علم الله

الفصل الثالث



الفصل الثالث

الفصل الثالث

الثالوث
الأقدس في اللاهوت المعاصر

يتميّز
اللاهوت المعاصر، في عرضه لعقيدة الثالوث الأقدس، برغبه العودة إلى أسلوب العهد
الجديد، الذي لا ينظر إلى موضوع الأقانيم الثلاثة كوصف دقيق موضوعيّ للذات الإلهية
بقدر ما ينظر إليه كتعبير عن علاقة الله الخلاصيّة بالإنسان. فني هذه العلاقة ظهر
لنا الله آباً وابناً وروحاً قدساً.

فالمعضلة
تكمن في تحديد مدى تطابق ظهور الله في تاريخ الخلاص مع كيانه الذاتي. كما تكمن في
تحديد مدي إمكانيّة التعابير التقليديّة بالإحاطة بسرّ الله، كالقول إنّ الله
“ثلاثة أقانيم في جوهر واحد”، وإن الأقنوم الثاني من الثالوث الأقدس هو
الذي تجسّد، ومدى انسجام تلك التعابير والثقافة المعاصرة.

سنقتصر
على عرض أفكار ثلاثة لاهوتيّين خاضوا هذا الموضوع: راهنر، ومولتمن، وكونج. فالأوّل،
كاثوليكي، عبّر عن اللاهوت التقليدي بأسلوب جديد، دون أن يحيد عن الإيمان المعترف
به في الكنيسة الكاثوليكية. والثاني، بروتستنتي، ركّز على إيجاد لغة تجمع بين
الوحدة في الله وتثليث الأقانيم. والثالث، كاثوليكي، أراد التوجّه إلى الإنسان
المعاصر بلغة يفهمها، فحكمت عليه الكنيسة بأنّه حاد عن الإيمان المسيحي كما تعتنقه
الكنيسة الكاثوليكية منذ القديم.

1- كارل
راهنر (
Karl
Rahner
)

ء)
ظهور الثالوث في تاريخ الخلاص

ينطلق
كارل راهنر، اللاهوتي الألماني المعاصر (+ 1984)، من المبدإ اللاهوتيّ القائل إنّ
الحياة الإلهية هي سرّ لا يمكن الإنسان الوصول إليه بقواه الذاتية، وإننا من ثمّ
لا نستطيع أن نصل إلى معرفة الله معرفة تامّة ما يمنحنا الله ذاته تلك المعرفة.
ويضيف أنّ ذلك لا يمكن أن يتحقّق إلاّ من خلال عطاء الله نفسه لنا عطاء ذاتياً
ومباشراً.

وإذا
عدنا إلى الكتاب المقدّس، نجد ان هذا العطاء الذاتيّ لله قد تحقّق بوساطتين
متميّزتين: وساطة يسوع المسيح ابن الله، ووساطة الروح القدس. والمسيح والروح لا
يمكن أن يكون مخلوقين، وإلاّ لما أتيح لنا الاتّصال بالله في ذاته.

من
هنا يخلص راهنر إلى تحديد القاعدة. التي يعتبرها أساسية في كلّ كلام لاهوتِيّ عن
الثالوث الأقدس: “إنّ الله في ظهوره الخلاصيّ لا يختلف عمّا هو عليه في حياته
الذاتيّة. والإنسان باتّحاده بالله من خلال ظهوره لنا في الابن والروح القدس لا
يتّحد بمظاهر الله، كما كانت تقول البدعة الشكلانيّة، يل يتّحد بحياة الله الذاتية.
فالثالوث هو، في ذاته، كما ظهر لنا في تاريخ الخلاص”. يقول راهنر:

“إنّ
التعبير عن سرّ الله الثالوث انطلاقاً من علاقة المحبة التي تربط البشر بعضهم ببعض،
كما نجدها عند القديس أوغسطينوس- مها كانت متفوّقة عبقرية أوغسطينوس وعبقرية الذين
من بعده توسّعوا في الطريقة عينها-، أعني بذلك اعتبار الأقانيم الإلهية العناصر
الثلاثة التي تكوّن المحبة، أي المحب، والمحبوب، والمحبة ذاتها، إنّ هذا التعبير
لا يفسّر ما يجب تفسيره، أي لماذا الابن هو كلمة الآب، ولماذا ينبثق الروح من الآب.
لأنّ تفسيراً كهذا يفترض أنّ الله يعرف ذاته ويحب ذاته، ولا يشرح كيف أنّ تلك
المعرفة والمحبة هما مصدر ولادة الابن وانبثاق الروح.

“حتى
وان أغفلنا تلك الصعوبات، يبقى أن هذا التفسير الذي عُرف “بالتفسير النفسي
للثالوث” بهمل إلى حدّ بعيد النقطة الأساسية التي يرتكز عليها تاريخ الوحي
وتاريخ العقائد في موضوع الثالوث الأقدس، أعني الخبرة التي من خلالها اختبر الرسل
أن الابن الروح القدس هما عطاء الله ذاته لنا. وتلك الخبرة لتاريخ الخلاص هي وحدها
كفيلة بأن تفهمنا معنى عقيدة الثالوث الأقدس: إن “التفسير اللاهوتي
للثالوث” يتجاوز خبرتنا للثالوث في تاريخ الخلاص، ليغوص في نظريّات هي أقرب
إلى “الغنوصية” منها إلى الإيمان المسيحي، ويسبر أعماق الذات الإلهية. وهو
بذلك ينسى أن وجه الله، كما رأيناه، في عطاء الله ذاته لنا بشكل ثالوثيّ، هو نفسه
الذات الإلهيّة في كل عمقها. لأن ما وصلنا من النعمة الإلهية والمجد الإلهي هو
الله ذاته في عطائه لنا.

“في
تاريخ الخلاص، الجماعيّ والفرديّ، لا يمكن القول إن كائنات سماوية قد ظهرت في
عالمنا باسم الله، بل إنّ ما ظهر لنا وأعطي لنا حقاً هو الإله الوحيد نفسه، الذي
لم يرسل إلينا من ينوب عنه أو يمثّله، بل أتى إلينا هو ذاته وكما هو في ذاته.
والذي تقبّلناه هو الله ذاته وكما هو في ذاته.

“هذا
الإله الواحد ندعوه “الروح القدس”، من حيث إنّه يدخل في أعماق الشخص
البشريّ فيقدّسه ويؤلّهه، وهذا ما عرفناه واختبرناه في تاريخ الخلاص. وهذا الإله
نفسه، من حيث إنّه حضر إلينا هو ذاته -وليس ممثّله أو وكيله- في وجودنا التاريخيّ
في شخص يسوع المسيح، ندعوه “الكلمة”، أو “الابن” دون أي إضافة.
ومن حيث إنّ هذا الإله الذي يأتي إلينا روحاً ويأتي إلينا كلمة، هو على الدوام
الإله الذي لا يمكن التعبير عنه، والسرّ القدسيّ، والأساس والينبوع الذي لا يمكن
إدراكه لمجيئه في الابن والروح، ومن حيث إنه يبقى دوماً كما هو، ندعوه الإله
الواحد، الآب”.

ثم
يعود إلى توضيح الجوهر الواحد والأقانيم الثلاثة. فيقول عن الجوهر الواحد:

“من
حيث إننا، عندما نتحدّث عن الروح، والابن- الكلمة، والآب، ما نقصده هو بالمعنى
الحصريّ أن الله يهب ذاته وليس كائناً آخر متميّزا عنه، يجب القول، بالمعنى
الحصريّ عينه، وبالطريقة عينها، إنّ الروح، والابن- الكلمة، والآب، هم إله واحد
والإله ذاته، في الملء اللامتناهي للألوهية الواحدة، وفي الجوهر الإلهي الواحد
ذاته”.

أما
عن التمييز بين الأقانيم الثلاثة فيقول:

“ومن
حيث إنّ طريقة حضور الله كروح، وابن، وآب، لا تعني بالنسبة إلينا الطريقة ذاتها
لهذا الحضور، أي من حيث إنه يوجد تباين في طريقة الحضور، يجب التمييز بدقّة بين
طرق الحضور الثلاثة هذه. “فبالنسبة إلينا”، الآب، والابن الكلمة، والروح،
ليسسوا أولاً، أمراً واحدًا. ولكن من حيث إن طرق الحضور هذه للإله الواحد ذاته،
بالنسبة إلينا، لا يمكنها أن تزيل عطاء الله نفسه لنا عطاء ذاتياً كإله واحد ووحيد
ومماثل لذاته، يجب إرجاع هذه الطرق الثلاثة لحضور الله الواحد ذاته، إلى الواحد
ذاته، في ذاته وبالنسبة إلى ذاته.

“لذلك
عندما نقول: إنّ الإله الواحد ذاته حاضر بالنسبة إلينا كآب، وابن كلمة، وروح قدس،
أو: إن الآب يعطي لنا نفسه عطاء ذاتيّا مطلقاً بالابن وفي الروح القدس، يجب اعتبار
هذيبن القولين والأقوال الأخرى المماثلة كتصريحات وتوضيحات عن الله كما هو في ذاته.
وإلاّ كانت أقوالاً غريبة عن عطاء الله ذاته لنا عطاء ذاتياً. ولا يحقّ لنا أن
نفترض وجوداً في الله مغايرا للطرق الثلاثة التي حضر فيها إلينا.. في الثالوث الذي
ظهر لنا في تاريخ الوحي والخلاص، اختبرنا الثالوث كما هو في ذات الله. وبما أنّ
الله، في الطرق المبيّنة أعلاه، قد ظهر لنا ثالوثاً، يمكننا القول إننا اختبرنا
الله في ذاته انطلاقاً من سرّه القدسيّ عينه. ذلك أنّ اقتراب الله من الإنسان
اقتراباً حرّاً في النعمة التي تفوق إدراك الإنسان هو الذي يوحي لنا الذات الإلهية
في عمقها. فإنّ كون الله مماثلاً لذاته لا يعني مطلقاً الجمود والموت، بل يتضمّن
في ذات حيويّة إلهيّة تتيح له أن يأتي إلى ملاقاتنا. وتلك الحيويّة هي بعد أساسي
في الثالوث الأقدس..

“إنّ
عقيدة الثالوث الأقدس ليست مجرد تفكير بشريّ يمكن الاستغناء عنه. فبدونها لا يمكن
أن نفهم كيف أن الله هو في آن معاً السر القدسيّ المطلق، البعيد عن الإنسان بعداً
لا متناهياً، والإله القريب من الإنسان قرباً مطلقاً في عطاء ذاته للإنسان عطاء
ذاتياً حقيقياً، وذلك في العمق الروحيّ لوجودنا كما في واقعيّة تاريخنا الجسديّ.
في هذا يكمن حقاً معنى عقيدة الثالوث الأقدس”

ب)
انفتاح الإنسان على المطلق

ويؤكد
راهنر أن الإنسان يملك في عمق كيانه إمكانية تقبّل هذا العطاء الذي يهب فيه الله
ذاته للإنسان. وتلك الإمكانيّة قد وضعها الله في الإنسان منذ أن خلقه. “فإنّ
فعل الخلق هو أحد عناصر هذا العطاء الذي به يهب الله ذاته لنا”. إن عطاء الله
ذاته لنا يفرض وجود شخص منفتح لتقبّل الإله الشخصيّ. فالإنسان إذاً من جهة كائن
جسديّ وماديّ، ومن جهة أخرى وفي آنٍ معاً روحيّ شخصيّ ومنفتح على الإله المتسامي.
ثم إنّ وجود الإنسان في الجسد لا يحول دون اتّصال الله به واتّصاله هو بالله.
إنّما يوضح الطريقة التي ارتبط بها الله ليتّصل من خلالها بالإنسان، وهى طريقة
التجسّد، والطريقة التي يتّصل من خلالها الإنسان بالله، وهي تقبّل الروح.

ج)
النعمة دخول في حياة الثالوث

فإن
كان الله في ذاته ثالوثاً، ينتج من ذلك أنّ الإنسان باتحاده بالله إنّما يتّحد
بحياة الله الثالوث. لذلك لا يكفي القول إنّ النعمة هي موهبة من الله. بل يجب
التأكيد على أن النعمة تأتينا بالابن المتجسّد وتجعلنا أبناء لله الآب وهياكل
للروح القدس. إنّ اتصال الإنسان بالله ليس مجرد “مشاركة في الطبيعة
الإلهية” بنوع عام، كما جاء في رسالة القديس بطرس الثانية (1: 4). بل هو
اتّصال بحياة كل من الأقانيم الإلهية الثلاثة: فالآب يمنحنا روحه القدوس ليجعلنا،
على مثال الابن، أبناء الله. إن علاقة الإنسان بالله في اللاهوت المسيحي هي علاقة
ثالوثيّة، والإنسان يشترك حقا في حياة الله الثالوثيّة. وتلك هي النعمة: دخول في
حياة الآب ليصير الإنسان ابنه، وفي حياة الابن ليصير الإنسان أخاه، وفي حياة الروح
القدس ليصير هيكلاً له.

ثم
إن هناك انسجاماً تاماً بين رغبة الإنسان في الاتحاد بالله من جهة والطريقة التي
تحققت فيها تلك الرغبة من جهة أخرى. فالإنسان الذي يرغب في الاتحاد بالله يرغب في
الواقع في أن يصير ابن الله ويتّحد بروح الله. وهذا ما تحقّق في عطاء الله ذاته
لنا في تجسّد ابنه. فالابن المتجسّد أرسل إلينا روحه القدوس ليتّحد بِروحنا فنحيا من
حياة الله، ونصير على مثاله أبناء الله.

إن
الله، عندما أراد أن يُظهر ذاته للبشر، أرسل إليهم ابنه ليكون واحداً منهم في
الزمن والتاريخ ويجعلهم أبناءه. فالتاريخ كلّه هو إذاً في اللاهوت المسيحيّ تاريخ
تألّه الإنسان، منذ الخلق في بدء الزمن حتى عودة كل شيء إلى الله في نهاية الزمن.

وإرسال
الروح على التلاميذ يوم العنصرة ليس أمراً ثانوياً بالنسبة إلى العمل الخلاصيّ
الذي قام به الابن المتجسّد. فالابن من بعد قيامته يمنحنا أثمن ما لديه، يمنحنا
روحه القدوس، الروح الذي يناله من الآب، الذي هو في آنٍ واحد روح الآب وروح الابن،
وذلك ليُتمّ فينا وفي العالم أجمع عمل الخلاص الذي حقّقه الابن بتجسّده وموته
وقيامته.

لا
بدّ من التنويه بهذه النظرة الرائعة التي يعود كارل راهنر ليلتقي فيها مع أروع ما
جاء عند الآباء الشرقيّين من لاهوت التألّه.

د)
عمل الثالوث عبر التاريخ

إنّ
عمل الثالوث عبر التاريخ وعلاقة الله بالإنسان لتأليهه على مدى الزمن، يوجزهما
راهنر في اللوحة التالية:

مسيرة
التاريخ عمل الروح الأصل المستقبل التاريخ السموّ التقدمة القبول الحقيقة المحبة
تحت راية الوحدة

1)
ان الله هو أصل الإنسان ومستقبله. انه أصله ومصدر كيانه، وفي آن معاً مستقبله
المطلق، الذي يستطيع وحده ان يشبع رغباته ويملأ كيانه. وبين أصل الإنسان ومستقبله
يسير التاريخ البشريّ الذي يتميّز بالحرّية المعطاة للإنسان.

2)
بين التاريخ والسموّ مسافة تشير إلى أن الإنسان لا يمكنه أن يختبر الله المتسامي
اختباراً مباشراً وديعاً. ولكن ما يختبره من الله هو اختبار حقيقيّ يحقّق من خلاله
نزعة كيانه نحو الإله المطلق المتسامي.

3)
التقدمة- القبول: الإنسان كائن روحي. لذلك فهو يملك الحرية في أن يقبل الله الذي
يهبه ذاته أو يرفضه. ان الله الذي يهب ذاته بمحبة لا يفرض على الإنسان أن يختاره، وإن
كان يعلم أنّ قبول الإنسان عطاء الله هو السبيل الوحيد الذي من خلاله يستطيع
الإنسان أن يحقّق كماله. فالله يهب ذاته بشكل يسمح للإنسان قبول هذا العطاء بكامل
حريته.

4)
الحقيقة- المحبة: إنّ ما ظهر لنا من الله هو الجوهر الإلهي بكلّ حقيقته. وظهور
الحقيقة الإلهية هو ظهور في المحبة، أي انه ظهور لكائن روحيّ يمكنه مبادلة الله
بالمحبة والإنسان، ذاك الكائن الروحي الذي لا يصل إلى ملء كيانه إلاّ بالمعرفة
والمحبة، يتحقّق له هذا الأمر عندما يمتلئ من معرفة الله ومحبّته.

يدعونا
راهنر إلى قراءة هذه اللوحة في الاتّجاه العموديّ. فالعمود الأوّل يدعوه
“مسيرة التاريخ” مشيراً بذلك إلى أن الله يرغب في عطاء ذاته للإنسان،
وإلى أنّ لك الرغبة هي أساس اصل الكون والتاريخ. فالله لأناس يعيشون في التاريخ
مشدودين إلى الله الذي هو مستقبلهم المطلق، لذلك فان تقدمة الله ذاته للإنسان هي
حتماً تقدمة ضمن التاريخ. أما تتويج مسيرة التاريخ بفكرة “الحقيقة”،
فالقصد منه التأكيد على أن عطاء الله وأمانته ليسا مجرّد مظاهر، بل هما عطاء
حقيقيّ وأمانة حقيقيّة، وأننا من خلالهما يتاح لنا التعرّف إلى الله في ملء حقيقته.

وتلك
الحقيقة قد ظهرت لنا في التاريخ في شخص يسوع المسيح، ابن الله، الذي هو كلمة الله،
ووحي الله، وعطاء الله الذاتيّ. فيه خلق كل شيء، وبه يتمّ خلاص كل شيء. هو الأول
والآخر، البداية والنهاية. وفيه يصير الكون كلّه تاريخ خلاص ورحمة ونعمة.

إن
مسيرة التاريخ يقابلها في العمود الثاني “عمل الروح” فالروح هو الذي
يظهر للإنسان محبة الله، وبالروح يعرف الإنسان ان الله هو مستقبله المطلق، وأنه في
الله وحده يمكنه تحقيق نزعته الفطريّة إلى السموّ. كما أن الروح هو الذي يدخل إلى
أعماق الإنسان ليحمله على قبول تقدمة الله- والإجابة على محبة الله بمحبة متبادلة.

هكذا
يبدو لنا سرّ الثالوث الأقدس سراً خلاصياً يجّرعن عمل الله الثالوث في تاريخ
الإنسان، ويقود الإنسان إلى كلا خلاصه في الله. وهذا العمل الإلهي يتمّ تحت راية
الوحدة، مع تمييز الأقانيم في تلك الوحدة. إنّه الإله الواحد الذي يهب ذاته لنا في
الابن والروح، في الابن الذي هو كلمة الآب أي الحقيقة الإلهية، وفي الروح القدس،
الذي هو روح الآب وروح الابن، أي المحبة الإلهية.

2- مولتمن
(
Jurgen Moltmann)

ينتقد
مولتمن طريقة راهنر في التعبير عن الأقانيم الإلهية، ولاسيّمَا تسميته الأقانيم
الثلاثة “طرق وجود” للإله الواحد. فيرى في هذا التعبير خطر الانزلاق نحو
الشكلانيّة.

لا
ريب في أن التعبير اللاهوتي عن سرّ الثالوث يجب أن يجمع بين أمرين قد يبدوان
متناقضين: التوحيد والتثليث، أي إنّ الله واحد في ثلاثة أقانيم. ففي تأكيد
وحدانيّة الله يجب المحافظة على تثليث الأقانيم، وفي تأكيد تثليث الأقانيم يجب عدم
انتقاص وحدانيّة الله. فيسأل مولتمن: ما هو العنصر الذي يجعل الله واحدا؟ ويجيب أن
اللاهوت حتى الآن قد رأى هذا العنصر في أحد أمرين:

إمّا
في الطبيعة الواحدة والجوهر الواحد

وإنّما
في الذات الإلهية الواحدة.

كما
أنّ هناك نظرتين: احداهما في الأقانيم الإلهية الثلاثة، ثم تؤكّد أنّ لها طبيعة
إلهيّة واحدة. وهذه هي نظرة الكتاب المقدس. وتنطلق الثانية من الذات الإلهية
الواحدة، ثم تبحث في تحقيق هذه الذات في الأقانيم الثلاثة. وهذه هي نظرة التفكير
الفلسفيّ الذي يمكنه التوصّل إلى وجود ذات إلهيّة واحدة، من خلال ضرورة وجود
المطلق، الذي لا يمكن أن يكون إلا واحداً.

ء)
أمّا مولتمن فيختار طريقاً ثالثاً، فيقول:

“من
جهة النظر اللاهوتيّة، يبدو الانطلاق من الكتاب المقدس، أي من الأقانيم الثلاثة؛
ثم الانتقال إلى البحث في وحدة هذه الأقانيم، أجدى من الانطلاق من المسلّمة
الفلسفية، التي تفترض وحدة الذات الإلهية المطلقة، ثم تنتقل إلى البحث في ما يقوله
الكتاب المقدس عن الأقانيم الثلاثة. ففي النظرة الأولى، تتضمّن وحدة الأقانيم
موضوع اكتمال الثالوث في نهاية التاريخ. وتلك الوحدة يجب أن نعتبرها منفتحة مضيافة
وقابلة لأن يدخل فيها آخرون ويأتلفوا معها. أمّا إذا انطلقنا من تجانس الذات
الإلهية الواحدة، فيصعب علينا تصوّر انفتاح تلك الذات الإلهية الواحدة على غيرها.
لأنّ مثل هذا الانفتاح قد يفقدها تجانسها”. ثم يتابع:

“في
بحثنا عن مفهوم للوحدة يتلاءم والشهادة الكتابيّة عن الإله الثالوث الذي يتّحد
بذاته، يجب أن ندع جانباً مفهوم الجوهر الواحد ومفهوم الذات الواحدة. فلا يبقى لنا
سوى القول باتّحاد الأقانيم في ما ينهم، أو باتّحاد الإله الثالوث. ذلك أن مفهوم
الاتّحاد يعني وحدة منفتحة ويمكن الاتصال بها. الإله الواحد هو الله متّحد. وهذا
يفرض في الله تمييزاً شخصياً، وليس فقط شكليًّا. فالأشخاص وحدهم يمكنهم أن يكونوا
متحدين، وهذا لا يصحّ في “طرق الوجود” (كما يقول راهنر). إن اتّحاد
الأقانيم الإلهية لا يحتاج إلى أن يبرهن عنه بوحدة الجوهر الإلهيّ، ولا بوحدة
الذات الإلهيّة. إن اتّحاد الثالوث هو أحد المعطيات التي تتضمّنها شركة الآب
والابن والروح القدس.

“إنّ
الآب والابن والروح القدس ليسوا فقط متميّزين أحدهم عن الآخر، بل هم على القدر
ذاته متحدون أحدهم مع الآخر وأحدهم في الآخر. فالقول إنّ الله أقانيم، والقول إن
الله شركة هما جانبان لأمر واحد. لذلك إنّ مفهوم الأقنوم الإلهي يجب أن يتضمّن
مفهوم الاتحاد، وكذلك يجب أن يتضمّن مفهوم الوحدة الإلهية مفهوم الأقانيم الثلاثة.

“ينتج
من ذلك أنّ عنصر الوحدة في الله يجب ألاّ يكون في تجانس الطبيعة الإلهية الواحدة،
ولا في الذات المطلقة الواحدة، ولا في أحد أقانيم الثالوث. بل يجب أن يدرك في
تداخل الأقانيم الإلهيين أحدهم في الآخر.

إن
لم نر وحدة الله في اتحاد الإله الثالوث، يصعب علينا اجتناب خطري الآريوسية
والصابيليّة”.

أمّا
تمييز الأقانيم أحدهم عن الآخر، فيراه في علاقة كل منهم بالآخر ضمن الثالوث. فالآب
هو المصدر الذي منه يولد الابن، ومنه ينبثق الروح القدس، فالآب لا يدعى آبا لأنه
خلق الكون، بل لأنّه أب لابن وحيد. والخلق هو عمل الأقانيم الثلاثة، “الآب
يخلق السماء والأرض بالابن في قدرة الروح القدس”.

أمّا
الروح القدس فإنّه، من حيث وجوده الإلهي، ينبثق من الآب وحده. وهذا القول هو تأكيد
لألوهيّة الروح القدس. أما من حيث صورتّه ضمن الثالوث، فإنّه يأخذ تلك الصورة من
الآب والابن، أي ان له علاقة بالآب والابن. لذلك يدعى “روح الآب”
و”روح الابن”. فهناك فرق بين الأمرين يجب المحافظة عليه. يقول مولتمن:

“ان
الكنيسة الغربية، بإضافتها “والابن” على قانون الإيمان، قد أزالت هذا
الفرق، وكأن هناك مصدرين لوجود الروح القدس: الآب والابن. وذلك لا يمكننا هنا أن
نضيف ونجمع، كما تفعله صيغة “والابن”، التي تترك في الغموض ما يأتي من
الآب وما يأتي من الابن. بل يجب المحافظة على الواقعيّة، فيكتفي بتحديد الأمرين
الواحد تلو الآخر: أي أوّلاً علاقة الروح القدس بالآب، ثم علاقة الروح القدس
بالابن”.

وينتقد
مولتمن استعمال لفظة “علّة” () عند الآباء الكباذوكيّين، بالنسبة إلى
علاقة الآب بالابن والروح. فتلك اللفظة أخذها الآباء عن فلسفة أرسطو، واستعملوها
بالمعنى ذاته لعلاقة الآب بالابن، فقالوا إنّ الآب هو علّة الابن، وملأ الآب
بالروح القدس، فقالوا أيضاً: إنّ الآب هو علّة الروح القدس. وفي هذا الاستعمال لم
يعد أيّ تمييز بين ولادة الابن وانبثاق الروح القدس.

والحال
أنّ الروح القدس ينبثق منذ الأزل من الآب، لا من حيث إنّ الآب هو المبدأ الأوحد
للالوهة، بل من حيث إنه منذ الأزل آب للابن. لا شك أنّ هذا التعبير الذي يركّز على
“العلّة الواحدة” يمكننا فهمه انطلاقاً من محاربة عقيدة إضافة
“والابن” الملتبسة، ولكنّه يتضمّن خطراً مماثلاً للخطر الذي يحاربه..
وهو خطر الانزلاق إلى التبعيّة، التي تعتبر الآب وحده إلهاً بالمعنى الحصريّ
والابن والروح تابعين له. لذلك من الأنسب إبعاد مفهوم “العلّة الأولى”
عن عقيدة الثالوث الأقدس، والاكتفاء بعرض العلاقات بين الأقانيم الثلاثة، ومن تلك
العلاقات تنتج حتماً أوّليّة الآب”.

وكذلك
يرى مولتمن خطراً في استعمال لفظة “أقنوم” أو شخص أو “طريقة
وجود” بمعنى واحد للآب والابن والروح القدس. فالآب ليس أقنوماً كالابن، بل
هناك فرق بين الأقانيم الثلاثة. لأن ما يميّز الأقنوم أو الشخص هو علاقته بالآخر.
وبما أن الأقانيم الثلاثة يتميّز أحدهم عن الآخر بعلاقته الفريدة تجاه الآخر، لا
ينطبق مدلول لفظة “أقنوم” بالمعنى ذاته على كل منها.

يشير
أخيراً مولتمن إلى أنّ نظرة اللاهوت الغربيّ بإسناد الوحدة في الله إلى الطبيعة
الإلهية قد تقود إلى إزالة الفرق بين الأقانيم الثلاثة، كما نرى ذلك في البدعة
الشكلانيّة. لذلك يجب القول إنّ الوحدة في الله لا تسبق الأقانيم. بل “إنّ
الوحدة الإلهية تكمن في ثالوث الآب والابن والروح القدس. إنّها لا تسبق الثالوث
ولا تأتي بعده”.

ويخلص
مولتمن إلى القول إنّنا في لاهوت الثالوث الأقدس لا نستطيع استعمال ألفاظ مجرّدة
تشمل بمدلول واحد الأقانيم الثلاثة. بل يجب الاكتفاء بسرد تاريخ الآب والابن
والروح القدس. وهذا التاريخ يختبره الإله الثالوث نفسه.

ب)
نتائج النظرة على لاهوت الكنيسة

1)
إنّ التركيز في لاهوت الثالوث على وحدة الطبيعة أو على وحدة الذات الإلهية يقود
إلى رؤية وحدويّة وسلطويّة للكنيسة: إله واحد، مسيح واحد، رئيس واحد للكنيسة (بطرس
الرسول، ومن بعده بابا رومة). وفي هذه النظرة الوحدويّة تبدو الطاعة للسلطة
الكنسيّة الركيزة الأساسيّة لبنية الكنيسة.

أمّا
رؤية الوحدة في تثليث الأقانيم فأكثر انسجاماً مع الله المحبة، وينتجَ منها نظرة
للكنيسة مبنيّة، لا على السلطة والطاعة، بل على الحوار والوفاق، وعلى عمل الروح في
الكنيسة.

2)
وفي هذه النظرة الثالوثيّة يبدو ملكوت الله تحقيق ملك الآب والابن والروح القدس.

يقوم
ملك الآب على خلق عالم منفتح على المستقبل، لتمجيد الله الثالوث. فالخلق منذ البدء
ليس إلاّ بداية عمل الله الخلاّق، الذي يمتدّ حتى نهاية التاريخ. وهكذا يتّخذ
مفهوم العناية الإلهية بعداً جديداً، هو بعد الانفتاح على المستقبل. فالله الآب
يعتني بأبنائه، ليس فقط في الحاضر، بل فتحهم على المستقبل. وملك الآب ليس فقط ملك
قدرة، بل هو ملك رجاء يظهر في محبة الله وصبره وقبوله بإمكانيّة ابتعاد خلائقه عنه
وانغلاقها على ذاتها. هكذا يفسح الآب المجال لحرّية خلائقه: فهو يملك بخلق كيانها
وإفساح المجال لحرّيتها، حتى ضمن العبوديّة التي هي ذاتها مسؤولة عنها.

أمّا
ملك الابن فيقوم في سيادة المصلوب التي تحرّر الناس من عبوديّة الخطيئة ومن سلطة
الموت، وتدخلهم في حرية أبناء الله المجيدة، إذ تجعلهم على صورته. لقد خلق الإنسان
على صورة الله لينال البنوّة الإلهية. فهو من ذاته منفتح على مستقبل إلهيّ سيحقّق
فيه كمال كيانه. فإن هو ابتعد عن الله، انغلق بالفعل عينه على ذاته وقتل فيه كل
إمكانيّة إلهيّة مستقبليّة. والابن هو المصلوب الذي يحرّر الإنسان بالألم الذي
يقبله طريقاً إلى القيامة.

وأخيراً
ملك الروح يختبره المسيحيّ الذي حرّره الابن وصار ممتلئاً من مواهب الروح. وفي هذا
الامتلاء يختبر المسيحيّ أن الله قريب منه: فهو في الله، والله فيه. وتلك الخبرة
يدعوها الصوفيّون “ولادة الله في النفس”.

وفي
الروح تولد جماعة جديدة، هي العلامة المسبقة للخليقة الجديدة التي سوف تجد كمالها
في ملك المجد في مشاهدة الله وجها لوجه في حياة الثالوث الأبدية.

3- هانس
كونج (
Hans Kung)

أوضح
هانس كونج نظرته اللاهوتية إلى سرّ الثالوث الأقدس في آخر كتابين له: “هوّية
المسيحيّ”، الذي نشر بالألمانية سنة 1974، وترجم إلى الفرنسيّة سنة 1978،
و”أموجود الله؟” الذي نشر بالألمانيّة سنة 1978، وترجم إلى الفرنسية سنة
1981.

وقد
أثار الكتابان ضجة كبرى في الأوساط الكاثوليكية، بسبب مواقف المؤلف المتطرّفة، لا
سيّما في تفسيره لألوهيّة المسيح. وهذا الموضوع يمتّ بصلة وثيقة إلى موضوع الثالوث
الأقدس. لذلك سنوجز فكرته في هذين الموضوعين اللذين يحاول أن يعبّر من خلالهما عن
العقيدة المسيحية بطريقة تتلاءم وعقليّة الإنسان المعاصر.

ء)
ألوهيّة المسيح

عن
ألوهيّة المسيح، يعتبر كونج أولا ان الإله واحد. لذلك لا يمكن أن يكون “ابن
الله” الذي تجسّد في يسوع المسيحٍ إلهاً آخر إلى جانب الله، كما تقول
الآريوسية. ويرفض من ناحية أخرى الشكلانيّة، مؤكّدا أنّ “ابن الله” ليس
مجرّد شكل لله، بل هو كائن متميّز عنه، وإن ارتبط به ارتباطاً وثيقاً في علاقة
فريدة لا نجدها عند أيّ من الناس.

وتلك
العلاقة الفريدة بين يسوع الناصريّ والله، يراها كونج في الوحي، ويصوغها على النحو
التالي: إن يسوع الناصريّ، الإنسان الحقيقي، هو، للمؤمن، الوَحي الصحيح للإله
الحقيقيّ الأوحد”. وتتضمّن هذه العبارة كلّ ما جاء في العهد الجديد عن الوحدة
بين الآب والابن، كما في الأقوال التالية ليسوع: “الآب يعرفني، وأنا أعرف
الآب” (يو 10: 15)، “إنّ الآب فيّ، وأنا في الآب” (يو10: 38)،
“أنا والآب واحد” (يو10: 30)، “من رآني فقد رأى الآب” (يو 14:
9).

في
هذه التصريحات لا يرى كونج أيّ تأكيد ما ورائيّ حول كيان الله، بل مجرّد تعبير عن
شخص يسوع ودوره بالنسبة إلى الله وبالنسبة إلينا. يقول كونج:

“ففي
عمل يسوع وفي شخصه يأتي الله لملاقاتنا ويتجلّى تجلّياً محسوساً، ليس للمراقب
المحايدة بل للإنسان الذي يؤمن بيسوع ويسلّم له ذاته بثقة. فني يسوع إذاً يظهر
الله على حقيقته. وفي يسوع يُظهر الله، على نحوٍ ما، وجهَه.. لذلك يمكننا أن ندعو
يسوع وجه الله، أو حسب قول العهد الجديد ذاته، “صورة الله” (كو 1: 15).
وهذا معنى عبارتي “كلمة الله” و”ابن الله”. فهذه التعابير هي
صور لا تعني سوى العلاقة الفريدة التي تربط يسوع بالآب وبالبشر: إنّ عمل يسوع
وأهميّة شأنه يقومان على أنَه هو وحي الله لأجل خلاص العالم”

أمّا
عن وجود ابن الله منذ الأزل مع الله قل التجسّد فيقول كونج إنّه أمر يصعب اليوم
قبوله. انه مجرّد انعكاس في اللاهوت المسيحيّ لاعتقادات يهوديّة في وجود الحكمة
الإلهية والتوراة، كلام الله، منذ الأزل مع الله. إن تفكير العهد الجديد قد انتقل
من الآخر إلى الأوّل، من النهاية إلى البداية. فإذا كان يسوع المصلوب الذي أقامه
الله هو هدف التاريخ ونهايته، فلا بدّ أن يكون منذ البداية ومنذ الأزل مع الله.
فالآخر هو أيضاً الأوّل.

ويضيف
أنّ تلك التصوّرات لا تعني لنا اليوم سوى التأكيد على “أن العلاقة بين الله
ويسوع لم تنشأ عن طريق الصدفة، بل هي من المعطيات الأوليّة، وأساسها في الله
نفسه”. ذلك “أنّ الله هو منذ الأزل، وسيبقى إلى الأبد، كما أوحى بذاته
في يسوع”.

أمّا
عن المجامع المسكونيّة، فيرى كونج أنّ مجمع نيقية (325)، في رفضه نظرّية آريوس،
وإعلانه أنّ يسوع هو “من ذات جوهر الآب”، أراد التأكيد على أن يسوع ليس
إلهاً آخر إلى جانب الله، ولا إلهاً بين الله والإنسان. بل إنّ الله الواحد
الحقيقيّ قد ظهر ظهوراً حقيقياً في شخص يسوع. وهذا أيضاً معنى تصريح مجمع
خلقيدونية (451) أنّ يسوع هو إله حقيقيّ وإنسان حقيقيّ. وهذا التصريح يجب تأكيده
اليوم أيضاً، بمعنى أنه لا يمكننا القول إن يسوع هو “إله وحسب”، ولا
إنّه “إنسان وحسب”. بل هو في آنٍ معاً إله وإنسان.

لكن
كونج يفسّر ألوهية المسيح في منظار وظيفيّ، لا في منظار ماورائيّ. أي إنّ الله قد
تكلّم وعمل وأوحى ذاته الوحي النهائيّ في شخص يسوع وعمل يسوع. فيسوع هو موفد الله
ووكيله وممثّله ونائبه، وقد أثبت الله دور يسوع هذا عندما أقامه من بين الأموات.
وكل التصريحات حول البنوّة الإلهية ووجود ابن الله منذ الأزل ووساطته في الخلق
وتجسّده، إنّما هي وليدة فكر أسطوري، ولا تهدف إلاّ إلى إعلان الصفة الفريدة التي
يتمتّع بها يسوع في دعوته وتطلباته، والتأكيد على أنّ تلك الدعوة والتطلّبات لم
تأتِ من مصدر بشريّ بل من مصدر إلهيّ.

لذلك
يقول كونج إنه لا يرفض أي شيء ممّا أعلنته المجامع المسكونية في موضوع ألوهية
المسيح، ولكنّه يضيف أنّه يجب التعبير عن تلك التعاليم في إطار مفاهيمنا وثقافتنا
المعاصرة.

ويعود
في كتابه “أموجود الله؟” إلى الموضوع نفسه، فيقول:

“إنّ
القول بأن الله صار إنساناً في يسوع يعني الأمر التالي: إنّ كلام الله وإرادة الله
قد اتّخذا وجهاً إنسانياً في جميع أقوال يسوع، وكرازته، ومسلكه ومصيره. إن يسوع،
في أقواله وأعماله، في آلامه وموته، وفي شخصه كلّه، قد أعلن وأظهر وأوحى كلام الله
وإرادته: ففيه يتطابق تمام المطابقة الكلام والفعل، التعليم والحياة، الكيان
والعمل. إنه جسدياً، في وجه بشريّ، كلمة الله وإرادة الله وابن الله”

وهذا
هو المعنى الأخير للتعابير الكتابيّة التي تتكلّم عن ألوهيّة المسيح، ولا سيما في
انجيل يوحنا (1: 1- 14، 5: 17- 18، 10: 33- 38، 19: 7). كما أنّ هذا هو ما نعنيه
اليوم، عندما نعلن في قانون إيمان نيقية أنّ يسوع المسيح هو “ابن الله الوحيد،
المولود من الآب قبل كل الدهور، نور من نور، إله حق من إله حق، مولود غير مخلوق،
من ذات جوهر الآب”. لذلك يعود كونج فيوجز إيمانه بقوله: “إنّ الإنسان
الحقيقيّ يسوع الناصريّ هو، للمؤمنين، الوحي الفعلي للإله الحقيقيّ الأوحد، وفي
هذا المعنى هو ابن الله وكلمته”.

ثم
يضيف: إنّ كل التصريحات التي نقرأها في إنجيل يوحنا عن ألوهيّة المسيح تجد معناها
في هذا القول المقتضب والأساسي: “ان الله نفسه يظهر ذاته ظهوراً فريداً
ونهائياً في شخص يسوع وفي عمله”.

ثم
يسأل نفسه: “ماذا يعني اليوم كل هذا بالنسبة لي أنا؟”. ويجيب: ان كل ما
اكتشفه الفلاسفة عن الله وكل ما اعتقدت به الديانات لا يعطيني الصورة الحقيقية
الواضحة عن الله. تلك الصورة لا يمكننا أن نجدها إلاّ في الكتاب المقدّس: أولاً في
العهد القديم، وبشكل نهائيّ في العهد الجديد في شخص يسوع وعمله وموته. يقول كونج:

“حيث
يسوع، هناك أيضاً الله، فهو الذي يعرّفنى إرادة الله. حيث يتكلّم يسوع ويعمل، هناك
أيضاً الله إلى جانبه. وحيث يتألم ويموت، هناك أيضاً الله حاضر حضوراً خفيًّا.
لذلك أستطيع أن أدعوه وجه الله وصورته، وأيضاً كلمة الله وابنه.. بالنسبة لي يسوع
الناصري هو ابن الله.. ففيه ظهر كلام الله وعمل الله ظهوراً نهائياً. لذلك هو
بالنسبة إليّ مسيح الله، ووحيه، وصورته، وكلمته، وابنه. إنّه هو الابن الوحيد لله،
ولا أحد سواه”.

هكذا
ينظر كونج إلى يسوع المسيح ابن الله نظرة خلاصية، وليس نظرة مما ورائيّة وكيانية.
إنّ كيان ابن الله يقتصر، في نظره، على عمله الخلاصىّ بالنسبة إلى الإنسان، فهو
الله للإنسان وهو كلمة الله للإنسان، وهو صورة الله التي يبحث عنها الإنسان منذ
القديم وفي جميع الديانات والفلسفات، والتي لا يمكنه أن يراها إلاّ في المسيح.
وبهذا فقط هو ابن الله.

تلك
هي النقطة الأساسية التي رأت السلطة التعليميّة في الكنيسة الكاثوليكيّة أنّ هانس
كونج قد حاد فيها عن تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة التقليديّ وعن تعليم المجامع
المسكونيّة وعن تعليم العهد الجديد ذاته. فحسب تعليم الكنيسة الكاثوليكيّة، يسوع
المسيح هو ابن الله لجأ فقط لأنّه يوحي الله، بل أيضاً لأن ابن الله الأقنوم
الثاني من الثالوث الأقدس، الكائن منذ الأزل مع الله وفي الله، هو نفسه قد أخذ
جسداً من مريم العذراء، وصار إنساناً دون أن يفقد شيئاً من ألوهيّته. فهانس كونج
يفسّر وجود ابن الله منذ الأزل بقوله إنه مجرّد تعبير لا يعني سوى أنّ الله
الموجود منذ الأزل قد أوحى لنا ذاته في يسوع الإنسان الوحي الكبير.

في
هذا الموضوع يؤكّد كارل راهنر بدوره ضرورة القول بوجود ابن الله منذ الأزل قبل
التجسّد في الله. ويؤيّد قوله استنادًا إلى الإيمان بأن يسوع هو وحي الله ذاته،
وإلى مبدإه اللاهوتيّ القائل إنّ الله قد ظهر لنا في يسوع المسيح كما هو في ذاته.
فمن ظهوره لنا كلمة الله نستنتج انه موجود في الله منذ الأزل ككلمة الله والأقنوم
الثاني من الثالوث الأقدس.

ب)
الروح القدس

إنّ
نظرة هانس كونج إلى الروح القدس هي أيضاً نظرة خلاصيّة، وليس ماورائيّة. فيقول إنّ
الروح القدس هو “الله نفسه من حيث إنّه يملك بقوته وقدرة نعمته، على الإنسان
كله، وعلى عمق كيانه وعلى قلبه، ويحضر إليه حضوراً حقيقياً، ويتجلّى له هو ذاته
تجلّياً فعّالاً”.

“إنّ
الروح القدس ليس سائلاً سحرّيًا، جوهرّيًا، سريًّا، وفائق الطبيعة. إنّه الله نفسه،
الله القريب من الإنسان ومن العالم كقوة وقدرة تدرك الإنسان، دون أن يتمكّن
الإنسان من إدراكها، وتقدّم ذاتها للمرء دون أن يتاح للمرء التصرّف بها على هواه.
تخلق الحياة، ولكنها أيضاً تدين الإنسان.

“المهم
هو أنّ الروح القدس ليس عنصراً ثالثاً، شيئاً بين الله والإنسان. إنّه القرب الشخصيّ
الذي به يقترب الله من الإنسان. وكلّ سوء فهم للروح القدس يأتي من أننا نفصل بفكر
أسطوريّ الروح القدس عن الله لنجعله مستقلاً عنه. فالروح القدس هو الله نفسه، من
حيث إنّه يملك عليّ ويسكن فيّ. إنّه يملك على قلي دون أن يصير ملكي الخاص لأتصرّف
به على هواي. إنّ تقبّل الروح لا يعني اختبار حدث سحريّ، بل الانفتاح لقبول البشرى
الصالحة التي جاءنا بها المسيح”.

ج)
الثالوث الأقدس

لقد
عبّر التقليد اللاهوتي، منذ القرن الرابع، عن سرّ الثالوث الأقدس بقوله: “إله
واحد أي جوهر واحد في ثلاثة أقانيم”. يقول كونج إن لفظتي جوهر وأقنوم قد
استخدمهما اللاهوت. الفلسفة اليونانية وقد لا يعنيان الشيء الكثير للإنسان المعاصر.
لذلك يجب إهمالهما والعودة إلى بساطة التعابير التي نجدها في العهد الجديد. يقول:

“إن
الله قد ظهر لنا في ابنه يسوع المسيح. فيسوع المسيح هو الحي الحقيقيّ للإله
الحقيقيّ. ولكن كيف يصير يسوع حضور الله بالنسبة إلى الكنيسة وبالنسبة إلينا
اليوم؟ الجواب الذي نقراه في العهد الجديد هو التالي: إن حضور يسوع من بعد قيامته
لم يعد حضوراً ماديًّا، بل صار حضوراً بالروح. فالروح القدس هو إذاً حضور الله
وحضور المسيح الممجّد لجماعته ولكل مؤمن بمفره. في هذا المعنى الله نفسه هو الذي
يوحيّ ذاته بيسوع المسيح في الروح”.

تلك
هي عقيدة الثالوث الأقدس التي تلزمنا في آن معاً أن نميّز بين الآب والابن والروح
القدس، وأن نجمع بينهم في وحدة لا تنقسم ولا تنفصل. يقول كونج: “ان وحدة الآب
والابن والروح القدس يجب أن تُعتبر حدث وحي ووحد وحي”.

في
نظرة كونج إلى المسيح، وإلى الروح القدس، وإلى الثالوث الأقدس، نرى تركيزاً على
وحي الله للإنسان، وإهمالاً للبحث في كيان الله في ذاته. فني وحي الله للإنسان ظهر
الآب، بالابن، في وحدة الروح القدس. خلاصة القول ان نظرة كونج للثالوث هي نظرة
خلاصيّة، وليست نظرة ماورائيّة. لذلك حكمت عليه الكنيسة الكاثوليكيّة بأن تعليمه
ناقص، لأنه يبرز جزءاً من العقيدة ويهمل الجزء الآخر.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى