علم المسيح

المسيح يطهر الهيكل



المسيح يطهر الهيكل

المسيح يطهر الهيكل

 

«وَبَعْدَ
هٰذَا ٱنْحَدَرَ إِلَى كَفْرِنَاحُومَ، هُوَ وَأُمُّهُ وَإِخْوَتُهُ
وَتَلامِيذُهُ، وَأَقَامُوا هُنَاكَ أَيَّاماً لَيْسَتْ كَثِيرَةً وَكَانَ فِصْحُ
ٱلْيَهُودِ قَرِيباً، فَصَعِدَ يَسُوعُ إِلَى أُورُشَلِيمَ، وَوَجَدَ فِي
ٱلْهَيْكَلِ ٱلَّذِينَ كَانُوا يَبِيعُونَ بَقَراً وَغَنَماً
وَحَمَاماً، وَٱلصَّيَارِفَ جُلُوساً. فَصَنَعَ سَوْطاً مِنْ حِبَالٍ
وَطَرَدَ ٱلْجَمِيعَ مِنَ ٱلْهَيْكَلِ، اَلْغَنَمَ وَٱلْبَقَرَ،
وَكَبَّ دَرَاهِمَ ٱلصَّيَارِفِ وَقَلَّبَ مَوَائِدَهُمْ. وَقَالَ لِبَاعَةِ
ٱلْحَمَامِ: «ٱرْفَعُوا هٰذِهِ مِنْ هٰهُنَا. لا
تَجْعَلُوا بَيْتَ أَبِي بَيْتَ تِجَارَةٍ». فَتَذَكَّرَ تَلامِيذُهُ أَنَّهُ
مَكْتُوبٌ: «غَيْرَةُ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي». فَسَأَلَهُ ٱلْيَهُودُ:
«أَيَّةَ آيَةٍ تُرِينَا حَتَّى تَفْعَلَ هٰذَا؟» أَجَابَ يَسُوعُ:
«ٱنْقُضُوا هٰذَا ٱلْهَيْكَلَ وَفِي ثَلاثَةِ أَيَّامٍ
أُقِيمُهُ». فَقَالَ ٱلْيَهُودُ: «فِي سِتٍّ وَأَرْبَعِينَ سَنَةً بُنِيَ
هٰذَا ٱلْهَيْكَلُ، أَفَأَنْتَ فِي ثَلاثَةِ أَيَّامٍ تُقِيمُهُ؟»
وَأَمَّا هُوَ فَكَانَ يَقُولُ عَنْ هَيْكَلِ جَسَدِهِ. فَلَمَّا قَامَ مِنَ ٱلأَمْوَاتِ،
تَذَكَّرَ تَلامِيذُهُ أَنَّهُ قَالَ هٰذَا، فَآمَنُوا بِٱلْكِتَابِ
وَٱلْكَلامِ ٱلَّذِي قَالَهُ يَسُوعُ. وَلَمَّا كَانَ فِي
أُورُشَلِيمَ فِي عِيدِ ٱلْفِصْحِ، آمَنَ كَثِيرُونَ بِٱسْمِهِ، إِذْ
رَأَوُا ٱلآيَاتِ ٱلَّتِي صَنَعَ. لٰكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ
عَلَى نَفْسِهِ، لأَنَّهُ كَانَ يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعَ. وَلأَنَّهُ لَمْ
يَكُنْ مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ ٱلإِنْسَانِ، لأَنَّهُ عَلِمَ
مَا كَانَ فِي ٱلإِنْسَانِ» (يوحنا 2: 12-25).

 

غضب
السيد المسيح على كهنة اليهود الذين جعلوا بيت العبادة مغارة لصوص، وفي غضبه طهّر
الهيكل رمزاً لاستعداده أن يطهر هياكل الله التي هي قلوب البشر. أتى مستعداً ولم
يبطئ في عمله، وصنع سوطاً من حبال وطرد من الهيكل كل ما لا يجب أن يكون هناك، لم
يستعمل العنف مع الباعة والصيارفة أو يطردهم، لأنه أرادهم أن يعرفوا أن غضبه ليس
موجّهاً ضد أشخاصهم، بل ضد أعمالهم الخاطئة. طرد المواشي وقلب موائد الصيارفة، لأن
ليس من يدٍ تفعل ذلك غير يده، لكنه لم يفلت الحمام الذي إذا طار لا يعود، بل قال
لأصحابها: «ارفعوا هذه من ههنا». ثم خاطب الجميع قائلاً: «لا تجعلوا بيت أبي بيت
تجارة».

 

فمَنْ
هذا الذي يفرز ذاته عن شعب الله جميعاً ويقول: «بيت أبي»؟. وهل تكلم هكذا في أي
زمان نبيٌ أو رسول أو ملاك من السماء؟ ومن هذا الذي يقف أمام الجمع الغفير الذي
غصَّت به دور الهيكل، يغيّر العوائد التي ألفوها، وينكر على العابدين تلك
التسهيلات التي طالما استعانوا بها في «دار الأمم» لوجود حاجاتهم فيها، ويضطرهم
إلى الخروج إلى شوارع المدينة ليشتروها؟ ومن هذا الذي يقاوم رؤساء الدين في
الدائرة المخصصة لسلطتهم، وينقض عقود الإيجار التي أبرموها مع الباعة والصيارفة؟
بأي حقٍ يطرد بعنفٍ أبقار هؤلاء وأغنامهم، ويشوّش حساباتهم وترتيب دراهمهم؟ وكيف
يخسّرهم الأرباح التي أباحها الرؤساء لهم في هذا الموسم؟ ولماذا يستهين بالرياسة
المؤيَّدة من الأمة اليهودية بأسرها والحكومة الرومانية بعظمتها؟ وكيف يستطيع أن
يقوم بعمل كهذا، بينما الكهنة واللاويون، وهم عصابة قوية، يحومون بالمئات يمارسون
خدمتهم بملابسهم الرسمية؟ ألم يعطِ رئيسُهم الأعظم هؤلاء المطرودين حقَّ هذا
الاتجار الذي عطّله المسيح؟ فضلاً عمّا تحت طلب هذا الرئيس من جنود الرومان
المخصَّصين لتأييد تلك السلطة، وحفظ نظام الهيكل. فكيف يجسر المسيح أن يُقدِم على
عمل كهذا؟ بل كيف يفلح فيه إن أقدم عليه.

 

الجواب
أن ضمائر القوم تعينه على الفلاح، لأن الخاطئ جبان تجاه الناس وتجاه ضميره، بينما
البار جريء. قال الحكيم: «اَلشِّرِّيرُ يَهْرُبُ وَلا طَارِدَ، أَمَّا
ٱلصِّدِّيقُونَ فَكَشِبْلٍ ثَبِيتٍ» (أمثال 28: 1) فضمير رؤساء الهيكل
وتجّارهم كان نصيراً لعمله، وقيّدهم، فلما انتهرهم كآمر ذي سلطان قائلاً: «ارفعوا
هذه من ههنا. لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة» ذلُّوا أمامه. وقد أعانت المسيح في طرد
الباعة شهادة المعمدان التي تقدمت للرؤساء بواسطة الوفد الذي أرسلوه إليه، ولربما
بلغهم خبر المعجزات في قانا، التي تؤيد تلك الشهادة، ثم أن اليقظة الجديدة القوية
التي نتجت عن خدمة المعمدان أعدَّت أفكار كثيرين للأعمال الإصلاحية، فيُنتظر أن
الرؤساء يحسبون حساباً للأتقياء بين شعبهم، وإن كانوا قليلين.

 

مهدت
أسباب كهذه، السبيل للسبب الأعظم الذي يرجع إليه نجاح المسيح في مقاومته الأولى
لفساد الرؤساء. وهذا السبب هو هيبة القداسة فيه، المقرونة بإظهاره تفرُّده عن جميع
البشر في علاقته مع الله، لما قال لهم «بيت أبي». وإن لبسالة القداسة هيبة لا
تُقدَّر.

 

اكتفى
الرؤساء في هذا الوقت أن يقاوموا بالكلام، فقالوا إنه لا يحقُّ له أن يعارضهم في سلطانهم
على الهيكل ومتعلّقاته، ما لم يكن نبياً أو مرسلاً من الله. وإن كان كذلك فعليه أن
يثبت رسالته الإلهية بمعجزة خاصة جديدة أمامهم، تضطرُّهم إلى الاعتراف بسلطانه
الديني.

ولم
يرضخ المسيح لطلب هؤلاء الأشرار بأن يمنحهم حقَّ الحكم فيما إذا كان له حقٌ أن
يفعل ذلك. غير أنه لم يترك لهم حُجةً بسكوته، فأعطاهم جواباً عميقاً حيَّرهم وضاعف
غيظهم عليه، إذ أجابهم بلغزٍ معناه أن شخصه معجزة كافية وأعظم المعجزات. وإن
أرادوا أن يعرفوا ذلك فليقتلوه، وهو يقوم من الموت بعد ثلاثة أيام، قال: «انقضوا
هذا الهيكل وفي ثلاثة أيام أقيمه».

 

ولولا
غلاظة قلوب هؤلاء البارعين في درس كلام أنبيائهم، لفطنوا لما كتبه إشعياء: «أَيْنَ
ٱلْبَيْتُ ٱلَّذِي تَبْنُونَ لِي، وَأَيْنَ مَكَانُ رَاحَتِي؟…
وَإِلَى هَذَا أَنْظُرُ: إِلَى ٱلْمِسْكِينِ وَٱلْمُنْسَحِقِ
ٱلرُّوحِ وَٱلْمُرْتَعِدِ مِنْ كَلامِي» (إشعياء 66: 1 و2). وقد فسّر
استفانوس هذا الكلام بقوله: «ٱلْعَلِيّ لا يَسْكُنُ فِي هَيَاكِلَ
مَصْنُوعَةٍ بِٱلأَيَادِي» (أعمال 7: 48) فهاجوا عند الجواب الذي لم يفهموه،
إذ حسب الرؤساء قوله: «انقضوا هذا الهيكل» تجاسراً كُفرياً، فكيف يدعوهم هذا
المعلم الجديد – وهو يهودي – لينقضوا هيكل الله المقدس الذي هو فخر الأمة الأعظم؟
ومن هو هذا الذي يدَّعي بأنه قادر أن يبني مثله في ثلاثة أيام إن نقضوه؟ بينما
هيرودس الملك مع كل غناه وسطوته واجتهاده الزائد لأجل ترميمه وتحسينه فقط، وبعد
عمل متواصل مدة ست وأربعين سنة، لم يقدر أن يكمل ذلك. فكيف يقدر هذا الشاب الفقير
الجليلي أن يقيمه جديداً في ثلاثة أيام.

 

كان
كلام المسيح هذا غامضاً على تلاميذه فلم يفهموا قصده، إلا بعد أن نقض اليهود هيكل
جسده، بصلبه، وأقامه هو في اليوم الثالث – حينئذ ثبت إيمانهم بسيدهم الذي كانت
أمّتهم قد رفضته، وعلموا أن جرأته في مقاومة رؤساء الأمة أتت إتماماً للقول
النبوي: «لأَنَّ غَيْرَةَ بَيْتِكَ أَكَلَتْنِي، وَتَعْيِيرَاتِ مُعَيِّرِيكَ
وَقَعَتْ عَلَيَّ» (مزمور 69: 9).

 

وقد
دام تأثير جواب المسيح في الرؤساء طويلاً، حتى جعلوه بعد سنين حُجَّة شكواهم عليه،
لكي يميتوه، ولما تمَّ انتقامهم ورأوه معلَّقاً على الصليب عيَّروه به، ولما طلبوا
من الوالي حرساً يُوضع على قبره ليمنع قيامته، بنوا طلبهم على هذا الكلام الذي
أوقد في صدورهم نار البغضة المميتة التي التهمته أخيراً بتعليقه على الصليب. وبذلك
صحَّ أن غيرته على بيت أبيه أكلته. وكان المسيح يعلم أن تأثير هذا التطهير سيزول
قريباً، وترجع الأمور إلى مجراها القديم، ونراه مضطراً إلى تكرار هذا التطهير في
مثل هذا العيد بعد ثلاث سنين. لكن لم يوقفه ذلك العِلْم عن العمل المطلوب، لأن اختفاء
تأثير العمل الحسن لا يعطل حُسنه ولا يضيّع أجره.

 

ولما
كان هذا الحادث هو الأول الذي أظهر فيه المسيح غضباً، يحقُّ لنا أن نسأل عن اتفاق
هذا الغضب مع القول بكمال المسيح. والجواب أن الغضب قد يكون فضيلة كما قد يكون
اللطف رذيلة، إذ يُشترط في الغضب الفاضل أن يخلو من كل غاية أنانية، ومن كل حركة
مستقبَحة. ويُشترَط في اللطف الفاضل أن يخلو من الجُبْن والمحاباة. لقد رأينا
المسيح يحتدم غضباً على تدنيس الأقداس، التي تمثّل أمور الإِله القدوس للحواس
البشرية، فاسم اللّه وبيته ويومه وكلامه ورجاله هي أقداس، وتُحترم إكراماً للقدوس
الذي تمثّله. وكل من يستخفُّ بشيء منها يحلُّ عليه غضب الحمل، كما حلَّ على الذين
استباحوا لأنفسهم تدنيس الهيكل. وقد أوضح الرسول بولس فكرة الغضب المقدس في قوله:
«اِغْضَبُوا وَلا تُخْطِئُوا. لا تَغْرُبِ ٱلشَّمْسُ عَلَى غَيْظِكُمْ، وَلا
تُعْطُوا إِبْلِيسَ مَكَاناً» (أفسس 4: 26 و27).

 

واحتدّ
غيظ المسيح أيضاً على حب المال، الذي هو حسب قول الإِنجيل أصلٌ لكل الشرور (1
تيموثاوس 6: 10) وفي قول المسيح: «لا تجعلوا بيت أبي بيت تجارة» أوضح أن الربح
التجاري كان قد حلَّ في قلوبهم محل الحب الإلهي، كأنه يقول لهم: «لا تَقْدِرُونَ
أَنْ تَخْدِمُوا ٱللّٰهَ وَٱلْمَالَ» (متى 6: 24). إن فعلكم
يبرهن أنكم تخدمون المال لا اللّه. وشر أثمار حب المال هو تدنيس الأقداس، وتسخير
الدين لأجل الأرباح التجارية. فالتجارة التي قضى عليها المسيح هي في حدّ ذاتها
جائزة، لا بل وأيضاً واجبة. والمال في حد ذاته صالح، لكن تفضيل المال على الواجب
الديني يحوّل حب المال إلى عبادة الأوثان.

 

انتصر
المسيح في هذه المعركة على رؤساء اليهود، وعلى إبليس الطاغي الخفي الذي تُعزَى
إليه كل الشرور. ومع أنه رفض أن يصنع المعجزة التي طلبوها، لكنه باشر في أورشليم
معجزاته الخيرية، فآمن كثيرون باسمه. كنا نفرح لهذا الإِيمان لولا قول البشير:
«لٰكِنَّ يَسُوعَ لَمْ يَأْتَمِنْهُمْ عَلَى نَفْسِهِ، لأَنَّهُ كَانَ
يَعْرِفُ ٱلْجَمِيعَ» (يوحنا 2: 24). ومن هذا ظهر أن إيمانهم كان عقلياً فقط
لا روحياً قلبياً. فهُمْ كالأرض الخفيفة غير العميقة التي لا يدوم فيها الزرع
كثيراً، فإذا اشتدَّت عليه حرارة شمس الاضطهاد، وطال الزمان، يجف وييبس. فبعض
هؤلاء الذين آمنوا سيرتدّون متى اضطهدهم قومهم لأجل إيمانهم، أو متى تيقّنوا أن
ليس لتابعي المسيح منافع زمنية، وليس من غرضه إنشاء ملكوت يهودي سياسي. ويقدم
الإِنجيل شهادة للمسيح لم تُعْطَ إلا له، ولا تصحّ في غيره من البشر، لما قال:
«لَمْ يَكُنْ مُحْتَاجاً أَنْ يَشْهَدَ أَحَدٌ عَنِ ٱلإِنْسَانِ، لأَنَّهُ
عَلِمَ مَا كَانَ فِي ٱلإِنْسَان» (يوحنا 2: 25) وهذا القول لم يرِدْ مثلُه
في نبي أو رسول

 

ومن
هذا نفهم جيداً أن اقتران الطبيعة الإِلهية بالطبيعة الإِنسانية في المسيح زاد
إدراكه كثيراً. وهو تفسيرٌ كافٍ لمعرفته قلوب الجميع وخفياتهم. وسنرى خيراً عظيماً
حصل من معرفته أسرار القلوب.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى