علم المسيح

النبوة عن الخيانة



النبوة عن الخيانة

النبوة
عن الخيانة

1
موضع النبوة عن الخيانة في الأناجيل الأربعة.

2
أهمية النبوة عن الخيانة.

3
ما هو سبب نبوة يسوع عن الخيانة؟.

مقالات ذات صلة

4
عاقبة عمل يهوذا.

5
نهاية رواية الخيانة بحسب الإنجيليين متى ويوحنا.

6 لأى سبب سلّم يهوذا السيد إلى قيادات اليهود الدينية.

 

أولا: النبوة عن الخيانة

(مر14:
1721، مت 26: 2025،

لو
22: 2123، يو13: 1819، 2130)

1
موضع النبوة عن الخيانة فى الأناجيل الأربعة:

عند
الإنجيليين الاثنين الأولين، متى، مرقس، توضع النبوة عن الخيانة قبل الكلمات التأسيسية
من يسوع لسر الشكر الإلهى (انظر متى 20: 26-25، مر 14: 1721)، وحسب الإنجيلى
الثالث لوقا؛ النبوة تأتى مباشرة بعد العشاء السرى (أنظر لوقا 22: 21-23). وبحسب الإنجيلي
الرابع يوحنا؛ توضع النبوة بعد غسل أرجل التلاميذ الذى تم أثناء فترة العشاء فى
العلية (أنظر يو13: 2130). ويوحنا كما أشرنا سابقا لا يذكر الكلمات التأسيسية لسر
الشكر الإلهى، لكنه يذكر فى نهاية إجراء غسل الأرجل الآية (9) من المزمور (41)
القائلة ” ليتم الكتاب الذى يأكل معى الخبز رفع على عَقَبُه ” (13: 18)
مما يعنى ضمنيًا أن النبوة عن الخيانة جاءت عنده بعد تأسيس سر الإفخارستيا.

على
أية الأحوال إننا نعتبر أن اختلاف موضع النبوة عن الخيانة فى الأناجيل الأربعة لا
يمثل مشكلة، خاصة عندما نضع فى ذهننا أن يهوذا الخائن كان حاضرًا كل فترة العشاء
الأخير، كما سيتضح فيما بعد. وإن كان متى ومرقس قد وضعا النبوة عن الخيانة قبل
تسليم يسوع لجسده ودمه إلى التلاميذ، فربما يريدون بذلك التركيز على إظهار طول أناة
يسوع اللامحدودة على الخائن، فهو وحتى اللحظات الأخيرة يقدم له إمكانيات التوبة
ولا يحرمه من شئ.

أيضا
لوقا ويوحنا، إذ يضعان النبوة عن الخيانة بعد تسليم سر الإفخارستيا، فإنهما بذلك
يرغبان فى التركيز على إظهار مدى شر يهوذا، فهو برغم أنه قد تآمر مع رؤساء اليهود
الدينيين على تسليم معلمه، تجرأ بوقاحة وتناول من جسد ودم سيده[1]،
ولا يجب أن ننسى أن هذين الإنجيليين، هما وحدهما اللذين كتبا عن دخول الشيطان فى
نفس يهوذا (أنظر لو22: 3، يو2: 13).

أما
فيما يخص النبوة عن الخيانة، فإننا نجد أن الإنجيلى مرقس يضيف إليها جزء من الآية
(9) للمزمور (41) ” الآكل معى ” والذى لا يَرِد عند الإنجيليين
الثلاثة الآخرين، بينما كان يجب أن يَرِد بالذات عند “متى” الذى يحفظ
تقريبًا كل اقتباسات مرقس، وفيما يتعلق بهذا الموضوع، نعتقد أن معنى الشاهد لمرقس
الآكل معى ” مصاغ بطريقة ما في العبارة التالية فى
“متى” ” الذى يغمس يده معى فى الصحفة ” (مت23: 26)

أما
غياب الشاهد من لوقا فليس بمشكلة، حيث إن:

أ
لوقا يوجه إنجيله إلى الأمم[2] وبالتالى فإن
عدم وجود شاهد من العهد القديم، لا يؤثر لا على الهدف الذى من أجله يكتب إنجيله،
ولا أيضًا على المستلمين لإنجيله.

ب
النبوة عن الخيانة في روايته، لا تتفق حرفيا مع رواية النبوة عن الخيانة فى مرقس.

ج
العبارة ” ولكن هوذا يد الذى يسلمنى هى معى على المائدة” (لوقا21: 22) تعطى
تقريبًا نفس المعنى لشاهد مرقس (18: 14) ” الآكل معى “.

 أما بالنسبة ليوحنا
فهو يذكر كل الشاهد للمزمور (9: 41) فى إطار رواية غسل أرجل التلاميذ، حيث تحدث
السيد بطريقة غير مباشرة عن الخائن (أنظر يو18: 13).

 

2
أهمية النبوة عن الخيانة:

فى
أثناء العشاء اضطرب يسوع فى داخله بالروح وقال ” الحق أقول لكم إن واحدًا
منكم سيسلمنى، الآكل معى
” (مر18: 14، مت26: 26، يو21: 13) بخصوص معنى الآية
يجب أن يقال إنها تُظهر نوعًا ما من عدم التحديد، أى أن السيد لا يسمى بالاسم شخص
خائنه، ولا حتى يشير إليه، فقط يُلَمح عنه، وعلى الرغم من أن هذا الشخص المخادع حاضر
ويشاركه الأكل. تتفق تمامًا مع هذا المعنى الملاحظة التالية للقديس كيرلس الأسكندرى:
[ظن الخائن لأنه كان مملوء من كل خبث شيطانى أنه يستطيع أن يختبئ من المسيح، الذى
هو الله، لكن على العكس عُرف من المسيح، حقا كان كله شر؛ يهوذا لأنه على الرغم انه
استحق أن يجلس على المائدة ويشارك سيده الأكل ويتمتع بالصلاح الإلهى، إلاّ أن شره
قاده للجحيم][3].

وعلى
الرغم، من أن يسوع بنبوته عن الخيانة لم يكشف عن اسم الخائن، لكن بأقواله النبوية
هذه كما يرى الكاتب القبطى سمعان بن كليل يرسل إلى الخائن الرسالة المناسبة، أى أن
معلمه يعرف جيداً هذا الذى يخفيه فى قلبه، وفى نفس الوقت هو لا يتوقف عن الاهتمام
به وبخلاصه حتى النهاية[4].

وبالتالى،
فإن اضطراب السيد، وهو ينطق بهذا القول عن خيانته (أنظر يو13: 21) لا يُعبّر فى
الواقع عن خوف ابن الإنسان من نتائج الخيانة، ولكن عن مأساة يهوذا المحزنة، فالسيد
كفاحص للقلوب، عرف أن الشيطان قد دخل بالفعل فى ” قلب ” يهوذا.

هذا
القول النبوى غير المحدد، والمؤثر جداً، قول السيد عن خيانة يهوذا أحدث انزعاجًا
شديدًا بين التلاميذ وحزنًا عميقًا (أنظر مر19: 14، مت 22: 26). لدرجة أن التلاميذ
بدأوا ” ينظرون بعضهم إلى بعض وهم متحيرون فى مَن قال عنه ” (يو22: 13)،
ويتساءلون فيما بينهم ” مَن ترى منهم هو المزمع أن يفعل هذا ” (لو23:
22). وبدأوا يقولوا للمعلم واحد واحد ” هل أنا هو يارب” (مر19: 14، مت
22: 26). هكذا استحوذ الحزن العميق والحيرة الشديدة على الكل، فيما عدا واحد جلس
غير مبالٍ وغير مضطرب. هذه الحالة المأساوية للتلاميذ من جانب، وقساوة قلب يهوذا
بعدم اعترافه من جانب آخر، دفعتا السيد أن يتكلم للمرة الثانية، وبلا تحديد أيضًا
عن الخائن: ” هو واحدٌ من الاثنى عشر الذى يغمس معى فى الصحفة
(مر20: 14)، وهنا يفترض العلامة أوريجينوس أن يهوذا لم يحترم معلمه عندما أكلوا معًا،
إذ لم يترك السيد لكى يغمس يده أولا فى الطبق، مثلما فعل بقية التلاميذ احترامًا
للسيد، لكنه مد يده إلى الطبق فى نفس الوقت مع يد يسوع[5].

هذه
الإشارة العامة من السيد: ” هو واحد من الاثنى عشر..” جعلت بطرس بدافع
من محبة المعرفة يومئ ربما برأسه وربما بعينه إلى يوحنا أن يسأل السيد بشجاعة
الدالة التى له عنده، لكى يعلم ” مَن عسى أن يكون الذى قال عنه ” (يو23:
1324). ” فاتكأ ذاك على صدر يسوع وقال له يا سيد مَن هو، فأجاب يسوع ” هو
ذاك الذى أغمس أنا اللقمة وأعطيه، فغمس اللقمة وأعطاها ليهوذا سمعان الاسخريوطى

(يو25: 1326). ومن الجدير الإشارة إليه هنا هى الطريقة التى أجاب السيد بها على
سؤال يوحنا، إذ أن غمس قطعة من الخبز فى طبق وتقديمها إلى شريك المائدة، هى عادة
يهودية، بها يعبّر الأب عن تقديره لابنه الأكبر. وعليه فإننا نستطيع القول إنه فى
النهاية، انكشفت ليوحنا فقط شخصية الخائن. أما بقية التلاميذ فلم يعرفوا فقط أن
يهوذا هو الخائن بل رأوه وهو يُكَرّم من السيد، بطريقة فائقة كابن بكر له. هكذا
وللمرة الثالثة، يتجنب السيد الكشف الواضح عن شخص الخائن، وهذا يفعله:

أ
لكى لا يمنع التلاميذ فى حالة معرفتهم يهوذا من تحقيق التسليم، لأنهم لو عرفوا
هويّة الخائن، لقتلوه كما يفترض ذلك أمونيوس الأسكندرى[6].

ب
ولكى يعطى فرصة أخرى ليهوذا للتوبة، فالسيد، بينما هو ينتقد بشدة الخطية ويمقتها، فى
الوقت نفسه يشارك الخاطئ آلامه ويعتنى به، وبينما هو يدين عمل الخيانة غير الشريف،
يستمر فى شعوره بالشفقة على الخائن.

عندما
أخذ يهوذا إذن قطعة الخبز، فَقِدَ سلامه الداخلى كما يفسر أوريجينوس[7]
إذ جعل نفسه غير مستحقة أن تُحفظ فى هذه الحالة حالة السلام: ” لأن إنسان
سلامتى الذى وثقتُ به آكل خبزى رفع على عقبهُ
” (مز9: 41)، وإذ قد فَقِدَ
يهوذا هذه العطية الإلهية، فذاك، الذى يطلب من فترة فرصة لكى يدخل فى قلبه أى الشيطان
وجد المدخل مفتوحًا، فدخل واستحوذ عليه[8] (أنظر يو27:
13).

وهنا
نضيف أنه غير محتمل افتراض خروج يهوذا من العلية بعد النبوة عن الخيانة، وبالتحديد
بعد الإجابة الشخصية له من قِبل السيد ” أنه هو الخائن ” (أنظر مت25:
26)، لأن خروجه فى ذاك الوقت سوف يثير بالتأكيد شك التلاميذ من نحوه ومحاولتهم
منعه ولو بالقوة كما أشرنا سابقًا، كما أن حدثًا هامًا مثل هذا لو كان قد وقع لما
توانى الإنجيليون فى تسجيله لنا. بل أن الطريقة التى بها أظهر الإنجيليون، يهوذا،
لنا مرة أخرى فى لحظة القبض على السيد فى بستان جثسيمانى تجعل افتراض خروجه مع
السيد وبقية التلاميذ من العُلية بعد الانتهاء من العشاء هو أمر محتمل جدًا.

 

3
ما هو سبب نبوة يسوع عن الخيانة؟

أعلن
يسوع مسبقًا ومرات عديدة للتلاميذ عن آلامه وموته (أنظر على سبيل المثال مت21: 16،
مر31: 9، لو31: 1833)، وذلك حتى لا تفاجئهم هذه الأحداث القاسية والمتوقع حدوثها.
وهكذا إذ يتكلم هنا مسبقًا عن خيانته، فإنه يريد من البداية أن يقوى إيمان
التلاميذ فى شخصه، والذى من الممكن أن يتزعزع أمام هذا الحدث المفاجئ لهم. ” أقول
لكم الآن قبل أن يكون حتى متى كان تؤمنون إنى أنا هو
” (يو19: 13). أيضًا
يريد السيد بذلك أن يجعل التلاميذ يدركون تمامًا أن هذا الذى سيحدث له، لن يحدث من
ضعفه، ولا بدون إرادته، ولا بالطبع من عدم معرفته، فالمسيح، هو سيد الأحداث
الجارية، يعرفها من قبل ويقبلها بمحض إرادته، مكملاً تدبير الله الآب لأجل خلاص
البشرية، فهو عبد يهوه المتألم كما وصفه النبى إشعياء (أنظر1: 42 إلخ،4: 50 إلخ،
13: 5215، 1: 53 إلخ)[9]. بناء على
ذلك، فتسليم ابن الإنسان إلى الموت لا يرجع فى التحليل الأخير إلى نشاط يهوذا
الخائن (أنظر مر10: 14، مت 14: 26 لو 3: 22-4) ولا إلى حسد الجماعات اليهودية
الدينية للسيد (أنظرمر10: 15، مت 18: 27) لكن يرجع أولاً وأساسًا لإرادة الله كما
عُبّر عنها فى العهد القديم ” كما هو مكتوب” أنظر مز21، إش53، دا26:
9، مر21: 14،مت24: 26) أو ” كما هو محتوم ” (لو22: 22).

وفى
هذه النقطة نلاحظ أن السيد يستخدم لنفسه هنا المصطلح المسيانى ” ابن الإنسان
ماض كما هو محتوم
” (لو22: 22)، والذى يرتبط عادة فى الأناجيل بالآلام (أنظر
مثلاً مر31: 8مت20: 1819 لو22: 9،يو14: 3).

 

4
عاقبة عمل يهوذا:

فى
خطة التدبير الإلهى لخلاص العالم، يدخل تسليم ابن الإنسان إلى الموت كشرط أساسى
فيها، لكن فى بنود الخطة موضع الحديث لا توجد عقوبة الله للمُسلِّم ” يهوذا
” على إجرائه الخيانة. فالله لا ينتقم من يهوذا ولا يحاكمه على عمله الدنس.
وهو عندما يقول “ولكن ويلٌ لذلك الرجل الذى به يُسلَّم ابن الإنسان كان
خيرًا لذلك الرجل لو لم يُولد
” (مر14: 21، مت26: 24، لو22: 22)، إنما
ببساطة يتحدث بألم فى نفسه عن نهاية يهوذا المرعبة والتى اقتربت. وبالتالى فإن موت
يهوذا منتحرًا (أنظر مت 27: 5) كان أساساً وفقط نتيجة اختياره الشخصى. وهنا من
الممكن أن نقول أيضًا إن وصف الخائن بعبارة ” ذلك الرجل ” يحضر إلى
النور ويؤكد تماماً على حقيقة الابتعاد التدريجى ليهوذا عن معلمه، وعن حلقة
التلاميذ الآخرين، ذلك الابتعاد الذى أخذ بدايته منذ اللحظة، التى فكر فيها فى
الخيانة.

وبناء
على ما سبق شرحه، نرى أنه من المناسب أن نعرض هنا رأى العلامة أوريجينوس، والذى
وفقا له: [قال السيد عن يهوذا ” كان خيراً لذلك الرجل لو لم يولد”، لأن
يهوذا برغم إدراكه عظمة معلمه ورغم أنه صار تلميذًا من خاصته، ومستمعًا لحكمته الإلهية
ولأقوال النعمة منه، إلاّ أنه فضّل فى النهاية أن يخونه][10].

وبحسب
رأينا نظن أن السيد تحدث هكذا عن الخائن، لأنه عرف بالتأكيد أن يهوذا، بعد قليل،
سوف يشنق نفسه، رافضًا الحياة.

وفى
هذه النقطة، يجدر أيضًا الحديث عن الملاحظة التالية: أن الإنجيلى الرابع لا يذكر
تلك الكلمات ليسوع المتعلقة بعاقبة عمل يهوذا، ربما لكى يتركنا نفهم من أنفسنا أية
نوعية تلك النهاية التى تنتظر شخص قد دخل الشيطان إلى قلبه (أنظر يو13: 27). وربما
العبارة ” خرج للوقت وكان ليلاً” ليوحنا (13: 30) تعنى رمزيًا
الظلمة التى قد أخذت تملأ نفس يهوذا، لأنه من المعروف أن تلك الليلة كانت الخميس،
الرابع عشر لشهر نيسان حيث البدر كاملاً. أيضًا، علينا ألا ننسى كلمات السيد فى
(يو17: 12) والتى وفقًا لها دُعى يهوذا ” ابن الهلاك “.

 

5
نهاية رواية الخيانة بحسب الإنجيليين متى ويوحنا:

الرواية
المتعلقة بموضوع الخيانة عند ق. متى تنتهى بالحديث القصير المتبادل بين المسيح
ويهوذا، كالآتى: ” فأجاب يهوذا مُسلِّمهُ وقال: هل أنا هو يا سيّدى
” قال له يسوع ” أنتَ قلت” (مت26: 25). هذا الحديث:

أ
إمّا لم يصر على مسمع من الكل، لأنه فى تلك الحالة كان سيحدث بلا شك رد فعل قوى من
بقية التلاميذ، ربما وصل كما ذكرنا إلى قتل يهوذا.

ب
وإمّا أن التلاميذ لم يفهموا هذا الحوار، لأنهم كما يروى ق. لوقا، كانوا منشغلين
فيما بينهم بالتساؤلات عن ” مَن ترى منهم المزمع أن يفعل هذا ” (22:
23). وفى نفس الوقت كانوا غير عارفين ماذا يخفى يهوذا فى قلبه[11].

ج
وربما هذا الحديث قد صار بصوت خافت، إذ أن يهوذا كان جالسا بجوار السيد مباشرة
وعلى يمينه حيث وفقا للعادات اليهودية، عندما تجلس عائلة لتناول الطعام، يجلس الابن
الأكبر على يمين أبيه مباشرة، وبعده كان يجلس باقى الأعضاء بالترتيب حسب السن، وفى
النهاية يجلس أصغر الأبناء على شمال أبيه وبالقرب من حضنه، مثلما كان يوحنا الحبيب
بالضبط (أنظر مثلاً تك43: 33).

نأتى
بعد ذلك إلى رواية يوحنا، فنلاحظ أن سؤاله إلى السيد ” مَن هو؟” (13:
25) كان على الأرجح سريًا، إذ هو نفسه يصف لنا موضعه، أنه كان ” متكِأً على
صدر يسوع ” (13: 23،25). وإجابة السيد له ” هو ذاك الذى أغمس أنا اللقمة
وأعطيه” (13: 26)، كانت أيضًا سرية، إذ أن لا أحد من كل الذين أكلوا معا فَهِم،
لماذا قال المعلم ليهوذا بعد ذلك مباشرة ” ما أنت تعمله فاعمله بأكثر
سرعة” (13: 27)، ولا حتى ماذا تعنى هذه الكلمات. البعض افترض أن يسوع قال له:
اشتر ما نحتاج إليه للعيد. أو أن يعطى شيئا للفقراء، لأن الصندوق كان مع يهوذا
(انظر يو13: 2829).

ومن
وجهة نظر أخرى، لكلمات يسوع هذه، ” ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة”، من
جانب فهى تغطى الموقف القبيح ليهوذا أمام التلاميذ، ومن جانب آخر تحمل له رسالة؛ أن
معلمه يعرف كل خطته، وهو يواجهها بشجاعة عظيمة دون خوف ولو للحظة واحدة، وإنه فى
نفس الوقت يحمل فى أعماقه حزنًا شديدًا من أجله. وهكذا نستنتج، أن يسوع لا يريد أن
يبدأ طريق الجلجثة بدون إرادته الشخصية فهو يقول عن نفسه ” ليس أحد يأخذها منى
بل أضعها أنا من ذاتى. لى سلطان أن أضعها ولى سلطان أن أخذها أيضا ” (يو10:
18).

وإذ
يرى يسوع الشيطان وهو يدخل فى نفس يهوذا، الذى يصير قابلاً سلبيًا لكل شر وخبث
يلقنه له الشيطان، وأن الاثنين يتحولان ضده، يأتى هو أيضا إلى الصليب، قائلاً:
ما أنت تعمله فاعمله بأكثر سرعة” متحديا هكذا الخصم (الشيطان)
وسامحًا للخائن أن يخدم سر التدبير، الذى سيصير خلاصاً للعالم، ذلك الخلاص الذى لم
يرد يسوع أن يهمله، ولا أن يؤجله، لكنه أراد تحقيقه بكل قوة عنده وبأقصى سرعة
ممكنة [12].

 

6
لأى سبب سلّم يهوذا السيد إلى قيادات اليهود الدينية:

فيما
نحن نقترب إلى نهاية هذا الفصل، وعلى أساس كل ما قيل من قبل، يتولد السؤال التالى:
لأى سبب سلّم يهوذا السيد إلى قيادة اليهود الدينية؟

وللإجابة
على هذا السؤال نعرض الآراء المحتملة الآتية:

1
وفقا للرأى الأول: يهوذا سَلّم السيد بسبب محبته للفضة. لكن أمام هذا الرأى
تقف بعض الصعوبات مثل:

أ
برغم أنه فى الشاهد (مت14: 2615) يظهر يهوذا أنه هو الذى يطلب من رؤساء كهنة
اليهود مكافأة لتسليم يسوع، ففى الشواهد (مر10: 1411، لو4: 225) نجد رؤساء الكهنة
هم الذين يعدون يهوذا بالمكافأة.

ب
نقطة أخرى ترتبط بالسابقة وهى: أننا نعرف من الشاهد (يو11: 57) أن الإرشاد عن مكان
السيد لم يكن مقترنا بجائزة مالية من القيادة الدينية لليهود، الأمر الذى لو كان لأغرى
يهوذا على إجراء الخيانة، والتى على أية الأحوال قد أتمها.

ج
الثلاثون من الفضة التى أخذها يهوذا (أنظر مت26: 15) بالرغم من قيمتها الثمينة فى
ذاك الوقت (قيمة حقل أنظر مت7: 27، أع1: 18)[13]
إلاّ أنها لم تقف أمامه عائقًا فى إرجاعها، طارحًا إياها فى الهيكل، شاعرًا بالندم
على عمله الشرير (أنظر مت27: 35).

د
لو كانت شهوة محبة الفضة هى وحدها التى دفعت يهوذا على خيانة سيده، لكان من المنطق
أن يطلب مكافأة أكبر، خاصة وأنه يعلم أن المسيح مطلوبًا بشدة للقبض عليه من قِبَل
رؤساء اليهود (أنظريو11: 57).

ه لا شك أنه كان من الأكثر إفادة ليهوذا أن يبقى معلمه على قيد الحياة ويستمر
هو في نهب الصندوق، والذى على أيّة الأحوال كان فى عهدته، من أن يتخلص منه نهائيا
وفى مقابل ثلاثين من الفضة لمرة واحدة.

و
وأخيرًا، نضيف رأى كاهن الأسكندرية أمونيوس (ق5 م) والذى وفقًا له:


السيد إحتمل واحدًا من تلاميذه كان سارقًا ومعه الصندوق وذلك لكى لا يزعم أحد أنه ارتكب
الخيانة بسبب محبته للمال أو بسبب فقره ” [14].

لكن
على الرغم من كل الصعوبات المذكورة سابقًا، التى تواجه الرأى الأول، فإننا لا
نستطيع أن نتغافل عن الحقيقة الكتابية عن يهوذا، أنه ” كان سارقا
“(يو12: 6). لهذا فالكنيسة القبطية فى ألحان يوم الخميس الكبير (يوم
الخيانة)، وبعد قراءة سفر أعمال الرسل (1: 1520) تشدد وبكلمات مناسبة جدًا على
ملمح محبة الفضة عند يهوذا وتوبخ إياه بحدة مرتلة: “يا يهوذا يا مخالف
الناموس، بالفضة بعت المسيح لليهود مخالفى الناموس
[15].

 

2-
الرأى الثانى:
يعتبر يهوذا واحدًا من الغيورين (الحماسيين) الذى ومثل كل
الغيورين فى عصره انتظر مجيء المسيا كمحرر للأمة اليهودية من النير الرومانى. ولكن
عندما تحقق أن يسوع لم يعمل شيئًا ضد الرومان، بل كان هو المسيا المحرر من الخطية
ومسيا السلام السمائى، وأيضا عندما اكتشف أن الجمع الذى التف حول معلّمه، باطلاً انتظر
التحرر الأرضى، خاب أمله فى المسيح، وأراد بكل عزيمته أن يزيحه جانبًا، لكى يفتح
الطريق لمجيء ذاك المسيا، الذى هو والغيورين أمثاله ينتظرونه[16].

لهذا فخيانة يهوذا للمسيح
يمكن أن تعتبر إجراء تسليم لشخص يهودى إلى الأمم لمعاقبته، وهو إجراء يذكرنا
بخيانة يهوذا وأخوته ليوسف أخيهم الذى سُلِّمَ فى النهاية لأيدى المصريين (الأمم)
(أنظر تك33: 1830)[17].

أيضًا
بحسب الرأى الثانى، يُوصف يهوذا بأنه ” لص ” وهو اللقب الذى يُطلق على
كل من يشرع فى إجراء انقلاب ضد الحكم الرومانى (أنظر يو18: 40، لو23: 19، مر15:
7،27، مت27: 38).

لكن
هذا الرأى فى حد ذاته هو مشكلة للأسباب التالية:

أ
على الرغم من أن يهوذا كان يتمتع بحسب هذا الرأى بغطاء قانونى لكى يعمل ضد الرومان
الغزاة، مستندًا على شاهد سفر التثنية (17: 1415) ” متى أتيت إلى الأرض التى
يعطيك الرب إلهك وامتلكتها وسكنت فيها.. فإنك تجعل عليك ملكًا الذى يختاره الرب إلهك
من وسط اخوتك تجعل عليك ملكًا. لا يحل لك أن تجعل عليك رجلاً أجنبيًا ليس هو أخاك
” فكيف يبّرر عندئذ ندمه على إجراء الخيانة (أنظر مت27: 3) إذا كان يؤمن أنه
قد فعل هذا وفقا للناموس.

ب
لا يوجد فى أى موضع عند الإنجيليين الأربعة التعريف ليهوذا ” بالغيور”،
لكن هذا التعريف يحمله تلميذ آخر، هو سمعان ” الغيور” القانوى (أنظر
لو6: 1516، مر3: 1819، مت4: 10) ومن ثم سمعان القانوى ” كغيور” كان يجب أن
يكون هو التلميذ الخائن، وليس يهوذا الأسخريوطى.

ج
فى إنجيل يوحنا (12: 6) وُصِفَ يهوذا بكلمة
Kl»fthj والتى تعنى سارقًا، ولم يُوصف بكلمة Lhst»j والتى تعنى لصًا وعاملاً ضد الرومان.

د
وأيضا من الجدير الانتباه إليه هنا، أن يهوذا وُصِف كلص وعامل ضد الرومان عند
المؤرخ اليهودى يوسيفوس فقط[18]

ولا
يَرد هذا الوصف فى تقليد كنيسة الأسكندرية.

ه
وفى النهاية؛ نسجل أنه فى الأناجيل الأربعة وفى أكثر من موضع يستخدم السيد عن نفسه
باستمرار الفعل “يُسلّم“: والذى يُحضر إلى ذهننا النبوات الكثيرة
للنبى إشعياء عن المسيح “عبد الرب المتألم” (أنظر مثلا إصحاحات52، 53).
هذا الفعل المميز، والذى يرد فى صيغة المبنى للمجهول “يُسلّم“،
سُلّم” وهكذا، يعنى أنه بغض النظر عن كل ما يتم على مسرح
التاريخ الإنسانى، فإن المسيح ” يُسلّم ” بإرادة الله الآب إلى الموت لأجل
خطاة العالم. فصليب المسيح إذن لم يكن بأى حال من الأحوال نتيجة عوامل تاريخية
سيئة، أو ضحية أمجاد أرضية مبررة يسعى إليها اليهود؛ على سبيل المثال كراهية
اليهود للسلطة الرومانية، لكن كان أساسًا وفوق كل شئ إعلانًا عن محبة الله
للبشرية. لذا فهذا الفعل يَرِد فى الاعترافات الأولى للإيمان المسيحى (أنظر مثلاً
رو4: 25) ” الذى أُسلّم من أجل خطايانا وأُقيم لأجل تبريرنا ” (أنظر
أيضًا 8: 32، غلا2: 20)[19].

3
أما الرأى الثالث فهو الآتى: أن يهوذا سلِّم السيد، وعنده الانطباع أن يسوع
سوف يشرح لقادة اليهود الدينيين النقاط الأساسية لتعليمه، والتى سوف تكشف لهم أنه
لا يأتى بتعليم يتعارض مع تعاليم الناموس الموسوى ولا مع المفاهيم الدينية لعصره،
ومن ثم فالقرار الذى اتُخذ سابقًا بالقبض عليه سوف يُلغى كقرار ظالم (أنظر يو11:
57). هذا ولا يجب علينا أن ننسى، أن عيد الفصح يقترب، وفى فترة العيد لم يكن مسموحًا
بارتكاب جرائم قتل من يهودى فى حق يهودى، الأمر الذى كان يعرفه جيدًا يهوذا (أنظر
يو18: 2931)، يضاف إلى هذا الثقة المطلقة ليهوذا فى معلمه، والتى تكونت لديه من
خبرة الحوارات العديدة التى جرت بين المسيح ورؤساء اليهود الدينيين من قبل (أنظر
على سبيل المثال مت21: 2328 22: 1522، 2333، 3440، 4146)، كل هذا جعل يهوذا متأكدا
من براءة سيده وأن حياته لن تتعرض لأى خطر. لذا عندما علم بمحاكمة السيد بالموت،
ندم وتملكه اليأس وذهب وشنق نفسه (أنظر مت27: 34، أع1: 18)[20].

لكن
من هذا الرأى ينبت التعجب الآتى: يهوذا يظهر هنا كإنسان يعمل بطيبة قلب، وبنية
صالحة وعن محبة شديدة لسيده ومعلمه، الأمر الذى يتعارض مع الحقيقة الكتابية، أن
الشيطان قد تسلط بالفعل على قلبه وعلى فكره، جاعلاً إياه تحت تأثيره فى كل تصرف (أنظر
لو3: 22، يو13: 2،27)، أضف إلى هذا أن يهوذا هو الوحيد من التلاميذ الذى شهد عنه
المسيح أنه لم يكن طاهرًا (أنظر يو10: 1311).

4
نواصل عرض الآراء، بتقديم الرأى الرابع الآتي: ربما كان لا مفر
ليهوذا من أن يلعب هذا الدور المهين للخائن، وذلك لأن الكتاب نفسه سبق وتنبأ عن
الخيانة فى المزمور (41: 9)، كما أن السيد أيضًا إذ هو كلى المعرفة، عرف ورأى مسبقًا
وأخبر عن خيانته من تلميذه يهوذا (أنظر مثلاً يو6: 7071، 13: 1011، 2621). شاءَ أم
لم يشأ يهوذا كان يجب أن يكون هو الخائن (أنظر مر14: 18، مت26: 21، لو22: 21)، وإذا
نظرنا إلى هذا الإنسان من هذه الزاوية، فيمكن أن يُقال، أن يهوذا كان هكذا شخصًا
مؤمنًا مرسلاً لتحقيق خطة الله لكى تكتمل نبوات العهد القديم وأيضا نبوة السيد
نفسه عن تسليمه. وبالتالى فهو بريئًا تمامًا من مسئولية موت المسيح، بل فى الحقيقة
كان هو عاملاً ضروريًا لإتمام الفداء[21].

كما
يرى أيضا بعض الباحثين أن قصة موت المسيح احتاجت لواحد خائن، وأن يهوذا أُستُخدم
فى الرواية لكى يقوم بهذا الدور، ولكى يُلقى فى النهاية بتهمة قتل يسوع على اليهود
ويُعفى بذلك الرومان من هذه المسئولية[22]!.

ولذا
فإن
Marin يعتقد أن يهوذا لعب دور ” المُكَمِل ” فى رواية الصلب،
فهو لم يكن العامل الأساسي، لكن وجوده أتى بتغيرات كثيرة[23].

لكن بقدر ما يظهر هذا الرأى منطقيًا،
إلا أنه فى الواقع يصطدم بالعدل الإلهى فى أساسياته، فالله كعادل وعدله كامل
ومطلق، لم يجبر يهوذا على تسليم ابن الإنسان لكى تكتمل نبوات الكتاب، ولا أيضا دفع
يهوذا على إجراء الخيانة لكى تَصْدُق كلمات المسيح. فإن كان الكتاب المقدس سبق
وتنبأ عن الخائن، فذلك لكى يجعل حدث الخيانة معروفًا لنا. بل ونستطيع أن نقول بكل
ثقة أنه لو رفض يهوذا مباشرة من ذهنه الفكرة الشيطانية لخيانة سيده ومعلمه، فإن
موضوع القبض كان سيتم فى وقته أيضا وبطرق عديدة مختلفة وبدون أن نخسر يهوذا.
وبالتالى فإن معرفة يسوع المسبقة بخيانته، لم تلزم يهوذا أن يتممها ولا هى أيضا
تعفيه من المسئولية.

إذن
في الواقع يهوذا يقرر ويتصرف بإرادته الخاصة، الأمر الذى يظهر من كلماته هو نفسه
لرؤساء الكهنة بعد الخيانة: ” أخطأتُ إذ سلمتُ دمًا بريئًا” (مت 4:
27) وهكذا صار متحملاً لكل النتائج المترتبة على عمله[24].

 

5
الرأى الخامس:
وفيه نلاحظ الآتى: يهوذا وكما يظهر من لقبه الأسخريوطى (الأسكريوطى)[25]
هو التلميذ الوحيد بين التلاميذ الذى لم يكن جليليًا (أنظر مر1: 1620، 2: 1،14،
يو1: 4348، 21: 1-2) وشأنه كشأن كل أهل اليهودية، فقد اعتز بنسبه ونظر نظرة احتقار
لكل من هو منحدر من الجليل نظرا لمخالطتهم للأمم، (أنظر مثلاً مت15: 4، يو1: 4546،
52: 7). وربما توقع بالتالى أن السيد سوف يميزه عن بقية التلاميذ وسيكون له بمثابة
التلميذ المختار، لكن عندما أدرك أن السيد يساوى بينه وبين الجليليين (أنظر مثلاً:
مت10: 14، مر9: 23، يو1329)، بدأ يعرض عنه وينفر منه، ومع الوقت تحول النفور إلى
كراهية وبغضة، هذه المشاعر وصلت إلى قمتها وظهرت بوضوح فى حادثة مسح أرجل السيد
بالطيب من مريم أخت لعازر، وذلك عندما أنّب يهوذا المرأة على هذا الإسراف، وبطريقة
خفية السيد الذى قبل أن تمسح رجليه بهذا الطيب الغالى الثمن (أنظر يو1: 125). ولما
جاء رد الرب يسوع منصفا للمرأة وفى الوقت نفسه موبخًا ليهوذا ” اتركوها إنها
ليوم تكفينى قد حفظته” (يو12: 7). احتدمت هذه المشاعر أكثر فى قلب يهوذا،
ولذا نقرأ عنه أنه من بعد هذه الحادثة، مضى إلى رؤساء الكهنة وتشاور معهم كيف يُسلم
معلمه لهم (أنظر مر14: 10،مت26: 1415). وعليه فإن هذا الحدث الذى وقع فى بيت عنيا،
وقبل الفصح آلام السيد
بستة أيام (أنظر يو12: 1) من الممكن أن يكون هو السبب لإجراء
الخيانة[26].

مع
الأخذ فى الاعتبار كل ما قُدِم فى هذا الموضوع، نسجل نحن بدورنا رأينا ونقول إن
يهوذا فى الحقيقة كان شخصية مأساوية، لا أحد يعرف أعماقه، لأنه من الصعب جدًا أن نفهم
أعماق إنسان دخل فى قلبه الشيطان. ولذا لأى رأى من كل الآراء السابقة أو لبعضها أو
لكلها مجتمعة، أو حتى لرأى آخر، هو مجهول لنا حتى الآن، تحرك يهوذا وارتكب فعل
الخيانة، ولذا مظهرين كل تحفظ؛ نقول إن الكراهية التى تأصلت مع الزمن فى قلب يهوذا
من جهة سيده ومعلمه من جانب، ومحبته غير المحدودة للمال من جانب آخر، جعلتا من
شخصيته، أرضًا مهيأة لدخول الشيطان، وقابلة لسيطرته. لذا فالشيطان ” لم يدخل
ببساطة إلى قلب يهوذا ” كما يلاحظ القديس أثناسيوس ” بل وجد فى نفسه مأوى
له، وجد فى ذهنه فكرًا موافقًا لفكره، وجد السلاح الذى يمكن استخدامه، وجد الميل
الذى يريده، ولذا دخل المنزل ولم يتركه “[27].
وإذ دخل الشيطان – المضاد لعمل الله دائمًا فى كيان يهوذا، واستحوذ عليه بالكامل
جعله تحت يده تمامًا وقاده أولاً إلى رؤساء الكهنة للاتفاق معهم على تسليم السيد
المسيح (أنظر لو22: 34)، وبعد ذلك إلى الخروج من العلية والذهاب لإحضار جند وخدام
من عند رؤساء الكهنة لإتمام عملية القبض عليه (أنظر يو13: 27). هكذا ارتكب يهوذا
الخيانة ليس فى حق إنسان عادى، ولكن فى حق الإله المتأنس، ولذا فهو لم يكسب لنفسه
مبلغًا زهيدًا جدًا ” ثلاثين من الفضة ” فقط بل وشهرة سيئة على مدى
تاريخ البشرية، وصار اسمه تعبيرًا عن الخيانة، ويُذكر دائمًا فى ذيل قائمة الرسل
مقترنًا بهذا اللقب الذميم ” يهوذا الأسخريوطى الذى أسلمه
(انظر مر 3: 19، مت 10: 4، لو6: 16).

قبل
أن نُكمل بحث كل موضوع النبوة عن الخيانة، نرى أنه من الضرورى أن نعطى إجابة على
السؤال الذى يتولد منطقيًا بسبب الخيانة، وهو: طالما يسوع الكلى المعرفة، قد عرف
بالتأكيد أن يهوذا سوف يخونه، لماذا إذن اختاره كتلميذ له؟ ونجيب:

فى
الحقيقة، اختيار يسوع للتلاميذ، ومن ثم ليهوذا، لا يعتمد فقط على المعرفة المسبقة
له لكل ما يتعلق بحياة التلاميذ، لأنه لو قبلنا هذا الرأى، فمن جانب سوف نلغى
عندئذ الهبة العظيمة التى وهبها هو نفسه، لكل واحد من التلاميذ، وبالطبع لكل إنسان،
أى حرية الإرادة. ومن جانب آخر سوف نلغى أيضًا الإيمان بعدل الله، والذى وفقًا له
ستعطى المكافأة لكل من عمل الصلاح، والعقوبة لكل من عمل الشر. من ثم فإن الاختيار
الإلهى للأشخاص يعتمد أولا وأساسا على مدى الاستجابة التى يُظهرها كل إنسان من نحو
دعوة الله له. أى عندما يكتشف مواهبه وقدراته الشخصية، لكونه مخلوقًا على صورة
الله ومثاله (أنظر تك1: 2627)، وعندما يستثمر هذه الإمكانيات ليحيا الحياة الفضلى
مع نفسه ومع الآخرين وذلك بجهاده الشخصى وفى الوقت نفسه بمؤازرة النعمة الإلهية له
(أنظر: 2 كو12: 9).

من
كل ما ذكرناه سابقًا أصبح من الواضح، أن يهوذا كانت لديه إمكانيات مناسبة لكى يُختار
كتلميذ. وربما كان أيضا الأكبر فى السن من كل التلاميذ، والأكثر خبرة فيهم في شئون
الحياة، وبالذات فى الموضوعات المالية، ولذا عهد إليه السيد بالصندوق (أنظر يو12:
6، 13: 29) أى أن يهوذا كان في ذاك الوقت، هذا الذى نسميه نحن اليوم ” أمين
الصندوق” للجماعة المقدسة، لكنه أساء استخدام كل إمكانياته وبالذات مكانته هذه
الخاصة التى رفعه يسوع إليها، وكانت النتيجة أنه خسر كل شئ.

وتأييدًا
لأقوالنا السابقة، نضيف هنا التعليقات التفسيرية لكل من:

أ
أمونيوس الأسكندرى ” إذا كان السيد قد اختار يهوذا الذى خانه، فليس فى هذا
شئ، لأن السيد اختاره عندما كان صالحا، وهو الذى تغير فيما بعد، مثل أدم وشاول بن
قيس فالله لا ينزع حرية الإرادة عند الإنسان ولكن يسمح لكل إنسان أن يعمل كإرادته حتى
يعاقب فيما بعد الأشرار ويكلل الذين فى الفضيلة “[28].

ب
سمعان بن كليل
له أيضا تفسير
مماثل لتفسير أمونيوس ويأخذ كمثال؛ الشيطان الذى كان رئيس طغمة سمائية، لكن عندما
تجاوز حدود واجباته سقط[29].



[2] bl. Iw.
KarabidÒpoulou, « Eisagwg» sthn Kain» Diaq»kh » Qes|nkh 1983 , s. 357.

[7] P.G. 14, 804.

[9] Bl. Iw KarabidÒpoulou, «TÒ k£ta M£rkon Euaggšlio» Qesün…kh 1988, s437.

[14] P.G.85,1473

[17] J.D.M. Derret, “ the scariot,Mesira, and the
Redemption” , NTA25,19812, P.10

[18] bl. “Ioud. PÒl…” 2, 587, 593, 4, 84, 97.

[19] Bl. Iw KarabidÒpoulou, «tÕ P£qoj toà Cristoà..» Qesün…kh 1974, s.64-65.

[21] Hstein-Schneider, “ Ala recherche du
Judes historique”, NTA30,No I,1986,P.17.

[22] J.Veitch , “ The Making of a Muth …..” ,
NTA41 , No 3 , 1997, P.442-43

[23] Marin , “ Semiatique de la Passion…”
,NTA18, 1973-1974, P.19.

[28] P.G.85,1484

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى