعنى المخفي والغاية القصوى للتاريخ من خلال الأحداث الزمنية،
إلا إذا كنّا ندرك التدخل الإلهي في كل واقعه التاريخي.

 

ولا
يمكننا أن نرسم الخطوط الكبرى لتاريخ إسرائيل في العهد النبوي العظيم من القرن
الثامن إلى السادس قبل المسيح إلا بكل إيجاز.

 

كانت
الحروب التي وقعت لمملكتي إسرائيل ويهوذا حتى منتصف القرن الثامن تواجههما
بالقبائل السامية الأخرى القاطنة في فلسطين. ولكن منذئذ حدث تبدل في المسرح
السياسي فأصبحت سوريا وفلسطين حقلي المعركة اللذين تتلاقى فيهما الدول العظمى التي
تتنازع السيطرة على الشرق. وفي القرن الثامن ذاته تبلغ دولة آشور أوج عظمتها.
وكانت دولة حربية من الدرجة الأولى. وقد ثبتت فتوحاتها في البلاد المغلوبة ينقل
سكان تلك البلاد فكانت أول من بدأ نظام الجلاء والسبي. وفي آخر القرن السابع غُلبت
آشور على أمرها وحلّت محلها بابل وهذه بدورها يحل محلها في القرن السادس الفرس
والماديون ومنذ ذلك الوقت تمر فلسطين من يدٍ إلى يد.

 

ولقد
رأى الأنبياء مسبقاً هبوب العاصفة وأعلنوا ذلك بدقة مدهشة. ولكنّ الفاتحين العظام
في الأرض ليسوا في نظرهم سوى أداة تستخدمها القدرة الإلهية، وهم يرون أصل هذه
الشرور لا في حتمية التاريخ ولكن في خطايا شعب الله. ولذلك كانت دعوتهم إلى التوبة
تدّوي قبل وقوع الكارثة بوقت طويل، وكانت تزداد إلحاحاً وتهديداً كلما كانت
الكارثة تقترب والشعب يصم آذانه.

 

ولما
دوّت نبوءة عاموس وهوشع في مملكة الشمال حوالي منتصف القرن الثامن كانت هذه
المملكة قد مرّت في مرحلة انتصارات حربية واسترجعت حدود عهد داود أو كادت، وأصبحت
غنية، ولكنها فتحت أبوابها للوثنية. فبينما كان معاصروها يرون فيها خُيلاء الحياة
كان النبيّان يتبيّنان بذور الموت. وبعد ثلاثين سنة خُربت السامرة فعلاً وزالت
مملكة القبائل العشر إلى الأبد (721).

 

فقد
أتى ملك آشور ليحتل فلسطين متذرعاً بالحرب الداخلية بين ملكي إسرائيل ودمشق من جهة
وملك يهوذا من جهة ثانية. وعبثاً حاول النبي إشعياء في تحذيره للملك آخاذ أن يجعله
يتّكل على الله وحده ولا يستنجد بدولة غريبة ضد (الجذوتين المدّخنتين) ملكي
إسرائيل وسوريا (عزرا 4: 7). فكان أن احتل الآشوري مملكة إسرائيل، ثم لم يتأخر
كثيراً في بسط سيطرته على مملكة يهوذا. عندئذ تغيّر دور النبي فصار يحثّ ملوك
يهوذا على الطاعة. غير أن هؤلاء استمروا يحيكون الدسائس مع جيرانهم ويطلبون النجدة
من مصر وبابل (عزر1: 30- 5 و1: 31- 3 وإصحاح 20 و39). وفي السنة 701 وقف ملك آشور
أمام أورشليم فرفع إشعياء صوته يحثّ الملك حزقيا على الإيمان ويعده بالنجاة. فكان
أن رُفع الحصار فعلاً (2ملو18- 19 وعزر36- 37). وعرفت مملكة يهوذا الراحة قرناً
كاملاً. لكن النجاة أعطت هذه المملكة شعوراً مستقراً بطمأنينة كاذبة عبثاً حاول
النبي إرميا (628- 586) أن يزعزعها. ولا شك أن الملك يوشيا قام بحركة إصلاح فهدم
المرتفعات وأعاد العبادة إلى أورشليم (621) (18) ولكنّ حركته لم يكتب لها العيش
طويلاً إذ رمى نفسه بنزق في الصراع القائم آنذاك بين مِصرَ وآشور وقُتل في ماجدّو
(608). فاستولى نبوخذ نصر ملك بابل على أورشليم للمرة الأولى سنة 598 والثانية سنة
586 وهكذا أتت مملكة يهوذا إلى نهايتها.

 

وعندما
ضاع كل شيء انقلب إرميا، نبي الهزيمة، إلى نبي الإصلاح والعودة. فكان يحث المسبيين
ويدعوهم إلى الصبر وإلى الطاعة ويعدهم بالخلاص (إرميا30- 33). وهذه الدعوة سيعود
إليها حزقيال النبي وقد كان أحد المسبيين، كما يعود إليها أيضاً النبي العظيم
المجهول الذي نحن مدينون له بالإصحاحات 40- 55 من سفر إشعياء. وقد رُممّت أورشليم
حقاً بناء على أمر كورش (539- 538).

 

ولكن
طبقاً لنبوءة إشعياء فإن (بقية) فقط من إسرائيل تتابع السير نحو أرض الميعاد. أما
مجد إسرائيل السياسي فيغيب إلى الأبد. ومنذ الآن فصاعداً لن يبقى سوى الشعب الكاهن
الذي منه سيولد المسيح.

 

1-
رسالة النبي

من
هم هؤلاء الرجال الذين يرتعد الملوك والشعوب أمامهم وما هو سرّ قوتهم؟ تجيبنا
التوراة بأنهم (فم الله)، وإن نبوءاتهم (كلمات العلي) فلا تخطئ مرماها.

 

هؤلاء
قد (أخذهم) الله (عاموس 15: 7) ورمى بهم في المعركة (إرميا 1 و15: 15- 21 و12: 26-
15). ومن ثمَّ فإنهم خاضعون لقوة تدفعهم ولا يمكنهم السيطرة عليها، لأن كلمة الله
(نار) (ومطرقة تحطم الصخر) (إرميا29: 23). والله يعطي الكلام لمن ينبغي أن يتكلم
ويُبكم من ينبغي أن يسكت (حز22: 3- 27) والنبي مقيّد بالكلام الذي سمعه:

(زأر
الأسد فمن لا يخاف؟

(وتكلم
الرب فمن لا يتنبأ؟) (عاموس 8: 3).

 

وترتعد
فرائض النبي لدى سماعه الرسالة التي يوكل إليه أمر إعلانها (إرميا 19: 4- 21) ويحس
بأن حياته مهددة (كالخروف الذي يساق إلى الذبح) (إرميا18: 11- 23). إن طرق الرب
تحيّره وتسبب له اضطراباً (إرميا 1: 12- 4) ولكن لا بد له من السير فيها لئلا
يُطرح هو بدوره خارجاً (إرميا5: 12- 6). وإذا ما سكت عندما يجب الكلام أحسّ في
داخله (شبه نار آكلة) (أر9: 20).

 

فالنبي
إذاً من حيث التحديد (نبي شؤم) نوعاً لأنه ينذر الملك الضال والشعب غير الأمين.
وتجربته أن يفضّل إرضاء البشر على إرضاء الله بإخفائه الحقيقة التي وُكلتْ إليه أو
تخفيف مرارتها. يقول رسول الملك للنبي ميخا: (ها إن كل الأنبياء مجمعون على تقدير النجاح
للملك فلتكن كلماتك أنت أيضاً مطابقة لكلماتهم ولتبشرنَّ الملك بالخير)، لكن جواب
ميخا هو جواب النبي الأصيل الصادق: (حيٌ هو الله أن ما يقوله هو فإياه أتكلم)
(1ملو13: 22- 14).

 

النبي
الكاذب يقول: (سلام سلام حيث لا يوجد سلام) أو بعبارة أخرى: (كل شيء على ما يرام
بينما الأمور تتعسر) (إرميا 14: 6 و22: 8). ذلك لأن النبي الكاذب لم يحضر (مشورة
الرب) وقد أسرع من تلقاء نفسه دون أن يرسله أحد وقال كلماته هو المنبعثة من داخله
ولم ينقل كلمات الرب التي قيلت له، إنه يقوم بعمل كذب (أر21: 23- 32). لذلك وجب
عدم تصديق من يبشر بالسلام والسعادة إلا حين تُثبت الأحداث أقواله بل وجب الظن به
منذ تمام كلامه (أر7: 28- 9).

 

هذه
النظرة القاتمة إلى رسالة النبي ميزة من ميزات كل المراحل التي سبقت السبي لأن
رسالة أنبياء القرنين الثامن والسابع كانت تقضي بدكّ أسس الاطمئنان الكاذب لدى
الشعب المصطفى. لأن إسرائيل كان قد استقر في أرض الميعاد وفي رزقه وفي انتصاراته
ومؤسساته حتى وإيمانه. ومنذ أن أعتقد بأنه بلغ الهدف بدأ يضل. وفي الواقع فقد سحره
الجو الكنعاني بكل حذق ومن ثمَّ هادن آلهة الكنعانيين وأخلاقهم ومؤسساتهم. وأخيراً
ظن أن أمنه العسكري يكون في عدد مركباته وأمنه السياسي في محالفاته مع الأجنبي
وأمنه الروحي في ذبائحه التي كانت تقدَّم إلى البعل بيد وإلى العلي بيد أخرى.

 

كلُّ
هذا كان يواجهه الأنبياء بيقين غريب فيهم وهو أن على إسرائيل أن يخسر كل شيء له
لكي يعود إلى الله، والمقصود (بكل شيء) طمأنينته الأرضية وكل ما احتل في قلبه مكان
الله الحي: كل غناه وكل مجده كشعب حرّ مستقل، كل أرضه وكل سلالته، حتى مدينته
المقدسة التي كانت في نظره فوق كل أسر، وحتى الهيكل الذي كان في نظره العلامة
الحسية لحضور الله، ومجمل القول: كان على إسرائيل أن يعود (إلى الصحراء) إلى تلك
العزلة الرهيبة حيث يتدرب على أخذ كلِّ شيء من يد الله بعد أن يكون قد فقد كلَّ
شيء.

 

ولقد
قال هوشع: (هاأنذا أذهب بها إلى الصحراء وألاطفها) وقوله هذا يبطّن كل الفكر
النبوي. فالله يقود شعبه إلى عاكوراي (وادي الموت) لكي يفتح له ثانية (باباً
للرجاء) (هو 16: 2- 17). ولكي يتم خلاص إسرائيل يجب عليه أولاً أن يعترف بكونه
هالكاً ويجتاز نار الدينونة وحينئذ فقط تبلغه رسالة القيامة التي كانت ترن ولا
تزال كوعد بعيد وبشارة سعيدة من خلال تهديدات هوشع وميخا وإشعياء وإرميا وأمثالهم
لكي تتفجر بعدئذ مثل نور الفجر في ليل السبي.

 

وفي
القرن الثامن كان هوشع وعاموس بمثابة حفارين لقبر مملكة الشمال. فلم تمض ثلاثون
سنة على نبوءتهما حتى تهدّمت السامرة (722) وفقدت مملكة إسرائيل استقلالها إلى
الأبد. وبعد مئة عام أتى النبي إرميا ليبشّر يهوذا بالمصير ذاته فكان أن حدث قضاء
الله على مشهد منه (598 و582).

 

كل
متجوّل في تلك المناطق التي أقفرت اليوم، والتي كانت ساحة لازدهار مدن عدّدتها
النبوءات، تعتريه رعشة الذعر ويتحقق بأن الله بالفعل ينفّذ أحكامه. والتاريخ هنا
بكامله شاهد على أن الله قد حقق ما قاله يوماً (على فم أنبيائه).

 

أحكام
الله أكيدة وخلاصه أيضاً أكيد، ولكن بينما نلمس أحكامه في خرائب العالم يبقى خلاصه
موضوع إيمان فقط، والمؤمن وحده يُمسك بالعربون ويتحقق فيه، في كل حقبة، مقصد الله
السري.

 

ويعلم
النبي أن آلام شعبه ليست مقصد الله الأخير لأنه يعلم أيضاً أن خلاصاً سيتبعها، كما
يعلم أنها ستكون دينونة أخيرة وخلاص نهائي، هذا مع أن تاريخ هذا المجيء الأخير
وظروفه تبقى مكتومة عنه. لذلك فهو أحياناً بدون تنبيه يتجاوز صعيد التاريخ إلى
صعيد الحقائق الأبدية ويستعيد بترميم المدينة الأرضية ذكرى المدينة الأبدية، أعني
أورشليم الجديدة، التي ستكون (خلاف) كل مدن الأرض ويعرف ذلك. كما أن صورة الملك
تصبح لديه صورة سيد المسكونة ومخلصها.

 

ولا
يكتفي النبي بمجرد الإعلان عن أحكام الله ومراحمه بل يعيشها بمعنى في مصيره هو
ويحمل في جسده آثارها. لذلك فالاضطهاد نصيب رسول الله الطبيعي: (طوبى لكم إذا
عيروكم واضطهدوكم وقالوا فيكم كذباً كل كلمة سوء من أجلي. افرحوا وابتهجوا فإن
أجركم عظيم في السماء. لأنهم هكذا اضطهدوا الأنبياء من قبلكم) (مت 11: 5- 12).

 

يسوع
المسيح ذاته، وهو الشاهد الأمين الحقيقي لله الحي، سيكون هدفاً للمقاومة بين الناس
كما سيكون المحارَب الأعظم والمرذول الأكبر في التاريخ. كذلك النبي هو أيضاً يواجه
المقاومة ويحمل في ذاته كل التوتر الذي تُحدثه، من جهة، دعوة إسرائيل حامل
المواعيد الإلهية، ودينونته من جهة أخرى. وهو الشاهد الأمين الذي يتحمل في جسده
وروحه نتائج آثام شعبه وهو ملتزم التزاماً كلياً بالرسالة التي يعلنها ولذلك كانت
أحداث حياته لا بل وجوده بالذات (علامات) تؤثر في قلوب إسرائيل بصورة مباشرة
يستحيل على الكلام وحده الوصول إليها. وهكذا نرى هوشع النبي يعيش في بيته المأساة
التي كانت تدور بين الله وشعبه، فقد كان حبه لجومر الزانية انعكاساً لمحبة يهوه
لإسرائيل وسمّى أولاده بأسماء ترمز إلى ذلك، فساهم في جسده ذاته في النزاع الإلهي
وسر النعمة.

 

أما
إرميا فقد فُرضتْ عليه العزوبية إشارة إلى الحكم الذي يُرهق كاهل جيله. وجهاده
صوّر مسبقاً وبصورة مدهشة جهاد يسوع المسيح الذي ظنه البعض إرميا بعد أن سألهم (من
يقول الناس أني أنا؟).

 

لكن
النبي غير مرتبط بربه الذي يتوقع مجيئه من خلال شركة الآلام فقط. بل إنه مرتبط به
أيضاً بواقع انتظاره المجد الإلهي الآتي.

 

ثم
إن حركة الله في أخصّائه تسير عموماً في اتجاه معاكس للاتجاه العام. فبينما يسيطر
التفاؤل ويردد الجميع (الكل على ما يرام الكل على ما يرام!) يقرع النبي ناقوس
الخطر. ولكن أيضاً عندما يكون إسرائيل في قعر الهاوية وكل شيء قد أصبح بؤساً
وخراباً يرتفع صوت النبي وحيداً من جديد ليُعلن هذه المرة ويبشّر بتعزيات الله.
فبينما كان إرميا سجيناً في أورشليم المحاصرة أمره الرب فاشترى حقلاً لأنه: (هكذا
قال رب الجنود إله إسرائيل إنهم فيما بعد يملكون بيوتاً وحقولاً وكروماً في هذه
الأرض) (أر6: 32- 15). كذلك بينما كان حزقيال في النفي كان يرسم تخطيط الهيكل
للمستقبل. أما إشعياء فإصحاحه الأربعون يتفجر في صميم السبي وكأنه أنشودة ابتهاج
وتسبيح للرب القدير.

 

وأخيراً
يتكلم رجل الله غالباً كلاماً لا يتفق مع عصره لأن الروح القدس الناطق فيه يريه ما
وراء الظواهر. فمثلاً يشمّ النبي رائحة الموت حيث تُبهِر مدنيّة، ما زالت في
ذروتها، أعين الآخرين. كما أنه يدرك عمل الله السري ويتقبل وعد الانبعاث المقبل
عندما يرى كل إنسان آخر أن الحياة تبدو دفينة ومقضياً عليها.

 

2-
أحكام الله، الله سيد التاريخ

إن
الله سيد التاريخ وهو يسيّره بسيادته المطلقة نحو الغاية التي رسمها له. هذه هي
الحقيقة الأولى التي يؤسس الأنبياء عليها مفهومهم لكل الحوادث.

 

فإذا
نظرنا بأعيننا البشرية إلى هذه السيادة الإلهية وجدنا أنَّ لها وجهين: وجه الغضب
ووجه الرحمة. ولن ندرك إدراكاً كلياً إلا في آخر الأزمان كيف يتفق هذان الوجهان
وكيف أن عدالة الله هي أيضاً وجه من وجوه محبته. وقد أدرك الأنبياء هذا الأمر كما
أدركوا أن قضاء الله يبدأ دائماً في بيت الله (1بط 17: 4).

 

آ-
قضاء الله على إسرائيل:

كان
إسرائيل موضوع محبة فريدة، ولذلك يُصَبّ عليه (غضب) فريد: (إياكم وحدكم عرفت من
بين جميع عشائر الأرض فلذلك سأفتقد عليكم كلَّ آثامكم) (عاموس 2: 3).

 

يا
له من حب غيور وهائل لا يُفلتُ محبوبه حتى يوم الدينونة الأخير! ويا لسرّ الاختيار
المرهق! لكن إسرائيل يتحقق بالاختبار، خلال تاريخه كلّه، إنّ تأديبات الله له كانت
دلائل لعنايته، أما ما قد يكون بالفعل إشارة لتخلي الله عنه فهو سكوت الله بينما
الخطيئة تظفر (عبر4: 12- 11 وتثنية 2: 8- 5).

 

كان
التأديب في نظر كلِّ الأنبياء قبل كل شيء دعوة إلى التوبة وحثاً على العودة إلى
الله. بينما كان إسرائيل الابن الضال الأبدي لا يذكر أباه إلا عندما يشتهي أن يشبع
من الخرنوب (لو16: 15).

 

والحقيقة
أن مأساة إسرائيل الحقيقية هي مأساة عقوق لأنه نسي حبه الأول:

(أتنسى
العذءرا حلاها

والعروس
مناطقها؟

لكن
شعبي نسيني

منذ
أيام لا تُحصى) (إرميا 32: 2)

غضبُ
الله غضبُ محبوبٍ خاب في حبه وخانه محبوبه. وهذا الحب يهدد تارة وطوراً يترجى:

(إذا
كان إسرائيل صبياً أحببته

ومن
مصرَ دعوت ابني

لكنهم
أعرضوا عن الذي دعاهم

كيف
أعاملكِ يا أفرايم

وأصنع
بكَ يا إسرائيل

قد
انقلب فيَّ فؤادي

واضطرمت
مراحمي

لا
أنفذ وغر غضبي

ولا
أهمّ بعدُ بتدمير أفراييم

لأني
أنا الله ولست إنساناً

أنا
القدوس في وسطك

ولن
آتي بسخط) (هو1: 11، 8- 9)

 

فبعد
أن نسي إسرائيل الله ارتكب (الزنا) بتعفره على أقدام الأوثان، وترك العنان لكل
شهوات الجسد وأهواء الكبرياء.

 

يذهب
بعضهم إلى أن رسالة الأنبياء ذاتُ وجهٍ اجتماعي مهم وهم على حق في ذلك. ولكن
الأصول العميقة للفساد الاجتماعي الذي يضعه الأنبياء تحت المبضع تبقى دائماً هي هي
أعني أن إسرائيل كان ينسى الله. فحيث كان يُنكَر سلطان الله وسيادته ويزدرى بحبه
لم يعد من عدل ولا حق، لأن معرفة الله هي أساس كل حياة وكل حق. لذلك علينا أن نفتش
عن سبب الفوضى الأخلاقية في إسرائيل في إلحاده لا النظري بل العملي في حيّز الواقع.

 

ويتيسر
هذا الإلحاد وراء عاطفة دينية متكلفة وبنت ساعتها. والحق أن الغيرة الدينية
الكاذبة ليست سوى واجهة يمقتها الله أكثر مما يمقت الكفر نفسه:

(لقد
أبغضتُ أعيادكم ورذلتها

ولم
تطب لي احتفالاتكم

إني
إذا أصعدتم لي محرقاتكم وتقدماتكم

لا
ارتضي

ولا
ألتفت

إلى
ذبائح السلامة من مسمناتكم

أبعدوا
عني جلبة ترانيمكم

فإني
لا أُنصت لنغم عيدانكم

بل
لتكن الاستقامة جارية كسلسبيل الماء

والعدالة
كالسيل الذي لا ينقطع) (عاموس 21: 5- 24)

 

وكان
الأنبياء يرون في فساد العظماء وارتشاء القضاة ومظالم الملكية العقارية الواسعة،
وإجمالاً في فوضى المجتمع الذي يدوس حق الفقير المقدس، دلائل انحلال اجتماعي وخلقي
هو بمثابة حافز للآخرين على الغزو، ومجلبة للكارثة والحرب على الأمة التي أصيبت
بها.

 

لأن
النبي وإن كان يرى يدَ الله في الأحداث الكبيرة في التاريخ فهو لا يغمض الجفن عن
أسبابها الثانوية. ولذلك فهو يرى ويفضح مسؤولية البشر عالماً بأن (من زرع الريح
حصد العاصفة) (هوشع 7: 8). كما يرى ببصيرة جديرة بكبار رجال السياسة الخطر الذي
يهدد الشعوب الصغيرة التي مزقتها الحروب الداخلية. أعني الدولتين الكبريين
الآشورية والبابلية اللتين تترقبان في الأفق لتنتهزا فرصة أي ضعف في هذه الدول
فتتخذ منه ذريعة وتتدخل.

 

وعندما
كان يتحقق النبي من أن دعوته إلى التوبة ذهبت أدراج الرياح كان يقتنع اقتناعاً
أكيداً بان الساعة الحادية عشرة قد أزفت، والوقتَ قد فات وإن حكم الله سينفذ إلى
النهاية. وذلك لكي يربح إسرائيل نفسه إذا خسر حياته.

 

ب-
قضاء الله على الأمم

لقد
اجتذبت إسرائيل الأمم الوثنية إلى مدار تاريخ الخلاص، فأصبحت هذه أدوات في يد الله
يُلحق بها العقاب بمن يشاء، وهي تخدم قضية الله عن غير معرفة. وهكذا كانت آشور
السوط الذي استعمله الله في غضبه ضد إسرائيل كما كانت بابل السوط بالنسبة إلى
يهوذا. ولكن الويل لهذه الأمم إذا اعتقدت يوماً أنها مستقلة وسيدة في ممارستها
التفويض الإلهي، لأن هذا القضيب يكسره الله كسراً أشد من كسر أولئك الذي به ضربوا.
والشعب الذي (صفّر) له الله فامتثل ووافاه (من أقاصي الأرض) (اشعيا 26: 5) سيعلم
من هو السيد في القريب العاجل:

(أتفتخر
الفأس على من يقطع بها

أو
يتكبر المنشار على من يحركه

كأن
القضيب يحرك رافعيه

أو
كأن العصا ترفع من ليس بخشب) (اشعيا15: 10)

(ويل
لك أيها المدمّر الذي لم يلحقك الدمار بعد،

الذي
يسبي وهو لم يسبَ بعد) (إشعياء1: 33)

 

في
التوراة عدد ضئيل من الصفحات هي في جاذبيته تلك التي تصف انحدار ملك بابل إلى
مملكة الظلمات:

(الهاوية
من أعماقها تهتز لك

لتذهب
في لقائك.

لك
أنهضت الجبابرة

جميع
فحول الأرض

وخلعت
كل ملوك الأمم

عن
كراسيهم

فأجاب
جميعهم قائلين لك

إنك
أنت أيضاً قد جُرحت مثلنا

وأصبحت
مثيلنا!

فهبطت
عظمتك إلى الجحيم

وصوت
عيدانك

تحتك
يفرش السوس

وغطاءه
كالدود!

(أهذا
هو الإنسان الذي زلزل الأرض

وزعزع
الممالك

وجعل
المسكونة كالقفر

هدَّم
مدنها

ولم
يُطلق أسراها إلى بيوتهم؟

(القتلى
المطعونون بالرماح

الهابطون
إلى حجارة الجب

كالجثة
المدوسة

لا
يجمعك وإياهم مدفن

لأنك
دمّرت الأرض

وقتلت
شعبك!) (إشعياء14)

 

وبعد
أن تنبأ إرميا بتأديب يهوذا فُوِّض بأن يسقي (كأس خمر غضب الله) لكل الشعوب (إرميا15:
25). وكانت الجريمة هي هي أعني أن الشعوب أخذها جنون الكبرياء فاندفعت إلى تأليه
ذاتها:

 

(لقد
طمح قلبك فقلت إني إله) (حز2: 28).

 

وكان
الموت هو ثمن الانتفاضة ضد الله سواء للأفراد أم للشعوب.

 

ولكن
يحدث أحياناً أن يكون أحد ملوك الوثنيين أداة خلاص في يدي الله القدير ليس فقط من
ناحية سلبية أي (كسوط بيد الله) بل كعامل يساهم في خلاص الشعب المختار. ومثال ذلك
كورش الذي دعاه الله (عبده) ومن ثم (مسيحه) (اشعيا1: 45):

(لأجل
عبدي يعقوب

ومختاري
إسرائيل

دعوتك
باسمك

وكنّيتك
وأنت لا تعرفني) (إشعياء4: 45)

 

وهكذا
فإن الأمم تخدم مقاصد الله الثابتة سيّان أعلمت بذلك أم لا. وهي تعتقد بأنها
مستقلة بالنسبة إلى الله، لكنَّ الحقيقة هي أن يداً قديرة توجهها وترسم لها غايتها.
إنها في صعيد الطبيعة تشارك كل ما هو بشري في حالة الهلاك، غير أن ميثاق النعمة
الذي عقده الله مع إسرائيل يمكن أن يشملها هي أيضاً لا بل إن الغاية الأخيرة من
هذا الميثاق هي خلاص الأمم:

(يضرب
الرب مصرَ،

يضرب
ويشفي

فيرجعون
إلى الرب

فيستجيب
لهم ويشفيهم

ويعلن
الرب عن نفسه في مصر

فتعرف
مصر الرب

في
ذلك اليوم يكون طريق

من
مصر إلى آشور

فتأتي
آشور إلى مصر

ومصر
إلى آشور.

وتعبد
مصر الرب مع آشور

في
ذلك اليوم يكون إسرائيل ثالثاً

لمصر
وآشور

وبركة
في وسط الأرض

فيباركه
رب الجنود قائلاً:

مبارك
شعبي مصر

وصنعة
يدي آشور

وميراثي
إسرائيل!) (إشعياء21: 19، 22، 23، 24)

 

ويرى
إشعياء النبي الشعوب تتوافد إلى جبل الرب (إشعياء 2: 2- 4 و1: 60- 5) ولن يزيد
كاتب الرؤيا شيئاً على وصف هذا الخلاص العام الذي ستكون أورشليم الجديدة منارته
المشعة.

 

3-
الإنباء بأزمنة ماسيا

تتخلل
البشرى بملكوت الله كل النبوءات وكأنها فيها نسمة رجاء. لأن دينونة الله كما رأينا
ليست إطلاقاً الكلمة الفصل، والامتحان بالنسبة إلى الشعب ليس سوى نار مطهرة.
فيغربل الله إسرائيل ليفرقه إلى شعب حسب الجسد وآخر حسب الروح، وهذا الأخير ينقبض
حتى يتحول إلى (بقية أمينة)، وأخيراً تتحول هذه البقية يوماً إلى شخص واحد هو عبد
الرب، أما عبد الرب هذا فيقيم شعباً جديداً أعني الكنيسة.

 

غير
أن إسرائيل، والكنيسة من بعده، ليسا سوى استباق في العالم الخاطئ للملك الآتي
ولذلك الوقت المجيد الذي فيه يصير الله الكل في الكل.

 

الرؤية
النبوية لا تتقيد بالزمن بل المستويات فيها تختلط فتنقلنا دائماً من وصف ملكية
زمنية إلى وصف وضع يتعالى عن كل الحقائق الأرضية، ويصبح انتصار إسرائيل على أعدائه
إشارة لانتصار الله انتصاراً نهائياً على كل قوى الشر والموت.

 

أما
ميزة الملكوت الآتي فهي أنه سيكون عهد برّ وسلام. فلن تحدث الحروب: (يضربون سيوفهم
سككاً وأسنتهم مناجل) (إشعياء 4: 2 و4: 9). ثم يشمل العطف الإلهي الخليقة بأسرها
(إشعياء6: 11- 8). ويتمتع الناس في أمان بثمار أتعابهم وتزول الآلام (إشعياء17: 65-
25 وإرميا31) وتملأ معرفة الرب القلوب وتنير المسكونة لأن:

(الأرض
تمتلئ من معرفة الرب

كما
تغمر المياه البحر) (اشعيا9: 11 وارميا14: 31)

 

ب-
وكانت هذه النظرة إلى ملكوت الله تربُطه دائماً بشخص ملك وذلك منذ أولى النبوءات
في القرن الثامن.

وهذا
الملك سيكون ابناً لداود، متشحاً بحكمة الله وقدرته:

(لقد
وُلد لنا صبي

وأُعطي
لنا ابن

رئاسته
على عاتقه،

ويدعى
اسمه

مشيراً
عجيباً

إلهاً
قوياً

أبا
الدهر الآتي

رئيس
السلام) (إشعياء 5: 9)

وعلى
هذا الصبي يستقر (روح الرب) (إشعياء2: 11):

(ولا
يقضي بحسب رؤية عينيه

ولا
يحكم بحسب سماع أذنيه

بل
يقضي للمساكين بالعدل

ويحكم
لبائسي الأرض بالإنصاف،

ويضرب
الطاغي بقضيب فيه،

ويهلك
المنافق بنفس شفتيه

ويكون
العدل منطقة حقويه،

والحق
حزام كشحيه) (إشعياء3: 11- 4)

ويقوم
هذا الصبي (كراية للأمم) ويلمُّ شمل المشتتين (اشعيا10: 11- 12).

وسيرعى
الشعب (بعزة الرب) ويتعاظم حتى أقاصي الأرض (ميخا 3: 5).

 

وبعد
قرن من هذا التاريخ، في زمان خراب أورشليم، يُعلم إرميا النبي آخر ملوك يهوذا عن
الحكم الذي ينتظرهم. غير أن الله يقيم لداود (زرعاً صدِّيقاً) يعيد خراف إسرائيل
الضالة إلى الحظيرة ويُجري (الحكم والعدل) (إرميا4: 23- 5) ويكون أداة لعهد جديد
منقوش في القلوب (إرميا 31: 31- 34).

 

ثم
يعلن النبي حزقيال أحكام الله على رعاة إسرائيل غير الأمناء وأن الله سيجمع هو
بذاته النعاج المشتتة: (وسأقيم عليها راعياً واحداً يرعاها أعني عبدي داود، هذا
يرعاها ويكون لها راعياً. وأنا الله أكون إلههم وسيكون عبدي داود رئيساً في وسطهم.
أنا الرب تكلمت وسأعقد معهم ميثاق سلام..) (حزقيال23: 34- 24 وزخريا11).

 

لكنّ
النبي المجهول في عهد السبي والذي نحن له مدينون بالإصحاحات 40- 55 لاشعياء هو
الذي أعطاه الله أن يصف لنا وجه (عبد الله) بكل ما فيه من عظمة وسريّة.

 

فلقد
دُعيتْ قصيدة إشعياء 40- 55 (إنجيل) العهد القديم (وقد يجب إضافة الإصحاحات 60- 62
إلى هذه القصيدة لأن مصدر وحيها واحد) وها نحن الآن قد وصلنا إلى قلب عملية الفداء.

 

ففي
صميم سبي بابل ارتفع صوت ورنَّم (ترنيمة جديدة) (إشعياء10: 42). (عزّوا عزّوا
شعبي) (إشعياء1: 40). وما كان سبب هذه التعزية سوى مجيء الله، لأن الله ذاته يأتي
ليخلص شعبه من نير الطاغي. ولا شك أن هذا الخلاص سيكون كما حصل بشأن الأسر في مصر
خلاصاً أعظم بكثير من مجرد تحرير، إنه سيكون قيامة من الأموات. فإن الحكم بالموت
قد رُفع والشعب (الأصم الأعمى) (اشعيا8: 43) سيسمع من جديد كلمات الرب ويمشي
مجدداً في نور الله.

 

كان
(العبد) في هذه الإصحاحات، بادئ ذي بدء، كورش الذي كان وسيلة لخلاص إسرائيل
(إشعياء2: 41- 3 وإشعيا45).

ومن
ثمَّ صار (العبد) إسرائيل ذاته، (الشعب المحبوب):

(أنت
عبدي وقد اخترتك ولن أرذلك) (اشعيا9: 41)

ولكن
وجه العبد الجماعي يتقلص ليصبح في النهاية وجه شخص واحد، غير وجه كورش أو إسرائيل،
وصفات هذا العبد الرحمة والعدالة والبرّ.

(قصبة
مرضوضة لا يكسر وفتيلاً مدخناً لا يطفئ) (إشعياء3: 42)

(إنه
يفتح عيون العميان ويطلق المأسورين وهو ميثاق الشعوب ونور الأمم) (إشعياء6: 42 و6:
49).

 

وهذا
العبد الذي أمامه تجثو الملوك يدعى (رجس الشعوب)، وفي شخصه الاتضاع والرفعة صنوان
لا يفترقان (إشعياء 7: 49). وسيتعرض للضرب والبصاق والعار (إشعياء6: 50) وهو الذي
سيشرب كأس الغضب التي استحقها إسرائيل (اشعيا17: 51- 22) ولم يفهم أحد الطابع
التكفيري لآلامه إلى أن رفعه الله إلى الغاية. عندئذ يغمر الفرح الجماهير بعد أن
كانت تنظر إليه بكراهية واشمئزاز ويكون أن إسرائيل تلك الغرسة المحبوبة من الله
والكرمة التي طال زمن عقمها قد أنتج سِقطاً سيكون خلاصه:

(من
يصدّق خبرنا

ولمن
تُعلن ذراع الرب

فإنه
ينبت كفرخ أمامه

وكجرثومة
من أرض قاحلة

لا
صورة له ولا بهاء فننظر إليه

ولا
منظر فنشتهيه

مزدرى
ومخذول من الناس

رجل
أوجاع متمرس بالعاهات

ونستّر
عنه وجوهنا.

مزدرى
فلن نعبأ به

ولكن
أحزاننا أخذها

وأوجاعنا
حملها

فحسبناه
مصاباً

مضروباً
من الله ومذلّلاً

جُرح
لأجل معاصينا

وسُحق
لأجل آثامنا

فتأديب
سلامنا عليه

وبجراحه
شفينا

كلنا
كغنم ضللنا

وكل
واحد مال إلى طريقه

فألقى
الرب عليه

إثم
كلنا) (إشعياء1: 53- 6)

من
هو هذا المعذب؟ البعض أجابوا بأنه أحد الأنبياء الذين مِثلَ إرمياء حملوا ثقل
خطايا شعبهم وذاقوا الاضطهاد، والبعض الآخر رأى فيه الشعب المصطفى ذاته في حالة
القصاص والإذلال والتألم من أجل خلاص الشعوب (20). في هذين الجوابين شيء من الصحة
ولكنهما لا يكفيان. فالحقيقة أن واحداً وحده حمل خطايا شعبه وتألم وهو بارّ من أجل
الأشرار ومن ثمَّ خلّص كثيرين (اشعيا8: 53- 12) أعني به يسوع المسيح ابن الله
الوحيد.

 

لكن
الشعب الأمين، إسرائيل ومن بعده الكنيسة، يشترك في عاره وفي فخاره.

 

فلقد
سبق للأنبياء أن شاركوا في آلامه وإذ كانوا قد انتصروا فلأنهم كانوا يعيشون
مسبّقاً بالإيمان تحت علامة قيامته. وقد قال بطرس الرسول: (كان روح المسيح يشهد
مسبّقاً لآلام المسيح ولمجده الذي كان سيتبعها) (1بط 11: 1).

 

قبل
مجيء يسوع المسيح بخمسة قرون كُشف سر خلاصنا (الذي يشتهي الملائكة أن يطّلعوا
عليه) (1بط 12: 1) للنبي في صميم سبيه. وما كان لهذا النبي أن يعرف الأزمنة
والأوقات، وما قيمة الزمن في هذه الأمور؟ لذلك لم يفصل بين مجيء قدوس الله في
تواضع التجسد ومجيئه في كامل مجده لأن هذين وجهان لحقيقة واحدة والحمل المذبوح هو
رب المجد بالذات الذي تجثو الشعوب أمامه إلى الأبد. أما الصحراء فستزدهر من جديد
وأورشليم ستلد بنين كثيرين بعد أن كانت مهجورة (إشعياء54) وستفد الأمم إليها
(إشعياء5: 55) وفجر الرب سيشرق عليها (إشعياء1: 60):

(لا
يُسمع من بعد بالجور في أرضكِ

ولا
بالدمار ولا الحطم في تخومك

بل
تدعين أسوارك خلاصاً

وأبوابك
تمجيداً) (إشعياء18: 60)

لا
تكون الشمس من بعد نوراً لك نهاراً

ولا
ينيرك القمر بضيائه ليلاً

بل
الرب يكون لك نوراً أبدياً

وإلهك
يكون لكِ بهاءً) (إشعياء19: 60)

وهنا
أورشليم هي الكنيسة أو العروس التي تبتهج لمجيء عريسها:

(إني
أُسَرّ سروراً في الرب

وترقص
نفسي ابتهاجاً بإلهي

لأنه
ألبسني وشاح الخلاص

ولفني
برداء البِّر

كالعروس
الذي يتعصب بالتاج

أو
العروس التي تتزين بحلاها) (إشعياء10: 61)

وها
نحن الآن أمام خليقة الله الجديدة (إشعياء17: 65 و2بط 13: 3 ورؤ1: 21).

 

وميزة
السماوات الجديدة والأرض الجديدة هي أن البرّ سيسكنها والعدالة، تلك العدالة التي
كان العهد القديم يناديها وينتظرها، ويعرف حق المعرفة أنها ما كان يمكن أن تأتي
إلا من الله لأنه يستحيل على قلب الإنسان أن ينتجها أو يرضيها. كان يعرف أن الله
يفضِّل على المحرقات والذبائح (قلباً متواضعاً كسيراً). ومع كل هذا كان ينتظر ذاك
الذي بالرغم من برّه سيتألم عن الأشرار (زخريا 9: 9- 10 و10: 12). ولن تدخل
أورشليم في فرح ربها وبهجته إلا يوم ترتدي ثوب برّه هو (ملا 2: 4).

————–

(19):
إن قسم التوراة العبرية المعنون (الأنبياء الأخيرون) يحوي مؤلفات ثلاثة أنبياء
كبار واثني عشر نبياً (صغيراً). ولفظة (كبير) و(صغير) تشير إلى حجم السفر فقط.

 

وكانت
كرازة الأنبياء ترتدي شكل (عرافات) وكان أسلوبها ذا وقع. ويبدو أنها كانت عبارة عن
أغنيات في أكثر الأحيان. والأسفار النبوية تتضمن في الغالب، عدا تلك (العرافات)
مقاطع تاريخية هي من تأليف كاتب لاحق إجمالاً. وليست أحياناً سوى مجرد تكرار
لأخبار سفر الملوك. هل تعود قصائد كل سفر إلى كاتب واحد؟ لقد توصل النقاد إلى
الاتفاق هنا أيضاً على أن السفر، في كثير من الأحيان، مجموعة من مؤلفات مختلفة.
فسفر اشعيا مثلاً يتضمن قسمين متميزين جلياً: فالإصحاحات 1 إلى 39 هي لاشعيا بن
عاموس، وهو نبي في القرن الثامن، والإصحاحات من 40 إلى 55 تختلف بأسلوبها عن
الأولى كل الاختلاف، وهي تنبئ بإصلاح كورش ليهوذا، وقد كتبت على الأرجح أثناء
الجلاء، أي في أواسط القرن السادس. كما أن بعض الأجزاء الأخرى في السفر تعود
غالباً إلى أزمنة أقرب إلينا (اشعيا56- 66 و24- 27).

 

فلماذا
جمعت كل هذه القصائد تحت اسم واحد؟

 

إن
كاتب القسم الذي دعي (أشعياء الثاني) بقي مجهولاً. هل إن الروح التي كتب بها السفر
مع تأكيده على قداسة الله وعلى العنصر الماسيوي في نبوءاته هي التي دعت للربط بينه
وبين سلفه الكبير اشعيا القرن الثامن؟ لا ندري. إن وحدة رسالة سفر اشعيا بكامله
مدهشة بقدر ما تفصل بين أجزائها قرون.

 

لقد
أشرنا سابقاً (أنظر الإيضاح عدد 2) إلى أن سفر دانيال غير معدود من الأسفار
النبوية في التوراة العبرية. إنه أقرب إلينا بكثير وهو من نوع الرؤية أكثر منه من
النوع النبوي.

 

هذا
وندرج ذيلاً بعض التواريخ التي تسمح بتعيين كرازة كل من الأنبياء في إطاره
التاريخي:

 

القرن
الثامن

783-
743 ملك يروبعام الثاني ملك إسرائيل. نبوءة عاموس وهوشع في مملكة الشمال.

740
وفاة عزيا ملك يهوذا، بدء كرازة اشعيا (حوالي 740- 700) وكرازة ميخا

 

في
مملكة يهوذا.

738
الحرب السورية – الأفرائيمية ضد يهوذا.

734
الغزو الآشوري. تملك آشور على إسرائيل ويهوذا.

724-
722 حصار السامرة. زوال مملكة إسرائيل.

720
حزقيال يخلف آحاز على عرش يهوذا.

701
حصار سنحاريب لأورشليم. اشعيا يعد بالخلاص. رفع الحصار

 

القرن
السابع

692-
638 ملك منسى وآمون. بقاء يهوذا تحت سيطرة آشور.

638
جلوس يوشيا على سدة الملك

627
بدء كرازة ارميا. نبوءة صفنيا

625
الغزو السيتي. آشور تضعف.

621
إصلاح يوشيا (تثنية الاشتراع).

 ناحوم
(حوالي 612)؟

609
وفاة يوشيا في مجدو. انتقال يهوذا إلى سيطرة مصر.

605
ملك بابل يدحر مصر في كر كميش.

604
ارميا يملي نبوءاته على باروخ.

 

القرن
السادس

597
استيلاء نبوخذ نصر على أورشليم. الجلاء الأول

593
بدء كرازة حزقيال (593- 571).

586
الجلاء الثاني. نهاية كرازة ارميا.

 حبقوق
(؟)

550-
538 كتابة اشعيا 40- 55

538
مرسوم كورش بالسماح بعودة المسبيين. بدء سيطرة فارس

520
نبوءات حجي وزكريا (إصحاح 1إلى 8) (واشعيا56- 66 على الأرجح)

 

القرن
الخامس: عوبديا، ملاخي، يوئيل (؟).

القرن
الرابع والثالث: اشعيا 24- 27؟ زكريا 9- 14؟

(وضعنا
نقاط الاستفهام حيث التواريخ غير ثابتة ومختلف عليها، أنظر لودز (أنبياء إسرائيل)
ص 8- 9 بالفرنسية).

 

(20):
إنه التأويل الساري لدى المدارس الربانية التي ترفض أن ترى في هذا المقطع من اشعيا
53 أية نبوءة عن ماسيا.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى