علم الانسان

الفصل السابع



الفصل السابع

الفصل السابع

لا أنا إنكار الذات

مقالات ذات صلة

16- إنكار الذات

هكذا قال القديس بولس الرسول: ” مع المسيح
صُلِبت. لكى أحيا – لا أنا – بل المسيح يحيا فى (غل 2: 20).. ذاتى لا تحيا مطلقا.

 

قد دققت فيها مسامير. صلبتها. تخلصت من سلطة
الأنا. لم أعد أفكر فيها. بذلتها لأجل الرب، ولخدمة أخوتى. بل ما أعجب قوله ”
كنت أود لو أكون أنا نفسى محروما من المسيح، لأجل أخوتى، أنسبائى حسب
الجسد..” (رو 9: 3)

 

إنه إنكار الذات الذى دعانا إليه الرب، كشرط
لإتباعه.

 

إذ قال ” إن أراد أحد أن يأتى ورائى،
فلينكر نفسه ويحمل صليبه ويتبعنى” (مت 16: 24) (مر 8: 34). والذى فعله القديس
بولس من أجل أخوته وأنسبائه حسب الجسد، هو نفس ما قاله موسى النبى للرب متشفعا فى
الشعب ” والآن، إن غفرت خطيتهم، وإلا فامحنى من كتابك الذى كتبت” (خر
32: 32).

 

بل السيد المسيح له المجد، بدأ تجسده بنفس
المبدأ.

 

إذ قيل عنه إنه ” أخلى نفسه، آخذا صورة
عبد، صائرا فى شبه الناس. وإذ وجد فى الهيئة كإنسان، وضع نفسه وأطاع حتى الموت موت
الصليب..” (فى 2: 7، 8).

 

هذا هو السيد الرب الذى قال للآب “فلتكن
مشيئتك” (مت 26: 42) ” ليس كما أريد أنا، بل كما تريد أنت” (مت 26:
39) وقال أيضا ” لأنى لا أطلب مشيئتى، بل مشيئة الآب الذى أرسلنى ” (يو
5: 30). وكرر ذلك فى (يو 6: 38). إنه يعطينا بكل ذلك درسا..

 

عجيب هذا: إنه حتى السيد المسيح يقول ” لا
أنا “.. لا مشيئتى. لا ما أريد أنا.. يقول هذا على الرغم من وحدته فى المشيئة
مع الآب! ويقول السيد المسيح “من أراد أن يتبعنى، فلينكر ذاته، إنما قد جعل
إنكار الذات هو بداية الطريق.. إذن ماذا تكون نهايته..؟!

 

بعض أمثلة:

بمبدأ ” لا أنا ” بدأ دعوته أبونا
إبراهيم أبو الآباء والأنبياء.

بدأ بطاعته لقول الرب ” اذهب من أرضك ومن
عشيرتك ومن بيت أبيك الى الأرض التى أريك” (تك 12: 1). نعم يا رب. لا أنا
أختار مكان سكناى، ولا أنا أتمسك بأرضى وعشيرتى ولا بيتى.

 

و هكذا ذهب وراء الرب ” وهو لا يعلم أين
يمضى” (عب 11: 8)، لا أنا الذى يطلب أن يعلم أين يمضى. يكفى أن تقود أنت
خطواتى.

 

هذه الخبرة وصل إليها إيليا النبى عندما قال:

” عرفت يارب أنه للإنسان طريقه. ليس لإنسان
يمشى أن يهدى خطواته” (أر 10: 23) وأبونا إبراهيم مارس أيضا عبارة (لا أنا)
حينما أخذ أبنه وحيده ليقدمه محرقة للرب (تك 22). لا أنا أتمسك بمشاعرى كأب. ولا
أنا أناقشك فى حكمتك وفى أمرك. كل ما أفعل هو أن أطيع. ولتكن يارب مشيئتك. أتريد
أن تأخذ منى هذا الأبن الذى انتظرته سنوات طويلة حسب وعدك. ليكن ما تريده أنت، لا
ما أريده أنا.

 

و عبارة (لا أنا) اختبرها موسى النبى أيضا.

هذا الذى كان يعيش أمير فى قصر فرعون. ولكنه قال
فى نفسه: لا أنا الذى يحيا فى هذه العظمة والرفاهية، وشعبى مستعبدا بل أنه ”
أبى أن يُدعى ابن أبنة فرعون. مفضلا بالأحرى أن يُذل مع شعب الله، على أن يكون له
تمتع وقتى بالخطية. حاسبا عار المسيح غنى أعظم من خزائن مصر” (عب 11: 24 –
26).

 

 عبارة
(لا أنا) اختبرها تلاميذ الرب ورسله.

تركوا السفن والشباك، والأهل والأسرة، وتبعوا
الرب (مت 4: 20). ومتى ترك مكان الجباية وتبعه (مر 2: 14). وشاول الطرسوسى ترك
السلطة وفريسيته وتبعه. وعبر عن هذا كله القديس بطرس الرسول، حينما قال للرب
” ها نحن قد تركنا كل شئ وتبعناك” (مت 19: 27). وكأن كلا منهم يقول (لا
أنا، بل المسيح). لا أهلى، ولا بيتى، ولا سفينتى، ولا وظيفتى، بل المسيح. هو الذى
من أجله أترك كل شئ.

 

و فى هذا المعنى قال القديس بولس الرسول:

” لكن ما كان لى ربحا، فهذا قد حسبته من
أجل المسيح خسارة. بل إنى أحسب كل شئ أيضا خسارة من أجل فضل معرفة المسيح يسوع
ربى. هذا الذى من أجله خسرت كل الأشياء وأنا أحسبها نفاية، لكى أربح المسيح وأوجد
فيه..” (فى 3: 7 – 9)

 

17- إنكار الذات في الخدمة

لابد أن يمارس الأنسان عبارة (لا أنا) فى
الخدمة، ويجعل الله هو هدفه ووسيلته فى الخدمة. ولا يسعى الى مجد شخصى، بل ينشد مع
المرتل فى المزمور تلك العبارة الجميلة:

 

” ليس لنا يا رب ليس لنا. لكن لاسمك أعط
مجدا” (مز 115: 1).

هذا هو المبدأ الذى عاش به القديسون فى الخدمة.
مثال ذلك القديس يوحنا المعمدان، الذى كان يختفى ليظهر الرب، والذى أستطاع أن ينفذ
عبارة “لا أنا” فى خدمته، وكان يقول:

 

” ينبغى أن ذاك يزيد، وأنى أنا أنقص”
(يو 3: 30).

لست أنا المسيح، بل أنى مرسل أمامه. من له
العروس فهو العريس. وأما صديق العريس الذى يقف ويسمعه، ففرح فرحا من أجل صوت
العريس. إذن فرحى قد كمل.. الذى يأتى من فوق، هو فوق الجميع” (يو 3: 27 –
31). كانت (الأنا) معدومة تماما عند يوحنا المعمدان..

 

هذا الذى حينما كان يمدحونه، أو يظنون أنه
المسيح، كان يجيبهم (لا أنا).. “لست أنا المسيح..فى وسطكم قام الذى لستم
تعرفونه. هو الذى يأتى بعدى، الذى صار قدامى. الذى لست بمستحق أن أحل سيور
حذائه” (يو 1: 20، 26، 27). أما المنهزمون أمام (الأنا) فهم عكس ذلك.

 

لأنه ما أسهل أن الخادم يربط المخدومين بشخصه
وليس بالله.

 

أو يكون له منهم مجموعة تتبعه وتدافع عنه مهما
أخطأ، وتمدحه وتمجده، وتعادى الذين يعادونه. وتسير وراءه حتى إن هرطق، كما سار
أتباع آريوس وراءه فى هرطقته. وهكذا صار الآريوسيون خطرا على الكنيسة طال مداه
أكثر من آريوس نفسه. وهنا نرى الذات واضحة..

 

أما المنتصرون على (الأنا) فليسوا كذلك. الخدمة
بالنسبة إليهم، هى محاولة مخلصة للدخول الى أعماق النفس، لأجل تطهيرها وتقريبها
الى الله بترك خطاياها وبمحبة الله والخير، أيضا كانت اللغة أو الأسلوب. هدف
الخدمة هو هدف روحى. إنها خدمة المصالحة مع الله. (1كو 5: 18، 20).

 

شتان بين عظة يخرج منها السامعون قائلين (هذا
واعظ علامة) وبين عظة يخرج منها السامعون قائلين: نريد أن نتوب، وأن نصطلح مع
الله.

 

ليس الهدف من العظة تمجيد الواعظ، بل هدفها خلاص
النفس.

 

و الواعظ الناجح هو الذى يكسب نفوسا للرب. ولا
تكون ذاته هى الهدف، يبحث لها عن تقدير شخصى من سامعيه..

 

الهدف من العظة، هو أن تكشف للموعوظ ذاته وما
فيها من عيوب، وكيف ينتصر عليها ويقترب الى الله. وكيف يصطلح مع الله ويثبت فيه.
وليس هدف العظة أن تقدم للموعوظ معلومات، لا يُدان فى اليوم الأخير على جهله
إياها..!

 

لو أن كل واعظ نقى ذاته من الذات، ونقى عظته من
الأهتمام بذاته، وركزها على خلاص الآخرين، إذن لكسبنا للملكوت نفوسا كثيرة. ليست
كل الخدام يكونون كيوحنا المعمدان يمهدون الطريق قدام المسيح، ويهيئون له شعبا
مستعدا (لو 1: 17).

 

هنا أمران تنجح بهما الخدمة البعيدة عن الذات،
وهما:

 

1. يكون الله هو الهدف، وهو الوسيلة.

2. ولا تكون الذات هدفا ولا وسيلة.

 

نقول هذا لأن كثيرين يكون هدف خدمتهم هو ظهور
الذات وتمجيدها. وتكون وسيلتهم فى الخدمة هى الأعتماد على الذات وذكائها وقدرتها.

 

و هكذا لا يدخل الله فى الخدمة، بينما المفروض
أنها خدمة الله!!

 

و هكذا أيضا تقل الصلاة فى الخدمة. فتضعف لأن
الله لم يباركها، ولم يعمل فيها!! أو لم يشترك مع الخدام فى خدمتهم.

 

وإذ تدخل الذات فى الخدمة، قد يحدث فيها انقسام
بين الخدام، ويصير هذا لبولس، وذلك لأبولوس (1كو 3: 3، 4).

 

بكلمة (أنا) قد تدخل محبة الرئاسة أو محبة
الأولوية فى محيط الخدمة، لذلك منعهم الرب عن ذلك قائلا لهم “لا يكون هكذا
فيكم. بل من أراد أن يكون فيكم عظيما، فليكن لكم خادما..كما أن ابن الإنسان لم يأت
ليُخدم، بل ليخدم، ويبذل نفسه فدية عن كثيرين” (مت 20: 26 – 28).

نحاول الآن أن نوضح عبارة (لا أنا) فى الصلاة:

 

18- إنكار الذات في الصلاة

بمبدأ (لا أنا) علمنا الرب أن نطلب أولا ملكوت
الله وبره قائلا لنا عن الطلبات المادية “هذه كلها تطلبها الأمم. إن أباكم
السماوى يعلم أنكم تحتاجون الى هذه كلها. لكن أطلبوا أولا ملكوت الله وبره. وهذه
كلها تزدادونها” (مت 6: 32، 33).

 

ولما علمنا الصلاة الربانية، جعل طلباتنا الأولى
خاصة بالله. وكأن المصلى يقول (لا أنا) بل يا أبانا الذى فى السموات “ليتقدس
أسمك، ليأت ملكوتك، لتكن مشيئتك كما فى السماء كذلك على الأرض..” (مت 6: 9،
10). ثم بعد ذلك يذكر طلبات أخرى خاصة بملكوت الله وبره فيه.. مثل الخبز الروحى
الخاص بملكوت الله. وطلب مغفرة الخطايا ليصطلح مع الله. وأن ينجينا من الشرير، لكى
نصل بها الى نقاوة الله حتى نصير أهلا لسكنى الله فينا..

 

هناك صلوات أخرى لا طلب شخصى فيها على الأطلاق.

بل هى تأمل فى صفات الله الجميلة. مثل الثلاثة
تقديسات: قدوس الله، قدوس القوى، قدوس الحى الذى لا يموت قدوس قدوس قدوس رب
الصباؤوت. السماء والأرض مملوءتان من مجدك الأقدس. ومثل صلوات أخرى كثيرة فى
القداس الغريغورى يقول فيها المصلى “.. أنت الذى تسجد لك الملائكة ورؤساء
الملائكة، أنت الذى تنطق السلاطين بمجدك. أنت الذى ترسل لك الكراسى الكرامة. ألوف
ألوف وقوف قدامك، وربوات ربوات يقدمون لك الخدمة. أنت الذى يسبحك غير المرئيين،
وأنت الذى يسجد لك الظاهرون..” كلها صلوات تنطبق عليها عبارة “لا أنا”.

 

تلى صلوات التسبيح، صلوات الأنسحاق.

 

التى نطلب فيها حقوق الله منا، وتعتذر الذات عن
أخطائها إليه. وتبدو مخطئة ومهانة وليست كيبيرة وفخورة. وقد تقرن صلواتها
بالمطانيات، تحنى بها ذاتها الى الأرض معترفة بخطاياها نادمة عليها. لا ترتفع.
وإنما تبكت نفسها قدامه.

 

إن أعلى درجة فى الصلاة هى صلوات التسبيح التى
يبعد فيها الإنسان ذاته، ولا يذكر سوى الله فقط متأملا عظمته ومجده.. ثم بعدها
صلوات الإنسحاق وصلوات الشكر، وفيها يتمجد الله أيضا.

 

19- إنس نفسك

فى مبدأ (لا أنا) إنس نفسك، وتذكر الله وحده. فى
كل حياتك العملية قل “لا أنا، بل نعمة الله التى معى ” (1كو 15: 10). لا
علمى، ولا قوتى، ولا ذكائى. ولا فكرى كما قال الرسول ” أما نحن، فلنا فكر
المسيح” (1 كو 2: 16). وقل معه أيضا “أحيا لا أنا، بل المسيح يحيا
فى” (غل 2: 20). قل للرب ” أنا لا أدبر نفسى، بل أنت الذى تدبرنى. أنا
لا أعتمد على فكرى. فوصيتك تقول “وعلى فكرك لا تعتمد ” (أم 3: 5)..
وأيضا لا أنا الذى يقدر بجهاده أن يتوب، بل توبنى فأتوب” (أر 31: 18).

 

نفسى أنا قد نسيتها منذ زمان، حينما عشت فى حياة
التسليم لك.

 

بل حياتى كلها هى لك. أنشد فيها مع الرسول لى
الحياة هى المسيح. والموت هو ربح.. لى أشتهاء أن أنطلق وأكون مع المسيح. ذاك أفضل
جدا” (فى 1: 21، 23). وفى سبيل ذلك قل أيضا “ولا نفسى ثمينة عندى”.

 

و ثق يا أخى أنك بعبارة (لا أنا) يمكنك أن تدخل
الى الملكوت.

 

فأنت حينما تنكر ذاتك، وتجحد ذاتك، وتبغض حتى
نفسك لأجل الرب، سوف تلتصق بالله أكثر. ويصير الله ليس فقط هو الأول فى حياتك، بل
بالأكثر هو الوحيد.. وحينما تقول (لا أنا) ستبعد عن تمجيد الذات وتكبيرها. وتنجو
من مدح الذات ومن الفخر ومن الكبرياء والمجد الباطل، هذه الأمور التى سقط بها
كثيرون. وتصل الى حياة الأتضاع التى تستطيع بها أن تقترب الى الله. فالكتاب يقول
“أما المتواضعون فيعطيهم نعمة” (يع 4: 6).

 

و عندما تقول (لا أنا)، سوف تقدم غيرك على نفسك
فى الكرامة حسب الوصية” (رو 12: 10). وتأخذ المتكأ الأخير الذى يرفعك منه
الله. بل أيضا تصير محبوبا من الناس، لأنك لا تنافسهم فى الرفعة، ولا تزاحمهم فى
طريق الحياة وإنما تعطيهم فرصتهم ليتقدموا..

 

إنك عندما تقول (لا أنا) سوف لا تجامل نفسك، ولا
تبررها، ولا تلتمس لها الأعذار. بل على العكس تبكتها وتؤدبها، وتقبل أيضا تأديب
الرب ولا تتذمر ” لأن الذى يحبه الرب يؤدبه” (عب 12: 6).

 

ما أكثر الفضائل التى نقتنيها من عبارة لا أنا.
ولكننى أود أن أكتفى بهذا الآن لأنى أشعر أننى أطلت عليك فى هذا الموضوع.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى