اللاهوت الروحي

الفصل الأول



الفصل الأول

الفصل
الأول

الهدف
الروحي وثباته

2-
أسباب النجاح في الهدف الروحي

أنت
يا أخي سائر في طريق الحياة وأود أن أناقش معك خطة لمسيرتك هذه. ولعل أول سؤال
يقابلنا هو: ما هي أسباب نجاح الكثيرين؟

مقالات ذات صلة

والإجابة
هي أن مقومات النجاح كثيرة. وفي مقدمتها أن الذين نجحوا في حياتهم، كانت لهم أهداف
قوية وضعوها أمامهم، واستخدموا كل إمكانياتهم لتحقيقها.

ومحبة
الهدف والرغبة في تحقيقه منحهم حماساً وقوة ونشاطاً وروحاً.

كما
منحهم الهدف تركيزاً في حياتهم وتنظيماً لها. أصبحت كل إمكانياتهم وطاقتهم: وكذلك
كل أعمالهم سائرة في الطريق هذا الهدف في اتجاه واحد بلا انحراف.

والهدف
جعل لحياتهم قيمة.

إذ
شعروا بأن هناك شيئاً يعيشون من أجله. فأصبحت حياتهم لها لذة.. حياة هادفة لها
قيمتها. وكل دقيقة من دقائق حياتهم صار لها ثمن.

 

وكلما
كان الهدف في حياة سامياً عالياً، تكون قيمة الحياة أعظم، وتكون الحمية في القلب
ناراً متقدة لتحقيقه.

 

أما
الذي يعيش بلا هدف
.. فإن حياته تكون مملة وثقيلة عليه..

حياة
لا معنى لها ولا طعم، ولا اتجاه ولا ثبات. ويكون مقلقلاً في كل طرقه. وغالباً ما
ينتابه الملل والضجر في أحيان كثيرة بأن حياته رخيصة، وضائعة وتافهة، يبحث فيها عن
وسائل لقتل الوقت! لأن الوقت لم تعد له قيمة ولا رسالة
..

 

وكثيراً
ما يتساءل هؤلاء: لماذا نحيا؟ لماذا خلقنا الله؟

ما
معنى الحياة؟ وما هو غرضها وهدفها؟ إنهم مساكين. يعيشون ولا يعرفون لماذا يعيشون!
تجرفهم دوامة الحياة دون أن يشعروا. وإن شعروا: يسألون
.. إلى أين؟

أما
إن وجدوا لحياتهم هدفاً، فإن كل هذه الأسئلة تبطل
..

هنا
ونود أن نبحث أهداف الناس التى تحركهم في الحياة.

لأنه،
حسبما يكون الهدف، هكذا تتحد الوسيلة التى تقود إليه
.. البعض هدفه
المال، أو الوظيفة، أو اللقب، أو السلطة: أو السيطرة أو النجاح في العمل. والبعض
شهوته اللذة، سواء كانت لذة الحواس أو لذة الأكل والشرب، أو لذة الجسد، أو لذة
الراحة. والبعض هدفه الزواج والاستقرار في بيت، أو النجاح في الدراسة.

 

ولا
نستطيع أن نسمى كل هذه أهدافاً. إنما هي رغبات وشهوات.

وإن
حسبت أهدافاً، تكون مجرد أهداف عارضة، أو مؤقتة، أو زائلة أو سطحية لا عمق لها.
كما أنها محددة بزمن. وكلها تدخل تحت قول الرب لمرثا ” أنت تهتمين وتضطربين
لأجل أمور كثيرة، والحاجة إلى واحد” (لو10: 41).

 

3-
الهدف الوحيد هو الله

الإنسان
الروحي هدفه الله وحده لا غيره. كل هدفه هو أن يسعى إلى الله، ويعرفه ويحبه
ويعاشره ويثبت فيه. ويكون علاقة معه، يسكن الله في قلبه ويسكن هو في قلب الله.
ويقول لله في حب:


معك لا أريد شيئاً على الأرض” (مز73: 25). وهكذا بالتصاقه بالله يمكنه أن
يستغنى عن كل شئ فمحبة الله تقود إلى التجرد وإلى الزهد وكلما يختبر الله ويذوق
حلاوة العشرة معه بأن كل شئ في الدنيا باطل وقبض الريح (جا2: 11) وكما يقول المثل
النفس الشبعانة تدوس العسل (أم27: 7). هكذا النفس الشبعانة بالله تدوس كل شهوات
الأرض.

 

4-
أهداف زائفة

ولكن
الشيطان لا يعجبه هذا إنه يجول في الأرض يوزع أهدافاً.

ويبذر
ويزرع أغراضاً وآمالاً ورغبات وكل ذلك بغية أن يتوه الإنسان عن هدفه الروحي الوحيد
الذي هو الالتصاق بالله، والاستعداد للأبدية. وبالأهداف العالمية التي يوزعها
الشيطان: يتلظى أهل العالم في جحيم من الرغبات، لا يمكن أن تشبعهم إذ أن في داخل
حنيناً إلى غير المحدود. وكل ما في العالم محدود
..

 

أول
هدف يقدمه الشيطان هو بالذات
..

فتصير
الذات صنماً يعبده الإنسان وتصير ذاته هي محور ومركز كل تفكيره يريد أن يبنى هذه
الذات، ويكبرها ويبنيها، ويجعلها موضع رضي الكل ومديحهم. وينشغل بذاته بحي يهمل كل
شئ في سبيلها، حتى علاقته بالله.

 

هكذا
تصير الذات منافساً لله
..

تدخل
أولاً إلى جوار الله في القلب ثم تتدرج حتى تملك القلب كله، وتبقي وحدها فيه،
فيتحول الإنسان إلى عبادة الذات ويظل كل يوم يفكر: ماذا أكون؟ ومتى أكون؟ وكيف
أكون؟ وكيف أتطور إلى أكبر وأعظم
..؟

 

ويا
ليته بذاته اهتماما روحياً
..

إذن
لكان يبذل من أجل الله ومن أجل الآخرين، ويحيا من أجل الآخرين، ويحيا حياة المحبة
التى تضحي، وتبذل نفسها فدية عن الآخرين. وحينئذ يجد ذاته، أعنى الوجود الحقيقي
يجدها في القداسة وفي البر والكمال، في الله نفسه
.. إن بولس
الرسول، من أجل الحياة مع الله قال ” ولا نفسي ثمينة عندي” (أع20: 24).
أما الذي يهتم بذاته بربطها بشهوات العالم فإنه بالتالي:

 

يجعل
شهوات العالم هدفاً له.

وهكذا
يضع أمامه بريق العالم الحاضر وأمجاده، وملاذه ولهوه، وأحلامه وأمانيه، وينشغل بكل
هذا حتى ما يتفرغ لأبديته. ويبقى مخدراً بشهوات الدنيا، ما يضيق منها إلا ساعات
الموت، حينما يتركها كارهاً
..! أما أنت، فلا يكن لك هذا الفكر ولا هذا
الاتجاه، وإنما:

 

كل
هدف يبعدك عن الله وعن خلاص نفسك اعتبره خدعه من الشيطان وارفضه في حزم
..

وكذلك
أرفض كل وسيلة تبعدك عن هدفك الروحي. ولا تسمح مطلقاً بأن تكون ذاتك منافساً لله
في قلبك، ولا تسمح بأن يصير العالم هدفاً. فإن الكتاب يقول إن ” العالم يبيد
وشهوته معه” (1يو2: 17). ويقول أيضاً إن محبة العالم عداوة لله (يع4: 4).

 

إذن
راجع منذ الآن كل أهدافك وكل وسائلك، في ضوء اهتمامك بأبديتك: وفي ضوء هدفك الروحي
الذي هو محبة الله.

إن
كل هدف ضد ملكوت الله هو انحراف عن الخط الروحي.

وكل
شئ يصطدم بمحبة الله في قلبك، اتركه مهما تكن قيمته. كما قال القديس بطرس للرب
” تركنا كل شئ وتبعناك” (متى19: 27).

إن
يوسف الصديق خسر حريته حينما بيع كعبد وخسر سمعته حينما ألفي في السجن، وخسر أبوية
وأخوته ووطنه حينما عاش في بلد غريب
.. ولكن كان يكفيه وقتذاك،
الله وحده. كان هو هدفه.

الذي
هدفه هو الله لا يتأذى إن خسر أي شئ عالمي.

إبراهيم
أبو الآباء كان الله هو هدفه لذلك سهل عليه أن يترك أهله وعشيرته ووطنه (تك12: 1)
ويتغرب وهو لا يعلم إلى أين يذهب (عب11: 8) بل سهل عليه أن يأخذ أبنه ليقدمه محرقة
للرب
.. وبولس
الرسول سهل عليه أن يترك المركز السلطة والصلة بالقادة، إذ لم يكن شئ من هذا هو
هدفه
.. واستطاع أن
يقول ” خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية، لكي أربح المسيح” (في3: 8).
وهذا هو هدفه الذي من أجله خسر كل شئ، دون أن يحزن.

 

ودانيال
النبى: لم يأبه بالقصر الملكي، ولا بالوظائف، ولا بكل أطايب الملك، ولم يأبه حتى
بحياته إذ ألقى في جب الأسود، إذ كان له هدف واحد تضائل أمامه كل شئ
..

 

إن
الذي هدفه هو الله لا يجعل حتى الأمور الروحية هدفاً له!

البعض
قد يجعل الصلاة هدفاً له، فيصلى ليس من أجل محبته لله، وإنما لكي يكون رجل صلاة!
ويتهم بالدراسة اللاهوتية كهدف، لا لكي يعرف الله فيثبت فيه، إنما لكي يصير من
علماء اللاهوت، يعطية العلم شهرة ومكانه وعظمة! وهكذا، أيضاً، قد يتحول الصوم إلى
هدف، ويتحول كل عمل روحي إلى هدف، يعمل الإنسان لكي يرضي عن نفسه، أو لكي يرضى
الناس عنه!!

 

بينما
كل هذه وسائط وليست أهدافاً، فالهدف هو الله.

الصلاة
والصوم والمعرفة: وكذلك التأمل والقراءة، كل هذه هي مجرد وسائل توصلك إلى هدفك
الوحيد الذي هو الله ومحبته. والارتباط به. فإن جعلتها هدفاً تكون قد قصدتها
لذاتها
.. وقد تتقدم
فيها، وتكون بعيداً عن الله الذي قال ” هذا الشعب يكرمني بشفتيه. أما قلبه
فمبتعد عني بعيداً” (متى15: 8).

 

وقد
تصبح الرهبنة والتكريس هدفاً!

ولكن
الرهبنة هي مجرد وسيلة توصل إلى الله. ولذلك عرفوها بأنها الانحلال من الكل
للارتباط بالواحد فإن تحولت إلى هدف، تحولت الوحدة إلى هدف، والصمت إلى هدف فما
أسهل أن تكسر وصايا الله من أجلها! فيتخاصم الراهب مع الدير من أجل حياة الوحدة.
يعيش كمتوحد دون أن تكون له فضائل الوحدة، دون أن ينمو في محبة الله. وفي هذا قال
مار اسحق ” هناك من يجلس خمسين سنة في القلاية، وهو لا يعرف طريقة الجلوس في
القلاية “.

 

والبعض
قد يجعل الإصلاح هدفاً
..

وبسبب
الإصلاح يثور ويتخاصم: ويدين الآخرين ويشهر بهم، ويفقد محبته للناس، ويفقد هدوءه
وسلامة ويشتم ويسب، ويتحد ويصخب، ويتحول إلى قنبلة متفجرة تقذف شظاياه في كل مكان.
وفي كل ذلك تبحث عن علاقته بالله، فلا تجدها. لقد أصبح إصلاحاً بدون الله وبدون
محبة وصارت غيره بلا تدين!

 

وهكذا
أيضاً في الخدمة:

كثيرون
بدأوا بالخدمة.. وأنتهوا بأنفسهم!

بدأوا
بالسعي إلى مجد الله، وانتهوا بمجد أنفسهم! بدأوا الخدمة وهدفهم هو الله. ثم وضعوا
الخدمة إلى جوار الله: وأحياناً قبله. ثم تركزوا في الخدمة وصارت لهم هدفاً ونسوا
الله. ثم بحثوا عن نجاح الخدمة. ثم صار نجاح الخدمة هو نجاحهم الشخصي. وانتهوا إلى
الذات وإذ وصلوا إلى هذا، تحولت الخدمة إلى مجال للسيطرة والظهور، وأصبحت مجرد
نشاط واستخدام للطاقة وربما أصبحت وسائلها بعيدة عن الله تماماً، فيها الذكاء
والحيلة والدهاء. وضاع الهدف الروحي الذي هو الله!

أما
أنت ففي كل عمل روحي، قل مع داود النبي:

جعلت
الرب أمامي في كل حين:

وليكن
الله هو هدفك الوحيد. أنت من أجله تخدم. وإذا تعارضت الخدمة مع الله، اتركها. لأنه
ما أسهل على الشيطان أن يتيهك حتى في داخل الكنيسة. وتذكر إن الإبن الضال الكبير
ابتعد عن محبة أبيه وهو في صميم الخدمة ” يخدمه سنين هذا عددها” (لو15: 25
32).

 

لذلك
كله فإن الله يسألك أين أنا في وسط أهدافك؟

أجب
عن هذا السؤال بصراحة كاملة: هل الله أحد أهدافك؟ أم هو الهدف الأول؟ أم الهدف
الوحيد؟ أم أنه ليس هدفاً على الإطلاق؟ أم تضعه في آخر القائمة: قد تتذكره أحياناً،
وقد لا تتذكره! أم أن الله قد تحول في نظرك إلى مجرد وسيلة لتحقيق أهدافك! وإن لم
يحققها لك: تغضب منه وتثور، وقد تقطع صلتك به.

 

هل
تحب الله كما أحبك؟

وهل
قلبك كله له؟ أم هناك أهداف جانبية إلى جوار الله، تسعي أن تكون هي الأصل؟

هل
تفكر في أبديتك وقبل أن تصل إلى أحضان القديسين، تصل إلى أحضان الله؟

حسبما
يكون هدفك هكذا تكون حياتك وهكذا تكون وسائلك. فراجع نفسك
..

 

5-
ثبات الهدف الروحي

الإنسان
الروحي هو شخص مستقر في هدفه وفي وسائله. له هدف واضح ثابت لا يتغير. وقد ركز كل
اهتمامه بهذا الهدف. وأصبح يتجه نحوه على الدوام، بكل طاقاته وكل رغباته، لا يتحول
عنه. وكل وسائله توصل إليه. إنه مثل سهم البوصلة يتجه دائماً في اتجاه واحد مهما
حركت وضعه أو موضعه.

إنه
إنسان راسخ ثابت لا تغيره تطورات الأيام والظروف الخارجية.

وقد
صدق ذلك الأديب الروحي حينما قال عن الرجل الحق إنه “يتطور دون أن يتغير.
ويكبر دون أن يتكبر. ويحتفظ بثباته في وثباته). أما الإنسان الضعيف فإنه متزعزع: خبراته
في الحياة، وصدماته وتجارية وضيقاته وظروفه، تجعله يغير خط مسيرته ويتحول عنها.
وقد يتحول نتيجة لاغراءات أو لمخاوف، أو لدنيا قد تفتحت أمامه
..

 

وهكذا
كثيرون بدأوا بالروح، وكلموا بالجسد. بدأوا بالله وكلموا بالعالم.

كم
من أناس عرفناهم، وكان يبدو أن لهم هدفاً روحياً وحالياً لا وجود له ولا لهم،
داومة العالم جرفتهم وجرفت روحياتهم، فساروا مع التيار
.. وليس في
جيلنا فقط، بل إن الكتاب المقدس يقدم لنا أمثلة عجيبة من شخصيات بدأت ولم تكمل. أو
أن هدفها انحراف في الطريق ولم تثبت عليه. ولعل من أمثلة هؤلاء ديماس مساعد بولس
الرسول الذي قال عنه:

 


ديماس تركني لأنه أحب العالم الحاضر” (2تي4: 10). والذي حدث لديماس، حدث
أيضاً لكثيرين قال عنهم القديس بولس الرسول في رسالته إلى أهل فيلبى ” لأن
كثيرين ممن كنت أذكرهم لكم مراراً، والآن أذكرهم أيضاً باكياً، وهم أعداء صليب
المسيح. الذين نهايتهم الهلاك
.. ومجدهم في خزيهم، الذين يفتكرون في
الأرضيات” (في3: 18، 19). كل هؤلاء كانوا أصدقاء الرسول العظيم، وكلن لهم ماض
مجيد في الخدمة. كان لهم هدف روحي عاشوا به فترة، ولم يثبتوا عليهم. وربما لأن
أشياء أخري دخلت قلوبهم إلى جوار الله. وبمرور الوقت سيطرت عليهم. وربما أرادوا أن
يجتمعوا بين الله والعالم في نفس الوقت. ويعيشوا مع سارة وهاجر في نفس البيت. أو
مثل لوط البار الذي أراد أن يجمع بين محبة الله ومحبة الأرض المعشبة في سدوم. إن
شمشون بدأ حياته كنذير للرب، وكان روح الرب هو الذي يحركه (قض13: 25). ثم ماذا
بعد؟

 

دخلت
رغبات إلى قلب شمشون بجوار الرب، ففارقه الرب (قض16: 20).

لا
يكفي إذن أن يكون هدفك هو الرب. إنما يجب أن تظل محتفظاً بهذا الهدف ولا تسمح
لأهداف أخري أن تدخل إليك، لأنك لن تستطيع أن تجمع بين نذرك ودليله في آن واحد،
مهما ظننت حكيماً.

 

هوذا
سليمان أحكم أهل الأرض يعطينا نفسه مثالاً: لقد بدأ بهدف روحي، ما في ذلك شك.
وتراءى له الله مرتين، ووهبه الحكمة. ومع ذلك أراد أن يجمع بين الله والمتعة ففشل.
وفقد هدفه الروحي وسقط (1مل 11)
..

 

سليمان
الحكيم يسقط؟. يا للمأساة
.. كل ذلك لأن الهدف تغير، أو دخلت إلى
جواره أهداف أخرى، فجرفته. أما الذين ثبتوا على هدفهم، فقد استمروا سائرين في ثبات
نحو الله.

 

انظر
إلى مياة الطوفان، ماذا فعلت. وتعلم منها درساً
.

مياه
الطوفان غطت الأرض كلها. حتى أن القمم العالية أيضاً غطتها المياه. أما الفلك فلم
توذه المياه في شئ، بل سار فوقها، لأن هدفه هو الله. ولا شك أن الله كان داخله
ويقوده حقاً إن الهدف الصالح يعطي حياة وحيوية وقدروه على السير في اتجاه الله.
كما يعطي قدرة على مقاومة كل التيارات المضادة وصاحب الهدف الثابت لا تجذبه
التيارات المضادة، لأن أرادته ثابتة فيه. إن سمكة صغيرة جداً تستطيع أن تقاوم
التيار، وتستمر في مسيرتها، لأن فيها حياة، وفيها إرادة تحركها بينما كتلة ضخمة من
الخشب يجذبها التيار حيثما يشاء لأنها بلا حياة وبلا هدف
..

 

لقد
خرج بنو إسرائيل من عبودية فرعون، ونجوا من الهلاك المهلك، وعبروا البحر الأحمر.
وكانت بداءة طيبة ولكن لم يكن لهم هدف روحي ثابت، فهلكوا في برية سيناء، على الرغم
من أنهم كانوا يقتاتون بالمن والسلوى وسحابة الله كانت تظللهم ربما هدفهم كان
ذاتهم فتذمروا على الله، خرجوا بأجسادهم من عبودية فرعون، ولكن كانت هناك عبودية
أخرى داخلهم لم يخرجوا منها
.. فهلكوا.

 

كان
الهدف السليم عند موسي النبى وليس عند بني إسرائيل. فلم يستطيعوا أن يستمروا في
مسيرتهم معه، على الرغم من كل العبادات الطقسية التى كانوا يقدمونها. إن القلب
الذي لا يعطي ذاته لله عطية كاملة حقيقية بهدف سليم، ما أسهل عليه أن يكسر كل عهد
يبرمه مع الله فلا يحافظ على عهوده، ولا على وعوده، وينحرف إلى أهداف سطحية تافهة
لا تغنيه شيئاً
..

 

وينفس
الوضع خرجت امرأة لوط من سادوم. وقلبها لا يزال فيها. لم يكن خروجها من أرض الخطية
خروجاً حقيقياً من القلب، ولم يكن من أجل الله. كانت يدها في يد الملاك الذي
أقتادها إلى خارج المدينة المحترقة مع أسرتها. أما قلبها فكان يحترق شوقاً إلى ما
هو داخل المدينة
.. عجيبة هذه المرأة. لم تهلك داخل سدوم، إنما بعد
أن خرجت منها. وهكذا هلكت وتحولت إلى عمود ملح. صار موتها ملحاً للعالم، أي درساً
روحياً في خطورته النظرة إلى الوراء.

 

الذي
له هدف حقيقي ثابت في الله، لا ينظر مطلقاً إلى الوراء أثناء سيره مع الله، وإلا
تعرض لتوبيخ إيليا النبى الذي قال ” حتى متي تعرجون بين الفرقتين؟ إن كان
الله هو الله فاتبعوه. وإن كان هو البعل فاتبعوه” (1مل 18: 21). إن كان هدفك
هو الله، فلا تكن قلبين، ولا تكن متردداً. مشكلة يهوذا الأسخريوطى كانت هذه: يجلس
مع السيد المسيح على مائدة واحدة، ويأكل معه من نفس الصفحة. وفي نفس الوقت كان
يتفق ضده مع شيوخ اليهود وقادتهم. فكان “تلميذاً” للرب هدف. يقبل السيد
ويسلمه إلى أعدائه في نفس الوقت. عاش المسكين بلا هدف. فكانت حياته ثقلاً عليه
وعلى الجميع، فهلك.

 

إن
نيقوديموس بعد أن عرف الرب معرفة حقه، لم يستطيع أن يستمر صديقاً له وعضواً في
مجمع السنهدريم في نفس الوقت
..

 

حنانيا
وسفيره ببعض المال حراماً. بينما يظهران أمام الجميع كعضوين في جماعة أولاد الله
الذين يضعون كل أموالهم عند أقدام الرسل. فلا كسبا المال، ولا كسبا عضوية الكنيسة.
لم يكن لهما الهدف الروحي النقي الثابت الذي لا يعرج بين الفرقتين
.. صورتهما
تشبه صورة بيلاطس، الذي أراد أرضاء ضميره وإرضاء اليهود في نفس الوقت. ولما فشل
غسل يديه بالماء، دون أن يغسل قلبه من الداخل. كان الشاب الغنى يريد أن يجمع
الهدفين معاً. وإذ كشفه فاحص القلوب. مضى حزيناً. إنه يسأل عن الحياة الأبدية
وكيفية الوصول إليها، كأنه صاحب هدف صالح يسعي إليه. أما قلبه فكان يحب العالم
الحاضر، على الرغم من أنه حفظ الوصايا منذ حداثته
.. (متي 19: 16
22). وإذا كشف له الرب الداء الذي فيه، ودعاه إلى أن يكون صاحب هدف واحد، ويتخلي عن
الآخر
.. مضي حزيناً.

 

وسيمضى
حزيناً مثله كل من يحاول أن يضع إلى جوار الله هدفاً آخر. كثيرون يقولون إن الله
هو هدفهم، وفي نفس الوقت يريدون أن يدخلوا من الباب الواسع. والباب الواسع لا يوصل
إلى الله مطلقاً، ” بضيقات كثيرة ينبغي أن ندخل ملكوت الله” (أع14: 22).
والذين يجعلون الله هدفهم، ينبغي أن يتألموا من أجله، ويبذلوا ذواتهم من أجله،
عالمين أن تعبهم ليس باطلاً في الرب، وكما قال الكتاب ” كل واحد سيأخذ أجرته
بحسب تعبه” (1كو2: 8). هؤلاء استقروا على هدفهم الروحي، بكل ثبات لا يغيرونه.
لقد اختاروا الله هدفاً لهم، بغير ندم ولا تردد، وبغير إعادة تفكير، وبغير النظر
إلى الوراء. لم يعودوا يفحصون الأمر من جديد، أو يتساومون مع الشيطان. إن خط
حياتهم واضح أمامهم لا يتغير. استقروا عليه منذ زمان، ولا يعد موضوع نقاش. وكما
قال القديس بولس الرسول:

 


إذن يا أخوتي الأحباء. كونوا راسخين غير متزعزعين، مكثيرين في عمل الرب كل حين.
عالمين أن تعبكم ليس باطلاً في الرب” (1كو15: 58).

 

إنهم
لا يعيشون حياة صراع بين الخير والشر، أو بين الله والعالم. فالصراع يعني عدم
استقرار. أما هولاء، فلهم خط واضح لا تردد فيه، ولا انحراف عنه يمنه ولا يسره.
يسيرون بقلب مع محبة الله. بل إن الله صار هو شهوتهم الوحيدة التى تملأ قلبهم
تماماً ولا يبقي فيه شئ لغيرها. وسنضرب أمثلة لهؤلاء الثابتين: إن قصص الثابتين
تعطينا فكرة عن الثبات في الهدف الروحي.

 

هؤلاء
تركوا حياة الخطية إلى الأبد، وما عادوا يرجعون إليها مرة أخري نسمع مطلقاً أن
القديس أوغسطينوس عاد إلى حياة الخطية بعد توبته، ولا عاد القديس موسي الأسود إلى
ما كان عليه أولاً. ولم نسمع أن القديسة مريم القبطية أو القديسة بيلاجية
πελαγία عادتا إلى الخطية بعد توبتهما. فهؤلاء بعد أن صار الله هدفاً لهم
تغيرت حياتهم تماماً بلا أية ردة أو رجعة أو أية نظره إلى الوراء. إنما أستاصلوا
الخطية تماماً من قلوبهم. تماماً في جدية كاملة، وفي أمانة عجيبة لله الذى اختاروه.
مثل الذي يجري الكل، وبقي ولو شئ مثل شعره، سيعود ويتضخم ويصير أسوأ مما كان
.. ولهذا فإن
الذي يقول إنه تاب، وهو لا يزال يقع ويقوم، ويقع ويقوم، هذا لم يتب بعد، وهدفه ليس
واضحاً أمام عينيه وكما يقول الشاعر:

 

متى
يبلغ البنيان يوماً تمامه

إذا
كنت تبنيه وغيرك يهدم

إن
التوبة ليست مجرد أجازة “عطلة” من الخطية بحيث يمكن أن يعود الإنسان
إليها مرة أخرى. إنما هي قطع كل صلة بها إلى الأبد، بكل تصميم، وبكل حب له. وكما
قال أحد القديسين في تعريف التوبة أنها “استبدال شهوة بشهوة” أي أن شهوة
الإنسان بالنسبة إلى العالم تنتهي، لتحل محلها شهوة الحياة مع الله، وتصبح هدف
الإنسان من حياته. وبهذا تحول أولئك الخطاة ليس فقط إلى تائبين وإنما صاروا قديسين.

 

ساروا
في تصميم شديد لدرجة تنفيذ قول الرب: إن أعثرتك عينيك فاقلعها والقها عنك
.. وإن أعثرتك
يدك اليمنى فاقطعها والقها عنك (متى5: 29: 30). مثال آخر في التصميم على الهدف
الروحي: سلوك الشهداء.

 

كان
هدفهم الوحيد هو الله والحياة معه في الأبدية السعيدة، لذلك ساروا وراءه بكل
قلوبهم حتى إلى الموت ولم يبالوا باغراءات ولا بتعذيب. ولم يستطيع شئ من كل هذا
يحول قلوبهم الثابتة في الرب. كما قال بولس الرسول ” من سيفصلنا عن محبة
المسح؟
.. إني متيقن
أنه لا موت ولا حياة.. ولا أمور حاضره ولا مستقلة، ولا علة ولا عمق، ولا خليقة
أخري، تقدر أن تفصلنا عن محبة الله التى في المسيح يسوع ربنا” (رو8: 35 39).
مثال آخر للتصميم على الهدف الروحي، هو الدعوة الإلهية:

 

إبراهيم
أبو الأباء، لما دعاه الرب أن يترك وطنه وأهله وعشيرته، ويمضي إلى الجليل الذي
يريه، لم يتردد بل خرج وهو لا يعلم إلى أين يذهب (عب11: 8) لم تكن الأرض ولا
العشيرة هي هدفه، إنما هدفه هو الله الذي من أجله يترك كل شئ
.. كذلك لما
أمره الرب أن يقدم إبنه وحيده ذبيحة، لم يتردد مطلقاً، ولم يفكر، ولم يدخل في صراع
داخلي. إنما بكر صباحاً جداً وأخذ إبنه، ومعه الحطب والنار والسكين. لم يكن الابن
هو هدفه، وإنما الله هو الهدف.

 

وكذلك
قال الرسول ” لما سر الله الذي افر زنى من بطن أمي ودعاني بنعمته
.. للوقت لم
استشر لحماً ولا دماً، ولا صعدت إلى أورشليم إلى الرسل الذين كانوا قبلي” (غل
1: 15 17).

 

إن
الهدف الإلهي يحتاج إلى تصميم.

فالشيطان
إذا وجد فينا إرادة مترددة غير حازمة في علاقتنا مع الله، إرادة زئبقية تتموج ولا
تثبت على حال يعرف أن عودنا طري، يمكنه أن يحصره ويعصره. فلنكن راسخين في محبتنا
لله. ولا نضع هدفاً إلى جواره
.. له المجد من الآن وإلى الأبد آمين.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى