اللاهوت المقارن

19- تفسير آية يخلص كما بنار



19- تفسير آية يخلص كما بنار

19- تفسير آية يخلص كما بنار

يخلص
كما بنار (1كو3: 15).

هذه
الآية من أهم الآيات الكتابية التي يعتمد عليها الكاثوليك، في محاولة لإثبات
المطهر، ولذلك سنوليها أهتماماً خاصاً يناسب تركيزهم عليها. وقبل كل شئ أحب أن
أقول:

 

مقالات ذات صلة

(1)
هذه الآية ذكرت في أثناء الحديث عن الخدمة والخدام، وليس في مجال الحديث عن
الدينونة والعقاب. ولهذا الأمر أهميته:

ومن
أجل هذا، ولكى لا تفصل الآيه عن المناسبة التي قيلت فيها، نقول إن بولس كان يتكلم
عن خدمته هو وأبولس، وأن الواحد منها غرس والآخر سقى، ولكن الله كان ينمى. وإن كل
واحد سيأخذ اجرته حسب تعبه. مشبهاً الخدمة بعمل الفلاحة قائلاً “نحن عاملان
مع الله، وأنتم فلاحة الله، بناء الله” (1كو3: 5- 9).

 

ثم
أنتقل في تشبيه الخدمة بالبناء ” أنتم بناء الله ” إلى قوله ” حسب
النعمة المعطاة لى- كبناء حكيم- وضعت أساساً، وآخر يبنى عليه. ولكن فلينتظر كل واحد
كيف يبنى عليه. فإنه لا يستطيع أحد أن يضع أساساً غير الذي وضع، الذي هو يسوع
المسيح” (1كو10، 11).

 

(2)
هنا بولس الرسول كبناء حكيم، كخادم يعرف أصول الخدمة، أو كما تقول إحدى الترجمات،
كأستاذ أو معلم حكيم في البناء
master
builder as a wise
وضع الأساس الذي
هو الإيمان بالمسيح، وسيترك البناء لباقى الخدام، لباقى البنائين، ويرى كيف يبنون
عليه.

 

ولذلك
يقول في رسالته لأهل كورنثوس ” إن كان لكم ربوات من المرشدين في المسيح، لكن
ليس آباء كثيرون، لأنى أنا ولدتكم في المسيح” (1كو4: 15). أنا ولدتكم ووضعت
الأساس الذي هو الإيمان. وبقى الأمر متروكاً لهؤلاء المرشدين الكثيرين كيف سيبنون
عليه: ذهباً وقشاً. وكل واحد من هؤلاء المرشدين له طريقته. بولس بشر أهل كورنثوس،
ولكنه سوف لا يبقى في كورنثوس باقى حياته، لأن له خدمة واسعة في أماكن متعددة.
يكفى أنه وضع الأساس، وسيترك باقى الخدام يبنون عليه. كما قال أيضاً عن تشبيه
الكرازة بعمل الفلاحة ” أنا غرست، وأبولس الشيء المغروس. فما الذي حدث بعد
هذا؟ حدث انقسام هدد العمل كله. وقال البعض أنا لبولس وآخر أنا لأبولس (ع3، 4).
فما الذي سيحدث في البناء فيما بعد؟ ا مصير العمل الكرازة؟ يقول: “ولكن إن كان
أحد يبنى على هذا الأساس ذهباً فضة حجارة كريمة، خشباً عشباً قشاً، فعمل كل واحد
سيصير ظاهراً، لأن اليوم سيبسنه. لأنه بنار يستعلن. وستمتحن النار عمل كل واحد ما
هو. إن بقى عمل أحد قد بناه، فسيأخذ أجرة. إن احترق عمل أحد، فسيخسر. أما هو
فسيخلص، ولكن كما بنار” (1كو3: 12- 15).

 

(3)
نلاحظ هنا أنه يتكلم عن العمل، وليس عن الأشخاص. وهو يتكلم عن خدمة الخدام وليس عن
عامة الناس..

 

إنه
يكلم الخدام، المبشرين، الوعاظ، الرعاة، المعلمين، خدام الكلمة، وليس كل أحد..
هؤلاء الذين يبنون الملكوت، ويقومون بالعمل الكرازى، كيف سيبنون. وهل عملهم سيبقى
أم يحترق. وما الذي سوف يضعونه على أساس الإيمان: هل سيضعون ذهباً فضة حجارة كريمة،
من الأمور التي تبقى ولكنها تتنوع في مدى قيمتها؟ أم سيضعون خشباً قشاً، من الأمور
التي تحترق، ولكنها أيضاً تتنوع في سرعة أحتراقها. والبعض يمكن إنقاذه كالقش..

 

بولس
الرسول تهمه الخدمة، يهمه العمل، وعن هذا يتحدث:

 

فيقول
عمل كل واحد سيصير ظاهراً، لأن اليوم سيبين هذا العمل. هذا العمل سوف يسعلن بنار
عمل واحد. هل يبقى العمل. أم إن العمل يحترق.

 

إذن
النار هنا للعمل، وليس للأشخاص.

 

فكلام
صريح ” سيمتحن النار عمل كل واحد”.. لكى تبينه: هل هو، ذهب فضة، حجر
كريم، أم خشب، عشب، قش.. لم يقل إن الأشخاص سيحترقون بنار، إنما قال إن علهم
سيحترق.

 

(4)
الذي سيجوز في النار هو العمل، وليس الشخص:

 

ليس
الخادم، إنما خدمته، من أي نوع هي؟ هل ستبقى أم تحترق؟ وعلينا أن نضرب أمثلة للأعمال
التي تحترق، والأعمال التي تبقى. الخدمة التي لها ثمر في الكنيسة، والتي لا ثمر
لها..

 

(5)
فالعمل الذي يشبه الذهب والفضة والحجر الكريم هو عمل من يخدم بطريقة روحية عميقة
لبناء النفوس:

 

بحيث
يكون الهدف الوحيد هو الله وملكوته. بأسلوب روحى مقنع ومؤثر، يجذب النفوس إلى الله،
مع جهد وتعب في التربية الروحية، وحل كل المشاكل التي تصادف المجاهدين في طريقهم،
ومعرفة الحروب الروحية وطريقة الانتصار عليها وحث الناس على الثبات، وتشجيعهم
وتقويتهم والصلاة من أجلهم. كالرعاة والمرشدين الذين قال عنهم الرسول ”
أطيعوا مرشديكم وأخضعوا، لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم، كأنهم سوف يطيعون حساباً..”
(عب13: 17). وكما قال الرسول عن نفسه ” في تعب وكد، في أسهار مراراً كثيرة،
في جوع وعطش، في أصوام كثيرة، في برد وعرى، عدا ما هو دون ذلك، التراكم على كل يوم،
الاهتمام بجميع الكنائس. من يضعف وأنا لا أضعف. من يعثر وأنا لا ألتهب”
(2كو11: 27- 29). “لم أفتر عن أن أنذر بدموع كل أحد ” ” لست أحتسب
لشئ، ولا نفسى ثمينة عندي، حتى أتمم بفرح سعيى والخدمة التي أخذتها من الرب يسوع،
لأشهد ببشارة نعمة الله” (أع20: 31، 24).

 

هذا
هو البناء الذهب الذي لا يتزعزع. هذا هو العمل الروح القوى الذي لا يحترق.

 

لأنه
تعليم بطريقه جادة روحية باذلة من أجل خلاص النفس وربطها في ثبات بالله. إنه بناء
وطيد. يسقط المطر وتجئ الأنهار، وتهب الرياح، وتقع على هذا البناء. فلا يسقط.
تمتحن النار هذا العمل يبقى في النفوس، ويبقى لى اليوم الأخير. والخادم الذي يأخذ
أجرته، ويأخذها تعبه (1كو3: 14، 8).

 

والنار
هننا ربما تكون التجارب أو الاختبارات الروحية أو الحروب أو الضيقات..

 

التى
يتعرض لها كل عمل روحي، أو تتعرض لها الكنيسة كلها، فيظهر من فيها هو الذهب، ومن
فيها هو القش. من يثبت، ومن لا يثبت. من يحترق بسرعة كالقش، ومن يحترق ببط كالخشب،
ومن لا يحترق على الإطلاق كالذهب والأحجار الكريمة.

 

فإذا
أخذت النار للاختبار، فإن كلمة اليوم تعنى اليوم الذي يحل فيه امتحان هذا التعليم
الذي علم به الخادم ومدى ثباته في أنفس سامعيه. أما إذا كان المقصود باليوم الأخير
(1كو4: 5)، فتكون النار هي العدل الإلهى، الذي “سينير خفايا الظلام، ويظهر
آراء القلوب”.. إنها نار أخرى.. فكلمة نار لها معان عديدة، ورموز عديدة في
الكتاب.. قلنا إن هناك من يخدم بأسلوب روحى عميق. ولكن ليس الجميع يخدمون كذلك.

 

(6)
فهناك من عدم يخدم بأسلوب تطغى فيه المعرفة لا الروح، كما لو كان يخرج علماء لا
عابدين..

 

كما
لو كان بعد تلاميذه ليكونوا دوائر معارف، لا أن يكونوا اشخاصاً روحيين. يعطيهم
دينياً لا تداريب روحية فيه. يخلط الدين بالفلسفه، ويحوله إلى مجرد فكر. لا فرق
نده بين تدريس رحلات بولس الرسول، وبين اكتشافات كولومبوس
Christopher Columbus، أو حروب نابليون Napoleon
Bonaparte
.. كلها فروع من المعرفة
تماماً..

 

وهذا
الأسلوب تحاشاه القديس بولس تماماً..

 

وقال
“وأنا لما أتيت إليكم أيها الأخوة، أتيت ليس بسمو الكلام أو الحكمة.. وكلامي
وكرازتى لم يكونا الناس، بل بقوة الله”، “لا بحكمة كلام لئلا يتعطل صليب
المسيح” (1كو2: 1، 4) (1كو1: 17).

 

(7)
هذا العمل الكرازي الذي هو بالفلسفة وحكمة الناس، يمكن أن يحترق. وكذلك الذي هدفه
الفصاحة والبلاغة وتنميق الألفاظ والسجع وموسيقى العبارات.

 

كلها
خدمة قد تعجب البعض، وقد تبهرهم الفصاحة، أو السجع، أو النطق والعقل. وربما في نفس
لا تترك أثراً روحياً في نفوسهم. قد تسبقي ألفاظاً مأثورة في ذاكرتهم، ولكنها لا
تحدث تغييراً في حياتهم. وإذا صادفتهم نار التجارب والأمتحانات الروحية، لا يثبتون
أمامها. ويجد الخادم أو المعلم أو الراعى أن عمله قد أحترق.

 

وإن
أحترق عمله يخسر (1كو3: 15)، يخسر تعبه ويخسر مخدوميه، ويخسر مكافأته وجهده
وتعليمه، وكرازته وخدمته، إذ لم تأت بثمر روحى.. ولكنه يخلص كما بنار..

 

(8)
وبنفس الوضع نتحدث عمن تتحول خدمته إلى مجرد أنشطة، وعمل كثير، وأهتمام بأمور
كثيرة، وبموضوعات جانبية عديدة، دون التركيز على العمل الروحى. وهكذا يحترق عمله
كخادم. ولكنه من أجل تعبه وغيرته ونيته الطبية، يخلص كما بنار..

 

يخلص
كما بنار

 

أي
يخلص بصعوبة بجهد، كمن يمر في نار وينتشله اله منها قبل أن يحترق. عمله قد أحترق
ولكن الله- من فرط رفاته- لم يسمح أن هذا الخادم نفسه يحترق، متذكراً تعبه وجهده
ورغبته في خلاص الناس. غير أن أسلوبه في الخدمة لم يكن سليماً..

 

(10)
والنار هنا ليست نار مطهر. لأنه لم يقل يخلص في نار، أو في النار، وإنما كما بنار..

 

فالنار
هنا لم تكن له، وإنما كانت لعمله. كما قال الرسول “سيمتحن النار عما كل واحد
ما هو” (ع13). وقد أمتحنت النار عمله فوجدته خشباً أو عشباً أو قشاً. وكان
ممكناً أن يهلك هو أيضاً، لأنه لم يخدم بطريقة سليمة، ولأن كلامه لم يكن
“روحاً وحياة” (يو6: 63). ولكنه خلص، بصعوبة.. “كما بنار ”
ولم يقل خلص في النار.

 

(11)
كلمة (نار) هنا استخدمت بطريقة مجازية، وليست حرفية ولنا مثال عن شخص ” خلص
كما بنار ” هوشع الكاهن:

 

قال
زكريا النبى ” وأراني يهوشع الكاهن العظيم قائماً قدام ملاك الرب، والشيطان
قائم عن يمينه ليقاومه. فقال الرب للشيطان: لينتهرك الرب يا شيطان، لينتهرك الرب
الذي أختار الرب الذي أورشليم أفليس هذا شعله منتشله من النار؟!” (زك3: 1، 2).

 

فما
معنى عبارة “شعلة منتشلة من النار”؟!

 

معناها
مثلاً: أفترض أن قطعة خشب وقعت في النار، واشتعلت النار. ولكن رحمة الله تدخلت،
انتشلتها- وهي مشتعلة- من النار، قبل أن تحترق، ومنحتها حياة.. هكذا كان يهوشع
الكاهن، وهو لابس ثياباً قذرة أمام الملاك. فنزعوا عنه الثياب القذرة، وألبسوا
ثياباً مزخرفة وعمامة طاهرة.

 

ولم
تكن النار التي أنتشل منها يهوشع، ناراً مطهرية. إذ كان حياً على الأرض ولم يمت
بعد. ولكنها الإثم الذي تعرض له، أو تعرضت له الأمة كلها ممثلة في شخصه (زك3: 4،
9)

 

وبنفس
المعنى نفهم عبارة ” يخلص كما بنار ” أو عبارة ” نخلص كمن يمر في
نار”.. لا فرق. والمعنى أنه يخلص بصعوبة، لأنه قصر في تعليم الشعب، فاحترق
عمله الكرازى والرعوي..

 

12-
وعبارة ” يخلص كما بنار ” تذكرنا في معناها بقول القديس بطرس الرسول
” إن كان البار بالجهد يخلص..” (1بط4: 18). وطبعاً عبارة ” يخلص
” هنا، لها عبارة مقدرة، أي يخلص إذا تاب.. إذا أنسحق قلبه بسبب ضياع خدمته
وتعبه، وندم على أنه خدم بأسلوب خاطئ..

 

13-
وهناك آية وردت في رسالة القديس الرسول، تشبه تماماً ما حدث ليهوشع الكاهن، وتفسر
أيضاً معنى ” يخلص كما بنار”.. قال:

 


ارحموا البعض مميزين. وخلصوا البعض بالخوف، مختطفين من النار” (يه22: 23).

 

فكل
إنسان محاط بالإثم، أو معرض للضياع والهلاك، يكون، وكذلك الخدام والرعاة، هم أيضاً
معرضون للضياع والهلاك بسبب المسئولية الملقاة عليهم في خلاص النفوس وبناء الملكوت.
وبعضهم يخلص بصعوبة، بسبب ضعفات الخدمة، وأخطاء الخدمة، وعثرات الخدمة. ولكن الله
يخلص مثل الخادم- كما بنار- م أجل إيمانه وتعبه وغيرته، حتى إن فشلت خدمته..

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى