اللاهوت الروحي

20- محبة المديح و الكرامة



20- محبة المديح و الكرامة

20- محبة المديح و الكرامة

حدثتكم في مقال سابق عن
التواضع، وأهميته في الحياة الروحية، ومركزه بين الفضائل.

وأريد في هذا المقال أن
أتابع هذا الموضوع، بالتحدث عن حرب عنيفة تقف في سبيل الأتضاع، وهي محبة المديح
والكرامة.

 

اول ملاحظة أقولها في
هذا الأمر هي أن:

التعرض لمديح الناس
شيء، وحبة هذا المديح آخر. قد ينال الإنسان مديحاً من الآخرين ولا يخطئ، ولكنه إن
أحب هذا المديح قد أخطأ. إن الرسل والأنبياء والقديسين والشهداء والقادة الفضلاء،
كل أولئك مدحهم الناس ولم يخطئوا.. إنما الخطأ أن يحب الإنسان ألفاظ المديح ويشتهيها
وتشكل جزءاً من رغباته.

 

والقديسون في كل جيل
كانوا يهربون من المديح أياً كان مصدره، سواء أتاهم المديح من الناس أو من داخل
أنفسهم.

 

وبعضهم كان يتمادي في
هذا الهروب، ويبعد عن كل أسباب المديح وكل مناسباته، حتى وصل الأمر إلى أن كثيراً
من هؤلاء المتواضعين كانوا ينسبون إلى أنفسهم عيوباً، وكانوا يتحدثون عن نقائصهم
وأخطائهم أمام الناس، ولا يدافعون عن خطأ ينسب إليهم حتى لو لم يكن فيهم.

 

أما محبو المديح، فإنهم
أنواع ودرجات:

 

1 أقلهم خطأ هو الإنسان
الذي لا يسعي إلى المديح، ولكن إن سمع مديحاً من الناس فيه، فإنه يسر بذلك في
داخله ويبتهج، وقد يبدو صامتاً لا يشعر أحد بما في داخله من إحساسات.

 

2 نوع أخطر من هذا، وهو
حالة الإنسان الذي يبتهج في داخله من ألفاظ المديح التي يسمعها، ويحاول أن يستزيد
منها. كأن يقول عبارات تجلب له مديحاً جديداً، أو يجر الحديث إلى موضوعات مشرفة له،
أو يتمنع عن سماع المديح بألفاظ متضعة تجلب له المزيد من الثناء.

 

3 نوع ثالث أخطر من
هذين هو حالة الإنسان الذي غذ يشتهي المديح، يحاول أن يعمل أعمال بر أمام الناس
لكي ينظروه فيمدحوه. وهذا النوع هاجمة السيد المسيح، وقال عنه إنه: “إستوفي
أجره” ولم يعد له أجر في السماء. ودعا الناس أن يصلوا في الخفاء، وأن يخفوا
عن أعين الناس صومهم وصدقتهم وكل أعمال برهم.

 

والله الذي يري في
الخفاء، هو يجازيهم علانية. هؤلاء الذين يعملون البر في الخفاء، إنما يفعلون الخير
حباً في الخير، وليس حباً في المديح.

 

4 هناك نوع رابع في
محبة المديح، وهو أصعب من كل ما سبق، وهو حالة الإنسان الذي لا يكتفي بوصول إليه،
وإنما يتطوع لمدح نفسه، ويتحدث عن أعماله الفاضلة. وهكذا يقع في الزهو والتباهي
والخيلاء.. وقد يتمادي في هذا الأمر فيمدح نفسه بما ليس فيه.

 

5 نوع خامس أسوأ من كل
ما سبق، وهو حالة الإنسان الذي يشتهي المديح وينتظره، إذا لا يصل إليه، يكره من لا
يمدحه، ويعتبره عدواً قد قصر في حقة فلم يقدروه ولم يعترف بفضله كما ينبغي. وقد
يتمادي في هذا الأمر فيضايق أيضاً ممن يمدحه ولكن ليس بالقدر الذي كان ينتظره،
وليس بالأسلوب الذي يشبع نهمه إلى العظمة والفخر..

 

مثل هذا الإنسان الذي
يكره من لا يمدحه، ماذا تراه يفعل بمن ينتقده؟!

 

إنه ولا شك لا يمكن أن
يحتمل النقد ولا النصح ولا التوجيه، وطبعاً التوبيخ ولا الانتهار حتى ممن هو أكبر
منه كأب جسدي، أو أب روحي، أو معلم أو مرشد أو رئيس.. ويعتبر كل نصح أو توبيخ يوجه
إليه، كأنه لون من الاضطهاد يقابله بالتذمر أو بالاحتجاج أو بالثورة والغضب.

 

6 على أن أسوأ درجة
لمحبة المديح في نظري، هي حالة الإنسان الذي من فرط محبته للمديح يريد أن يحتكره
لنفسه فقط، فلا يطيق أن يسمع مدحاً في شخص آخر، وإلا فإنه يكره لنفسه ويحسد
الممدوح.

 

وهكذا يعتبر من يمدح
شخصاً غيره عدواً له منحرفاً عن طريق صداقته، يشبه بحالة زوجة تحب رجلاً آخر غير
زوجها.. وفي الوقت نفسه يحاول ان يقلل من شأن الشخص الآخر الذي سمع مدحاً فيه،
وربما يتهمه بتهم ظالمة ويسئ إلى سمعته، لكي يبقي وحده، ولا شيئاً له في عذاب
الناس. من كل هذا نري أن محبة المديح تقود إلى رذائل عدة نذكر هنا بعضاً منها..

 أول – لا شك أن محب المديح يقع في الرياء،
ويحاول أن يبدو أمام الناس في صورة مشرفة نيرة خيرة غير حقيقته الداخلية، وقد
يتظاهر بفضائل هو بعيد عنها كل البعد.. قد يتظاهر بالصوم وهو مفطر، وقد يتظاهر
بالصفح وهو حاقد، وقد يتظاهر بالحب وهو يدس الدسائس..

 

 ثاني – قد يقع محب المديح في الغضب وعدم
الاحتمال: فيغضب من كل من يوجه إليه نقداً، ومن كل من يخطئ له رأياً، كما يغضبه من
يمدح غيره أو يفضل أحداً عليه. وتكون الكرامة صنماً يتعبد له في كل حين.. وقد تراه
ثائراً في أوقات كثيرة يصيح صارخاً: “كرامتى.. ومركزى.. “.

 

 ثالث – قد يقع محب المديح في الحسد وفى
الكراهية، ولا يكون قلبه صافياً تجاه من يظن أنه ينافسه، أو من يظن فيه أنه نال
كرامة أو منصباً أو مديحاً هو أولى به منه.. وقد تعذبه الغيرة والحسد إلى أخطاء أخرى
عديدة..

 

رابع – قد يقع محب
المديح في حالة عدم الاستقرار، فلا يثبت على حالة، وإنما يختار لنفسه في كل مناسبة
الوضع الذي يجلب له مديحاً في نظر من يقابله حتى لو كان عكس موقف سابق له أو ضد
رأى أبداه من قبل لنوال مديح من آخرين.

 

 خامس – كثيراً ما يقع محب المديح في الكذب أو
المبالغة: فهو على الدوام يحاول أن يغطى أخطاءه ونقائصه بأكاذيب أو ألوان من
التحايل، أو ينسب أخطاءه إلى غيره، ويظلم غيره لكي يتبرر هو.. وقد يكذب أيضاً
حينما ينسب إلى نفسه مفاخر وفضائل ليست له، أو عندما يبالغ في وصف ما يرفعه في نظر
الناس، محاولاً في كل ذلك أن يخفى الآخرين لكي يظهر هو.

 

 سادس – وقد يقع محب المديح في رذائل أخرى، كأن
يدبر دسائس لمنافسيه في الكرامة، أو يشتهى موت أحدهم لكي ينال مركزه، أو يسلك في
أسلوب التشهير بالغير لكي يبقى وحده في الصورة..

 

 وعموماً فإن محب المديح يخسر محبة الناس، لأن
الناس تحب الإنسان المتواضع الذي يقدمهم على نفسه في الكرامة، والذى يختفى هو لكي
يظهروا هم، والذى يمدح كل أحد، ويحب كل أحد، ولا يعتبر أحداً منافساً له..

 

 ومحب المديح لا يخسر الناس فقط، وإنما يخسر
أيضاً أبديته، ويبيع السماء وأمجادها بقليل من المجد الباطل على هذه الأرض
الفانية.. وكل الفضائل التي يتعب في اقتنائها، يبددها بمحبة المديح، ويأخذ أجر
تعبه على الأرض، ولا يستبقى له أجراً في السماء..

 

 ومحب المديح قد يقع في خداع الشياطين التي إذ
تراه مستعبداً لهذه الشهوة، تضلله برؤى كاذبة وبأحلام كاذبة وبظهورات خادعة، وتوحى
إليه بأشياء تضيع نفسه.. أو قد تحاربه من جانب أخر فتدعوه بالغرور إلى درجات أعلى
من مستواه يحاول إدراكها فلا يستطيع.. وتضربه بضربات يمينية وتشتت هدوءه، وتجعله
يعيش في قلق وفى جنون العظمة..

 

 نطلب إلى الرب أن يعطينا جميعاً نعمة الاتضاع،
فالمجد له وحده، وله العظمة وله القدرة.. وما أجمل قول المرتل في المزمور:
“ليس لنا يارب، ليس لنا، ولكن لاسمك القدوس اعط مجداً”.. له المجد
الدائم إلى الأبد آمين.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى