علم التاريخ

ثانياً: “الله” كما ظهر لإسرائيل في العهد القديم



ثانياً: “الله” كما ظهر لإسرائيل في العهد القديم

ثانياً:
“الله” كما ظهر لإسرائيل في العهد القديم

الله
القدير:

العهد
القديم كله يُبرز الله قادراً على كل شيء، قدرة لا نهائية ممتدة على طول المدى
والزمن، لا يحدّها فكر الإنسان ولا تضبطها أو تقيسها أية قوة أخرى. فالله يأخذ صفة
القادر أخذاً مطلقاً لتصير له هذه الصفة اسماً، فهو “القدير” “وقال له أنا
الله القدير
” (تك 1: 17). ولكن العهد القديم يوضِّح في نفس الوقت كيف
يمكن التنبُّؤ دائماً بما سيعمله الله، فقدرة الله بالرغم من أنها فائقة فهي
معقولة ومنطقية، لا تتعارض أبداً مع أمانته أو تخالف محبته أو تتجاوز رحمته!

+
“الرب بطيء الغضب وعظيم القدرة ولكنه لا يبرِّئ البتة.. صالح هو الرب، حصن في يوم الضيق، وهو يعرف المتوكلين عليه.
ولكن بطوفان
عابر يصنع هلاكاً تاماً
(لموضعها) وأعداؤُه يتبعهم ظلامٌ” (نا
1: 3و7و8)

فأعمال
الله كلها فائقة على كل ما يتصوره الإنسان، ولكن بالرغم من ذلك يستطيع الإنسان أن
يثق فيها ولا يخاف منها، بل ويمكن أن يعتمد عليها وينتظرها ويتعامل معها، فيتحقق من صدقها ودقتها، فتبدو مبدعة قدر ما هي
مخيفة:

+
“الله لنا ملجأ وقوة، عوناً في الضيقات وُجِدَ شديداً” (مز 1: 46)

+
“اذبح لله حمداً وأوفِ العلي نذورك. وادعني في يوم الضيق أنقذك
فتمجِّدني” (مز 50: 14و15)

الله
كقانون ثابت ومؤتمن:

كما أن الله لا يتغيَّر قط في كل ما يقول وفي كل ما يعمل
وفي كل

تصرفاته يبقى دائماً هو كما هو، فيستحيل أن يصبح عنده الشر خيراً أو الخير شرًّا:

+
“هي تبيد وأنت تبقى. وكلها كثوب تبلى كرداء تغيِّرهن فتتغيَّر. وأنت هو
وسِنُوكَ لن تنتهي” (مز 102: 26و27)

لذلك
فهو ضابط لقانون النتائج الذي لا يمكن أن يفلت منه إنسان أو شعب أو دولة، فالذي يزرع الشر يحصد شرًّا، والذي
يزرع الريح يحصد
الزوبعة:

+
“إنهم يزرعون الريح ويحصدون الزوبعة” (هو 7: 8)

+
“حرثتم النفاق، حصدتم الإثم، أكلتم ثمر الكذب” (هو 13: 10)

على
هذه الأسس كان يتنبأ الأنبياء ولا يخطئون قط، لأن الله في نظرهم قبل كل شيء
“قانون” “ليس فيه ظل دوران” يستطيعون أن يقيسوا عليه الحوادث والنتائج، يتتبعونها ويفسرونها ويعلِّلونها
دون أن تسقط كلمة
واحدة:

+
“فأجابني الرب وقال: اكتب الرؤيا وانقشها على الألواح لكي يركض قارئها، لأن
الرؤيا بعدُ إلى الميعاد وفي النهاية تتكلَّم ولا تكذب. إن توانت فانتظرها لأنها
ستأتي إتياناً ولا تتأخَّر” (حب 2: 2و3)

وقد
أثبتوا بنبواتهم التي تمَّت في حينها وتمَّت بكل حذافيرها أن الله قد استُعلن
فعلاً كقانون ثابت أمين لا يخلّ ولا يحيد، وهذا ما عبَّر عنه المسيح: “وقلت
لكم الآن قبل أن يكون حتى متى كان تؤمنون!!
” (يو 29: 14) فتحقَّق الإنسان من ذلك أنه استؤمن فعلاً على
سر الله وصار عالماً بالله دارياً بكل أحكامه كاشفاً صفاته وأعماقه، قادراً أن
يتنبأ عن أعماله بيقين وذلك نتيجة لثبوت حقيقة معاملات الله وصفاته كقانون:

+
“إن السيد الرب لا يصنع أمراً إلاَّ وهو يعلن سرَّه لعبيده الأنبياء”
(عا 7: 3)

+
“فإنه هوذا الذي صنع الجبال وخلق الريح وأخبر الإنسان ما هو فكره”
(عا 13: 4)

الله
يسخِّر قوانين الطبيعة لتهذيب الإنسان:

لقد
استُعلن الله كخالق الكون بكافة مخلوقاته الذي يضبط كل قوانينه، يتحكَّم في الحر
والبرد والرياح والمطر والزلازل والبراكين، ولكن ليس بقانون تحكمي مطلق منفرد.
فالإنسان يدخل مشاركاً مع الله في مسئولية تطبيق هذه القوانين في العالم وعلى كل
المخلوقات التي فيه، فإن شر الإنسان يجعل الأرض الخضراء المثمرة قفراً، وصلاح
الإنسان ومخافته لله يحوِّلان القفار إلى جنة:

+
“يجعل الأنهار قفاراً، ومجاري المياه مَعْطَشة، والأرض المثمرة سبخة، من شر
الساكنين فيها. يجعل القفر غدير مياه، وأرضاً يابسة ينابيع مياه.. ويعلي المسكين
من الذل ويجعل القبائل مثل قطعان الغنم، يرى ذلك المستقيمون فيفرحون، وكل إثم يسد
فاه. مَنْ كان حكيماً يحفظ هذا ويتعقَّل مراحم الرب” (مز 107: 3335،
4143)

وطاعة
الإنسان وخضوعه لوصايا الله تسخِّر له قوى الطبيعة لنضج الثمار وتكاثر الحيوان
وتوفر المحصولات كأفضل ما يكون، دون أن يمسها مرض أو وباء أو الحشرات المفسدة:

+
“وإن سمعت سمعاً لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه، مباركاً تكون في
المدينة ومباركاً تكون في الحقل، ومباركة تكون ثمرة بطنك وثمرة أرضك وثمرة بهائمك.. مباركة تكون سلَّتك ومعجنك، مباركاً
تكون في دخولك ومباركاً تكون في خروجك.
(تث 28: 114)

ولكن
العقوبة مُشهَرَة في وجه الإنسان، إن هو حاد عن الطاعة لله، فالطبيعة تنقلب كلها
عدوَّة له: يزرع ولا يحصد، وتقف الوحوش والحشرات والأمراض له بالمرصاد:

+
“ولكن إن لم تسمع لصوت الرب إلهك لتحرص أن تعمل بجميع وصاياه وفرائضه التي
أنا أوصيك بها اليوم، تأتي عليك هذه اللعنات وتدركك. ملعوناً تكون في المدينة
وملعوناً تكون في الحقل.. يرسل الرب عليك اللعن والاضطراب والزجر في كل ما تمتد
إليه يدك لتعمله حتى تهلك وتفنى سريعاً من أجل
سوء أفعالك، إذ تركتني.” (تث
28: 1568)

وقد
استخلص الأنبياء بصورة قاطعة أن القانون الطبيعي مرتبط بالقانون الأخلاقي في حكم
الله عامة، وفي مملكة إسرائيل بنوع خاص، ولا يقف أحدهما بمعزل كلي عن الآخر، والله
يضبط العالم بمعيار مادي وروحي فائق يتناسب مع صلاح الله الشخصي، وفي نفس الوقت
يتوافق مع تأديب الإنسان ونموه. وكان هذا التهذيب والتأديب الإلهي بواسطة تطبيق
نواميس الطبيعة المادية على حياة الإنسان بمثابة الدرس الأول الذي تلقَّاه الإنسان
الطفل الممثَّل في شعب إسرائيل، تمهيداً لتطبيق نواميس الروح على الإنسان الناضج
الممثَّل للروحانية، مما يتمشَّى مع التطور المطلوب للإنسان من حياة حسب الجسد
لحياة حسب الروح!!!

الله
يصنع التاريخ:

الله
يتحكَّم في علائق الشعوب ومصائرها دون أن يتأثَّر بشرِّها أو ينزل إلى مستوى
عراكها. فالأُمم تظن أنها حرة، وبقوتها تصنع نجاحاتها وتاريخها. ولكن الحقيقة هي أن
الله جعل الأُمم عصا تأديب بعضها لبعض، وهو يستخدم حركتها ليظهر بها تأديبات
مشيئته ويتمِّم بها مراحم عمله دون أن يكون مسئولاً عن شر أشرارها وقبائحهم:

+
“أشور قضيب غضبي والعصا في يدهم هي سخطي، على أُمة منافقة أرسله وعلى شعب
سخطي (إسرائيل المغضوب عليها) أوصيه ليغتنم غنيمة وينهب نهباً ويجعلهم (بني
إسرائيل) مدوسين كطين الأزقة!! فيكون متى أكمل السيد كل عمله بجبل صهيون
وبأُورشليم، إني أعاقب ثمر عظمة قلب ملك أشور وفخر رفعة عينيه، لأنه قال بقدرة يدي
صنعت، وبحكمتي، لأني فهيم. ونقلت تخوم شعوب ونهبت ذخائرهم وحططت الملوك كبطل-
(ولكن) هل تفتخر الفأس على القاطع بها؟ أو يتكبَّر المنشار على مردِّده؟ كأن
القضيب يحرِّك رافعه؟
” (إش 10: 513)

فبقدر
ما تخضع الشعوب لله تستفيد من مراحم مشيئته، فإن هي اعتزت بنفسها انكسرت وانقلب
عزُّها ومجدها إلى تمزُّق وهوان!

حتى
تحركات الشعوب وهجرة الأجناس يضبطها الله لتسير وفق مقاصده العليا، فليست إسرائيل
وحدها هي التي أخرجها الله من مصر، فهو أخرج الفلسطينيين أيضاً من مواطنهم الأُولى
والسوريين من “قير”:

+
“ألستم لي كبني الكوشيين يا بني إسرائيل، يقول الرب، ألم أُصعد إسرائيل من مصر والفلسطينيين من كفتور والأراميين من
قير” (عا
7: 9)

الله
يحكم على الشعوب وحكمه مطلق، ولكنه يصدره مضبوطاً بمبادئ ثابتة وعلى قياس يمكن
إدراكه على طول المدى. الله أطلق الحرية الكاملة للملوك ورؤساء الشعوب ليتصرَّفوا
كما يشاءون، ولكنه يحاكمهم على كل ما يقترفونه من ظلم أو شر، ثم يحوِّل ظلمهم إلى
تأديب وشرهم إلى تهذيب. ولقد يبدو أن كل أُمة حرَّة في ذاتها تتحرك لتصنع تاريخها
الخاص، ولكن الحقيقة أنه لا تستطيع أُمة أن تتحرك دون أن يكون تحركها ذا تأثير على
غيرها وعلى حركة التاريخ كله، والله يوجِّه جميع تحركات الأُمم نحو غاية يتجه لها
التاريخ صاغراً وبإحكام.

قد يبدو أن بعض الدول الكبرى تتسلَّط على مصائر الدول
الصغرى، وكأنما أطماع البشرية تحرِّك التاريخ العام وتصنعه. ولكن الحقيقة أن تاريخ
العالم لا يمكن أن يتحكَّم فيه إنسان أو شعب، فالتاريخ ينبثق من إرادة الله من
مصدر واحد ويتجه نحو غاية واحدة. وهو وإن كان في مسيره يتأثَّر بكافة التحركات
الطيبة والشريرة، إلاَّ أنه على المدى الطويل تظهر فيه إرادة الله كيد جبَّارة
تستخدم الطيب والشرير من الحوادث والأشخاص والحكومات لتصنع من الجميع مصيراً
موحَّداً لشعوب الأرض طرًّا، ينسجم مع إرادة الله وينطق في النهاية بأن الله،
والله وحده، هو صانع التاريخ، لأنه هو صانع الإنسان!!

+
“أنا نبوخذنصَّر، رفعت عينيَّ إلى السماء فرجع إليَّ عقلي، وباركت العلي
وسبَّحت وحمدت الحي إلى الأبد، الذي سلطانه سلطان أبدي وملكوته إلى دور فدور.
وحسبت جميع سكان الأرض كلا شيء، وهو يفعل كما يشاء في جند السماء وسكان الأرض. ولا
يوجد مَنْ يمنع يده أو يقول له ماذا تفعل؟
” (دا 4: 34و35)

الله
بداية ونهاية كل شيء- ولكن البداية زمنية والنهاية روحية:

بما
أن الله هو الخالق للكون وكل الخليقة، فبداية كل شيء كائنة به، كذلك بالضرورة صارت
نهاية كل شيء هي أيضاً كائنة ومنتهية إليه!! “أنا الألف والياء، البداية
والنهاية، الأول والآخر
” (رؤ 13: 22). لذلك كما كان
لكل شيء بداية، كذلك حتماً سيكون لكل شيء نهاية، وقد أعلن الله أنه هو البداية والنهاية معاً. لذلك فكما أن الخليقة
والكون وكافة المصنوعات أظهرت
لنا الله وأعلنت لاهوته، كذلك فإن الآخرة
ستكمِّل لنا إعلان الله وتظهره:

+
“أمَّا أنا فقد علمت أن وليَّ حيٌّ، والآخر على الأرض يقوم. وبعد أن يفنى
جلدي هذا، وبدون جسدي أرى الله” (أي 19: 25و26)

نهاية
الأمور والحوادث لها مظهران: مظهر زماني يتعلَّق بالحاضر الزمني والمستقبل الزمني،
ومظهر غير زماني يتعلَّق بنهاية العالم. وفي المظهر الزماني يتحكم الله ويعلن
سيادته عن طريق تحكُّمه على قوانين الطبيعة، لذلك صار من السهل على الإنسان إدراك
نهاية كافة الأمور والحوادث، لأن كل ما يتحكَّم فيه الله عن طريق سيادته على الطبيعة
يتبع حتماً منطق الحق والمعقول، فيدخل ضمن مقدور فهم الإنسان وتقديره:

+
“قد رأيت الشرير عاتياً وارفاً مثل شجرة شارقة ناضرة، عَبَر فإذا هو ليس
بموجود والتمسته فلم يوجد!!
” (مز 35: 37)

أمَّا
المظهر غير الزماني للحوادث والأمور والأشياء التي في العالم فهي تتبع قانون
الأخرويات التي تتعلَّق مباشرة باستعلان الله نفسه كنهاية لكل شيء، لذلك فهي فوق
المنطق المعقول بل وفوق الحق المتفق عليه، ولا يستطيع الإنسان أن يدركها إدراكاً
معقولاً بأي حال من الأحوال، إنما يستطيع فقط أن يحسَّها كرؤيا مبهمة “أراه
ولكن ليس الآن، أبصره ولكن ليس قريباً
” (عد 17: 24). وغالباً ما تكون الرؤيا غير معقولة أبداً وغير
مصدّقة إطلاقاً على أساس قياس المنطق ومجريات الأمور الحاضرة. فمثلاً يقول عاموس
النبي:

+
“ويل للذين يشتهون يوم الرب. لماذا لكم يوم الرب؟ هو ظلام لا نور” (عا
18: 5)

هنا
يوضِّح النبي الالتباس الحاصل في المفهوم الشعبي لحقيقة يوم الرب، أي ملكوت الله،
فقد ترجوه كنهاية على مستوى زماني كما يترجون نهاية بقية الحوادث والأمور، فخلطوا
بين طبيعة الأشياء المادية وطبيعة الله نفسه، لذلك انتظروا استعلان ملكوت الله على
مستوى مملكة زمانية سياسية وطنية، بل وعنصرية أيضاً تشبع أطماعهم. في حين أن
استعلان ملكوت الله سيكون على أساس روحي صرف وأخلاقي مبكِّت وفاضح، لذلك شبَّهه
نفس النبي هكذا: “كما إذا هرب إنسان من أمام الأسد فصادفه الدب، أو دخل البيت
ووضع يده على الحائط فلدغته الحية، أليس يوم الرب ظلاماً لا نوراً، وقتاماً ولا
نور له؟ ” (عا 5: 19و20)، حيث الهروب من الأسد يمثِّل هذه الحياة الدنيا
والوقوع في مخالب الدب يمثِّل الحياة الأخرى بالنسبة للخاطئ. وذلك طبعاً بالنسبة
للذين يطلبون مجيء الرب ومجيء ملكوته وهم خطاة على أساس تكميل شهوات وملذات زمنية.

لقد
ظن شعب إسرائيل أن مجيء يوم الرب على أساس زمني كنهاية لزمن وبداية لزمن آخر، حيث
يكون فيه تحطيم أعدائهم الذين ضايقوهم ونهاية كل تجبُّر الأُمم، حيث يخضع الكل تحت
سلطان مملكة إسرائيل بعنق العبودية والمذلة، حتى نظام العالم نفسه سيخضع لهم حينما
يعلن الله مجده لهم. وبسبب هذه النظرة الخطرة المزيفة نحو نهاية الأمور والحوادث
والعالم، انبرى الأنبياء لتخطئة هذه النظرة بعنف وشدة، وأكَّدوا لهم أن نهاية
الأمور الزمانية هو بعينه استعلان الله نفسه، واستعلان الله يستحيل أن يكون إلاَّ
على المستوى الأخلاقي الكامل واستعلان الحق الروحي الذي سيدين به إسرائيل نفسها-
قبل أعدائها، الذي بمقتضاه وعلى نوره ستُحاكَم كل نفس على كل الشرور والقبائح
والعادات النجسة التي اقترفتها، فيصير يوم الرب يوم خراب وليس يوم خلاص لها.

فالله
أعلن قانونه الأخلاقي الروحي على مستوى الزمان الحاضر عند بداية الأمور وبداية
التاريخ وعلى سير الزمن يوماً فيوماً، وجعل له هنا عقوبة وقصاصاً جزئياً لكل مَنْ
يخالفه، وأقام من قوانين الطبيعة حارساً ومنتقماً، فكم وكم يكون مرعباً هذا
القانون الأخلاقي الروحي عندما يُستعلن، لا على مستوى الزمن والطبيعة، أي
بالتأديبات الجسدية والمادية، بل على مستوى ظهور
الله نفسه كنهاية لكل أعمال الناس وسلوكهم بتأديبات روحية غير
مادية؟

الله
رب الناموس الأدبي:

الناموس
الأدبي يعبِّر عن إرادة الله وطبيعته، فإن كان الله قد خصَّ شعب إسرائيل بإعلان
ناموسه الأدبي الدقيق والمفصَّل، إلاَّ أن ناموسه الأدبي العام معروف وشائع، وليس
عذرٌ لإنسان ولا لدولة أن تنتهكه أو تتحدَّاه. وقد جعل الله عقوبةً صارمةً لكل
دولة تخرج عن أصوله وتقترف أخطاءً أدبية سواء تجاه الله أو تجاه أيِّ دولةٍ أو
شعوبٍ أخرى كأن تنتقم منها بدون رحمة، وهو لا يعفي إسرائيل نفسها إن هي تعدَّت هذا
الناموس:

+
“هكذا قال الرب: مِنْ أجل ذنوب دمشق.. لا أرجع عنهم لأنهم داسوا جلعاد بنوارج
من حديد، فأُرسل ناراً على بيت حزائيل فتأكل قصور بنهدد، وأكسِّر مغلاق دمشق..

من
أجل ذنوب غزَّة.. لا أرجع عنها لأنهم سبوا سبياً كاملاً لكي يسلِّموه إلى أدوم
فأرسل ناراً على غزة.

 من
أجل ذنوب صور.. لا أرجع عنها لأنهم سلَّموا سبياً كاملاً إلى أدوم ولم يذكروا عهد
الإخوة، فأرسل ناراً على صور..

من
أجل ذنوب أدوم.. لا أرجع عنها لأنها تبعت بالسيف أخاها (إسرائيل أثناء خروجهم من
مصر) فأرسل ناراً على تيمان..

من
أجل ذنوب بني عمون لا أرجع عنهم لأنهم شقوا (بطون) حوامل جلعاد.. فأرسل ناراً على
ربَّة..

من
أجل ذنوب موآب لا أرجع عنهم لأنهم أحرقوا عظام ملك أدوم كلساً فأرسل ناراً على
موآب..

من
أجل ذنوب يهوذا لا أرجع عنهم لأنهم رفضوا ناموس الله ولم يحفظوا فرائضه.. فأرسل
ناراً على يهوذا..

من
أجل ذنوب إسرائيل لا أرجع عنهم لأنهم باعوا البار بالفضة والبائس لأجل
نعلين.” (عا 1و2)

لذلك
فكل مَنْ ينتهك الناموس الأدبي العام هو في الواقع يتعدَّى على إرادة الله، لذلك
فهو حتماً يواجه عقاباً مناسباً، لأن مجرَّد الاصطدام بإرادة الله هو بحد ذاته
خروج على ناموس الحياة بوجهيها الطبيعي والروحي معاً.

ففي
حال ما ينحرف الإنسان أو تنحرف الدولة إلى القسوة أو التجبُّر أو الظلم مثلاً فإن
هذا الإنسان أو الدولة تُحسب أنها تقاوم الله وتتحدى إرادته وطبيعته! وعلى مدى
الزمن تتوقع العقوبة بدقة وصرامة حتى يتطهَّر الإنسان أو تَطْهُرَ الدولة بالتأديب
الصارم من وزر الإثم، وتكفِّر بانكسارها عن انتهاكها لهذا القانون الحتمي، وفي نفس
الوقت لتتزكى إرادة الله وتتبرأ طبيعته من كل لوم.

إن
كل إسرائيلي كان يؤمن إيماناً مطلقاً بأن العقوبة هي حتماً ثمن لكل مخالفة أدبية،
وذلك من واقع ما اختبره إسرائيل كل أيام حياته مع الله. فالله بحد ذاته عرفناه في
العهد القديم بمثابة ناموس أدبي كامل وفائق يسود على كافة الخليقة ويتغلغلها، فهو
ذو كيان فعَّال في الوجود كله يعمل بقوة فائقة ليصحِّح كل انحراف بحكم مناسب
وتأديب. وحتى أحكام الله وتأديباته التي يتخذها لإقرار ناموسه الأدبي وسيادته
تتدرَّج في قسوتها وشدتها بنسبة إعلان الله لذاته سواء للإنسان الفرد في الضمير أو
للشعب بالوصايا والأحكام وبتحذير الأنبياء:

+
“اسمعوا هذا القول الذي تكلَّم به الرب عليكم يا بني إسرائيل، على كل القبيلة
التي أصعدتها من أرض مصر قائلاً: إياكم فقط عرفتُ من جميع قبائل الأرض، لذلك
أعاقبكم على كل ذنوبكم” (عا 3: 1و2)

لا
يوجد غير ناموس أدبي واحد يخاطب ضمير الإنسان في كل العالم وفي كافة الشعوب، لأنه
لا يوجد إلاَّ إله واحد هو الله. هكذا تُقدِّم التوراة صورة حية لله منذ بدء الخليقة، منذ آدم، كميراث ثمين
ورثته كل الشعوب
والأجناس، وأمَّا كل ما يُدعى آلهة فهي شياطين ولا كيان
أدبي لها على الإطلاق.

لذلك
بمقتضى هذا الناموس الأدبي العام وصِلته الكيانية بضمير كل إنسان الذي ورثه الإنسان منذ آدم، إنما على مستويات متفاوتة،
سيقف كل إنسان
في موقف المسئول أمام
الله، الآن بقدر استعلان الله للإنسان سواء بالناموس
الكتابي أو بحكم الضمير، وفي النهاية بحسب
استعلان الله حينما يصير عاماً وشاملاً.

الله
إله إسرائيل:

إذا
تتبعنا العهد القديم نجد أن الله لم يتعيَّن إلهاً لشعب إسرائيل بمقتضى وعد شفاهي
أو عهد كلامي، ولكن بظهور حقيقي وإعلان ذاتي. فظهور الله لإسرائيل وإعلان نفسه لهم
سواء بنزوله الشخصي على جبل سيناء ثم جبل حوريب وحديثه معهم، أو بكشف طبيعته لهم
بواسطة الوصايا الأخلاقية والناموس الأدبي، أو بإعلانه عن محبته ومساعدته لهم في الضيقات
والمخاطر، هذا الإعلان كله هو الذي قرَّر أن الله كان إله إسرائيل بالفعل، ولكن
الله لا يمكن أن يكون إلهاً لشعب دون أن يكون الشعب شعباً لله.

فبقدر
إعلان الله لنفسه وطبيعته وناموسه لإسرائيل، بقدر ما أصبح إسرائيل مطالباً
بالاستجابة الروحية والأخلاقية والأدبية، وبقدر محبة الله لإسرائيل بقدر ما أُدخل
الشعب في مسئولية مستمرة أمام الله! اسمع ما يقوله الله لإسرائيل في هذا الصدد:
“إياكم فقط عرفت من جميع قبائل الأرض لذلك أُعاقبكم على جميع ذنوبكم

” (عا 2: 3). وفعلاً
لم يُسمَع قط ولم يحدث في كل العالم وبين كافة شعوب الأرض أن الله أظهر نفسه وكشف
عن طبيعته وأعلن ذاته وصفاته وحبَّه ورحمته وقوته وحقه كما صار لشعب إسرائيل. لذلك
صار شعب إسرائيل مسئولاً أكثر من كافة شعوب الأرض أمام الله وبمقتضى الناموس
الأدبي والأخلاقي الذي استُعلن له لكي يكون أكثر الشعوب أمانة لله وأمانة للحق
وأمانة للسلوك.

ولكن
إسرائيل بعد أن عرفت الله رفضت الله وعبدت آلهة أخرى صنمية، وبعد أن استُعلنت لها
صفات الله الأدبية وناموسه الأخلاقي هتكت بسلوكها كل الناموس الأدبي والأخلاقي،
وعملت شروراً وقبائح وفظائع لا يصدقها العقل ولا تقبلها الطبيعة: “يذهب رجل وأبوه
إلى صبية واحدة حتى يدنِّسوا اسم قدسي
” (عا 7: 2). لذلك تحتَّم أن تُحرم إسرائيل من رحمة الله
القدوس لأنها رفضت القداسة، وتحتَّم أن تؤدَّب لأنها قاومت الناموس الأدبي، كما
تحتَّم أن تُرذل وتُفضح بين شعوب الأرض لأنها رذلت الأخلاق وفضحت الطبيعة الآدمية.

ولكن
إسرائيل في خيانتها لإلهها خسرت كل ما كان لها وكل ما وُعدت به، أمَّا الله فلم
يخسر شيئاً إنما أعلن في تركه لإسرائيل المحبوبة صرامة ناموس النقمة والتأديب..

الله
كان يترجَّى في مملكة إسرائيل الزمانية استعلان ذاته وملكوته الأبدي، ولكن إسرائيل
رفضت أن يملك عليها الله أدبياً ولاهوتياً معاً، وانحدرت إسرائيل إلى مستوى أقل من
الحيوان: “الثور يعرف قانيه والحمار معلف صاحبه أمَّا إسرائيل فلا يعرف، شعبي
لا يفهم

(إش 3: 1). فصار حقا لله أن يأخذ كل ما لإسرائيل ويعطيه للأُمم: “وأمَّا مَنْ
ليس له (الله) فالذي عنده سيؤخذ منه” (مت 12: 13)

الله
وناموس العقوبة والفداء:

لا
يقف ناموس العقوبة منفرداً بحد ذاته، فهو متعلق صميمياً بالناموسين الأدبي
والأخلاقي المنبعثين أيضاً من طبيعة الله وبرِّه، فالإنسان مسئول عمَّا يحل به من
عقوبة، بل هو الذي يصنعها لنفسه.

الله
يستطيع أن يؤجِّل العقوبة حتى ينجح الإنسان في إلغائها بالتوبة والمصالحة مع
الناموس المجروح، سواء كان الناموس الروحي الأدبي أو الأخلاقي. ولكن الله لا
يستطيع أن يلغي العقوبة إلغاءً سهلاً بدون قيد ولا شرط، لأن ذلك يتعارض مع طبيعته
ويسيء إلى برِّه وإلى كافة نواميسه الأخرى.. أي أن العفو عن خطيئة يقترفها الإنسان
أو الشعب بدون توبة أو عدم توقيع العقوبة المستحقة يعتبر إجراءً ضد ناموس البر، بل
ويُحسب هدفاً للناموس الأدبي والأخلاقي وهو عمل يخالف طبيعة الله، أي يتعارض مع
صلاحه وبره:

+
“الرب بطيء الغضب وعظيم القدرة ولكنه لا يبرِّئ البتة” (نا 3: 1)

فالإنسان
أو الشعب إذا أساء إلى الناموس الأدبي أو إلى ناموس الأخلاق فإنه ينشيء أو يخلق في
العالم طاقة شريرة حيَّة ومميتة معاً: حية بواسطة الإنسان وفيه، ومميتة لأنها
تفصله عن الله مصدر الحياة الأبدية!! والشر الذي ينطلق من أي إنسان أو أي شعب لابد
أن يعود بعد نهاية المطاف ويلتف حول عنق ذلك الإنسان أو ذلك الشعب، لأن الطاقة
الشريرة تعود لتسكن في مصدرها. ولكن بسبب عامل الزمن والنسيان وقصر النظر الروحي
وضعف الإحساس والتمييز للأمور الإلهية، يعتقد الإنسان أن الشر والعقوبة المترتبة
عليه هما فعلان أو حادثان منفصلان قد يلتحما وقد لا يلتحما، ولكن في الحقيقة هما
وجهان لشيء واحد مهما تباعدا، ولا يفصلهما شيء إلاَّ جهالة الإنسان أو طول أناة
الله!

الله
يستحيل أن يخترع العقوبة أو الإساءة لإنسان أو لشعب، ولكن شر الإنسان أو شر الشعب
الذي يعمله ويفكِّر فيه هو الذي يجلب العقوبة الموازية لها تماماً: “قولوا
للصديق خيرٌ لأنهم يأكلون ثمر أفعالهم، وويل للشرير شرٌّ لأن مجازاة يديه تُعمل
به” (إش 10: 3)

والله
لا يوقع العقوبة على إنسان، ولكن فقط يستطيع أن يمنعها بشيء من التدخُّل الشخصي أو
البذل يقدِّمه هو عن الإنسان: “أنا أفديهم وهم تكلَّموا علىَّ بكذب

” (هو 13: 7). فإذا
أراد الله أن يعاقب إنساناً أو شعباً على شرِّه فإنه يتركه لناموس الشر الذي خلقه
هذا الإنسان أو الشعب لنفسه. أمَّا إذا منع
الله العقوبة عن إنسان فلا يكون ذلك مجاناً، ولكن الله لابد أن يتحمَّلها

عن الإنسان، وحينئذ يُقال دائماً: “إن الله فدى الإنسان أو الشعب”، أي
قدَّم الفدية المناسبة عن الشر المعمول لتبرئة الإنسان. والله يقدِّم الفدية من
برِّه الشخصي على المستوى الفائق والخارق للطبيعة بصورة لا يستطيع الإنسان أن
يتصورها:

+
“ليس من كونكم أكثر من سائر الشعوب التصق الرب بكم واختاركم لأنكم أقل من
سائر الشعوب، بل من محبة الرب إياكم وحفظه القسم الذي أقسم لآبائكم أخرجكم الرب
بيد شديدة وفداكم من بيت العبودية من يد فرعون ملك مصر” (تث 7: 7و8)

لذلك
ظل معروفاً على مدى العهد القديم كله أن الله أخرج إسرائيل من مصر على مستوى
الفدية الشخصية: “الشعب الذي فديته
” (خر 13: 15)، “الذي
فديته بعظمتك
” (تث 26: 9). والله نفسه يذكِّر
إسرائيل دائماً بأنه
تحمَّل غرامة
خلاصه من مصر العبودية: “ارجع إلىَّ لأني فديتك” (إش 22: 44)

على
أن هناك درجات ومراحل في صنع الشر وتكميل طاقته وإخراجها لحيز الوجود، ولكن قد
وُهب للإنسان من قبل الله قدرة الرجوع عن الشر ومقاومته والندامة والاعتراف
بالخطأ. ولكن استحالة إلغاء سلطان الخطية الذي يظل يرافق الإنسان كشوكة في الجسد
ترافقه حتى إلى القبر. وواضح أن التوبة هي توقُّف عن طريق الشر في وسط مراحله،
لذلك فهي ترحم الإنسان من كل الدرجات التي كان مزمعاً أن يتمادى فيها وهو متورِّط
في الشر. كما أن التوبة تفتح أمام الإنسان مجالاً لدى الله أن يتدخَّل بنفسه لكي
يوقف سلطان الخطية ويرفع عقوبتها المميتة، ولكن أيضاً ليس مجَّاناً ولكن على حساب
افتداء الله له من برِّه الشخصي. وهذا هو السر في أن الله يحذِّر الخاطئ بكافة
الطرق ويطيل أناته عليه، حتى إذا أطاع الإنسان لصوت الله وتوقَّف توقفاً قاطعاً عن
الشر الذي تفكَّر فيه أو بدأ به، فإن الله يتحمَّل بنفسه عن الإنسان كل نتائج
العقوبة التي كانت مفروضة عليه بحكم نواميس الله، ويتبرأ الإنسان أمام الله بحسب
العدل والرحمة معاً.

وتوجد
درجة أو مرحلة من مراحل السير في الشر ومعاندة الله ومقاومة مشيئته، إذا تعدَّاها
الإنسان أصبح من العسير عليه أن يتوب أو يندم، بل ويستحيل عليه أن يقاوم تكميل
الشر. ولكن لا يمكن أن يبلغ الإنسان هذه الدرجة دون أن يرسل الله صوته بالتحذير
مراراً بشدة وعنف، إما في الضمير أو بواسطة المنذرين من أولاد الله وعلى ضوء كلام
الأنبياء، لأنها تكون في الحقيقة درجة الموت الأبدي. لذلك هنا يكون التحذير مرعباً
ومشروطاً بشرط قاطع: إمَّا التوبة فالصفح وإمَّا المعاندة فالعقوبة بلا رحمة:

+
“إن شئتم وسمعتم تأكلون خير الأرض، وإن أبيتم وتمرَّدتم تؤكلون بالسيف، لأن
فم الرب تكلَّم” (إش 20: 1)

+
“أُشهد عليكم اليوم السماء والأرض، قد جعلت قدامك الحياة والموت، البركة
واللعنة، فاختر الحياة لكي تحيا” (تث 19: 30)

فإذا
رفض الإنسان أو رفض الشعب تحذير الله في هذه المرحلة الحرجة والخطرة فلابد من
العقوبة ووقوع الكارثة، ولكن ليس بدون إحزان قلب الله، فالله وإن كان يسمح بأن
يأخذ ناموس العقوبة مجراه، إلاَّ أنه أقسم بذاته أنه لا يُسرّ بموت الخاطئ بل
بتوبته (حز11: 33).

الله
وناموس التكفير بالذبائح والطقوس:

من
الأخطاء الشائعة جداً في مفهوم الغالبية العظمى من الناس أن طقوس الذبائح في العهد
القديم هي للتكفير عن كل الخطايا، والحقيقة أنها للتكفير عن خطايا السهو فقط
تجاه نواميس الله:

+
“وكلَّم الرب موسى قائلاً: كلِّم بني إسرائيل قائلاً: إذا أخطأت نفس سهواً
في شيء من جميع مناهي الرب التي لا ينبغي عملها وعملت واحدة منها:


إن كان الكاهن الممسوح يخطئ.. يقرِّب عن خطيته ثوراً..،


إن سها كل جماعة إسرائيل.. ثم عُرفت الخطية.. يقرِّب المجمع ثوراً..،


إذا أخطأ رئيس وعمل بسهو واحدة من جميع مناهي الرب.. ثم أُعلم بخطيته..
يأتي بقربانه تيس..،


وإن أخطأ أحد من عامة الأرض سهواً.. ثم أُعلم بخطيته.. يأتي بقربانه
عنزاً من المعز.” (لا 4: 131)

أمَّا
خطايا العمد مثل سب الأب أو الأُم أو مثل كل ما يتعلَّق بالزنا والنجاسة والفجور
على سبيل المثال فكلها عقوبتها الموت:

+
“كل إنسان سبَّ أباه أو أُمه يُقتل..،

وإذا اضطجع رجل مع امرأة أبيه فقد كشف عورة
أبيه إنهما يُقتلان كلاهما..،

– وإذا اضطجع رجل مع كنته (زوجة ابنه) فإنهما يُقتلان
كلاهما..،


وإذا اضطجع رجل مع ذكر اضطجاع امرأة.. إنهما يُقتلان..،


وإذا اتخذ رجل امرأة وأمها فذلك رذيلة بالنار يحرقونه وإياهما،


وإذا جعل رجل مضجعه مع بهيمة فإنه يُقتل والبهيمة تميتونها،


وإذا اقتربت امرأة من بهيمة.. تميت المرأة والبهيمة.” (لا 20: 9-16)

أمَّا
خطايا العمد التي ليست ضد وصايا الله المباشرة ولكن في المعاملات والسلوك فإنها
تتفاوت في العقوبة.

أي
أن كل الذبائح والطقوس في العهد القديم قد نص الوحي الإلهي عنها بكل وضوح أنها لا
تكفِّر إلاَّ عن خطية السهو والشر غير المتعمَّد،
أمَّا الخطية مع سبق الإصرار
وإتيان الشر مع التعمد ضد وصايا الله مباشرة فلا ينفع فيها التكفير لا بذبيحة ولا
بصلاة طقسية، وعقوبتها الموت الحتمي: “كل واحد يموت بذنبه

” (إر 30: 31)، الذي
يخطئ يموت.

فإذا
خضعت إرادة الإنسان للخطيئة والشر بالرضى والتساهل والموافقة الحرة في الضمير مع
سبق الإصرار والتعمد، أصبح من العبث الالتجاء إلى الذبائح والقرابين والصلوات
الطقسية في العهد القديم. لأن كافة أوامر الله ووصاياه ونواميسه بخصوص تقديم
الذبائح والقرابين والصلوات والتطهيرات تعتبر لاغية ولا قيمة لها بالنسبة للإنسان
أو الشعب الذي يمارس الخطايا والشرور بتعمُّد وإصرار واستمرار.

أمَّا
خطايا النسيان والسهو فلا تُحسب أصلاً انتهاكاً متعمداً لناموس الله الأدبي أو
الأخلاقي، فهي لا تُحسب أنها مقاومة لمشيئة الله أو إساءة إلى طبيعته وبرِّه، لذلك
رأى الله في العهد القديم أن التكفير عنها يمكن أن يكون بوسائط تخرج عن طبيعة الإنسان والله كالذبائح للتكفير على مستوى الجسد
فقط:

أمَّا
أي محاولة لتقديم ذبائح حيوانية أو قرابين أو بخور للتكفير عن الخطيئة أو الشر
المصنوع عمداً وبالإرادة الحرَّة وبمسرَّة النفس، فهذا يُعتبر إهانة وكسراً لناموس
الله، حيث لا يمكن ويستحيل أن يستوي ثمن خروف مذبوح أو قطعة فضة أو كمية بخور
ليعادل ناموس الله الروحي الأدبي والأخلاقي، الذي هو معادل لطبيعة الله ومبنثق
منها، لأن هذا يعني أننا نضع الأعمال- الذبائح- التي هي دون طبيعة الإنسان في
مساواة طبيعة الله وبرِّه!!

كذلك
فإن الالتجاء إلى الذبائح للتكفير عن خطايا العمد بهذه الصورة التافهة، بذبح ثور
أو خروف، كفيل أن يطمس حساسية الضمير من نحو خطورة طبيعة الشر والخطية، كما يطفيء
نور الضمير من نحو إدراك سمو برِّ الله وقداسة طبيعته، ويحطّ من القيم الروحية
لنواميسه الأدبية والأخلاقية.

فالله
وضع طقس الذبائح للتكفير عن الخطأ الحادث سهواً ضد الفرائض والنواميس
الجسدية التي حدَّدها ناموس موسى، ولكن ليس الطقس للتكفير عن الخطايا الأخلاقية
وتعدِّي نواميس الله الروحية الأدبية. فدم التيوس والعجول يمكن أن يكفِّر عن سهو
تعدَّى به الإنسان أو الشعب على ناموس حفظ السبت أو لمس ميت أو قَسَمٍ خاطئٍ أو
حنثٍ في نذرٍ أو لتطهيرٍ من مرض أو ولادة.. إلخ. أو حسب تفسير بولس الرسول لناموس
الطقوس والفرائض: “دم ثيران وتيوس ورماد عجلة مرشوش على المنجَّسين يقدِّس
إلى طهارة الجسد
” (عب 13: 9). ولكن يستحيل أن دم تيوس وعجول يكفِّر عن خطية
التجديف على الله أو قتل عمد أو زنا عمد أو كذب أو قسوة أو ظلم أو طمع أو حب المال
أو سحر أو عبادة أوثان، مع كافة الخطايا التي يقترفها الإنسان في الضمير ضد
الناموس الروحي والأدبي أو الأخلاقي الذي يربط الإنسان بالله.

ومن
ذلك نجد أن الله لا يقبل في العهد القديم أي ممارسات طقسية أو تأدية أي فرائض
تعويضاً عن الخطية الأدبية والأخلاقية، وذلك لأن طبيعة الخطية لها أثر على نفس
الإنسان وروحه، أي أثر على الطبيعة البشرية لإفساد العلاقة والصلة السرية التي
تربط الإنسان بالله، بالإضافة إلى إساءتها لناموس الله الروحي بمعنى الإساءة إلى
كرامة الله وفكره وإرادته: “لكن استخدمتني بخطاياك وأتعبتني بآثامك

” (إش 24: 43)،
“من أجل نفسي، من أجل نفسي أفعل (السبي)، لأنه كيف يُدنَّس اسمي، وكرامتي
لا أعطيها لآخر
” (إش 11: 48). كل ذلك لا علاقة له إطلاقاً بالطقوس والشكليات
والفرائض الجسدية والوسائط المادية: “ذبائحك لم تكرمني.. ذبائحك لم
تروني” (إش 43: 23و24)

لذلك
فالخطية، من حيث طبيعتها المضادة لله، ومن حيث أثرها الفعَّال للتخريب المستمر في
الطبيعة البشرية وعلاقة الله بالإنسان، ومن حيث عقوبتها الحتمية لإعادة الموازين
إلى وضعها السليم، لا يمكن أن يقوى عليها أو يلغيها طقس أو تعويض بمال أو ذبيحة أو
أي شيء في العالم، ولا بموت الإنسان نفسه:

+
“لماذا لي كثرة ذبائحكم يقول الرب، اتخمت من محرقات كباش وشحم مسمنات، وبدم
عجول وخرفان وتيوس ما أُسرُّ. حينما تأتون لتظهروا أمامي. مَنْ طلب هذا من أيديكم
أن تدوسوا دوري؟ لا تعودوا تأتون بتقدمة باطلة. البخور هو مكرهة لي. رأس الشهر
والسبت ونداء المحفل. لست أطيق الإثم والاعتكاف. رؤوس شهوركم وأعيادكم بغضتها
نفسي. صارت عليَّ ثقلاً. مللتُ حملها. فحين تبسطون أيديكم أستر عيني عنكم. وإن
كثَّرتم الصلاة لا أسمع. أيديكم ملآنة دماً” (إش 1: 1115)

وقد
ظلَّ كل تقدُّم في معرفة الله، وكل تقدُّم في عبادته وكل محاولة للتقرُّب إلى الله
وتقديس النفس له، يواجه سواء في البداية أو في النهاية على مدى أسفار العهد القديم
كله- مشكلة التكفير عن الخطية الإرادية!!

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى