علم الله

الفصل الثالث



الفصل الثالث

الفصل
الثالث

اعتقادات
العقليين

 

1 – ما هو ملخص تعليم العقليين؟

*
يتلخص تعليمهم في أن للعقل السلطان الأول في أمور الدين، وينسبون للعقل سلطاناً
فوق ما يحقّ له.

مقالات ذات صلة

 

2 – ما هي أشهر آراء العقليين؟

*
للعقليين آراء مختلفة، أشهرها ثلاثة:

(1)
إنكار الوحي، لأنهم يعتقدون أن العقل هو مصدر كل معرفة واعتقاد ديني.

(2)
إمكانية الوحي، فالكتاب المقدس موحى به، غير أن حقائقه عقلية يمكن للعقل البشري أن
يصل إليها ويدركها من تلقاء نفسه. وغاية الوحي هي أن يوضح ما يقدر العقل أن يعرفه
ويدركه بدون الوحي.

(3)
لا يقدر العقل أن يصل إلى بعض الحقائق الموحَى بها ويعرفها من تلقاء ذاته، فينبغي
أن يُسلّم بها لأنها مُنزَلة. غير أن العقل عندما يعرفها يجب أن يفسرها، لأنه يقدر
أن يدركها.

وحسب
هذا الاعتقاد تكون كل حقائق الوحي موجَّهة للعقل لا للإيمان. والعقل يقدر أن
يفسّرها كما يفسر غيرها من الأمور المألوفة. وهذا يحوِّل الديانة الإلهية إلى
فلسفة عقلية، ليس فيها ما يفوق عقول البشر.

 

3 – لماذا أنكر بعض العقليين إمكانية الوحي؟

*
لأنهم زعموا أنه لا يليق بعظمة الله أن يتدخَّل مباشرة في أمور العالم الجارية،
لأنه (في رأيهم) تمَّم كل ما يليق أن يعمله في العالم لما أوجد المخلوقات وأعطاها
قُواها وصفاتها. وهو لا يعمل شيئاً جديداً بعد ذلك. أما كل ما يحدث بعد الخليقة
الأصلية فهو ناشئ عن القوانين الطبيعية بدون تدخل القدرة الإلهية. وزعموا أيضاً أن
تدخُّل الله في أمور الكون بعد أن رتَّبه يُظهِر نقص ترتيبه، ويعني أن خالق الكون
ومنظمه ناقص الحكمة والقدرة! ولذلك أنكروا إمكان الوحي.

 

4 – ما هي الأدلة على بطلان إنكار إمكانية الوحي؟

*
هناك أربعة أدلة على ذلك:

(1)
إنه يناقض شهادة طبيعتنا الأخلاقية، لأننا نشعر دائماً أننا في حضرة الله الذي يرى
أعمالنا ويرتّب أحوالنا، ويعمل دائماً في جميع أمورنا، تأديباً لنا أو دفاعاً عنا.
وهو ليس إلهاً بعيداً عنا، بل هو قريب، به نحيا ونتحرك ونوجد. يحصي شعور رؤوسنا،
وبدونه لا يسقط عصفور على الأرض.

(2)
إنه يناقض شهادة وجدان البشر (نفوسهم وقُواها الباطنة). فكل الأمم يشعرون أنهم
ملتزمون بالاعتراف بوجود إلهٍ قادر على كل شيء يعتني بكل أمور العالم.

(3)
لأن كل البشر كانوا يتوقعون في كل القرون إعلاناً أو وحياً من الله، ويظهرون
استعدادهم لقبول كل من يدَّعي ذلك حتى صاروا عُرضةً للغش من أنبياءٍ كذبة كثيرين.
وبرهان ذلك أن الكتب الدينية ليست عند المسيحيين فقط، فإن عند غيرهم كتب كثيرة
يعتقدون أنها مُنزَلة. فلو كان الوحي مناقضاً للعقل لما توقَّعه العالم أجمع
واعتقد بوجوده. وإذا كان الله قد وهب النطق للبشر ليقدروا أن يعبّروا عن أفكارهم
لغيرهم، ويسطروها حتى تصل لجميع الناس على مرّ الأجيال، فكيف لا يخاطب واهب النطق
خلائقه؟

(4)
إنه يناقض الكتاب المقدس الذي يقول إن الله حاضر على الدوام، وإنه يعمل متى شاء
وكيف اختار وحيث أراد.

 

5 – ما هي براهين منكري الوحي على صحَّة رأيهم؟

*
قالوا إن تدخل الله ثانيةً بواسطة الوحي يبرهن أن عمل الله الأول في الخلق كان
ناقصاً. ولكن هذا مردود عليه بأن ما كان يكفي الإنسان من التعليم وهو في حالة
الطهارة لا يكفيه بعد سقوطه، وأنه بسبب سقوط الإنسان تغيَّرت أحواله، فأصبح
محتاجاً لتعليمٍ جديد يوافق أحواله الجديدة.

 

6 – ما هي الأدلة على لزوم الوحي؟

*
يتبرهن لزوم الوحي مما يأتي:

(1)
يشعر كل واحد بالاحتياج للوحي ليعرف أصل الإنسان وطبيعته وعلاقته بخالقه، وما يختص
بالخطية وكيفية غفرانها، والخلود. وهي أمور لا يقدر أن يعرفها ويحلّها من تلقاء
نفسه، مع أن معرفتها وحلّها ضروريان للحصول على السعادة والطهارة.

(2)
إذا لم يقدر الإنسان أن يجعل نفسه صالحاً وسعيداً في هذا العالم، فهو لا يقدر أن
يتأكد من أنه سيصير كذلك في العالم الآتي، خصوصاً وهو يعلم أن وراء الموت داراً
مجهولة.

(3)
إذا افترضنا أن للفلاسفة قدرةً على حل هذه المشاكل وإراحة أفكارهم بالبراهين
الفلسفية، فهذا لا ينفع الإنسان العادي الذي سيبقى مضطرب الفكر في حالة اليأس.
عِلماً بأن الفلاسفة أثبتوا دوماً عجزهم عن حل المشاكل العظيمة من جهة الله والنفس
والخطية والخلاص والحياة الأبدية. فقد قال
صولون إنّ قَصْد
الآلهة مكتوم تماماً عن البشر. وقال سقراط إن كل معرفة صحيحة بالآلهة هي من
الآلهة، وقال أفلاطون: “ليس لنا أن نعرف الحقائق إلا من الآلهة أو من أنبياء
الآلهة. وعقل الإنسان يحتاج إلى الإنارة الإلهية ليفهم ما يتعلق بالله كما تحتاج
العين إلى نور الشمس لترى الموجودات”. وقال أفلاطون في سقراط ورفقائه من
الفلاسفة: “إنهم التزموا أن يعترفوا بجهالتهم، ويسلّموا أن لا شيء يُعرَف
ويُفهَم ويُدرَس تماماً”. ولما سُئل فارو (أحد مشاهير علماء الرومان في القرن
الأول ق م): “ما هو الخير الأعظم؟” أجاب:
اختلف
الفلاسفة في ذلك وقدّموا فيه 320 رأياً”! وفي مدينة أثينا، مركز الفلسفة
الوثنية الشهير، وُجد في عهد الرسول بولس مذبحٌ لإله مجهول! (أعمال 17: 23).

ومنذ
مجيء المسيح إلى الآن مازالت الأدلة على عجز العقل البشري في حل المسائل الأخلاقية
والدينية تزداد قوة حتى قال هيوم الملحد المشهور: “الديانة في كل أبوابها لغز
وسِر لا يُحَلّ، ومعظم ما نحصل عليه من أدق البحث عن هذا الموضوع هو الشك وعدم
التأكد والتوقُّف عن الحكم”. ويماثله قول الرسول بولس: “إن العالم لم
يعرف الله بالحكمة” (1كو 1: 21). وما جاء في سفر أيوب: “أإلى عُمق الله
تتّصل أم إلى نهاية القدير تنتهي؟ هو أعلى من السماوات، فماذا عساك أن تفعل؟ أعمق
من الهاوية، فماذا تدري؟ أطول من الأرض طوله وأعرض من البحر.. أما الرجل ففارغٌ
عديم الفهم، وكجحش الفرا يولد الإنسان” (أيوب 11: 7-12).

(4)
لم يعرف البشر الله معرفة كافية بالحكمة، ولا بواسطة نور الطبيعة. فإن جميع
الوثنيين من المتقدمين والمتأخّرين، متمدّنين كانوا أو متوحشين، حاولوا كثيراً أن
يحلّوا تلك المشاكل المهمة بواسطة نور عقولهم ولم يقدروا.

(5)
اختلف الذين يرفضون إرشاد الوحي في إجابة الأسئلة الدينية، ونتج عن آرائهم إنكار
الطهارة العائلية، وضياع الراحة السياسية والسعادة الشخصية. ونشأ عن ما يسمونه “إرشاد
نور العقل” حالة يمكن أن نسمّيها “جهنم الأرضية”! وقد بحث القديس
أغسطينوس هذا الموضوع في كتابه “مدينة الله”. وقدم أدلة تظهر احتياجنا
للوحي، منها ما يأتي:

(1)
يحتاج الإنسان في حالته الساقطة إلى إعلانٍ من الله يكفي لسدّ حاجاته.

(2)
يطلب وجدان الإنسان الديني (قُواه الباطنة) المعونة الروحية والإرشاد للحق.

(3)
البشر مستعدون دوماً ليستقبلوا الإعلانات الإلهية لأنهم يتوقعونها ويحتاجون إليها.

(4)
لا تقوم الديانة الكاملة بمجرد نظر البشر لله، وتقديم العبادة له، بل بنظر الله
أيضاً للبشر وإعلان نفسه لهم، ليكون الاقتراب بين الله وبينهم متبادَلاً، خصوصاً
وأن الإنسان يحتاج لاقتراب الله إليه أكثر جداً مما يحتاج الله لاقتراب البشر له.
فينبغي أن يخاطب الله البشر قبل أن يخاطبوه هم.

(5)
ليس بين آراء البشر الفلسفية أو اعتقاداتهم الدينية الوثنية ما يغنينا عن الوحي
مطلقاً، بل بالعكس. فقد أغنانا الوحي عن كل آراء البشر في شأن الدين، وهو يحتوي
على كل ما نحتاج إليه من التعليم والإرشاد.

 

7 – ما هو الدليل على إمكان حدوث الوحي؟

*
أفضل دليلٍ على ذلك ظهوره في تاريخ الكنيسة، واعتقاد كثيرين من البشر به في كل
القرون، فظهوره بهذه الكثرة يبطل إنكاره. ومع أن إنكار إمكانيته مستحيل بداهةً،
إلا أن البعض أنكره لأسباب مختلفة منها:

(1)
زعمهم أن الإله غير المحدود عندما يخاطب المخلوقات المحدودة يجعل نفسه محدوداً.
والرد على ذلك: إن الله غير المحدود مستقل بنفسه وذو مشيئة واختيار، وإن الذي قدر
أن يخلق المحدود يقدر أن يخاطبه ويعلن مشيئته له، دون أن يخالف بذلك صفاته
السامية.

(2)
زعمهم أن الوحي معجزة، والمعجزة مستحيلة أو بعيدة الوقوع. والرد على ذلك: إن
المعجزات ممكنة، وروح الله يقدر أن يخاطب الأرواح المخلوقة على صورته. ويتمّ هذا
بطريقةٍ سرّية يعجز العقل البشري المحدود عن رؤيتها.

فالذين
ينكرون إمكانية الوحي يقلّلون من قوة الله ويحقّرون شأنه، كأنه عاجز عن تنفيذ
مشيئته في المخلوقات بدون الشرائع الطبيعية والظواهر المادية، مع أن الله ملك
الكون ورب الطبيعة، المستقل عنها والقادر أن يدبرها كما يشاء.

 

8 – ما هي الأدلة على حدوث الوحي الإلهي، وعلى ماذا تبنيها؟

*
نذكر بعض الأدلة التي تقوم على حاجة الإنسان للوحي، وعلى الصفات الإلهية:

(1)
الإنسان ضعيفٌ وعاجز عن معرفة الله من نفسه. ولكنه يحتاج لهذه المعرفة، ويتّضح ذلك
منذ سقوط الإنسان إلى تجسد المسيح إلى الآن. فإن البشر في كل مكان وزمان لم يعرفوا
الله بالحكمة ولا بنور الطبيعة، حتى أن أشهر الفلاسفة وأغزرهم علماً لم يهتدوا إلى
الحق بل ضلوا عنه كما يضل الأعمى وهو يبحث عن النور، وتاقت نفوسهم لمجيء معلِّم من
الله ليرشدهم.

(2)
صلاح الله وحنوّه على البشر ومحبته لهم، فإنه خلق الإنسان على صورته لأجل مجده،
وكلله بقُوى عقلية سامية ومواهب سماوية، وجعله أهلاً لنوال الحياة الخالدة. ولما
سقط الإنسان وتوغَّل في الجهل والخطية وصار تحت طائلة الهلاك، أراد الخالقُ المحب
الرؤوف الجوّاد أن يخلّصه، فمدَّ له يد المعونة، وأعطاه الوحي لهدايته وإرشاده.

 

9 – ما هي الأدلة على أن الوحي متضمَّن في الكتاب المقدس؟

*
يحتوي الكتاب المقدس على الوحي الإلهي، وأدلة ذلك:

(1)
أعلن الأنبياء والرسل أنهم يتكلمون من عند الله، وأنهم مُخوَّلون باسمه وسلطانه أن
يطالبوا الناس بقبول تعليمهم طاعةً لله صاحب الرسالة. فإذا رفضنا تصديقهم حكمنا
أنهم إما مجانين أو كَذَبة، والحكمان باطلان ومستحيلان، بدليل ما ظهر من حكمتهم
وتقواهم، وما صنعوه من المعجزات لإثبات رسالتهم.

(2)
لا يوجد في الكتاب ما يناقض إعلان هؤلاء الأنبياء والرسل أنهم من الله، لأنه ليس
في نبوّاتهم وتعاليمهم ما يستحيل وقوعه أو يناقض العقل أو الأخلاق. ولو أن ما قالوه
كان من عندهم لوجدنا فيه الأخطاء والمتناقضات.

(3)
تتضمّن تعاليم الأنبياء والرسل حقائق سامية، لم يكونوا ليعرفوها إلا بوحيٍ إلهي،
وهي تكفي حاجات طبيعتنا، وتحل كل ما عجزت عقولنا عن حلّه من المشاكل والمعضلات.
كما تصادق على كل ما تشعر به ضمائرنا وطبيعتنا الأخلاقية، وتوافق نفوسنا كما يوافق
الهواء الرئتين. وبدون معرفة هذه التعاليم تكون نفس الإنسان كالرئتين بدون هواء.

ويخبرنا
الكتاب المقدس بشخص المسيح وأعماله وأقواله، وبأنه أسمى إعلانات الله للبشر
وأوضحها، بل هو الله منظوراً، وأقواله هي أقوال الله وكذلك أعماله.

(4)
ما فيه من وحدة المعنى مع التقدم في إيضاح الموضوع. فقد كُتبت أسفاره في 1600 سنة
بواسطة نحو 50 شخصاً، ومع ذلك فإن كل من يطالعها بالتدقيق يراها كتاباً واحداً
كأنها تأليف شخصٍ واحد. ترى فيه أن العهد الجديد يبيِّن إتمام نبوات العهد القديم،
والعلاقة بين النبوَّة فيه وإتمامها كعلاقة الساق بالأغصان والجسد بالأعضاء، حتى
لا يمكن فهم جزء منه بدون معرفة علاقته بالبقية.

(5)
ما في الكتاب من نبوات ومعجزات يشهد أن الله أوحى به، فمعظم ما في العهد الجديد
جاء كنبوات في العهد القديم، مما يدل على أن الذين كتبوه كانوا مسوقين من الروح
القدس. أما المعجزات فثابتة لأنها حوادث تاريخية روتها كتب التاريخ العالمي.

(6)
تأثير الكتاب المقدس في إصلاح الناس وتهذيبهم منذ القديم، ولا يزال. إنه سبب
التمدن وقوام التقوى والعدل والحرية، لأنه كلمة الله الحية.

(7)
الكتاب المقدس (كما هو عندنا الآن) هو نفس الكتاب الذي كتبه الأنبياء والرسل، ما
عدا ما قد يكون قد طرأ عليه من تغييرٍ طفيف جداً بسبب غفلة النُّسَّاخ، الأمر الذي
يُنتظر وقوعه. ولكن هذا لا يمسّ جوهره في شيء. وهو منسوب نسبةً صحيحة إلى كتَبَتِه
(من موسى إلى يوحنا الرائي) الذين برهنوا صدق رسالتهم بالمعجزات وبالسيرة الحسنة
وبالمعرفة الروحية. ولذلك نؤمن أن الكتاب المقدس يحتوي على وحي الله.

(8)
كتب أسفار الكتاب المقدس أنبياء ورسل من البشر. ولا بدّ أنهم كانوا صالحين أو
طالحين. ولا يمكن نسبة مثل هذا الكتاب إلى طالحين، لأنه يعلن الحرب على الشر،
وينادي بأسمى مبادئ الحق والخير، ويعلن لنا إرادة الله الصالحة، فلا بد أن الذين
كتبوه صالحون ملهَمون وموحَى إليهم، كما صرحوا بذلك.

 

10 – ما هو رأي العقليين الذين يقولون إن العقل البشري يقدر أن يدرك
حقائق الوحي من تلقاء نفسه؟

*
يزعم هؤلاء أن المقصود بكلمة الله ليس الكتاب المقدس فقط، بل كل ما استخدمه الله
من الوسائط ليوصِّل الحق للبشر وليرشدهم إليه. ولكن الأسفار المقدسة هي أشهر تلك
الوسائط، ولو أنها مختلطة بتعاليم بشرية خرافية، وقيمتها تقتصر على وجود الحق
فيها. والعقل البشري يقدر أن يميّز الصحيح فيها من الخرافة. فإذا توافق الوحي مع
العقل قبلوه، ولكنهم لا يقبلونه لمجرد أنه مُنزَل من عند الله. وهم يقولون إنه لا
يجوز أن نؤمن بما لا يدركه العقل. فإذا سُئل أحدهم: لماذا تؤمن بخلود النفس؟ أجاب:
لأنه يطابق عقلي. ويقصد أن الأدلة على إثباته تظهر لعقله أقوى من الأدلة على خطئه،
ولولا ذلك لرفضه. وإذا سُئل: لماذا لا تصدق تعليم التثليث؟ قال: لأنه لا يطابق
عقلي. ويقصد أن الأدلة الفلسفية ضده تظهر لعقله أقوى من الأدلة لإثباته. فهُم لا
يسلّمون بصحّة كل ما أُنزل في الكتاب، لأن العقل (في زعمهم) هو الغربال الذي ينقّي
الوحي، وهو مقياس المعرفة الدينية. ومن آرائهم أيضاً أن التوراة أُعطيت لليهود
الذين مزجوا ما أُوحي به إليهم بأوهامهم الخاصة وآراء الناس الشائعة في عصرهم.
فيحقّ للعقل أن يغربل ما كتبه اليهود!

ويزعمون
أن الوحي هو في كل تقي يتكلم عن الله، وأن رجال العلوم السياسية وأصحاب المؤلفات
الشهيرة التي أفادت العالم هم من أهل الوحي، فقد استخدمهم الله لإرشاد البشر
وإفادتهم. وكما استخدم الله وسائط مختلفة لتثقيف البشر استخدم الكتاب المقدس، بدون
أن يعطيه صفةً تميّزه عن الوسائط الأخرى الكثيرة.

 

11 – ما هو الرد على رأي العقليين أن العقل البشري يقدر أن يدرك
حقائق الوحي من تلقاء نفسه؟

*
(1) خطأ المبدأ الأساسي الذي بُني عليه. فليس من الضروري أن ندرك تماماً كل ما يجب
أن نعتقده. نعم، لا نقدر أن نؤمن بما هو مجهول أو مستحيل، لكننا نؤمن بأمورٍ كثيرة
فوق إدراكنا إذا أُقيمت عليها الأدلة. فنحن نصدِّق بعض الأمور بشهادة حواسنا،
ونؤمن بغيرها على شهادة الناس، ونصدّق أن الحي يلد نظيره، وأن النبات ينمو يوما
فيوماً، دون أن ندرك كيفية ذلك. فكيف نرفض ما لا ندركه من أمور الدين مع أن الله
شهد به؟

(2)
هذا الرأي يجعل عقل الإنسان المقياس لكل ما يسمعه من حقائق دينية، ليعرف صحيحها من
خاطئها. وهو باطل. فالإنسان ضعيف، يجب عليه أن يصدّق قول الله حتى لو لم يدركه،
كما يصدّق الولد قول أبيه وإن كان فوق إدراكه.

(3)
هذا الرأي ينكر الفرق بين الإيمان والمعرفة، فالإيمان هو التسليم بأمرٍ ما بناءً
على شهادةٍ تثبته. والمعرفة هي إدراك الأمر مباشرةً. فإذا كان الإيمان جهلاً، ولا
يحقّ للإنسان أن يقبل ما لا يعرفه عن ذاته، لزم أن تكون أكثر العلوم التي نعرفها
جهالة.

(4)
هذا الرأي يقصر الديانة على أهل العلم والفلسفة فقط، لأنهم وحدهم (حسب رأي
العقليين) يقدرون أن يدركوا ما يعتقدونه.

(5)
هذا الرأي يدل على أن الإيمان والمعرفة جهالةٌ واستحالة أيضاً، لأنه يؤدي إلى
إنكار كل شيء، فنحن محاطون دائماً بما لا ندركه، مع أنه يحقّ للإنسان أن يؤمن
بأمورٍ لا يدركها عقله تماماً، لأنه لا يقدر أن يجاوب بنفسه على كل أسئلة الحياة.
ولكننا بالإيمان نقبل ما لا نقدر أن نفهمه فهماً تاماً بعقولنا.

 

12 – ما هو رأي العقليين القائلين إن العلم أفضل من الإيمان؟

*
رأيهم أن العلم تخصُّص الفلاسفة، بينما الإيمان لبسطاء الناس الذين يقبلون الديانة
بناءً على شهادة الكتاب المقدس، أما العلماء فيقبلونها على شهادة عقولهم، وهي
أثبت. وهم يقولون إن ما أظهره نور الوحي للعامة أظهره نور العقل للفلاسفة الذين
يبنون إيمانهم على شهادة العقل دون الكتاب. وقد نشأت هذه الضلالة من مزج تعاليم
أفلاطون بتعاليم الكتاب، وشاعت أولاً في القرون الميلادية الأولى.

 

13 – كيف ترد على من يقولون إن العلم أفضل من الإيمان؟

*
(1) هذا الرأي يُضعِف أساس الدين، لأنه ينقله من شهادة الله إلى براهين العقل.
والفرق بين ما تثبته شهادة الله وما يثبته عقل الإنسان هو كالفرق بين الله
والإنسان.. فالعقل البشري لا يقدر أن يبرهن صدق ما أعلنه الوحي من الحقائق المهمة
مثل التثليث والتجسد والقيامة والتجديد والصلاة و ثبوت المؤمن في المسيح. ولا يقدر
العقل أن يكتشف بنفسه ما جرى في جنة عدن من امتحان الإنسان، وسقوطه، وعمل الفداء،
وشخص الفادي وحالة النفس بعد الموت لأنها من اختصاص الوحي، فلا نعرفها إلا بإعلان
إلهي، وعلينا أن نقبلها اعتماداً على شهادته.

(2)
هذا الرأي ينزع الإيمان من الدين ويغيّر طبيعته، ويجعله مجرّد فلسفة، فيفقد قوته
ويصير كالأوهام العقلية، أو كموجة في بحر أفكار البشر تظهر قليلاً ثم تضمحل.

(3)
هذا المبدأ مبنيٌّ على مبدأ آخر خاطئ يقول إن عقل الإنسان يقدر أن يحكم على ما هو
فوق دائرة إدراكه. لقد أعطانا الله الحواس والعقل، ولكلٍ منهما دائرة لا نقدر أن
نتخطاها لدائرة الإيمان التي يقع في اختصاصها الخلْق وامتحان الإنسان وسقوطه وغاية
الفداء وشخص الفادي وحالة النفس بعد الموت، وغيرها من المواضيع الدينية السامية
التي لا يقدر العقل أن يعرفها إلا إذا أعلنها الله له.

(4)
هذا الرأي يناقض شهادة الأنبياء والرسل الذين تكلموا عن لسان الله وطلبوا طاعة
كلامهم لأنه إعلان الله، وكانوا يعزّزون كلامهم بالقول: “هكذا قال الرب”.
ورفضوا أن يُسمّوا أنفسهم فلاسفة، وقالوا إن الإنجيل ليس من حكمة البشر، بل هو
وحيٌ إلهي (1كو 2: 9-11). فيلزم عن ذلك وجوب قبول الإنجيل بالإيمان لا بالأدلة
العقلية، فقد قال المسيح: “إن لم ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا
ملكوت السماوات”.

(5)
هذا الرأي يناقض قول التاريخ، فإن الذين اجتهدوا في تحويل الدين إلى فلسفة خاب
مسعاهم في كل قرن، ونقض كلُّ جيلٍ من العقليين أفكارَ سابقيهم، مما برهن على أن
عِلمهم ليس نهائياً.

فلنصدّق
حواسنا وعقولنا في ما يقع ضمن دائرة كلٍ منهما، ولنؤمن بأن كلام الله إعلان إلهي
لعقولنا وقلوبنا. فما أشقى حالة من ليس لهم معلّم في الدين يستحق الاستناد إليه
أكثر من عقولهم.

 

14 – ما هو مقام العقل في أمور الديانة عند المسيحيين؟

*
يرفض المسيحيون آراء العقليين، لكنهم يرون ضرورة استعمال العقل في الدين، لأن
الوحي ليس للحيوانات بل لأهل العقل، ولأنه يجب تمييز الحقائق أولاً في العقل ثم
قبولها بالإيمان. فمعرفة العقل لازمة للإيمان.

 

15 – ما هو الفرق بين المعرفة والإدراك؟

*
المعرفة هي العلم بوجود الشيء مع الوضوح والتحقّق، كمعرفتنا أن الشمس هي مصدر
النور والحرارة. وأما الإدراك فهو فهم الشيء فهماً تاماً بكماله، ولذلك يُقال إننا
نعرف الله، ولا يُقال إننا ندركه. ومن أمثلة التمييز بينهما أن الإنسان مثلاً يعرف
معنى القول: “الله روح” ولكن لا يفهم أحدٌ أو يدرك تماماً طبيعة الله.
وكذلك نعرف طريق الخلاص، ولكن ليس من يدرك أسراره. ويعرف الجميع أن النبات ينمو
بالتدريج، وأن حركات أجسادنا خاضعة لإرادتنا، وأن المسيح إله وإنسان في طبيعتين
متميّزتين وأقنوم واحد، ولكن ليس من يدرك كنه ذلك. وعلى هذا يحقّ لنا أن نؤمن
بوجود شيء ولو لم ندرك علة وجوده أو كيفيته. وهذا لا يحطّ من شأن الإنسان العاقل،
لأننا لا نطلب منه التسليم بصدق ما لا يعرف معناه.

 

16 – ما هما الأمران اللذان يحق للعقل أن يحكم فيهما في الديانة؟

*
يحق للإنسان أن يستعمل عقله في أمرين بروح التواضع والاحترام للحق، والاتكال على
تنوير الروح القدس، وهما (1) هل تكلم الله؟ (2) بماذا تكلم الله؟

 

17 – هل يحقّ للعقل أن يرفض إعلاناً من الله لأنه يتضمّن أموراً
يعجز عن إدراكها؟

*
لا، لأن ذلك يستلزم قوةً وكفاءةً في العقل لم يهبهما الله لنا. وإذا لم يجُزْ
للعقل أن يرفض تصديق ظواهر الطبيعة لأنه لا يدركها، فبالأولى أن لا يرفض مثل ذلك
في الديانة.

 

18 – هل يجوز لكل إنسان أن يعتمد على حكم عقله فقط في تصديق إعلانات
الله؟

*
لا، فقد تكون بعض الأمور غريبةً مجهولة المصدر، لكنها ممكنة التصديق. أو أن يكون
بعضها غريباً ومُبهماً عند الواحد ومألوفاً مفهوماً عند الآخر. فإذا جعل الإنسان
المحدود العقل والاختبار عقله مقياساً لما يمكن حدوثه كان ذلك محض جهالة، فكأنه
جعل أفق نظره حدّ الفضاء غير المحدود! وكل من أصرَّ على عدم تصديق أمرٍ لا يمكنه
إدراكه، يبقى إلى الأبد يتخبّط في تيه الجهل والكفر، لأنه اعتمد على المحدود.

فالاعتراض
على الديانة لأنها تطلب الإيمان بما لا يمكن إدراكه باطل، وإلا لزم الأمر نفسه مع
جميع العلوم.

 

19 – هل يحق لنا أن نصدِّق المستحيل؟

*
بين الممكن والمستحيل فرق يميِّزه العقل. ومن حق الإنسان أن يرفض ما يراه العقل
مستحيلاً عندما يسمع الأدلة على ذلك. على أنه يجب الاعتناء بالحكم في ذلك.

 

20 – هل يجوز أن نحسب أمراً مستحيلاً بدون سببٍ كافٍ؟

*
لا، ولكن البعض يرفضون ما يخالف آراءهم أو أغراضهم، والبعض يرفضون ما يشعرون أنه
مستحيل، مثل الذين رفضوا دوران الأرض على محورها وسيرها السريع في الفضاء لأنهم لا
يشعرون بهما. ولكن كما أن رفض براهين إثبات تلك الحقائق هو جهالة، كذلك رفض
الحقائق الموحى بها بزعم أنها مستحيلة لأنها تناقض آراء الذي يرفضها، أو لعدم
رؤيته أنها ممكنة، مثل قول البعض إنه من المحال أن شخصاً واحداً يكون إلهاً
وإنساناً معاً، رغم أنهم سلَّموا أن الإنسان مادي وغير مادي، ومائت وخالد، وأرضي
وسماوي معاً.

ويُشترط
في الحكم على المستحيل أمران: (1) أن يصدر عن عقلٍ سليم متواضع يطلب إرشاد الله.
(2) أن يصدقه عموم البشر.

ويُشترط
في الحكم من جهة وجود المتناقضات في الكتاب المقدس مراعاة ثلاثة أمور:

(1)
تكون غاية العقل الحاكم في المسألة مقدسة وحسنة، ويحكم بروح التواضع وخوف الله
وحباً لمجده، لا للبغض والمقاومة وانتقاد كتابه.

(2)
ينبغي أن يكون التناقض المفروض وقوعه ظاهراً وواضحاً، وفي نفس مضمون الكتاب لا في
ما يُستنتج من عباراته فقط.

(3)
إذا قيل عن عبارةٍ من الكتاب إنها تناقض حقيقة ثابتةً بالعقل أو الاختبار وجب أن
تكون تلك الحقيقة ثابتةً أيضاً بشهادةٍ إلهية لا بشرية، وأن تكون حقيقة بديهية
ضرورية يسلّم بها الجميع. وإلا نكون قد جعلنا الأوهام البشرية والآراء العقلية
قياساً للكتاب وحاكماً عليه.

 

21 – ما هو المستحيل؟

*
هو ما استُعمل في كل باطل وغير ممكن، وهو ما ناقض ذاته كالقول عن الشيء إنه موجود
وغير موجود وإنه حلال وحرام في وقت واحد. ومن الأمور المستحيلة:

(1)
أن يرتكب الله خطأً، أو يرضى بارتكاب خط
أ.

(2)
أن يأمر الله بتصديق ما يناقض المبادئ التي غرسها في طبيعتنا.

(3)
أن يأمر بما يناقض حقيقةً أثبتها الله بإعلان سابق أو ببديهيات في العقل.

 

22 – ما هي الأدلة على أن للعقل الحق في أن يميّز الممكن من
المستحيل؟

*
(1) يدل الإيمان بأمرٍ على اقتناع العقل بصدقه، فلا يمكن أن يؤمن العقل بصدق أمرٍ
مستحيل، فيكون كأنه يصدق وينكر أو يؤمن ويكفر معاً.

(2)
يقول الكتاب المقدس إن هذا من حق العقل. فكثيراً ما طلب الأنبياء من بني إسرائيل
أن يرفضوا تعاليم الوثنيين لاستحالة صدقها، ولأنها تتضمن أموراً متناقضة ومضادة
لطبيعتنا الأخلاقية ولِما هو مسلَّم به. ونهى موسى عن تصديق ما يناقض إعلاناً
سابقاً من الله ولو قامت أدلة خارجية لإثباته. وقال الرسول بولس إن مَن يبشر
بإنجيلٍ آخر فليكن أناثيما (أي محروماً)، ومن قال إن الخير شر أو حلَّل فعل
السيئات لتأتي الخيرات فدينونته عادلة. وعليه فلا يليق أن نؤمن بما هو محال، أو
شرير، أو يناقض طبيعتنا العقلية والأخلاقية، أو يخالف كتاب الله.

(3)
الثقة بالله هي أساس الإيمان والعمل، فلو صدقنا ما يناقض الشرائع التي غرسها الله
في طبيعتنا، انهدمت كل أسس العلم والدين وتلاشى التمييز بين الحق والباطل والحلال
والحرام، وصرنا هدفاً للغش من كل ماكرٍ ماهر. فيجب أن نمتحن الأرواح بمقياس عقولنا
وبالإعلانات الإلهية.

 

23 – ما هي علاقة العقل بالحق؟

*
علاقة العقل بالحق كعلاقة النور بالموجودات، فكما أن النور هو واسطة ظهور
الموجودات، لا أصلها ولا سبب وجودها، كذلك العقل هو ما نستجلي به الحق، ولكن العقل
ليس أصله ولا سبب وجوده، لأن الحق مستقل عن العقل وسابق لوجوده. وقد أعطانا الله
كتابه لينير عقولنا ويرشدنا إلى فهم مسائل سامية مهمة. ولا شك في أنه لم يجعل
تناقضاً بينهما وبين الكتاب.

 

24 – هل للعقل حق البحث عن صحة الأدلة على إثبات الوحي؟

*
نعم، ونقدم على ذلك ثلاث ملاحظات:

(1)
يدل الإيمان على الاقتناع، والاقتناع مبنيّ على الدليل. وعليه، فالإيمان بدون دليل
ضد حكم العقل.

(2)
يجب أن يماثل الدليل القضية المقصود إثباتها، فالقضية التاريخية أو الهندسية مثلاً
تقتضي دليلاً تاريخياً أو هندسياً. كذلك أمور الروح تقتضي برهاناً من الروح القدس،
أي الإعلان بإلهام. وربما أُثبتت قضية واحدة بأدلة متنوعة، ومن ذلك إثبات أن يسوع
هو ابن الله العلي، فهذه لها أدلة تاريخية وأخلاقية وروحية ونحوها.

(3)
يجب أن يكون الدليل كافياً لإثبات القضية ليقنع كل ذي عقل سليم.

 

25 – ما هي الأدلة على أن للعقل حق البحث في هذه الأمور؟

*
(1) لا يطلب الكتاب منا الإيمان بأمرٍ لا تبرهنه الأدلة الكافية. قال المسيح: “لو
لم أكن قد عملتُ بينهم أعمالً لم يعملها أحدٌ غيري لم تكن لهم خطية. وأما الآن فقد
رأوا وأبغضوني أنا وأبي” (يو 15: 24). وقال بولس إن الأمم بلا عذرٍ في ما
يعملونه (رومية 1: 20).

(2)
يحسب الكتاب عدم الإيمان من أفظع الخطايا، لأنه لا ينشأ عن عدم وجود أدلة موافقة
وكافية. وكل رفضٍ للحق عمداً رغم وجود الأدلة عليه (كرفض اليهود للمسيح) ناشئ عن
شر قلب من يرفض الحق (يو 3: 17-19).

(3)
يأمرنا الكتاب بأن نفحص الأرواح ونميّزها ونمتحنها.

(4)
لأن الإيمان هو قبول الحق بناءً على شهادة كافية ودليل قوي.

 

26 – ما هي مكانة العقل في درس اللاهوت والبحث عن حقائق الطبيعة
والوحي؟

*
العقل يبحث عن كل ما يتعلق بالخليقة المنظورة لاستجلاء حكمة الله وقدرته وكيفية
معاملته لخلائقه وعلاقتها به وببعضها البعض. وأيضاً البحث عن إعلانات الوحي
والأدلة على صدقها واستخراج تعاليمها في الله وصفاته وأعماله ومطالبه وواجبات
البشر له وبعضهم لبعض. ومن شأنه أيضاً أن يقبل كل ما هو مثبَّت من الوحي بروح
التواضع والوقار بدون تأخير.

 

27 – ما الذي تعلمناه مما تقدم؟

*
يقبل المسيحيون كل ما يحق للعقل أن يطلبه، فإن الله لا يطالب خلائقه العاقلة بما
يناقض العقل، فلا يطلب إيماناً بلا معرفة، ولا بما هو مستحيل، ولا بدون دليل.
وتختلف المسيحية مع الوثنيين أهل الخرافات لأنهم يؤمنون بدون دليل كافٍ، كما تختلف
مع العقليين الذين ينفون عصمة الوحي لأنهم لا يؤمنون بما لا يدركونه رغم وجود
الأدلة الكافية على صدقه، ويجعلون العقل حاكماً على الوحي. أما المسيحي فيقرّ (رغم
كل معرفته) أنه محدود وضعيف وجاهل، ويقف أمام الله متواضعاً عاملاً مسؤولاً، ويؤمن
بكل إعلانات الله ذي العقل غير المحدود والجودة غير المتناهية.

 

28 – لماذا ينكر البعض أن الإنسان مسؤول عمّا يعتقده في الدين
والأخلاق، وما هو الرد عليهم؟

*
من أسباب ذلك أنه لما كان الإيمان يستلزم براهين كافية لإثبات ما نعتقده، زعموا أن
عدم وجود تلك البراهين يرفع المسؤولية عن الإنسان إذا أخطأ في اعتقاده.

أما
الرد على ذلك فهو أن للحقائق الدينية والأخلاقية براهين كافية لإثباتها، يقدر كل
إنسان أن يعرفها، ولا يمنعه من معرفتها إلا الغفلة وعدم الميل إلى الحق وقسوة
القلب ومحبة الخطية، ورفض كل الوسائل لإنارة العقل وإصلاح الاعتقاد وبيان الحق.
ولا بد أن يُسأل الإنسان عن ذلك يوم الدين. كما أنهم يزعمون أن الإنسان غير مسؤول
عن اعتقاده، وإلا جاز اضطهاده إذا ضل، وجاز إرجاعه للحق بالإجبار القاسي. وهو
مردود بأن الإنسان مسؤول عن اعتقاده أمام الله لا أمام البشر، ولله وحده حق توقيع
العقوبة عليه إذا أخطأ. أما إجبار البشر للبشر على الاعتقاد بشيء فينتج شروراً
كبيرة، كما نشأ عن ديوان التفتيش وقتل الشهداء. ولا يجوز للبشر أن يعاقبوا الخاطئ
إلا على ما يبدو منه من الضرر، للأفراد أو للجمهور.

ومن
الأدلة الإيجابية على أن الإنسان مسؤول أمام الله عن اعتقاده ما يأتي:

(1)
ما نراه من معاملة الله للإنسان في حياته. فإن خطأ الإنسان أو فساد اعتقاده في
أمور طبيعية لا يرفع عنه المسؤولية، فإذا شرب شيئاً ساماً، أو عرّض نفسه لأحوالٍ
خطرة، أو قام بأعمالٍ مضرة أو تغافل عنها، أصبح عرضةً لما ينشأ عنها من النتائج
الرديئة.

(2)
يدين الضمير على الأعمال المناقضة للحق، ولو كان اعتقادنا حين عملناها أنها حسنة.
ومن أمثلة ذلك أن بولس اعترف بخطئه أنه اضطهد الكنيسة، مع أنه حين اضطهدها كان يظن
أنه يفعل الخير!

(3)
الاعتقاد أن الإنسان لا يُسأل عن أعماله السيئة إذا اعتقد أنها حسنة، يبطل كل
مسؤولية عن الشر، ويجعلنا نعتبر العمل الواحد خيراً وشراً في ذات الوقت، إذا صدر
من شخصين اختلف اعتقادهما فيه.

(4)
إذا لم يكن الإنسان مسؤولاً عن اعتقاده يبطل حكم الله على المخلوقات العاقلة، لأنه
لا يجوز له أن يعاقبهم على آثامهم إذا كان اعتقادهم أنها صالحة.

(5)
يبيّن التنفيذ البشري للأحكام على المجرمين أن الفساد في الاعتقاد لا يبرر المجرم.
لكن الأحكام مرتَّبةٌ على العمل لا على الاعتقاد.

(6)
كثير من خطايانا مستقرّ في النفس لا يتجاوزها إلى دائرة العمل. فلو كان الإنسان
غير مسؤول عن بُطل اعتقاده لزم أن لا يدينه الله على تلك الخطايا، وذلك مما يرفضه
الشخص المستنير العقل.

 

29 – ما هي الفلسفة، وما هي علاقتها بعلم اللاهوت؟

*
الفلسفة هي المعرفة المنظّمة التي نحصل عليها باستعمال قوانا الطبيعية، وموضوعها
النفس والعقل وقوى الإنسان الأخلاقية والبديهيات والحق الأصلي المطلق وجوهر
الكائنات الأصلي والقوات الأصلية في الكون والواجبات. وهي تبحث عن أصل هذه كلها
وأسبابها وقوانينها.

أما
العلم فهو معرفة الحقائق الطبيعية الظاهرة في الكون ونظامها، وموضوعه على الغالب
نوع خاص من الحقائق. وهو يبحث فيها بحسب قواعد وأصول مقررة بهدف اكتشافها
وتنظيمها.

أما
علاقة الفلسفة بعلم اللاهوت فهي:

(1)
غايتهما واحدة، وهي معرفة ما يختص بالخالق والمخلوق وعلاقتهما معاً. غير أن
الفلسفة تبحث عن ذلك غالباً بواسطة العقل والحواس، بغضّ النظر عن الوحي. والفلسفة
الحقيقية (وكذلك العلم الصحيح) من جانب، والوحي من جانب آخر، لا يتناقضان، ولن
يتناقضا مطلقاً. أما علم اللاهوت فيستند على شهادة الوحي، ويبني تعاليمه على
إعلانات الله. والطريقتان جيدتان ولا تناقض بينهما. ولو أن الفلسفة تكشف المسائل
ولا تقطع بأجوبتها، بينما علم اللاهوت يقطع بأجوبة تلك المسائل ويحل معضلاتها،
فتكون الفلسفة بمنزلة قفل، وعلم اللاهوت بمنزلة مفتاحه.

(2)
موافقة أحدهما للآخر، فمع أنه لم يُقصَد بالكتاب المقدس تعليم الفلسفة، إلا أنه
يوافقها. ومبادئ الفلسفة الصحيحة الممزوجة بتعاليم الكتاب المقدس، وكل ما تعلمه في
شأن الحلال والحرام هو في الكتاب المقدس.

(3)
سموّ علم اللاهوت على الفلسفة بسبب تعاليمه واتساعها. فيجب على اللاهوتي أن يجعل
اعتقاداته الفلسفية مطابقةً لتعاليم الوحي، فليس للإنسان أستاذُ فلسفةٍ مثل الله،
ولا مرشد إليها مثل كتابه المقدس. وإلا ففلسفته تُفسد عقائده اللاهوتية وتضلله،
لأن أكثر التعاليم الباطلة في كل القرون نشأت عن إخضاع التعاليم اللاهوتية
المبرهَنة بالوحي الإلهي للآراء الفلسفية التي يخترعها عقل الإنسان. ولا شك أن
اللاهوتي الأمين يميِّز بين حقائق الطبيعة غير القابلة للشك والآراء الفلسفية في
شأنها التي مصدرها أذهان الفلاسفة القابلة للشك، ويجعل تعليمه موافقاً لحقائق
الطبيعة ولحقائق الوحي، لأن الحقائق الطبيعية ثابتة وذات سلطان، لا كالآراء
الفلسفية والعقائد المبنيّة عليها، فهذه قابلة للخطأ أو التغيير على الدوام. مثال
ذلك: الحرارة والنور والكهرباء والجاذبية وحقائق علم الجيولوجيا والفيسيولوجيا هي
ثابتة وباقية. غير أن آراء العلماء فيها وتعليلهم لها واعتقاداتهم المبنيّة عليها
يختلف بعضها عن بعض، وتتغير من قرن إلى آخر، حتى أن رجل العلوم لا يقدر أن يدَّعي
سلطان آرائه، ورجل اللاهوت لا يقدر أن ينكر سلطان الحقائق الثابتة. فعلى الفيلسوف
واللاهوتي أن يطلبا الوحدة في تعليمهما دون خصام لا داعي له ولا فائدة منه.

ولما
كان سلطان الكتاب المقدس على قلوب البشر ثابتاً بالأدلة اليقينية، وكان عصيانه
أعظم خسارة، وجب على كل مُخلصٍ أن يجتهد في إقناع الناس به، وأن يمتنع عن كل ما
يحطّ من شأنه أو يُضعف من نفوذه في العالم. على أنه لا يجوز للاهوتيين أن يحتقروا
العلوم، ولا أن يقاوموا تعاليمها إلا متى ناقضت صريحاً تعاليم الوحي. ولما لم يكن
هدف الكتاب المقدس تعليم حقائق العلوم الطبيعية، وجب الاحتراس في تفسير إشاراته
إلى تلك الحقائق، حتى لا يتكرر خطأ مقاومة بعض رجال الدين للمذهب الكوبرنيكي الذي
نادى بدوران الأرض حول ذاتها وحول الشمس. غير أن الكتاب المقدس لم ولن يتأثر بمثل
ذلك، فقد سقطت التفاسير الباطلة. وبما أن التفسير ليس وحياً، فإن سقوطه لا يمس
الوحي في شيء، بل يمسّ فقط مكانة المفسّرين.

 

30 – ما هي واجبات معلِّم الدين من جهة الآراء الكفرية، وكيف يتصرف
في مقاومتها؟

*
لما كانت مسؤولية معلم الدين أن يدافع عن الإنجيل، فلا عجب أن تقاومه حكمة هذا
الدهر. وقد أشار المسيح إلى هذا بقوله: “ما جئتُ لألقي سلاماً بل سيفاً”
(لوقا 12: 49). وصادف الرسل ومِن بعدِهم الكنيسة مقاومةً مستمرة إلى يومنا هذا.
لكن المعترضين تجاسروا على مقاومة الحق والمجاهرة بالعدوان للإنجيل ونشر آرائهم
بين عامة الشعب أكثر من سابقيهم، مستندين في ذلك على معارفهم المتزايدة، وأخذوا
ينادون بافتراضاتٍ وتخمينات وآراء لا تثبتها الحقائق الطبيعية، تخالف الكتاب
المقدس وشهادة الطبيعة أيضاً. فيجب على معلمي الدين أن يدرسوا الآراء الخاطئة
ليقدروا أن يفندوها، عالمين أن الله يقيم من رجال العلم من ينقض الكفر بسلاح
الأدلة الطبيعية. وعليهم أيضاً أن ينادوا بحقائق الكتاب المقدس، ويبرهنوها بالأدلة
القاطعة المستمدَّة من الوحي والطبيعة.

وعلى
معلم الدين أن يراعي النصائح التالية لتساعده على إتمام واجباته:

(1)
يجب أن يتسلَّح بالشجاعة والثقة بثبات الحق الذي لابد أن يغلب كل مقاوميه ويهدم كل
أسُس الباطل. وعليه أن يتذكر أن العلم ليس هو الكفر، وأن ليس كل العلماء كافرين.
فكثيرون منهم مؤمنون بالحق وبأن علم اللاهوت هو أسمى العلوم وأنفعها للبشر.

(2)
على معلِّم الدين أن يعلن جميع تعاليم الكتاب المقدس، ولا يكتم شيئاً منها، وأن
يحذر من طلب تفاسير جديدة غريبة ليوفِّق بين الكتاب والأوهام الكفرية، وأن يهتم
بالمعنى الواضح. فإذا ظهر أنه أخطأ في فهم أحد معاني الكتاب مما يختص بالطبيعة
المادية، فذلك لا يضرّ بسلامة الكتاب عند ظهور كمال الحق بالأدلة الطبيعية
السديدة، ويمكن لرجل الدين أن يصلح خطأه. وينبغي أن لا يكون رجل الدين ضعيف
الإيمان ولا غامض العبارة في ما يمس شرف الكتاب وحق الإنجيل، بل عليه أن يثبت كل
تعاليم الدين بقوله: “هكذا يقول الرب”.

(3)
على رجل الدين أن يكرز بالحق ويعلّمه بكل غيرة وبساطة ووضوح، لأن الحق أحسن واسطة
لإزالة الفساد واستئصال الكفر، فإن تعاليم الإنجيل الطاهرة هي ما يحتاج إليها
البشر على الدوام لإرشادهم وراحة ضمائرهم وإسنادهم في الضيق والحزن والتجارب
ومحاربة الشر. وعليه أن يركز دائماً على إعلاء الإنجيل، حتى إذا اضطُر أن يردّ على
ضلالة أو كفر.

(4)
على رجل الدين أن يجتهد في كرازته وتعليمه ليوجه أفكار الناس على الدوام إلى
الفادي العظيم، ويبيّن أن الإيمان والسلوك اللائق بالمسيحي هما الأمران المهمان في
الديانة. فليقاوم كل كفرٍ وهو ينادي بقول يوحنا: “هوذا حمل الله الذي يرفع
خطية العالم” (يوحنا 1: 29).

 

31 – إلى أي حدٍّ نتكل على شهادة حواسنا في أمور الدين؟

*
يجب أن نعتمد على شهادة الحواس للأسباب الآتية:

(1)
الثقة بشهادة الحواس من المبادئ التي غرسها الله في طبيعة الإنسان، فلا نقدر أن
ننكرها.

(2)
الثقة بحواسنا هي بمنزلة الثقة بالله، لأن عدم اعتقادنا بها يعني اعتقادنا أن الله
أعطانا ما يُضلّنا!

(3)
عدم الثقة بحواسنا ينقُض أسُس اليقين، إذ لا يمكننا أن نتحقق بعد ذلك من وجودنا
ولا من وجود العالم.

(4)
إعلانات الله تجيء أولاً إلى حواسنا، فعلى من يسمع الوعظ أن يثق في حاسة السمع،
ومن يقرأ الكتاب إلى حاسة النظر، ومن قبل شهادة الكنيسة للحق فقد قبلها على شهادة
حواسه. فإنكار شهادة الحواس في بعض أمور الديانة يضرّنا، لأنه يُنتج فقدان الثقة
بمانح الحواس.

أما قول
البعض إننا أحياناً نرتكب الخطأ بحواسنا، فلا يجب أن نتكل عليها، فالردّ عليه أنه
لا يجب أن نتكل على حواسنا إلا في ما هو ضمن دائرتها، لأن العين إذا لم تستكمل
شروط البصر ربما تغشُّنا، لكن يلزم أن نعتمد عليها في حالة سلامتها.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى