علم المسيح

15- صورة من تعاليم المسيح بالأمثال



15- صورة من تعاليم المسيح بالأمثال

15- صورة من تعاليم المسيح بالأمثال

مَثَل
الزارع:

كان
الوقت الذي أمضاه المسيح في الجليل منذ شهر نوفمبر وهو أوان الزرع إلى ميعاد ذهابه
إلى أُورشليم لحضور عيد الفصح القادم في شهري مارس وأبريل، هذه المسافة الزمنية
وتقدَّر بحوالي خمسة أو ستة أشهر قضاها المسيح وهو أيضاً يبذر بذار الملكوت بين
أبناء شعب الجليل. وفي الحقيقة نجد أن معظم ما سجَّله الإنجيليون الثلاثة متى
ومرقس ولوقا، كان حصاد هذه الأيام لهذه الشهور الخمسة أو الستة.

وقد
أمضى غالبية وقته على شواطئ بحيرة جنيسارت (ومعناها: جنة السرور) يُعلِّم ويصنع
الأشفية والمعجزات، وكان الموسم موسم زراعة كما هو أيضاً موسم صيد السمك في
البحيرة. فمن واقع الأرض قدَّم لهم مَثَل الزارع، ومن واقع البحر قدَّم لهم مَثَل
الشبكة المطروحة في البحر. وهكذا من صميم الطبيعة والواقع شكَّل المسيح أسلوب
تعليمه، فكان تأثيره شديداً على أفكار وتصوُّرات الشعب، وبالأخص التلاميذ الذين انفتح وعيهم واحتفظوا بهذه الذخائر حتى
سجَّلوها لنا في
الأناجيل.

ولكن
لم يطرح المسيح أمثاله كنماذج تعليم مستقلة، بل جاءت كنهاية حديث تعليمي لتطبيق
الفكر النظري على الواقع العملي المنظور والمحسوس. كما أعطانا هذه الصورة ق. مرقس
باختصار في إنجيله هكذا:

مقالات ذات صلة

+
“وابتدأ أيضاً يعلِّم عند البحر، فاجتمع إليه جمع كثير حتى إنه دخل السفينة
وجلس على البحر، والجمع كله كان عند البحر على
الأرض. فكان يعلِّمهم كثيراً بأمثال وقال لهم في تعليمه:
اسمعوا (وابتدأ
يقص عليهم هذا المثل الجميل والفلاحون حولهم يزرعون الأرض): هوذا الزارع قد خرج ليزرع. وفيما هو يزرع سقط بعض على
الطريق فجاءت طيور السماء
وأكلته. وسقط
آخر على مكان محجر، حيث لم تكن له تربة كثيرة، فنبت حالاً إذ لم يكن له عمق
أرض، ولكن لمَّا أشرقت الشمس احترق، وإذ لم
يكن له أصل جفَّ. وسقط آخر في
الشوك،
فطلع الشوك وخنقه فلم يعطِ ثمراً. وسقط آخر في الأرض الجيدة، فأعطى ثمراً يصعد

وينمو، فأتى واحد بثلاثين وآخر بستين
وآخر بمئة. ثم قال لهم مَنْ له أذنان للسمع فليسمع.” (مر 4: 19)

وقد
قصد المسيح من مَثَل الزارع أن يقسِّم الذين يسمعون الكلمة إلى عينتين رئيسيتين:

(أ) العينة
الأُولى:
مَنْ يسمعون الكلمة ولا يثمرون.

(ب) العينة
الثانية:
الذين يسمعون الكلمة والكلمة تُثمر فيهم.

أمَّا
في العينة الأُولى فقسَّمها إلى صنفين: صنف غير قابل للتأثُّر كلِّية،
وصنف يتأثَّر بالكلمة ولكنه لا يعطي ثمراً.
والذي لا يعطي ثمراً نوعان: نوع
قلبه حجري يقتل الكلمة، ونوع ينمو ولكن الشوك يخنقه.

أمَّا
غير القابل للتأثُّر كلِّية:

فهو
الذي يمثِّل البذرة التي لا تخترق الأرض نهائياً بل” تبقى وحدها”
على السطح، فإما تدوسها الأقدام أو تأكلها الطيور. وهو البعض الذي سقط على الطريق.
وهؤلاء هم العائشون بعقلهم وإحساسهم مشغولين ومهمومين بأمور العالم ففقدوا القدرة على التأثُّر بكلمة الله، لا
يفهمونها ولا يريدون أن
يفهموها.

أمَّا
الذي يتأثَّر ولا يعطي ثمراً فهو نوعان:

النوع
الأول: عثرته داخلية: فقلبه منفعل لكل شيء وهو البذرة التي تقع على أرض حجرية
تربتها قليلة فتنمو سريعاً وتتأثَّر سريعاً بالكلمة، ولكن لا تحفظها في داخلها،
لأن سرعة تأثُّرها أيضاً بالأمور العالمية تحرم الكلمة من النمو، وكلمة الله تحتاج
إلى عناية عنيدة ضد مجاذبات العالم لتستقر في قلب واعٍ.

النوع
الثاني: عثرته خارجية: فالجو الذي يعيش فيه جو موبوء بمؤثرات عالمية باطلة،
إمَّا شهوات بكل أنواعها، وإمَّا انشغالات زيادة عن الحد، وإمَّا تأثيرات فكرية
ضارة من كل لون. فبمجرَّد أن تنمو كلمة الله تضغط عليها هذه المؤثِّرات وتقتلها.
فالحق لا يعيش ولا ينمو بين الباطل.

وأخيراً نأتي إلى العينة الثانية: الذين يسمعون الكلمة،
والكلمة تؤثِّر

فيهم:

وهؤلاء
يشبهون البذور التي نزلت في أرض طيبة، تُرسل جذورها إلى ما تشاء الطبيعة. بمعنى أن
الكلمة تنمو وتثمر بمقدار ما يملك الإنسان من الاتجاهات المتعددة الطيبة، فيأخذ
الحق الإلهي طابعه بحسب قدرات ومواهب كل شخص ليأتِ بثماره المتنوعة.

والآن
إذا تأملنا هذا المثل الدقيق المحبوك نجد أن المسيح يصوِّر السامعين بصورة عملية
شديدة التحديد والوضوح والواقعية. والمَثَل ذو جاذبية للعقول المنفتحة للتعليم
والفهم، الأمر الذي جعل امرأة من وسط الجمع ترفع صوتها في مناسبة أخرى مثل هذه
وتقول: “وفيما هو يتكلَّم بهذا رفعت امرأة
صوتها من الجمع وقالت له: طوبى للبطن الذي حملك والثديين اللذين رضعتهما” (لو

27: 11)، ولكن لم يقبل المسيح هذا الانفعال الخارجي وردَّه إلى ما ينبغي أن يكون
عليه الانفعال الداخلي الصحيح: “بل طوبى للذين يسمعون كلام الله
ويحفظونه.” (لو 28: 11)

ثم
أضاف المسيح في شرحه لمَثَل الزارع بعد أن استوفاه لتلاميذه على انفراد مَثَلاً
آخر يتعلَّق به أشد التعلُّق، إذ قال لهم: “هل يؤتى بسراج ليوضع تحت المكيال
أو تحت السرير. أليس ليوضع على المنارة؟ لأنه ليس شيء خفي لا يُظهَر ولا صار
مكتوماً إلاَّ ليُعلَن” (مر 4: 21و22). بمعنى أن كل الذي سمعتموه مني سواء في
الأمثال بأسلوبها المخفي أو كأسرار في المخدع، فهذا أظهروه وأعلنوه وعظوا به.
أمَّا السراج فهو التلميذ الذي أشعل المسيحُ نورَ الإيمان والمعرفة بالله في قلبه
فصار أداة تنوير، وبذلك لا ينبغي أن يُخفى تحت “مكيال” البيع والشراء،
بمعنى هموم التجارة والعالم، ولا أن يعتزل في داره، بل لابد أن يخرج ومن على منابر
التعليم يُعلِّم.

وهذا
يعني أن الأمثال التي أعطاها المسيح كانت شعلات نارية تُوقِدُ وتنير القلب والذهن
في يوم الكرازة. لذلك أيضاً أوصاهم أن ينتبهوا إلى سماع الكلمة بانفتاح ذهني ووعي:
“فانظروا كيف تسمعون، لأن مَنْ له (الوعي المفتوح) سيُعطَى، ومَنْ ليس له
(المقفول البصيرة) فالذي يظنه له (من معرفة) يؤخذ منه.” (لو 18: 8)

16- الشبكة
والبحر والسمك

والآن
والمسيح جالس على المركب والشعب جالس على الشاطئ يستمع، رفع المسيح عينه إلى
صيَّاد يصطاد عن قرب منه، وهو يطرح الشبكة في البحر بشبه دائرة متسعة، تَنْقَضُّ
على البحر لتمسك السمك الذي يتجمَّع على صوت وقوعها في الماء. منظر مألوف، ولكن
المسيح استخرج منه مَثَله عن الملكوت وكيف يطرح الله شبكته لتمسك الصالح والطالح.
فهو يريد أن يعلِّم التلاميذ أن ليس كل الذين يتجمَّعون حوله عند سماع صوته وهو
يطرح عليهم كلامه العذب الجميل في شبكة نعمته هم المختارون، بل يوجد بعضهم غير
نافع للملكوت شأنهم شأن السمك الرديء الذي يدخل الشبكة صدفة. فهو يُفرز ويُلقى في
البحر مرَّة أخرى، أمَّا السمك الفاخر فيذهب على مائدة الملوك. هذا يكون شأن
الدينونة حينما يفصل الله بين صانعي المعاثر والذين يتقبلون دعوة الملكوت من
المختارين المعيَّنين للملكوت والحياة الأبدية.

 

17- القمح
والزوان
([1])

هنا
يكشف المسيح سر طول أناته في معاملة المشاكسين والذين يعطِّلون خدمته بمصادراتهم
واحتجاجاتهم والمسيح صابر عليهم، يرد عليهم ويعاملهم كأنهم يريدون أن يتعلَّموا
وهم صانعو معاثر. على هؤلاء قال المسيح مَثَله البديع وهو القمح والزوان: كيف
ينموان معاً، فإذا حاول الفلاح أن يقتلع الزوان يقلع معه القمح أيضاً لأن الجذور
متشابكة. كما أنه من الصعب أن يفرِّق حسب الظاهر بين القمح الجيد والزوان الرديء،
لذلك نصَّ في مَثَله أنه لا ينبغي أن يُقلع الزوان طالما هو ينمو وسط القمح، أمَّا
في النهاية وعند الحصاد فينكشف القمح عن الزوان ويُجمع الزوان ويُطرح في التنور
(الفرن). وتطبيق المثل واضح وجميل بل وخطير، أنه في العالم لا يفرِّق الله بين
الصالح والشرير؛ إذ يشرق شمسه عليهما، ويمطر مطره لكليهما، والهواء يداعب هذا
ويلاطف ذاك، والماء يجري لهذا وأيضاً بالمثل لذاك. ولكن بالنهاية يؤخذ الواحد أو
الواحدة ويُتْرَك الآخر أو الأخرى. لذلك يقول المسيح أيضاً أن لا ندين أحداً هنا،
فنحن لا نعرف المخطئ من صاحب الحق، ولكن الدينونة بالنهاية في يدي الذي يحكم على
هذا ويبرِّئ ذاك. لذلك فمَثَل القمح والزوان مَثَل يصلح جداً أن يكون منهج حياة وسلوك
في المعاملات.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى