علم المسيح

الصلب



الصلب

الصلب

.
اجتاز الموكب باب إفراثيم، وببضع خطوات أفضي إلي أكمة “الجمجمة” وشرع
الجلادون في مهمتهم. وكانوا يعمدون أولاً إلي تثبيت اليدين في العارضة القصيرة
التي كانوا يلزمون بحملها ثم، بواسطة بكرة أو بمجرد حبل، كانوا يرفعون العارضة، مع
وقرها، إلي الخشبة العمودية، وكانوا – كما رأينا – يذرونها ناشبة في موضع الإعدام.
وكان يستقيم وضع الصليب إذا دخل المقعد ما بين الفخذين، واستوي عليه جسد المصلوب.
وقد لاحظ “ريشيوتي”، بكثير من الصواب، أن بعض التعابير الواردة في كتب
الرومان (صعود الصليب، امتطاء الصليب..) لا يستوثق معناها إلا بهذه الطريقة،
وعندما ذكر “فرميكس ماترنس ” – وهو لاهوتي من الجيل الرابع – أن المسيح
“رفع علي الصليب بقساوة”. فقد أفصح عن حقيقة راهنة: فإن رفع العارضة
الأفقية – والمجرم مسمر فيها بيديه – كان لابد أن يحدث في الجسد المتدلي ألماً مبرحاً

 

. قبل
أن يشرعوا في تنفيذ الحكم، قدموا ليسوع “خمراً ممزوجة بمر” (مرقس 15:
23). وكان ذلك من العادات العريقة، في إسرائيل، وقد جاء في أحد الأمثال:
“أعطوا مسكراً لهالك وخمراً لمري النفس ” (أمثال 31: 6). أما ذاك الشراب
فكان – ولا شك – صنفاً من المخدرات. وكان في أورشليم- علي ما جاء في التلمود –
جماعة من النساء الموسرات يقدمن هن أنفسهن ذاك المشروب للمحكوم عليهم، إحساناً
وتعطفاً. ويبدو – علي كل – أن هذا التفسير أرجح مما جاء في إنجيل متى، حيث نقرأ،
“خمراً ممزوجة بمرارة”[ذلك من باب التقريب والمجانسة ما بين “المر”
(وهي مادة مخدرة) والمرارة]. وربما كان في ذلك تلميح إلي الآية: “ويجعلوا في
طعامي علقماً، وفي عطشي يسقونني خلاً!” (مزمور 69: 21). ومهما يكن من أمر فقد
ذكرت النصوص الإنجيلية، بتعبير جلي بليغ، أن يسوع أبي أن يشرب. فالموت الذي رضيه
لم يكن مما يسوغ فيه التلاعب

مقالات ذات صلة

 

. ثم
إنهم جردوه من ثيابه – علي ما ذكره الإنجيليون الأربعة (متي 27: 35، مرقس 15: 24،
لوقا 23: 34، يوحنا 19: 23)، ولكن هل عري ابن الله تعرية كاملة؟ لقد جرت مناقشات
كثيرة في هذا الأمر، ومن الذين أخذوا به – علي ما يبدو – القديس امبروسيس والقديس
أوغسطينس والقديس كبريانس. والواقع أن الرابيين في إسرائيل ما كانوا متفقين علي
ذاك القانون، فبينما نراهم مجمعين علي وجوب تغطية المرأة المذنبة بلبوس لائق،
نراهم، في شأن الرجل، علي مذهبين: مذهب الداعين إلي التعرية الكاملة، ومذهب
القائلين بتغطية الجزء الأمامي

 

.
وأما ثياب المجرمين فكانت من نصيب الجلادين، يأخذونها علي سبيل
“المنحة”، وقد أصبحت بموجب قرار من “أدريانس”، حقاً من
حقوقهم. “وأخذوا ثيابه. وجعلوها أربع حصص، لكل جندي حصة، وأخذوا القميص
أيضاً. بيد أن القميص كان غير مخيط، منسوجاً من فوق إلي أسفل. فقالوا فيما بينهم:
“لا نشقه، بل لنقترع عليه لمن يكون”، ليتم قول الكتاب: “يقسمون
ثيابي بينهم، وعلي لباسي يقترعون” (مزمور 22: 18). ما كان ذاك القميص النفيس،
غير المخيط؟ لقد كان رئيس الأحبار يرتدي مثله، في الحفلات الليترجية: أو ما كان
يسوع هو الكاهن والضحية في آن واحد؟.. هل كان هدية من بعض النساء الورعات؟ أم كان
هو الثوب الهزئي الذي أمر له به “هيرودس”؟ (لا شك أنهم أعادوا إليه، بعد
الجلد، ثيابه العادية). هناك تأويل رمزي أخذت به التقاليد المسيحية، فإذا بذاك
الرداء صورة الوحدة الكنسية التي لن تتمكن الهرطقات والانشقاقات من تمزيق لحمتها
الأبدية

 

! بقي
أن يغرزوا المسامير في اللحم الحي: مجزرة ينقبض لها القلب! إن المسيحيين، كل يوم،
يرددون، في قانون إيمانهم: “وصلب!.. ” ولكن هل يأبهون للواقع الرهيب،
ولتلك السنان المرهفة تفتتح لها في العضل سبيلاً، ولذاك الدم النافر من الجرح، ولتلك
الانتفاضة التي لا سبيل إلي كبتها، انتفاضة الإنسان المبرح به

 

. لقد
ثار جدل حول الظروف المادية التي تم فيها ذاك التبريح، في شأن موضع المسامير في
اليدين. فاليد، في نظر أقدم التقاليد، تشير إلي الكف في مدلولها المتعارف. ومن ثم،
فالفنانون، بالإجماع تقريباً، قد أثبتوا الثقب في وسط الراحتين. إلا أن بعض
المفسرين المحدثين – ومن بينهم أطباء – قد رأوا من الممتنع أن تكون المسامير قد
أثبتت في الكف، بمفهومها الحصري. وقد أفضت حساباتهم واختباراتهم إلي أن الإنسان،
إذا هوي بجميع وقره، وهو مسمر براحتيه، تمزقت أنسجتهما، فلابد من أن تؤخذ
“اليد” بمعناها الطبي، فتشمل الرسغ أيضاً، وهو موصل الأصابع بالمعصم.
فثمة مجموعة من العظيمات الصلبة، يدعمها جهاز ليفي صفيق، ويتخلل هذه العظيمات –
أي، بالضبط، ما بين العظمة المعقوفة، والهلالية، والهرمية – براح يستطيع المسمار
أن يلج فيه، ويتحمل من قوة الاجتذاب قدراً كبيراً.. بيد أن هذا التفسير يصطدم
بعقبة: فإنه يبدو ثابتاً – كما رأينا – أنهم كانوا يعمدون دائماً، في الصليب، إلي
شبه متكأ يثبتونه ما بين الفخذين، تفادياً – ولا شك – من تمزق الراحتين، وتمديداً
لمدة العذاب. فإذا صح أن صليب يسوع قد جهز بمثل ذاك “المقعد”، فقد ألغيت
جميع الحسابات المتعلقة بضغط الجسم علي اليدين

 

.
ولكن ما بين تلك الاجتهادات الطبية، ملاحظة لابد من الاحتفاظ بها: وهي إن إثبات
المسمار في الأنسجة اليدوية، كان لابد أن يبرح بالعصب الأوسط تبريحاً شديداً،
ويسبب للمصلوب آلاماً لا تطاق، ويضطر الإبهام إلي أن ينشئ في تواجه مع الأصابع
الأخرى. وقد أشارت جميع الاختبارات التشريحية إلي ذاك الانكماش في يد المسمر. ومع
ذلك فقد ندر، من الفنانين، من مثل ذاك الوضع المميز

 

. أما
القدمان فالأرجح أنهما ضمتا الواحدة فوق الأخرى، وأثبتتا بعيداً عن موضع العقب
(وإلا لوجب استعمال مسمار طويل جداً، وشق عليهم العمل)، ولاشك أنهم وضعوا المسمار
ما بين المشطين الثاني والثالث من القدم

 

. ثم
بدأت التباريح.. ففي بادئ الأمر يوفق المصلوب، بفضلة قوته، إلي مقاومة التقلص
الكزازي الذي يسحق صدره، فيحاول الارتكاز علي قدميه للتنفس، علي ما يكلفه ذلك من
تمزقات هائلة. ثم تنحط قواه شيئاً فشيئاً، فهبط الذراعان بعد توتر، ويتهاوي الجسم،
وتتخذ الركبتان شكل زاوية منفرجة بعكس الوركين والرسغين السفليين. وإذا بذاك الهمل
البشري يصور، فوق الصليب، شبه تعريج فظيع. وأما الرأس، فبعد أن يهوم علي وقع زفرات
النزاع، يهوي علي الصدر، ملتصقاً بالنحر

 

.
وكان الجلادون، أحياناً، يتعجلون ساعة الموت، فيضرمون ناراً من تبن وحشيش، ينبعث
منها دخان حريف فتحمله الريح جهة الصليب، أو يستنزفون دم المصلوب، بضربة سيف. وأما
يسوع فما كان بحاجة إلي أن يسعف بمثل ذلك. ولقد قال يوماً: “لهذا يحبني الآب
لأني أضع نفسي لآخذها أيضاً، ليس أحد يأخذها مني بل أضعها أنا من ذاتي. لي سلطان
أن أضعها ولي سلطان أن آخذها أيضاً. هذه الوصية قبلتها من أبي (يوحنا 10: 17 –
18). ويجب ألا يغرب عن ذهننا أن يسوع كان راضياً بجميع تلك الأعذبة الفاحشة. ولقد
كان بوسعه، بكلمة واحدة، أن يحطم الصليب والجلادين والجند، ويبدد جمهور المتفرجين.
ولكن ألم يكن أشعيا قد تنبأ قائلاً: “ظُلم أما هو فتذلل ولم يفتح فاه، كشاة
تساق إلى الذبح، وكنعجة صامتة أمام جازيها فلم يفتح فاه!” (أشعيا 53: 7)

 

. كان
زهاء الظهر عندما انتصب الصليب بحمله.. هناك، في منطقة بيت حسدا، علي مسافة قريبة
من الجلجثة، كان يتصاعد، ولابد، ثغاء الأضاحي، في تحنان حزين، وقد جاء المبتاعون
يساومون في شرائها لمأدبة الفصح.. أجل، لقد أوشك أن يسيل دم الحمل

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى