علم المسيح

معجزة المسيح يفتح عيني مولود أعمى



معجزة المسيح يفتح عيني مولود أعمى

معجزة المسيح يفتح
عيني مولود أعمى

 

«وَفِيمَا
هُوَ مُجْتَازٌ رَأَى إِنْسَاناً أَعْمَى مُنْذُ وِلادَتِهِ، فَسَأَلَهُ
تَلامِيذُهُ قَائِلِينَ: «يَا مُعَلِّمُ، مَنْ أَخْطَأَ: هٰذَا أَمْ
أَبَوَاهُ حَتَّى وُلِدَ أَعْمَى؟» أَجَابَ يَسُوعُ: «لا هٰذَا أَخْطَأَ
وَلا أَبَوَاهُ، لٰكِنْ لِتَظْهَرَ أَعْمَالُ ٱللّٰهِ فِيهِ.
يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ أَعْمَالَ ٱلَّذِي أَرْسَلَنِي مَا دَامَ نَهَارٌ.
يَأْتِي لَيْلٌ حِينَ لا يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ. مَا دُمْتُ فِي
ٱلْعَالَمِ فَأَنَا نُورُ ٱلْعَالَمِ». قَالَ هٰذَا وَتَفَلَ
عَلَى ٱلأَرْضِ وَصَنَعَ مِنَ ٱلتُّفْلِ طِيناً وَطَلَى
بِٱلطِّينِ عَيْنَيِ ٱلأَعْمَى. وَقَالَ لَهُ: «ٱذْهَبِ
ٱغْتَسِلْ فِي بِرْكَةِ سِلْوَامَ». ٱلَّذِي تَفْسِيرُهُ مُرْسَلٌ.
فَمَضَى وَٱغْتَسَلَ وَأَتَى بَصِيراً» (يوحنا 9: 1-7).

 

مرَّ
المسيح في مدينة أورشليم برجل وُلد أعمى، فسأله تلاميذه: «من أخطأ، هذا أم أبواه،
حتى وُلد أعمى؟». أجابهم المسيح بما معناه أن هذه المصيبة العظيمة لم تأتِ هذا
الرجل نتيجة خطيئة ارتكبها هو أو والداه، إنما سمحت العناية الإِلهية بهذه الضربة
لتظهر أعمال اللّه في المُصاب.

 

ما
أعظم الفرق بين هذا الكلام المعزي من المسيح، وكلام التأنيب الموجِب لليأس الذي
كان يسمعه ذلك الأعمى كل حياته من الجميع عن أسباب مصيبته. ها هو يسمع لأول مرة أن
مصيبته هذه لا تدل على أنه مغضوب عليه من اللّه ومرفوض، بل بالعكس، أن للّه في
مصيبته مقاصد صالحة، فنقله هذا الكلام من عالم اليأس إلى عالم الرجاء. سأل عن اسم
من يكلِّمه، وعرف أن اسمه «يسوع». يا لمصيبة عماه! إنه لا يستطيع أن يرى هذا الذي
انتصر له. لو قدم له المسيح في هذه الساعة ليس الدنانير النحاسية التي تعوَّدها،
بل الذهبية أيضاً، لما أحسن إليه بمقدار إحسانه بهذا الجواب، حتى لو تركه وشأنه
حالاً.

 

لكن
هذه اللفتة كانت بداية عمل المسيح الصالح معه. نبَّه المسيح سامعيه أولاً إلى
قِصَر الفرصة الباقية له للعمل. قال: «ينبغي أن أعمل أعمال الذي أرسلني ما دام
نهار. يأتي ليل حين لا يستطيع أحد أن يعمل». ثم أشار إلى وظيفته كالنور الحقيقي
الآتي إلى العالم الذي ينير كل إنسان، وقال: «ما دمتُ في هذا العالم فأنا نور
العالم». أي أن الظلمة الجسدية والروحية التي أعثرت هذا الضرير هي ضدي وأنا ضدها،
فسأزيلها. ثم فعل المسيح ما قاله. تفل على الأرض وصنع طيناً، وطلى بالطين عيني
الأعمى، وأمره أن يذهب ويغتسل في بركة سلوام، فمضى واغتسل وأتى بصيراً.

 

ظهرت
القوة الإلهية في هذا العمل بواسطة الفرق العظيم بين طريقة الشفاء ونتيجته. إن
الطين يُعمي العين السليمة، لكن الطلي بالطين كان مهماً لأجل تحقيق العلاقة بين
الفاعل وفعله، ولأجل إحياء الإيمان في قلب هذا الأعمى. كان مهماً أيضاً إيضاح
ضرورة الطاعة التي هي ثمر الإيمان. فعلى الأعمى أن يطيع وإلا فلا يستفيد من عمل
المسيح. ليست النتيجة العجيبة التي حدثت ثمر عمل الأعمى، لكنها توقفت على ذلك
الفعل. ولو لم يؤمن لما أطاع. لو لم يطع بعد إيمانه لما جاز أن يُقال إنه آمن.
جاءه الشفاء لأنه آمن إيماناً يثمر بالطاعة. وهذه على الدوام قاعدة الخلاص
والإيمان والأعمال. من يؤمن يخلص، ومن يؤمن لا بد له أن يعمل. فإن لم يعمل حسب
الفرصة المُعطاه له يحكم أنه لم يؤمن، فيهلك، ليس لأنه لم يعمل بل لأنه لم يؤمن
إيماناً صحيحاً.

 

نرى
هذا الأعمى يسير بين الجمهور، بعد أن طلى المسيح عينيه بالطين، وقَبْل أن يغسلهما
في بركة سلوام، ووجهه ملطخ بالطين، وسيْره جديٌّ فوق العادة، مما ينبّه الناظرين
ويثير عليه الاستهزاء. لكن الاستهزاء لم يُثْنه عن طاعته، ولا نصائح العقلاء له أن
لا ينقاد لكلام المسيح المكروه من قادة الدين، وان لا يعرض نفسه لغيظ الرؤساء،
لأنه يعمل في السبت ضداً لتعاليمهم. كل هذه لم تطفئ فتيلة إيمانه المدخنة، ولم
تردَّه عن الذهاب إلى حيث أمره المسيح. ولما نال البصر عاد إلى المكان الذي فارق
فيه المسيح ليمتّع بصره الجديد برؤية الذي أنعم عليه بهذه الهبة التي لا تُثمَّن،
وليقدم له الشكر اللائق والواجب، ويستمد منه إرشادات جديدة دينية. لكنه لم يجد
المسيح هناك، ولم يجد من يهديه إليه.

 

هذه
المعجزة رمز مناسب جداً للخلاص. لأنها منحت هذا المولود أعمى ما لم يكن له سابقاً.
كانت مصيبة هذا الرجل الكبرى أنه مولود أعمى بالمعنى الروحي أيضاً، لأنه وُلد في
الإِثم والخطيئة كما ذكَّره الرؤساء، فمنحه المسيح مع البصر الجديد الجسدي، ما هو
أهم بما لا يُقاس، وهو بصر جديد روحي.

 

«فَٱلْجِيرَانُ
وَٱلَّذِينَ كَانُوا يَرَوْنَهُ قَبْلاً أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى، قَالُوا:
«أَلَيْسَ هٰذَا هُوَ ٱلَّذِي كَانَ يَجْلِسُ وَيَسْتَعْطِي؟»
آخَرُونَ قَالُوا: «هٰذَا هُوَ». وَآخَرُونَ: «إِنَّهُ يُشْبِهُهُ».
وَأَمَّا هُوَ فَقَالَ: «إِنِّي أَنَا هُوَ». فَقَالُوا لَهُ: «كَيْفَ
ٱنْفَتَحَتْ عَيْنَاكَ؟» أَجَابَ ذَاكَ وَقَالَ: «إِنْسَانٌ يُقَالُ لَهُ
يَسُوعُ صَنَعَ طِيناً وَطَلَى عَيْنَيَّ، وَقَالَ لِي: ٱذْهَبْ إِلَى
بِرْكَةِ سِلْوَامَ وَٱغْتَسِلْ. فَمَضَيْتُ وَٱغْتَسَلْتُ
فَأَبْصَرْتُ». فَقَالُوا لَهُ: «أَيْنَ ذَاكَ؟» قَالَ: «لا أَعْلَمُ» (يوحنا 9:
8-12).

 

نال
المولود أعمى شفاءه في يوم سبت – وهو يوم راحة عند اليهود. وعندما رأى المتعصبون
الرجل ماشياً في السبت يطلب الشفاء حنقوا عليه، وأرادوا أن يعاقبوه لأنه خالف
شريعة السبت المقدسة. ولم يجسر أحد أن يدافع عمَّا فعله المسيح، ولا عمَّا جرى مع
الأعمى، لأن الرؤساء كانوا قد أعلنوا جهاراً أنه إن اعترف أحدٌ بأنه المسيح يُحرَم
من امتيازاته الدينية والمدنيّة، ويطردونه من ممارسة العبادة.

 

لما
فشل الأعمى الذي أبصر أن يرى شافيه، رجع إلى بيته ليرى والديه وجيرانه لأول مرة في
حياته التي لم تقلّ عن الثلاثين سنة.

 

ما
أعظم التغيير الذي حصل في منظر هذا الرجل بسبب ما جرى له. فقد انفتحت عيناه، وضاء
وجهه بالفرح، وتغيّرت لهجته، فلم يعرفه الذين كانوا يعرفونه بعض المعرفة السطحية
فقط. لهذا السبب اختلف الرأي بخصوصه. اعتقد البعض أن شفاءه وَهْمٌ وخداع، وأن هذا
البصير ليس هو ذاك الضرير بل شخص آخر يشبهه. أما هو فقال: «إني أنا هو». ولما
سألوه عما جرى له، ومن شفاه، أجابهم بالواقع. لكن لما سألوه عن شافيه أين هو؟ قال:
«لا أعلم». وهو يتمنى لو استطاع أن يهتدي إلى مكان المسيح ليهديهم إليه.

 

«فَأَتَوْا
إِلَى ٱلْفَرِّيسِيِّينَ بِٱلَّذِي كَانَ قَبْلاً أَعْمَى. وَكَانَ
سَبْتٌ حِينَ صَنَعَ يَسُوعُ ٱلطِّينَ وَفَتَحَ عَيْنَيْهِ. فَسَأَلَهُ
ٱلْفَرِّيسِيُّونَ أَيْضاً كَيْفَ أَبْصَرَ، فَقَالَ لَهُمْ: «وَضَعَ طِيناً
عَلَى عَيْنَيَّ وَٱغْتَسَلْتُ، فَأَنَا أُبْصِرُ». فَقَالَ قَوْمٌ مِنَ
ٱلْفَرِّيسِيِّينَ: «هٰذَا ٱلإِنْسَانُ لَيْسَ مِنَ
ٱللّٰهِ، لأَنَّهُ لا يَحْفَظُ ٱلسَّبْتَ». آخَرُونَ قَالُوا:
«كَيْفَ يَقْدِرُ إِنْسَانٌ خَاطِئٌ أَنْ يَعْمَلَ مِثْلَ هٰذِهِ
ٱلآيَاتِ؟» وَكَانَ بَيْنَهُمُ ٱنْشِقَاقٌ. قَالُوا أَيْضاً
لِلأَعْمَى: «مَاذَا تَقُولُ أَنْتَ عَنْهُ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ فَتَحَ
عَيْنَيْكَ؟» فَقَالَ: «إِنَّهُ نَبِيٌّ». فَلَمْ يُصَدِّقِ ٱلْيَهُودُ
عَنْهُ أَنَّهُ كَانَ أَعْمَى فَأَبْصَرَ حَتَّى دَعَوْا أَبَوَيِ ٱلَّذِي
أَبْصَرَ. فَسَأَلُوهُمَا قَائِلِينَ: «أَهٰذَا ٱبْنُكُمَا
ٱلَّذِي تَقُولانِ إِنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى؟ فَكَيْفَ يُبْصِرُ ٱلآنَ؟»
أَجَابَهُمْ أَبَوَاهُ وَقَالا: «نَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا ٱبْنُنَا
وَأَنَّهُ وُلِدَ أَعْمَى، وَأَمَّا كَيْفَ يُبْصِرُ ٱلآنَ فَلا نَعْلَمُ.
أَوْ مَنْ فَتَحَ عَيْنَيْهِ فَلا نَعْلَمُ. هُوَ كَامِلُ ٱلسِّنِّ.
ٱسْأَلُوهُ فَهُوَ يَتَكَلَّمُ عَنْ نَفْسِهِ». قَالَ أَبَوَاهُ هٰذَا
لأَنَّهُمَا كَانَا يَخَافَانِ مِنَ ٱلْيَهُودِ، لأَنَّ ٱلْيَهُودَ
كَانُوا قَدْ تَعَاهَدُوا أَنَّهُ إِنِ ٱعْتَرَفَ أَحَدٌ بِأَنَّهُ
ٱلْمَسِيحُ يُخْرَجُ مِنَ ٱلْمَجْمَعِ. لِذٰلِكَ قَالَ
أَبَوَاهُ: «إِنَّهُ كَامِلُ ٱلسِّنِّ، ٱسْأَلُوهُ» (يوحنا 9: 13-23).

 

لم
يهتدِ المتعصبون إلى الذي سبَّب هذه المخالفة، فجرُّوا الأعمى الذي أبصر إلى
مجلسهم ليحاكموه. ولما طلب أعضاء المجلس أن يسمعوا القصة من فمه رأساً قصَّها
عليهم. ولما علموا أن المسيح الذي يبغضونه وينوون قتله فعل هذه المعجزة حاروا في
أمرهم. إنْ هم حكموا على المسيح بمخالفة السبت يثبتون المعجزة ويشِيعُون خبرها،
فيزيد تمسُّك الشعب بالمسيح. ولأنه وقت العيد العظيم لا يُستبعَد أن الشعب يثير
حركة سياسية، وينادي بالمسيح ملكاً. وإنْ هم أنكروا حقيقة المعجزة، يخسرون
الحُجَّة التي فرحوا لها للحكم عليه بأنه دنَّس السبت. لذلك ترددوا وناقضوا ذواتهم
لأنهم أثبتوا المعجزة أولاً، وافتكروا الآن أن يلاشوا تأثيرها بقولهم إن فِعْلها
في يوم السبت برهان أن الفاعل ليس من اللّه، بل قد فعلها بقوة الشياطين!

 

لكن
قوماً في المجلس اعترضوا بقولهم: «كيف يقدر إنسان خاطئ أن يعمل مثل هذه المعجزة؟»
فحصل انقسام في المجلس، وغيَّروا خطَّتهم وعمدوا إلى حيلة ضد الأولى، إذْ حاولوا
إنكار المعجزة لعلهم ينجحون في اتهام المسيح بالاحتيال، وطلبوا أن يجبروا الرجل
وأبويه على إنكار المعجزة. ولكنه قال: «أعلم شيئاً واحداً: أني كنتُ أعمى والآن
أبصر». هذا القول هو شعار كل من اختبر الخلاص بالمسيح، بواسطة الإيمان الحي به،
لأنه يقدم الشهادة عينها.

 

«فَدَعَوْا
ثَانِيَةً ٱلإِنْسَانَ ٱلَّذِي كَانَ أَعْمَى، وَقَالُوا لَهُ:
«أَعْطِ مَجْداً لِلّٰهِ. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ هٰذَا
ٱلإِنْسَانَ خَاطِئٌ». فَأَجَابَ: «أَخَاطِئٌ هُوَ؟ لَسْتُ أَعْلَمُ.
إِنَّمَا أَعْلَمُ شَيْئاً وَاحِداً: أَنِّي كُنْتُ أَعْمَى وَٱلآنَ
أُبْصِرُ». فَقَالُوا لَهُ أَيْضاً: «مَاذَا صَنَعَ بِكَ؟ كَيْفَ فَتَحَ
عَيْنَيْكَ؟» أَجَابَهُمْ: «قَدْ قُلْتُ لَكُمْ وَلَمْ تَسْمَعُوا. لِمَاذَا
تُرِيدُونَ أَنْ تَسْمَعُوا أَيْضاً؟ أَلَعَلَّكُمْ أَنْتُمْ تُرِيدُونَ أَنْ
تَصِيرُوا لَهُ تَلامِيذَ؟» فَشَتَمُوهُ وَقَالُوا: «أَنْتَ تِلْمِيذُ ذَاكَ،
وَأَمَّا نَحْنُ فَإِنَّنَا تَلامِيذُ مُوسَى. نَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ مُوسَى
كَلَّمَهُ ٱللّٰهُ، وَأَمَّا هٰذَا فَمَا نَعْلَمُ مِنْ أَيْنَ
هُوَ». أَجَابَ ٱلرَّجُلُ وَقَالَ لَهُمْ: «إِنَّ فِي هٰذَا عَجَباً!
إِنَّكُمْ لَسْتُمْ تَعْلَمُونَ مِنْ أَيْنَ هُوَ، وَقَدْ فَتَحَ عَيْنَيَّ.
وَنَعْلَمُ أَنَّ ٱللّٰهَ لا يَسْمَعُ لِلْخُطَاةِ. وَلٰكِنْ
إِنْ كَانَ أَحَدٌ يَتَّقِي ٱللّٰهَ وَيَفْعَلُ مَشِيئَتَهُ
فَلِهٰذَا يَسْمَعُ. مُنْذُ ٱلدَّهْرِ لَمْ يُسْمَعْ أَنَّ أَحَداً
فَتَحَ عَيْنَيْ مَوْلُودٍ أَعْمَى. لَوْ لَمْ يَكُنْ هٰذَا مِنَ
ٱللّٰهِ لَمْ يَقْدِرْ أَنْ يَفْعَلَ شَيْئاً». أَجَابُوا قَالُوا
لَهُ: «فِي ٱلْخَطَايَا وُلِدْتَ أَنْتَ بِجُمْلَتِكَ، وَأَنْتَ
تُعَلِّمُنَا!» فَأَخْرَجُوهُ خَارِجاً» (يوحنا 9: 24-34).

 

ولما
وجَّه الرؤساء أسئلتهم للأعمى الذي أبصر قال: «قلت لكم ولم تسمعوا. لماذا تريدون
أن تسمعوا أيضاً؟ ألعلكم أنتم تريدون أن تصيروا له تلاميذ؟» فشتموه مفتخرين بأنهم
تلاميذ موسى، بينما هو تلميذ هذا الجليلي المجهول الأصل. شتموه بحجة أنه ضلَّ وكفر
في تسميته المسيح نبياً. ولامهم الأعمى الذي أبصر لأنهم – وهو معلمو الدين –
يجهلون أصل شخص عمل ما يبرهن أنه من اللّه. وختم جوابه بكلام قوي أظهر ذكاءه
وشجاعته وإيمانه. إذ قال إن كل تاريخهم منذ نشأة العالم لا يذكر شخصاً واحداً منح
البصر لمولود أعمى. ثم قال: «نعلم أن اللّه لا يسمع للخطاة، ولكن إنْ كان أحد
يتّقي اللّه ويفعل مشيئته فلهذا يسمع. لو لم يكن هذا من اللّه ما قدر أن يفعل
شيئاً».

 

ويستند
قوله هذا على بعض آيات الكتاب، فالخاطئ الوحيد الذي يسمع له اللّه هو الذي يقدم
توبة حقيقية صادقة. فاستشاطوا غيظاً وقالوا له: «في الخطايا وُلدت أنت بجملتك وأنت
تعلّمنا!». ثم حكموا عليه بالحَرْم الأعظم وأخرجوه من المجمع.

 

«فَسَمِعَ
يَسُوعُ أَنَّهُمْ أَخْرَجُوهُ خَارِجاً، فَوَجَدَهُ وَقَالَ لَهُ: «أَتُؤْمِنُ
بِٱبْنِ ٱللّٰهِ؟» أَجَابَ: «مَنْ هُوَ يَا سَيِّدُ لأُومِنَ
بِهِ؟» فَقَالَ لَهُ يَسُوعُ: «قَدْ رَأَيْتَهُ، وَٱلَّذِي يَتَكَلَّمُ
مَعَكَ هُوَ هُوَ». فَقَالَ: «أُومِنُ يَا سَيِّدُ». وَسَجَدَ لَهُ. فَقَالَ
يَسُوعُ: « لِدَيْنُونَةٍ أَتَيْتُ أَنَا إِلَى هٰذَا ٱلْعَالَمِ،
حَتَّى يُبْصِرَ ٱلَّذِينَ لا يُبْصِرُونَ وَيَعْمَى ٱلَّذِينَ
يُبْصِرُونَ». فَسَمِعَ هٰذَا ٱلَّذِينَ كَانُوا مَعَهُ مِنَ
ٱلْفَرِّيسِيِّينَ، وَقَالُوا لَهُ: «أَلَعَلَّنَا نَحْنُ أَيْضاً
عُمْيَانٌ؟» قَالَ لَهُمْ يَسُوعُ: «لَوْ كُنْتُمْ عُمْيَاناً لَمَا كَانَتْ
لَكُمْ خَطِيَّةٌ. وَلٰكِنِ ٱلآنَ تَقُولُونَ إِنَّنَا نُبْصِرُ،
فَخَطِيَّتُكُمْ بَاقِيَةٌ». (يوحنا 9: 35-38).

 

وما
أن خرج الرجل من المجمع مطروداً حتى لاقاه المسيح، فقال له: «أتؤمن بابن اللّه؟».
لم يعلن المسيح ذاته كابن اللّه للعلماء في الأمة، لكنه أعلن ذلك لهذا الفقير
الميَّال إلى الإيمان، والذي ظهر جوهره لما أجاب: «من هو يا سيد لأومن به؟» فأناره
المسيح بقوله: «قد رأيتَه، والذي يتكلم معك هو هو».

 

ما
أصعب هذا الجواب على مسامع يهودي متمسك بالتوحيد. كيف يكون هذا الرجل الذي أمامه
ابن اللّه وكل ملامحه بشرية؟ فإنْ كان حقاً ابن اللّه فيجب أن يسجد له حالاً، وإلا
فلا يجوز، بل يكون السجود له خطيئة عظيمة. لقد عرف أولاً واعترف أن المسيح نبي ولم
يسجد له، وأما الآن فيسجد، لأنه صدَّق أنه ابن اللّه، وهذا يُجيز سجوداً له لا
يُعطَى لنبي أو ملك أو ملاك.

 

في
هذه الساعة تمَّ شفاء هذا الرجل من عماه الروحي الذي وُلد فيه، فأبصر جلياً ورأى
أمامه بعينه الجسديتين يسوع الناصري ابن مريم، وبعين الإِيمان رأى ابن اللّه
الوحيد. أخذ هذا المسكين من رؤسائه الشتيمة والحرم، لكن المسيح عوَّض عليه أضعاف
الأضعاف بالبركة والخلاص. أولئك أخرجوه من المجمع وأغلقوا في وجهه باب النظام
الديني والحقوق المذهبية، لكن المسيح أدخله إلى ملكوت اللّه وفتح له باب السماء.
وبسبب عماه اهتدى إلى الخلاص الأبدي، وربح صداقة هذا الخِلّ السماوي، ونال ذكراً
شريفاً أبدياً في التاريخ. ثم أنه خدم المسيح بنشر صيته انتشاراً جديداً بشهادته
الصادقة له، وخدم ذوي القلوب السليمة حوله بإعطائهم أسباباً كافية ليلجأوا إلى هذا
المخلّص وينالوا به خلاصاً. أفلا يحقُّ لنا أن نتصَّوره بين القديسين في السماء
يقدم شكراً وافراً على الدوام، لأنه وُلد أعمى.

 

فتح
المسيح عيني الرجل الذي وُلد أعمى، ولكن شيوخ اليهود قاوموا المسيح. وهاجموا
الأعمى الذي أبصر. وطردوه من مجمعهم، فكيف يكلمهم المسيح؟

 

لقد
أطلق عليهم لقب «سُرَّاق ولصوص» لأنهم لم يدخلوا على وظيفتهم الرعائية من الباب
الوحيد الذي عيَّنه اللّه، الذي هو المسيح ذاته، بل طلعوا من موضع آخر. ولم يدخلوا
بدعوة إلهية، ولا لأهلية فيهم، بل لنجاحهم في الوسائط السياسية. دخلوا من الثغرات
في سور الحظيرة، فقد نالوا وظيفتهم الكهنوتية الرعوية بالإِرث أو المحاباة أو التمليق
أو الرشوة أو الحيلة أو الاستبداد. فما الفائدة من تسلسلهم الهاروني ورسامتهم
القانونية، وغير ذلك من الشروط الرسمية الخارجية، طالما هم تائهون عن الباب؟
والمسيح ذاته هو الباب. وإلى اليوم لا دخول للخدمة الرعائية إلا من هذا الباب.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى