علم المسيح

لقد أكمل



لقد أكمل

لقد أكمل

كانت
الساعة الثالثة. وكانت قد ابتدأت، في الهيكل، مراسيم التأهب للفصح، ولم يكن العيد
ليثبت شرعياً إلا بعد غياب الشمس. وانطلق هتاف البوق، ثلاث دفعات: طويلة فقصيرة
فطويلة. وراح رئيس الأحبار، في ملاءته الزرقاء، يرتقي درجات الهيكل، وتعالي أمام
المذبح، لحن قيثار.. هناك، فوق الجلجثة، من علي الصليب، سقطت كلمتان: “لقد
أكمل!” (يوحنا 19: 30)، ثم – ولعلها كانت صلاة أخيرة: “يا أبت، في يديك
أستودع روحي!”، ولقد انطلقت في شبه صرخة عظيمة، كانت هي استفاضة الحياة
المنتهية!” قال يسوع هذا وأسلم الروح!”..

 

! لقد
تم كل شئ واختتمت، في تلك اللحظة، الرسالة التي جاء يسوع لأجلها، وتحقق عمل الفداء
الدامي الذي كان طالما قد أنبأ به، وكل ذاك الذي تمخضت به روح إسرائيل – عبر
الأجيال – من رؤى نبوية، قد أصبح في تلك اللحظة، تاريخاً. أو لم تكن تلك الصرخة
التي انطلقت من صدر الرجل الذبيح، صدي لصرخة الإيمان، عند صاحب المزامير: “في
يديك أستودع روحي. لقد افتديتني أيها الرب، إله الحق!” (مزمور 30: 6″
أقوال داود علي لسان سليله! أجل، لقد أصبح كل ذلك مترابطاً سرياً، وتحقق كل شئ
بمقتضى الرسوم الأبدية.. أجل، لقد تم كل شئ

مقالات ذات صلة

 

. من
بين أولئك الذين هبوا، عند باحات الهيكل، يرفعون إلي الواحد القدوس ضراعاتهم، لم
يكن – ولا شك – واحد ليفقه مأساة الجلجثة وخطورتها الفريدة. بل من كان ليوجس من
تلك الدجنة الصفيقة التي طبقت المدينة، آية للإنذار؟.. بيد أن الطبيعة أصدت، مرة
ثانية، وبهول أشد، للجريمة النكراء. فقد روت الأناجيل المؤتلفة أن حجاب الهيكل قد
انشق في اللحظة التي فاضت فيها روح المسيح. وقد رأي أوريجينس والقديس إيرونيمس أنه
هو الحجاب الذي كان يسدل، سحابة النهار، علي مدخل “المصلي”، عندما كانت
تفتح الأبواب. لقد انشق حجاب السر، وأمسى الهيكل، منذ تلك اللحظة، مشرعاً أمام
الناس أجمعين.. وكتب “الأب لاغرانج “: ” بالإمكان أن نفتر ض إحدى
تلك العواصف التي تبدد، في لحظة واحدة، هواجر الربيع السوداء”، عاصفة، ولا
شك، من أنفاس الله! ولكن البشير متى أضاف أن “الأرض اهتزت، إذ ذاك، والصخور
تشققت”، وحدثت ظاهرات غريبة، وحضر أموات، أفلتوا من القبور.. فسعى الهلع في
المدينة سعي النار في الهشيم. لقد أصدت الطبيعة، بزلزالها، لموت الإله الحي! وليست
الزلازل في فلسطين، من الأمور النادرة. ومعلوم أن قبة القيامة قد تصدعت من جرى
الهزة التي اجتاحت أورشليم في 11 تموز سنة 19270 ويري، حتى اليوم في صخرة الجلجثة،
صدع عامودي، عرضه 25 سنتيمتراً، وطوله متر و70 سنتمتراً، وهو ولا ريب، أثر
زلزالي.. لقد دنت من أجلها دينونة الأمم. على ما جاء في نبوءة يوئيل: “إن يوم
الرب قد اقترب.. قد أظلمت الشمس والقمر، ومنعت الكواكب ضياءها، يزأر الرب من
صهيون، ومن أورشليم يطلق صوته، فتتزلزل السماوات والأرض..” (يوئيل 3: 14 –
16)

 

! إلا
أن ثمة رجلاً أوجس علاقة بين ذاك الهلع الكوني وصرخة المصلوب الأخيرة. إنه قائد
المائة، وكانت وظيفته تفرض عليه التلبث، حتى النهاية، بقرب المعاقبين. كان، ولا
شك، قد سمع الشعب يقول لبيلاطس: “إنه مستحق الموت. لأنه جعل نفسه ابن
الله”. ولكنه لم يأبه للأمر، بادئ ذي بدء. بيد أن جيشان الطبيعة، وذاك الهلع
المنتفض المنتشر في كل مكان، وذاك الهدير المترجع في قرارات الأرض السحيقة، كل تلك
الأحداث مجتمعة، قد كشفت له عن الحقيقة، وفي وسط تلك المقبرة الداجية، وعند أقدام
تلك الأعواد الثلاثة، سطع النور في قلبه: “في الحقيقة كان هذا ابن
الله!” (متي 27: 54). فمن كان ذاك الجندي الشهم، وقد بات، في طليعة الملايين،
أول من آمن بيسوع المصلوب؟ إن الوعي العسكري يعد للإيمان، إذ يدرب العقل علي
النظام والمنطق الصارم في العلاقات القائمة بين العلة والسبب، أو لم يعجب يسوع
يوماً بما صادفه، عند قائد آخر، من ثقة متواضعة؟ فأول المهتدين هذا، سمي تارة
بترون، وتارة كورنيليس، علي سبيل التقريب بينه وبين ذاك الذي ضمه الرسول بطرس إلي
الجماعة المسيحية (أعمال 10و 11): تقاليد واهية! وإنما قيمة اعترافه بأنه أول
تعبير عن الإيمان المسيحي

 

. كان
يسوع معلقاً علي الخشبة. وبات الجسم، في هبوطه، متداعياً علي ذاته في تقبض متعب،
شاداً علي الراحتين والذراعين، فبرزت فيهما العضلات شبه أوتار مفتولة. وكان الدم
يسيل من الكلوم علي جلده الشاحب، وينعقد فوق الندوب الصغيرة التي خلفتها في جسمه
جلدات السوط، وذاك الجسد الملطخ والمضلع بالضربات، لم يعد له، من الحياة، لا رواء
ولا قوام! وما أسرع ما تمسي الجثة ذاك الشئ المنكر، الذي فيه من التمثال ومن الرمة
معاً، والذي يشق علينا أن نتوسم فيه ما كان غالياً علينا.. “هكذا يمضي كل
جسد!”، فكلنا نحمل، في ذواتنا، ميعاد ذاك الشحوب، وذاك التبقع. وهذه العروق
التي أراها تنبض، أعرف ما يكمن فيها من يقين رهيب.. لقد لاقي يسوع حتفاً شبيهاً
بذاك الذي يترقبنا، وذاك هو السر والعزاء معاً. فقد قال المسيح متنبئاً:
“وأنا متى رفعت، جذبت إلي الجميع!”. كان قائد المائة أول من خضع لقوة
الاجتذاب، وفي إثره أخذ يتوافد – أفواجاً لا تحصى – أولئك الذين أضحي موت المصلوب
أمل حياتهم الأوحد، وعربون القيامة

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى