علم المسيح

بطرس ومجد الله



بطرس ومجد الله

بطرس ومجد الله

. كان
صيف سنة 29، في حياة المسيح، فترة أسفار خارج الجليل.ففي حزيران، وَفَوْرَ إيابه
من أورشليم، حيث كان قد أبرأ المخلع، انطلق يسوع إلى فينيقية، حيث أعتق ابنة
الكنعانية من الشيطان، ثم بعد أن اجتاز، ولا شك، بقرب صيدون الزاهية في وسط
حدائقها، عَبر الأردن عند جسر” بنات يعقوب “، ليقيم بضعة عشر يوماً، في
بعض مدن الذيكابوليس؛ وفي تلك الفترة تمّت معجزة شفاء الأ صم الأبكم؛ ثم، عند
شاطىء البحيرة، كانت ” معجزة الخبز ” الثانية. وإذ اشتدّ القيظ، شخص
يسوع س صوب الشمال، إلى تلك المنطقة من المشارف المدغلة الرائعة، التي باتت
كالمدارج عند سفوح حرمون

 

.
وكان قد أوفى هناك، عند حدود فلسطين، على بقعة كان يتعذر فيها على كل يهودي، سواء
أكان من أورشليم أم حتى من الناصرة، أن يؤانس فيها ما ألفه من ملامح وطنه.. كان
يقُال، عند العبرانيين، في سالف الأزمان، للدلالة على طرفي أرض الميعاد، شمالاً
وجنوباً: ” من دان إلى بئر سبع “. فهناك كانت مدينة ” دان “؛
وكان اسمها ” لائيش ” في عهد “الأجداد “، فتبدّل اسمها، من
يوم استقرّت قبيلة ” دان ” في ربوعها. فإذا ما اجتاز المسافر رمضاء السهول
المحرقة، وشارف تلك المرابع الخصبة من سلسلة لبنان الشرقية، توهّم نفسه في جنة من
جنان الفردوس. فالنسيم فيها بارد ينحدر من الثلوج الناصعة، المًستقرّة فوق أعطاف
حرمون؛ والمياه كثيرة، فيّاضة، تتدافع تحت الآجام، من صخر إلى صخر؛ وأشجار الحور
واللوز والصفصاف والتين والبطم تختلط في تعانق طريف؛ وفوق ذلك كله يحوم، من
الدفلى، شذا أريج لذيذ

 

. من
البديهي إذن أن يكون الإغريق قد أخذوا بروعة تلك المشاهد، فأوجسوا، من خلال حفيف
الأشجار، وزغردة السيول، الصرخة الأبدية، المنطلقة من أعماق النشوة الوثنية:
” حي، بان الأكبر ”

 

.
هناك، بقرب الفالق السحيق، من حيث تخرج إحدى عيون الأردن، تشُاهد، حتى اليوم،
كُهُوف قد اُ تخذت معابد لإله تلك النباتات المتجددة أبدا.. وقد أطلق على تلك
البقعة،.منذ عهد البلاطسة، اسم بانياس. وقد شيّد هيرودس الكبير، فوق نتأة ضيقة،
شرفة على الينابيع، هيكلاً لأوغسطس، من مرمر أبيض، لا تزال آثاره حتى اليوم. وأمّا
ابنه فيلبس، سيد تلك البقعة، فكًان قد فرغ، منذ قليل، من بناء مدينة أطلق عليها –
تملّقاً- اسم قيصرية. وكان فيلبس يؤثر الإقامة فيها

 

.
” وخرج يسوع وتلاميذه إلى قرى قيصرية فيلبس ” (مرقس 8: 27). ولنلاحظ
-على سبيل الإشارة- دقّة الأداء: فلقد حايدوا قيصرية، لما عاث فيها من مفاسد
الوثنية. وإننا لنجد، في مثل هذه التفاصيل، ما يوثق شهادة الانجيل. هناك، فوق أحد
تلك المشارف، من حيث ينبسط النظر فسيحاً على حرمون الأبيض؛ أو عند ضفة من تلاث
الضفاف التي يهًش لها الأردن – وهو في أول طلعته – مداعبة رمالها الناعمة تحت وطء
القدم العارية؛ هناك انعقد مشهد حاسم تقرّر فيه نهائياً، لكنيسة الغد، بدأ النظام
التسلسلي، الذي كان المسيح قد وضع ركائزه الأولى

 

. فإذ
كان يسوع، يوماً، في حديث مع تلاميذه، سألهم قائلاً: ” من يا تُرى ابن البشر
في نظر الناس؟”. قالوا: ” بعضهم يقولون: إنه يوحنا المعمدان. وغيرهم:
إنه إيليا. وغيرهم: إنه إرميا، أو واحد من الأنبياء “. فقال لهم: ” وفي
نظركم أنتم، من أنا؟”، فأجاب سمعان بطرس وقال: ” أنت المسيح، ابن الله
الحيّ! “؛ أجاب يسوع، وقال له: ” طوبى لك، يا سمعان؛ فإنه ليس اللحم والدم
[اللحم والدم في لغة الكتاب المقدس، كناية إلى الإنسان من حيث هو كائن ضعيف،
متهافت.] أعلنا لك هذا، بل أبي الذي في السماوات. وأنا أقول لك: أنت صخر، وعلى هذ5
الصخرة سأبني كنيستي، وأبواب الجحيم لن تقوى عليها. وسأعطيك مفاتيح ملكوت
السماوات. فكل ما تربطه على الأرض، يكون مربوطة في السماوات، وما تحله على الأرض
يكون محلولاً في السماوات “. ثم أوصى تلاميذه بأن لا يقولوا لأحد إنه المسيح.
(متى 16: 13-20؛ لوقا 9: 18-22؛ مرقس 8: 27 – 30)

 

.
تتضمن هذه الرواية الانجيلية عنصرين أساسين: أولهما اعتراف بطرس، باسم الاثني عشر،
بألوهية المسيح. أجل لم تكن هذه أوّل مرّة تثبت فيها للتلاميذ هويةّ معلههم. فلقد
” سجدوا ” له، مثلاً، بعد معجزة العاصفة، معترفين بأنه ” ابن الله
“. (متى 14: 33) إلاّ أن هذا الإقرار الرسمي قد اكتسى، في هذه اللحظة، خطورة
فريدة. فالمسيح كان قد صادف مقاومة وصَداء؛ وبعض الجمهور، عن مللَ، كان قد أمسك عن
اتّباعه، غيرَ حافل بالمعجزات. وأمّا الرسل، فهاهم ثابتون على إيمانهم، لا يشكّون
فيه ولا يمارون. ولا بدع، فقد كان عليهم أن يحملوا الى العالم بشرى الماسوية. ولكن
ليس على الفور، ولا في هذا البلد الذي طغت فيه الوثنية، وباتت فيه النفوس مضعضعة..
هذا، وكانوا هم أنفسهم بحاجة إلى أن يستوعبوا فهم تلك الماسوية، قبل أن يبثوها في
الناس. ولذا فقد تقدّم!ليهم يسوع بالتزام الصمت، بل راح، بعد فترة يسيرة، يخبرهم
باستشهاده!.

 

.
وإنما يبقى أنهم وحدهم حملة تلك الرسالة ” وأعوانها “.. وأما العنصر
الآخر، من مؤدّيات هذا النص، فلا يقلّ أهمية عن الأول: وهو انتداب بطرس زعيماً على
التلاميذ، وذلك في أسلوب بليغ جدّ آَ. فالاستعارة التي كان المسيح قد عمد الى
استعمالها (يوم استبدل اسم ” سمعان ” بلفظة ” كيفا “، عند
لقائهما الأول) باتت، هذه المرّة، واضحة مبيّأ..، لا نعلم هل كانت لفظة ”
كيفا ” – قبل أن يعمد إليها المسيح – من الأعلام المتداولة في العبرية

 

: من
النُقّاد ” المتحررين ” من شكّوا في صحّة هذه الايات، مستندين، في ذلك،
إلى أنها لم تدرج إلاّ في إنجيل متى؛ وذهبوا إلى أنها قد دُسّتْ في النص، على يد
النَقلَة، في العهد الذي أمست فيه الكنيسة واقعاً تاريخياً وباتت بحاجة إلى تدعيم
السلطة البابوية، بالأدلة الكتابية. الاّ أنّ هذا التزييف ليس له أثر، ولا في
واحدة من النسخ القديمة التي نملكها من انجيل متى؛ لا بل اننا نجد تلك الآيات في
جميع المخطوطات، وفي أقدم القراءات.. هذا، وقد اجتمعت آراء جميع الإخصائيين -مع
-الأب لاغرانج – على أنه ليس في الأناجيل الأربعة ما هو أشد رسوخاً في الآرامية،
من هذا النص، من حيث تعابيره، واستعاراته، وتراكيبه.. فنحن نجد فيه، فضلاً عن
استعمال الجناس (في لفظتي صخر وصخرة)، عدّة تعابير ثابتة الانتساب إلىَ التقاليد اليهودية.
فلفظة ” الأبواب “، مثلاً، كان قد عمّ استعمالها، منذ الجيل الرابع قبل
المسيح، للدلالة على ” قوى الجحيم “. وامّا الإشارة إلى ” المفاتيح
“، فهي أرسخ في السامية. ويشاهد، حى اليوم، عند العرب، من الملاّكين، من يحمل
رزمة من المفاتيح الضخمة فوق منكبيه، تباهياً. وقد ورد في أشعيا (22: 22)، عن رئيس
خدّام الملك، أنه يحمل مفتاح بيت داود على كتفه، وأنه ” يفتح فلا يغلق أحدٌ،
ويغلق فلا يفتح أحد “. وأمّا ” الحلّ ” و” الربط ” –
بالمعنى الذي رمى إليه المسيح – فقد كان استعمالها شائعاً، عند علماء الناموس؛
ويعرف عن رابي نكنيا – وقد جاء ثلاثين عاماً بعد المسيح – أنه كان يختم تعليمه،
بقوله إلى اللّه، مبتهلاً

 

.
” لا تحلّ ما أربطه، ولا ترْبط ما أحله! ولا تنجّس، اللهم، ما أطهّره ولا
تُطهّر ما أْنجّسه! ”

 

. لا
يسعنا إذن أن نتخذ ” صمت ” الإنجيلييَن المؤتلفين الآخرَين، حجةً على
بطلان تلك الايات الخطيرة. ولئن تحتم إلغاء جميع النصوص التي يتفرّد بها إنجيليّ
دون الآخرين، لذهب كثيرٌ من أروع ما أثر عن المسيح. ولا شك أن الهوى والتحيّز
لهُما، في هذه القضية، شأن كَبير! فليس هناك أسباب أدعى إلى الشك في صحة هذا النص
منها في صحة الإنجيل كله

 

: لقد
برز بطرس، من بين سائر الرسل، فآثره المعلّم بشرف تأييده في ما صرحّ به من أن يسوع
هو ” المسيّا”، وبشّره بأنه سوف يولىّ زعامة التلاميذ، باكورة الأسرة
المسيحية. ولقد استحق أولئك المؤمنون من بين المؤمنين، الذين لازموا المسيح، يوم
فارقه ضعاف الإيمان، في إثر كلامه عن ” خبز الحياة “، أن ينفذوا إلى
معرفة أعماق السرّ الماسوي.. ” ومنذئذ شرِع يسوع يبين لتلاميذه أنه ينبغي له
أن يمضي إلى أورشليم ويتعذب كًثبراَ من قبل الشيوخ ورؤساء الكهنة والكتبة، وأن
يقُتل ويقوم في اليوم الثالث ” (متى 16: 21 – 22؛ مرقس 8: 31-33؛ لوقا 9:
22). وكان ذلك أوّل إنباء بالآلام، وأوّل تحذير حاسم للرسل، ألاّ ينظروا إلى
” الماسويةّ ” نظرة الرعاع من اليهود، وألاّ يتوسّموا فيها بشرى استعادة
الملك الزمني، وأمجاده العابرة. فأن تكون تلك الأقوال قد بعثت في قلوب أولئك
البسطاء رُعباً وقلقاً فذلك واقعٌ لم يستره الإنجيل: فإن بطرس، ساعتها، اجترأ على
معلّمه بالاحتجاج، فاجتذبه إليه وطفق يزجره بقوله: ” معاذ الله، يا رب، لا،
لن يكون ذلك البتة! “، وكانت عاقبة ذاك الاحتجاج جواباً صاعقاً

 

.
” إذهب خلفي، يا شيطان! “. لقد أنبأ يسوع إذن بالفاجعة، ولسوف ينبىء بها
مراراَ؛ بيد أن ذلك لن يعصم الرسل، يوم وقوعها، من أن تدهم نفوسهم دواهم الذهول
والذعر واليأس

 

ولكن
ألمْ يكن المسيح، ساعة أنبأ بموته البشري، قد صرّح بأن الموت لن يكون سوى مرحلة
عابرة، يعقبها فجر الانتصار؟.. ” ولسوف يأتي ابن البشر في مجد أبيه مع
ملائكته، وعندئذ يجازي كل أحد بحسب أعماله ” (متى 16: 27؛ لوقا 9: 26؛ مرقس
8: 38). بل أوَ لم يكن قد صوّر لهم تصويراً دقيقأ، في كشفٍ إلهي، ما سيكون ذاك
الرجوع؟

 

. لقد
كان ذلك حوالي ثمانية أيام، بعد اعتراف بطرس بألوهية يسوع، أي ستة أيام كاملة،
بحسب توقيت اليهود. فقد أخذ يسوع بطرس ويعقوب ويوحنا أخاه إلى جبل عال، على حدة.
وفيما هو يصلي تغيرّ منظر وجهه، وصارت ثيابه بيضاء ساطعةً، حتى لا يستطيع قصّار
على الأرض أن يبيّض مثلها. وإذا برجلين – موسى وايليا- يخاطبانه. وكانا يتحدّثان
عن موته الذي سيقاسيه في أورشليم. وكان بطرس ورفيقاه قد ثقلت عليهما وطأة النعاس.
وإذ لبثوا، مع ذلك، مستيقظين، شاهدوا مجده، والرجلين القائمين معه. إذ ذاك صاح
بطرس قائلاً – وهو يكاد لا يعي ما يقول: ” يا معلّم، إنه لحسن أن نكون ههنا،
فنصنع ثلاث مظال، واحدة لك، وواحدة لموسى، وواحدة لإيليّا “. وفيما هو يتكلّم
أقبلت غمامة، وظلّلت الجميع. فاستحوذ الذعر على التلاميذ، وانطلق من الغمامة صوت
يقول: ” هذا هو ابني الحبيب، فله اسمعوا! “. وللحال نظروا إلى ما حولهم،
فلم يبصروا بعد أحدأ معهم سوى يسوع وحده. وفيما هم نازلون من الجبل، أوصاهم ألاّ
يخبروا أحداً بما رأوا، إلاّ متى قام ابن البشر من الأموات. فحفظوا الوصية
متسائلين في ما بينهم: “ما معنى: متى قام من بين الأموات؟ ” (متى 17: 1
– 8؛ مرقس 9: 2 – 8؛ لوقا 9: 28-36)

 

.
مشهد تجلّله روعة من رؤى الغيب. وكل الفنانين الذين حاولوا استيحاءه، عبر العصور،
وتمثيلَه في شتىّ أشكال الأداء، قد أبرزوا هلع أولئك الرجال الثلاثة الذين تكشّف
لهم مجد الله. ولم يكن لأيّ واحد من ” تجلّيات ” الله، في العهد القديم،
-وحتى في طور سيناء- مثل هًذا السناء المتألّق، وهذه السكينة العجيبة. وقد أتى وصف
المشهد، الى ذلك، غايةٌ فيَ الصدق والنزاهة: فنحن نراهم -أولئك الثلاثة- وقد أثقل
النعاس جفونهم، بعد صعودهم الطويل الجاهد في الجبل، وباتوا يفركون عيونهم
متسائلين: أفي يقظة هم أم فيَ منام؟ ونفهم حق الفهم ذاك الرجل الطيّب -بطرس -، وقد
استطير لبهّ من الدهش والغبطة، فهبّ يعُرب عن مشاعره بما ذكرناه من أقوال مؤثرة، قد
لا تخلو من بعض السذاجة

 

!
وأمّا مغزى تلك الرؤيا فهو غايةٌ في الوضوح: فقد كان الرسل، حتى ذاك، قد آمنوا
بالمسيح لأنهم سمعوا كلامه، وعاينوا آياته؛ ولكنهم ما كانوا بعد قد شاهدوه ”
وجها إلى وجه “، كا شاهد الله موسى في طور سيناء. وقد ورد في ” أعمال
يوحنا ” – وهو من الكتب المنحولة- ” حديث ” عن المسيح، أنه قال:
” لم أكن أبدو ما كنتهُ، ولست ما أبدوه! “. أجل، لقد كان سرّ المسيح
مطويّأ عن الناس

 

. لقد
تجلىّ يسوع أمام أولئك الئلاثة وحدهم (1). وأمّا في سائر أحوال حياته، فكان
انساناً كالناس. وما قيل عن المسيح، في كتاب منحول آخر، من أن نور الله كان يغشاه،
أثناء رقاده، فهو، ولا شك، زعم باطل! هناك، على قمة الجبل، تجلى المسيح! أو قل،
بتعبير أصح، إنه ” تحوّل “؛ وهي اللفظة الواردة في النص اليوناني؛ وقد
عمد إليها الرسول بولس، في رسالته الثانية إلى الكورنثيين، للتعبير عن سنى أولئك
الذين سوف ” يتحوّلون إلى صورة المسيح بعينها، ويعكسون، فيَ وجوه سافرة، مجد
الربّ! ” (2 كو 3: 18). ولسوف يستشهد الرسل – وبطرس في طليعتهم – بتلك
الرؤيا، ويبرزونها حجةً دامغة، وركيزة من ركائز إيمانهم. ولقد عرف التاريخ ظاهرات
من هذا النوع قد تركت في أصحابها مثل هذا الأثر الحاسم: من ذلك رؤيا بولس، على
طريق الشام ا

 

.
وحادثة ” التجليّ “، بموقعها المقصود، في أعقاب نبوءة المسيح الأولى
بآلامه، وبما جاء فيها من إشارة واضحة إلى تلك الآلام، قد قذفت في نفوس الرسل
يقيناً سوف تنكشف لهم معالمه، جليّة، في مستقبل الأيام. لقد تساءلوا فيما بينهم:
” ما معنى قوله: عندما أقوم من بين الأموات؟ ” أجل، سوف يفهمون!.. قال
البابا لاون الكبير – وهو من أقطاب اللاهوت، في القرن الخامس – ” إن المسيح،
بتجلّيه إنما أراد أن يستأصل – سلفاً – من نفوس الرسل، ” عثرة الصليب “.
ألعلهم ذكروا تلك الصبيحة المشرقة، أولئك الرسل الثلاثة، ليلة كانوا في بستان
الزيتون، وقد رزح النعاس بأجفافهم، ففاتهم شهود ذاك السرّ الآخر، وذاك الحوار
القائم بين يسوع والقدرة الإلهية. أمّا الموضع الذي جرت فيه حادثة التجليّ، ففيه
جدال. فهناك جبلان يتنازعان حقّ التشرّف بها؛ وقد ورد اسمهما في المزمور القائل:
” ثابور وحرمون باسمك يتهلّلان ” (مز 89: 13). فهناك تقليد قديم جداً
يرقى، ولا شك، الى القرن الرابع، ويشير إلى ثابور، تلك الهضبة المكوّرة الجرداء
التي تنتصب، وحيدة، وسط الجليل، وتقوم فوقها اليوم الكنيسة الجميلة التي شادها
الفرنسيسكان تذكاراً للتجليّ. وإنما يعترض على ثابور أن ارتفاعه لا يتجاوز 562
متراً، وأنه، من ثم، لا يتناسب وتلك العظمة الشامخة التي يوحي بها جبل التجليّ في
الإنجيل. أجل، إن المشهد ينبسط، رائعا، أمام عين الناظر من قمته: فهناك التلالُ
المتجعّدة، ووادي الأردن ببطاحه الفسيحة، وجبالُ جلعاد شرقاً، ولألاء المتوسّط
غرباً. وأمّا قمة الجبل فهي ناصية ضيقة وعرةٌ، تغشاها أشجار العرعر وتكدّها الرياح
كدّاَ متواصلاَ. أجل، إنها قد تتلاءم وروعة ذاك المشهد الغيبي؛ وإنما يبقى أن
حامية رومانية كانت، في عهد المسيح، ترابط في قلعة قائمة هناك؛ ويبقى أيضا أن تلك
القبّعة الجاثمة بين السنابل – وحسبنا نظرةٌ إلى إحدى صورها – لا يمكن أن توازى
بسيناء موسى، فتفترض موقعاً لتلك الرؤيا الخارقة.. ولذا فقد توجّهت الأفكار،
مراراً، الى حرمون، وهو قريب من قيصرية فيلبس، حيث عرّج يسوع فترة قُبَيلْ التجلي..
حرمون، بكر الجبال – على حد ما جاء في آية ربينية – يبلغ إرتفاعه 280. متراً، ومنه
يمتد النظر الى أبعد وأفسح، إلى صحراء سورية، والشواطىء الفينيقية، بل إلى أرض
الميعاد بأسرها، ويتاح لمتأمل في مشاهده، أن يجمع في نظرة واحدة، وطن اليهود وبقاع
الأمم الوثنية.. يصُعد اليوم إلى ناصية الحرمون الأكبر، في ست ساعات، وينُحدر منه
في أربع؛ والواقع أن يسوع وأصدقاءه الثلاثة لم يعودوا منه إلاّ في اليوم التالي،
وفيَ ذلك إيماء الى طول الرحلة. ومهما يكن من أمرٍ، فالإنجيليون لم يُعنوَا بهذه
المشكلة الزهيدة. فالحدث الجوهري يبقى هو هو، سواء أجرى في ثابور أم في حرمون.
ويبقى أن العقل يذهل حائراَ، إذا تأمّل صورة ابن الإنسان، وقد تألّق فيها مجده
الإلهي، في سنى صبيحة من صبائح آب

 

.
وأمّا تتمة الأحداث التي واكبت عودة يسوع إلى السهل فتبدو مغمورة بذاك الضياء
السني. فشفاء الغلام ” المصروع ” الذي كانت قد أخفقت فيه قدرة الرسل
(لوقا 9: 37-43؛ مرقس 9: 14 – 29؛ متى 17: 14 – 21)؛ وذاك الدرس الرائع الذي أتخف
به أصدقائه، ساعة احتضن طفلاً وقال: ” إن لم ترجعوا فتصيروا كالأولاد، فلن
تدخلوا ملكوت السماوات ” (متى 18: 3- 4)؛ وسائر التعاليم التي والى إلقاءها
فيَ ضرورة المحبّة الكاملة، كل ذلك، على خطورته، بدا -! نظر التلاميذ – أخفّ سيطرة
على العقلٍ من ذاك الكشف المزدوج الذي أوثروا به، والذي باتت قلوبهم مضعضعة من
جرّائه. فهم يستفسرون المعلّم عما جرى أمامهم، ويستوضحونه الغرض، من وجود إيليّا
في تلك الرؤيا، ذاك الذي كانت رجعته، في نظر اليهود، علامة من علامات الأزمنة
الماسوية؛ فيجيبهم، -مستعيناً بالتشبيه – أن إيليّا قد جاء فيَ شخص المعمدان، كما
ورد في النبوءات؛ وأنه كما تعذّب المعمدان، لا بدّ للمسيح أيضاً من أن يتألم
ويموت. (مرقس 9: 10 -13؛ متى 17: 9 – 13). أفدائماً ذاك النبأ المروّع، وذاك الخطر
المتوعّد؟.. وما باله يردّ د على مسامعهم، بعد ذاك الوعد المنظور بالملُك السنيّ،
نبأ العذاب والاستشهاد؟ وما باله، للمرّة الثانية، قبل أن يغادر الجليل، يكرّر لهم
تلك النبوءة المشؤومة: أن الزمان قد اقترب، وأنه لا بدّ من الشخوص إلى اليهودية،
والصعود إلى المدينة التي سوف تكون مذبح ضحيتّه! ولقد ظلّ هؤلاء الرجال – طلائع
المسيحين – على التنكّر لتلك الحقيقة الحاسمة، إلى يوم وقعت الكارثة، وأنجز الطاغي
جريمته، فاتضح لهم ما كان قد استغلق على أفهامهم، من كلام المسيح؛ ووُلدت الكنيسة،
آن ذاك، من دم المسيح

 

. كان
يقول لهم: ” إن ابن البشر سيُسلم إلى أيدي الناس، فيقتلونه، وفي اليوم الثالث
يقوم “. غير أنهم لم يفهموا هذا الكلام، بل لبث مستغلقاً عليهم، ولم يدركوه!
وهابوا أن يسألوه قي هذا الشأن ” (مرقس 9: 30؛ متى 17: 21-22؛ لوقا 9: 44-45)

 

. (1)
يحتل بطرس ويعقوب ويوحنا، الرتبة الأولى. ولقد قارن الأب دانييلو وضعهم بوضع مجلس
الجماعة الأسينية، وكان مؤلفاً من 12 شخصاً، وثلاثة كهنة، وربما كان هؤلاء الثلاثة
من جملة الأثني عشر

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى