علم المسيح

حياة التستر



حياة التستر

حياة التستر

.
انقضت أعوام، ولا شك، كثيرة.. فيسوع لم يخرج من عزلته إلا بعد الثلاثين من عمره.
وأما تلك الأعوام فلا نعرف عنها شيئاً سوى أن المسيح كان، في أثنائها، ”
يتقدم في الحكمة والقامة والنعمة عند الله والناس ” (لوقا 2 ك 52). وإن
الأحداث التي نعرفها من غير ذلك لها أي اتصال بالبيئة التي نشأ فيها الطفل الإلهي

 

.
وعلى كل، فماذا كان يعرف في فلسطين، عن تلك الأحداث التي باتت تقلق القلوب
والخواطر؟.. أجل، لم يكن أحد ليجهل أن هناك، في روما، بعد ذاك الجم من الاضطرابات
والدم المستباح، رجلاً قد استولى بيد من حديد على مقاليد الحكم، وأن أوغسطس يملك
في الأبهة والمجد. ولكن، أن يقع ذاك الإمبراطور النائي في مصطرع من الدسائس
العائلية والمطامع المحمومة حول وراثته، وأن تسام سياسته الغازية، من قبل
الجرمانيين (سنة 9 م) خسفاً أليماً، وخسائر فادحة، فأي شأن للأمة اليهودية، في ذلك
كله؟.. لقد كان يسوع قد ناهز العشرين من عمره؛ عندما توفي أوغسطس (14 م) وهو في
السادسة والسبعين من عمره؛ وخلفه على العرش طيباريوس بن ليفا، دعيه وحظية. فأن
يكون أوغسطس قد نصب، بعد وفاته، إلهاً، فما كان ذلك، في نظر كل يهودي ورع، سوى
برهان جديد على وثنية الشعب الروماني. وأن يكون الإمبراطور الجديد قد أطلق يد صفيه
” سيجان ” في رقاب بطانته، فما كان ذلك سوى دليل على بربر يتهم

 

! لم
يكن الشعب اليهودي ليهتمّ إلاّ للأحداث التي كان لها بديارهم المقدّسة علاقة
مباشرة. ففي السنة 6 م -وهي السنة التي جرت فيها حادثة يسوع في الهيكل – خلع
“أوغسطس أرخيلاوس بن هيرودس، عاهل اليهودية، عن عرشه، ونفاه، بسبب ما تفاقم
من أخطائه؛ وتولى من بعده على اليهودية ولاة رومانيون.. وكان يسوع قد بلغ -ولاشك –
الحادية والثلاثين من عمره، وعلى همة الشروع في رسالته العلنية، عندما وصل إلى
اليهودية، في السنة 26م، وَال روماني اسمه بنتيس بيلاطس، ذاك الذي كان على المسيح
أن يتواجه وإياه، يوما ً، في ساعة عصيبة

 

.
وأمّا بلاد الجليل – وكانت إقطاعية هيرودس أنتيباس، أحد أبناء هيرودس الكبير-
فكانت تنظر بعين التحفظ والحذر إلى ذاك المُليكْ الذي هبّ يتخلّق بأخلاق الرومان،
ويهدر الأموال الطائلة، على ضفاف البحيرة، في بناء عاصمة باذخة مترفة، دعاها طبرية،
توددا إلى طيباريوس، سيّد العرش المقتدر. وعندما شاع في الناس، سنة 28م، أنه طلق
امرأته الشرعية، وتزوج بامرأة أخيه هيروديّا، سرت في الشعب المؤمن موجة من السخط،
وراحوا يرددون، همساً، اللعنات التي أنزلها الله بالزناة، قي جبل سيناء

 

.
هناك حدث وحيد بات له علاقة بحياة يسوع، في تلك الفترة، ويمكن تقديره من خلال أسطر
الإنجيل: وهو موت يوسف. لقد كان بعد في قيد الحياة، يوم جرت حادثة يسوع في الهيكل.
ثم لا نعود نصادفه في حياة ربيبه العلنيّة. وهناك تقليد قديم جدّ اً يذهب إلى أن
يسوع كان له من العمر تسع عشر سنة يوم توفي يوسف. ولا شك أن ما يشعر به قارئ
الإنجيل أن العذراء امرأةُ قد فقدت زوجها. ويسُوغ أن نتصوّرها، في الناصرة، بثوب
الأرامل الضيّق، تحلّ من الغرفة المشتركة في المحل الأوّل الذي يرخّص فيه التلمود
للأرامل من ربّات البيوت.. لقد ذهب ذاك الأب الطيّب، ببساطة من عَرَفَ أن مهمته،
على الأرض، قد انتهت، فأسلم سائر أمره لله.. لقد ذاد عن حياة الطفل، ومهّد للأم أن
تقوم بمسؤوليّات رسالتها الخارقة، فبات في وسعه أن ينشد مع سمعان: ” الآن
تطلق عبدك، يا سيّد!.. ” ولم يكن على خطأ الكتاب المنحول الذي مثل ملاك الربّ
مؤازراَ ذاك الرجل الطيّب في نزاعه الأخير

 

.
وأعظم الظن أن يوسف هو الذي لقنّ يسوع المهنة التي ارتزق بها، في غضون حياته
المتسترة. فقد كان على كل فرد من أفراد الأمّة اليهودية أن يتقن مهنة يدوية، حتى
ولو كان من المنصرفين إلى علم الشريعة: فرابيّ هلّيل كان شقّاق حطب، ورابي شمعي
نجارا. فيسوع قد سعى إلى قوته بعرق جبينه، عملاً بالسُنّة التي فرضت على آدم. وقد
جاء في أحد التعاليم الربينية: ” من لم يلقنّ ابنه مهنة، جعله لصاً!”.
وسوف يقول بولس، فيما بعد: ” من لا يعمل لا يأكل “. وأما مهنة النجارة
فقد كانت تشتمل في الواقع، جميع صناعات الخشب: من سحج عمدان السقوف، إلى صناعة
الأنيار (جمع نير) والمهاميز، وإلى تجهيز الأسرة إلأصونة والمقاعد والمعاجين.. وقد
لاحظ بابيني (كاتب إيطالي معاصر، وضع ” سيرة المسيح ” بعد اهتدائه إلى
الإيمان)، مصيباً، أن الفلاحّ والحدّاد والبناء والنجّار همٍ، بحرَفهم اليدوية،
أكثر العمال اندماجاً في حياة البشر، وأعمقهم نزاهة وتديناً ”

 

. لقد
عاش يسوع عيشة الفقراء. ولاشك أنه سكن بيتا متواضعاً جدّاً شبيهاً بذاك الذي حضر
فيه الملاك إلى مريم، والذي أوى إليه يوسف مع أسرته. وأما طعامه فكان من طعام
الشعب الجليلي، قوامه خبز الحنطة أو الشعير، واللبن الرائب، والخضار، والفواكه،
واللحم في بعض الأحوال النادرة، وكثيراً من الأحيان ” ذاك السمك المقلي الذي
يخصب جسم الإنسان “، على حدّ ما جاء في كلام الرابيين. ويتبّين من مطالعة
الأمثال الإنجيلية، أن يسوع لم يخالط قط الأغنياء وعظماء الأرض. فهو يتكلّم عن
البذخ والترف بما نجده عند الفقراء من نزعة إلى التبسيط. وعندما يأتي، في معرض
أمثاله، على ذكر الدرهم المفقود، فًلا شك أنه يتذكّر والدته، والسراج في يدها،
تبحث في بيتها الفقير، عن قطعة النقود المفقودة، وتطفح بشراً إذا عثرت عليها. حياة
فطرية رائعة يجب ألاّ تغيب عن الأذهان صورتها، عندما يتجلى لنا المسيح، في سناء
مجده، والجماهير زاحفة في إثره..

 

. فمن
تلك البيئة الاجتماعية، بيئة الفقراء.والصيّادين، والكرّامين، والفلاحين، وذوي
المهن اليدوية، استمدّ يسوع تلك الدربة التي يصادفها كلّ منا في مشاركاته مع الناس.
وكان الجليليون من الأقوام الطيّبين، أقلّ تشبّثاً بالشكليّات من يهود اليهودية،
قلوباً صافية، وإن على شيء من الخشونة. وسوف يستعين يسوع بلغتهم وعاداتهم وبكثير
من تعابيرهم التصويرية. ولسوف تبقى، سحابة حياته كلها، واحداً من أبناء الشعب له
من سجايا النبل الفطري، ما يجعله توّاً في مستوى جميع الناس

 

وقد
اتخذ أيضاً دروساً من بلاده، وأرض وطنه الجليل. فلقد كان، ولاشك، في بلدته الصغيرة،
يُعنى -إلى جانب مهنته – بزراعة قطعة من الأرض. وقد جاء، في أحد التقاليد، أنه رعى
الأغنام صبيا. ولسوف نراه، في غضون حياته العلنية، كثيراً ما ينَشد العزلة في
الفلوات، يقضي فيها الليل كله في الدعاء إلى الله أبيه (لوقا 6: 12) وكأنما قد
أصبح التأمل والتوحّد، عنده، عادة مستحكمة، تكتنف النفس، أثناءهما، آلاف من شهود
الغيب، فترقى، بيسر أعظم، مما يطيف بها من روائع الخلق، إلى جمال المبدع الخلاق

 

. من
المشارف التي تطلّ على الناصرة، يكتشف النظر مشهداً رائعاً. هناك سهل عزر يلون
ينبسط انبساطة مديدة بمربّعاته الدكنة والحمراء والغبراء، ومزروعاته الموّارة
بجميع أصباغَ الأخضر. وفي البعد يتلألأ البحر المتوسط بمياهه الفضيّة الزرقاء.
وإلى الشمال، ينتصب حرمون، فوق التلال، بمنعرجاته البنفسجية، وهامته المكلّلة
بالثلوج، بينما طابور، على مسافة أقرب، يتضجع فوق سرير من الخضرة الذاوية، بأردافه
الضخمة، التي كان القديس إيرونيمس يثني على استدارتها المتناسقة. وإلى الجنوب
تنشّق جبال السامرة لتحضن ” عين جنين “، ومفاتنها. وعند سفوح مشارف
المدن العشر، تنفرج الثغرة العميقة التي ترقد فيها بحيرة طبرية، محجوبة عن الأنظار،
يتصاعد منها، بين الفينة والفينة، أبخرة شفّافة

 

. إن
جميع بقعة الجليل تكسوها من الخصب والرُواء ما يتعارض ومشهد الجفاء في أرض
اليهودية. فالآكام فيها لينة، والأرض مريعة، تحجب الجثاء الصخري. والمطر فيها (60
سنتمتراً) أغزر منه في أورشليم، وفي وادي الأردن خصوصاً. لقد كانت أرض الجليل، إذن،
في حياة المسيح، مهبط البشرْ والفرح. فيها درجت طفولته، وانضوت حياته المتسترة
الدائبة، واَنطلقت، فيما بعد، تباشير نجاحه الرسولي. وإنه لمن الأهمية بمكان أن
يكون كتاب الطبيعة قد رافق أعوام نشأته بتلك الهمسات الودية التي سوف يبقى ذكرها
عالقاً في كل صفحة من صفحات الإنجيل

 

من
تلك الأرض انطلق المسيح، ذات يوم من شتاء سنة 27م، وشخص إلى مخاضة ” بيت
عَبرا “، حيث كان ينتظره، مع المعمدان، اعتلان مصيره.. “هو ذا الزارع قد
خرج ليزرع.. (مرقس4: 3). ولكن في أي تربة سوف يقع ذاك البذار؟.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى