اللاهوت العقيدي

الفصل الثاني



الفصل الثاني

الفصل
الثاني

الجزء
التقليدي

أ-
المعمودية من واقع الإنجيل وسفر الأعمال والرسائل

1-
التعليم عن المعمودية في سفر الأعمال

وقد
وضعناها في أول التعليم عن المعمودية لأنها شملت أول عملية عماد تمَّت بعد قيامة
الرب وصعوده إلى السماء، كما ابتدأ التعليم عن المعمودية منذ بدء السفر. ومعروف أن
المعمودية ذُكرت في سفر الأعمال 21 مرَّة، ولكن لا تأتي على صورة عقيدة لاهوتية
ولكن مجرَّد إجراء عملي. ويلزم أن نضع في الاعتبار أن كتابة “سفر الأعمال” بواسطة
ق. لوقا جاءت متأخِّرة جدًّا عن تعاليم ق. بولس في كل رسائله. فتعليم ق. بولس عن
المعمودية كما جاء في رسائله دخل الكنيسة وتداول فيها قبل سفر الأعمال.

كذلك
لا يمكن أن يفوت علينا أن الجزء الأول من سفر الأعمال تمَّ ودُوِّن قبل دعوة بولس
الرسول على طريق دمشق، وبالتالي قبل تعليمه في الرسائل بمدة كبيرة.

أ-
بداية ممارسة المعمودية:

فالمعمودية
بدأت في سفر الأعمال تمارس مبكِّراً جدًّا، منذ يوم الخمسين مباشرة حسب تحديد الرب
يسوع نفسه: “وفيما هو مجتمع معهم أوصاهم أن لا يبرحوا من أُورشليم، بل
ينتظروا موعد الآب الذي سمعتموه مني، لأن يوحنا عمَّد بالماء وأمَّا أنتم
فستتعمَّدون بالروح القدس، ليس بعد هذه الأيام بكثير” (أع 1: 4و5)

وهذه
المعلومة الإلهية تفصل تمام الفصل بين معمودية يوحنا المعمدان ومعمودية العهد
الجديد، القائمة على أساس الروح القدس بواسطة وبتدبير المسيح ووعده([1]).

وهذه
المعلومة أثبتها بطرس الرسول من واقع خبرته في بيت كرنيليوس الذي طلب العماد،
والله أرسل ق. بطرس برؤيا خاصة ليعمِّده وهو أُممي بلا فحص: “ما طهَّره الله
لا تدنِّسه أنت” (أع 15: 10). ويحكي ق. بطرس للتلاميذ في أُورشليم قائلاً:
“فلمَّا ابتدأت أتكلَّم حلَّ الروح القدس عليهم كما علينا أيضاً في البداءة
(يوم الخمسين)، فتذكَّرت كلام الرب كيف قال إن يوحنا عمَّد بماء وأمَّا أنتم
فستُعمَّدون بالروح القدس” (أع 11: 15و16). ولكن العجيب في الأمر أن كرنيليوس
أُممي وأن حلول الروح القدس لم يتم لا بوضع اليد ولا بأسبقية معمودية الماء([2]).

وهذا
يأتي أيضاً مطابقاً لاعتراف يوحنا المعمدان نفسه “وكان يكرز قائلاً يأتي بعدي
مَنْ هو أقوى مني، الذي لست أهلاً أن أنحني وأحل سيور حذائه. أنا عمَّدتكم بالماء
وأمَّا هو فسيُعمِّدكم بالروح القدس” (مر 1: 7و8)

وهكذا
نقيم مقابلة شديدة فاصلة بين معمودية يوحنا المعمدان بالماء، والمعمودية المسيحية
“بالروح القدس”. هذا الفاصل في العمل والتعليم هو من عمل المسيح كما أثبتنا، على
أن هذا الفاصل ابتدأ فقط بحلول يوم الخمسين كتتميم لوعد الرب في مطلع سفر الأعمال،
لأنه واضح غاية الوضوح أن ما رواه ق. بطرس في (أع 11: 15و16) يؤكِّد أن كرنيليوس
وكل بيته لم يعتمدوا بالماء أولاً، ولكنهم اعتمدوا بالروح القدس أولاً
وبعدها اعتمدوا بالماء: “أترى يستطيع أحد أن يمنع الماء حتى لا يعتمد هؤلاء
الذين قبلوا الروح القدس كما نحن أيضاً. وأمر أن يعتمدوا باسم الرب” (أع 10: 47و48). هنا الماء والعماد بالماء
جاء لاحقاً لعماد الروح القدس لتحقيق الإجراء
الكلي.

ب-
وضع اليد:

والقصة
تبدأ هكذا في سفر الأعمال (19: 17):

+
“فحدث فيما كان أبُلُّوس في كورنثوس، أن بولس بعد ما اجتاز في النواحي
العالية جاء إلى أفسس. فإذ وجد تلاميذ قال لهم: هل قبلتم الروح القدس لمَّا آمنتم؟
قالوا له: ولا سمعنا أنه يوجد الروح القدس. فقال لهم: فبماذا اعتمدتم؟ فقالوا:
بمعمودية يوحنا. فقال بولس: إن يوحنا عمَّد بمعمودية التوبة، قائلاً للشعب أن
يؤمنوا بالذي يأتي بعده، أي بالمسيح يسوع. فلمَّا سمعوا اعتمدوا باسم الرب يسوع. ولمَّا
وضع بولس يديه عليهم
حلَّ الروح القدس عليهم،
فطفقوا يتكلَّمون بلغات ويتنبَّأون. وكان جميع الرجال نحو اثني عشر” (أع 19:
17)

في هذه الرواية يتثبَّت لنا في التعليم المسيحي عن
المعمودية الصلة المباشرة بين المعمودية باسم
الرب يسوع، ووضع اليد الرسولية وقبول الروح القدس،
وانقضاء معمودية يوحنا بالماء للتوبة وعدم
نفعها.

والقصة
الأخرى المطابقة التي فيها حل الروح القدس ثمَّ بعد ذلك تمَّ العماد بالماء هي قصة
شاول نفسه المدعو بولس:

+
“فمضى حنانيا ودخل البيت ووضع عليه يديه وقال: أيها الأخ شاول قد أرسلني الرب
يسوع الذي ظهر لك في الطريق الذي جئت فيه، لكي تبصر وتمتلئ من الروح القدس. فللوقت
وقع من عينيه شيء كأنه قشور، فأبصر في الحال وقام واعتمد” (أع 9: 17و18)

وهنا
أيضاً هذه الحادثة تثبت الصلة المباشرة بين وضع اليد وقبول الروح القدس، ونفس هذه
الرواية يرويها ق. بولس نفسه إذ يصف ما سمع وما قيل له فيقول:

+
“ثم إن حنانيا رجلاً تقياً.. أتى إليَّ، ووقف وقال لي: أيها الأخ شاول، أبصر!
ففي تلك الساعة نظرت إليه. فقال: إله آبائنا انتخبك لتعلم مشيئته، وتبصر البار،
وتسمع صوتاً من فمه. لأنك ستكون له شاهداً لجميع الناس بما رأيت وسمعت. والآن
لماذا تتوانى؟ قُمْ واعتمد واغسل خطاياك داعياً باسم الرب” (أع 22: 1216)

هنا
اعتُبرت المعمودية “غسل خطايا بدعاء باسم الرب”.

وهناك
حالة أخرى أيضاً تَّم فيها العماد باسم الرب يسوع ولكنهم لم يقبلوا الروح القدس
لعدم وجود رسول يضع يده:

+
“ولكن لمَّا صدَّقوا فيلبس وهو يبشِّر بالأمور المختصة بملكوت الله وباسم
يسوع المسيح، اعتمدوا
رجالاً ونساءً.. ولمَّا سمع الرسل الذين في أُورشليم أن
السامرة قد قبلت كلمة الله، أرسلوا إليهم بطرس ويوحنا، اللذين لمَّا نزلا صلَّيا
لأجلهم لكي يقبلوا الروح القدس. لأنه لم يكن قد حلَّ بعد على أحدٍ منهم، غير أنهم
كانوا مُعتمدين باسم الرب يسوع. حينئذ وضعا الأيادي عليهم فقبلوا الروح
القدس” (أع 8: 12و1418)

هذا
مثال لمعمودية تمَّت باسم الرب يسوع ولم يحل الروح القدس لغياب وضع اليد الرسولية.

وبهذا
يتأكَّد لنا من واقع هذه الحوادث التي تمَّ فيها العماد بدون وضع يد- مهما كان
كامل الشروط- فلم يحل فيها الروح القدس، أن المعمودية في المسيح يتحتَّم فيها وضع
اليد.

هنا
جيد أن نعود إلى معمودية المسيح بالماء من يد يوحنا. واضح أن المعمدان تمنَّع
جدًّا أن يقبل أن يعمِّد المسيح لأن هذا يستوجب وضع يده عليه. هنا بادره المسيح
بالقول ينبغي أن نتمِّم كل برّ بمعنى بر الاتضاع! أو ربما برّ المعمودية نفسها.
فكانت النتيجة أن حلَّ الروح القدس عليه ولكن ليس على مستوى حلوله على المعمَّدين
الآخرين، ولكن حلول الروح القدس كان بصفة المسحة من الآب مباشرة للبدء في الخدمة،
حسب قراءة إشعياء التي تلاها في المجمع: “فدُفع إليه سفر إشعياء النبي، ولمَّا
فتح السفر وجد الموضع الذي كان مكتوباً فيه: روح الرب عليَّ لأنه مسحني لأبشِّر
المساكين.” (لو 4: 17و18)

ويلذ
لنا جدًّا أن نتأمَّل في هذا الحلول فهو للخدمة كلزوم لها على الأرض.

أمَّا
قبوله روح القيامة من الأموات فهو أيضاً لخدمة المجد كلزوم لها في السماء. والجميل
حقا أن نتأكَّد أن حلول الروح القدس عليه في المعمودية للمسحة للخدمة إنما صار
كسابقة واجبة التنفيذ في كل الذين يعتمدون لاسم المسيح، فإنهم حتماً يقبلون الروح
القدس كمسحة للخدمة والشهادة على الأرض باسم المسيح.

أمَّا
قيامتنا مع المسيح وقبولنا روح القيامة فهو أيضاً بقبول شركة خدمة المجد في ملكوت
الله والشهادة لقيامته التي نحياها.

لذلك
كان عمل المعمودية الآن باسم المسيح هو على شقَّين:

شق
تحدِّده مسحة الروح القدس لخدمة العتيدين أن يرثوا الخلاص باسم المسيح، وهو مطابق
تماماً لحلول روح المسحة على المسيح في
معمودية يوحنا بالماء، حيث الروح القدس حينئذ  يُعطي الاعتراف
والشهادة
أننا نحيا بالقيامة كأولاد الله: “الروح نفسه أيضاً يشهد لأرواحنا أننا أولاد
الله” (رو 16: 8). تماماً كشهادة الآب من السماء للمسيح وهو خارج من
معموديته- الروح القدس الذي هو وعد الآب وجميع الأنبياء وعلامة ومجد العهد الجديد
ونوره.

أمَّا
الشق الثاني فنحن نحصل عليه بالدفن في ماء المعمودية بالإيمان كشركة في موت الرب،
كما نحصل عليه بالخروج من ماء المعمودية بالإيمان لابسين الرب يسوع كشركة في جسد
قيامته- في جسد جديد للإنسان، خليقة جديدة سماوية.

الخلاصة:

§ بهذا نفهم أن المسيح بعماده من يد يوحنا في مياه الأُردن، وحصوله
على الروح القدس، وشهادة الآب ببنوَّته، قد أكمل تأسيساً حقيقياً إلهياً
لمعموديتنا بكل أجزائها.

§ كذلك فمعمودية المسيح أو صبغته التي اصطبغ بها على الصليب، التي
بها قدَّس وعمَّد الجسد الحامل البشرية بدم صليبه ليؤهِّله للموت والقيامة وقبول
الحياة الأبدية ودخول ملكوت الله؛ كان هذا تأسيساً لفاعلية المعمودية التي فيها
نموت بالإيمان والدفن في الماء مع المسيح، ونقوم حاصلين على قيامة المسيح بالروح بالإيمان ولابسين الرب يسوع ثوب المجد
والخلاص
الأبدي.

§ فمعمودية الرب يسوع في الأُردن، ومعمودية المسيح بالموت على
الصليب، هما أساس المعمودية التي ورثتها الكنيسة من جسده في جسدها “بالماء والروح
القدس” كقول الرب لنيقوديموس. وهي حديث السماويات منذ البدء: “إن كنت قلت لكم
الأرضيات ولستم تؤمنون فكيف تؤمنون إن قلت لكم السماويات” (يو 12: 3)

خبرة
الكنيسة في المعمودية ابتدأت يوم الخمسين:

+
“فلمَّا سمعوا نخسوا في قلوبهم وقالوا لبطرس ولسائر الرسل: ماذا نصنع
أيها الرجال الإخوة. فقال لهم بطرس: توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع
المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس.
لأن الموعد هو لكم ولأولادكم
ولكل الذين على بُعد. كل مَنْ يدعوه الرب إلهنا” (أع 2: 3739).
فاعتمدوا وانضم في ذلك اليوم ثلاثة آلاف نفس.

هذا
صار منطوق عقيدة الكنيسة الأُولى الفتيَّة منذ اليوم الأول.

عمليات
قوية وهامة:

أولاً:
كل مَنْ يدعوه الرب إلهنا
حتى الذين على بُعد (أي الأُمم) وإلى آخر
الأيام.

ثانياً:
نُخسوا في قلوبهم:
هذا هو عمل الروح القدس المسبق الذي يمهِّد
للمعمودية بالوعظ.

ثالثاً:
ليعتمد كل واحد:
المعمودية فردية والإيمان فردي والخلاص فردي.

رابعاً:
على اسم
([3]) يسوع
المسيح:
(وليس يوحنا بعد) كان هذا طقس الكنيسة الأول الذي صار بعد ذلك باسم
الثالوث.

خامساً:
لمغفرة الخطايا:
هذا هو الالتحام في الصليب والدم!

سادساً:
فتقبلوا عطية الروح القدس.

بهذه
العقيدة الأُولى كحدث وفعل رسولي:

§ يتحقَّق الوعد بقبول الروح القدس منذ أول لحظة، لأنهم نُخسوا في
قلوبهم وطلبوا الخلاص قبل أن يعرفوا ما هي المعمودية أو يعتمدوا.

§ كما يتحقَّق تعليم الرب عن المعمودية لنيقوديموس: “إن كان
أحد لا يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله” (يو 5: 3)

§ إن المعمودية باسم الرب يسوع هي لغفران الخطايا.

§ إن الروح القدس يُعطى مقترناً معها ولكن هي لا تمنح الروح.

§ إن المعمودية تحتاج إلى يد رسولية أو مَنْ يحملها ليكون حاملاً
الروح القدس ليتم الوعد الذي وعد به الرب: “لكنكم ستنالون قوة متى حلَّ الروح
القدس عليكم.. وأمَّا أنتم فستتعمَّدون بالروح القدس” (أع 1: 8و5). هذه القوة
وهذا الروح ظهر فعله منذ أول يوم، إذ أن ق. بطرس ومَنْ معه من الرسل قد عمَّدوا
ثلاثة آلاف نفس!

المعمودية
سر الانضمام للكنيسة:

من
نتائج حادث عماد ق. بطرس للثلاثة آلاف نفس يهودي أنهم آمنوا ودخلوا المسيحية،
فاعتبرت المعمودية من أول يوم الخمسين أنها الباب الأول للانضمام إلى الكنيسة ونمو
المسيحية بها!

+
“فقبلوا كلامه بفرح (فرح الروح القدس) واعتمدوا وانضم في ذلك اليوم نحو ثلاثة
آلاف نفس” (أع 41: 2)

+
“وكان الرب كل يوم يضم إلى الكنيسة الذين يخلصون” (أع 47: 2)

الإفخارستيا
كانت هي السر الملازم للعماد منذ اليوم الأول:

+
“وكانوا يواظبون على تعليم الرسل والشركة وكسر الخبز والصلوات”
(أع 42: 2)

+
“وإذ هم يكسرون الخبز في البيوت كانوا يتناولون الطعام (وليمة
الإفخارستيا) بابتهاج وبساطة قلب، مسبِّحين ولهم نعمة لدى جميع الشعب”
(أع2: 46و47)

أثر
فعل المعمودية وشركة الإفخارستيا في الكنيسة:

في
الاتحاد والوحدة والكرازة:

+
“وكان لجمهور الذين آمنوا قلب واحد ونفس واحدة. ولم يكن أحد يقول إن شيئاً من
أمواله له، بل كان عندهم كل شيء مشتركاً. وبقوة عظيمة كان الرسل يؤدُّون الشهادة
بقيامة الرب يسوع، ونعمة عظيمة كانت على جميعهم” (أع 4: 32و33)

وهناك
ملاحظة للرد على العالِم جوانس وايس الناقد الألماني، الذي خرج علينا بنقده أن
المائة والعشرين الذين حلَّ عليهم الروح القدس لم يُذكر أنهم اعتمدوا بالماء.
والرد على ذلك أنهم جميعاً سبق واعتمدوا من المعمدان لأنها كانت جماعة تقيَّة
مختارة، فهنا العماد تمَّ على دفعتين: الماء أولاً على يد يوحنا المعمدان، والروح
القدس يوم الخمسين. وبالتأكيد فإن معظم هؤلاء المذكورين المائة والعشرين أو كلهم
عاينوا المسيح القائم من الأموات، فأصبح من غير ضرورة أن يعتمدوا باسم المسيح،
وإيمانهم بالقيامة ويسوع نفسه حاضر فيهم!

فهل
ممكن أن يكفّ الناقدون للمعمودية في سفر الأعمال؟

بل
نحن نقول إن الأشخاص الذين ظهروا في الكنيسة في يوم الخمسين: الرسل والتلاميذ
والمائة والعشرون، هؤلاء الذين رأوا يسوع المسيح قائماً من الأموات، يبدون في
الحقيقة حاملين قوة وشهادة قيامة الرب، فالاعتراف في قلوبهم والشهادة في فمهم بالمسيح
وقيامة المسيح قائمة لا تحتاج إلى شرح أو تعليم أو عماد بالماء، لأن الروح القدس
أيضاً عليهم! فما حاجة هؤلاء أن يعتمدوا باسم المسيح؟ يُستثنى من ذلك شاول المدعو
بولس فقد اعتمد ليصير مسيحياً وهو منتخب رسولاً.

المعمودية
شهادة موت وقيامة الرب:

من
أجل ذلك، أي من أجل أن الذين قاموا بعمليات العماد الأُولى في الكنيسة وأسَّسوها
هم رُسل وهم شهود قيامة الرب، اندمغت المعمودية منذ البدء بأنها رمز أو شكل أو
قانون إيمان بالقيامة بحد ذاتها، حاملة الروح القدس الجاهز للشهادة: “روح
الحق الذي من عند الآب ينبثق فهو يشهد لي وتشهدون أنتم أيضاً لأنكم معي من
الابتداء” (يو 15: 26و27). فالمعمودية شهادة فعلية وتنشئ معمَّدين قادرين على
الشهادة الفعلية بموت الرب وقيامته. لأن المعمودية كما رأيناها وسنراها كثيراً
أنها فعل موت وقيامة مع الرب.

المدركات
الهامة التي تؤدِّي إلى المعمودية.

§ سماع كلمة الوعظ ¢koÚsantej

+
“فلمَّا سمعوا نُخسوا في قلوبهم.. واعتمدوا” (أع 2: 37و41)

+
فقبلوا كلامه بفرح واعتمدوا
¢podex£menoi(أع 41: 2)

§ الإيمان ببشارة الإنجيل فيما يخص
اسم المسيح وملكوت الله:

+
“ولكن لمَّا صدَّقوا فيلبُّس (حرفياً: آمنوا بما يقوله) وهو يبشِّر
(حرفياً: يعلن الإنجيل
eÙaggelizomšnJ) بالأمور المختصة بملكوت الله
وباسم يسوع، اعتمدوا” (أع 12: 8)

 §فبشَّره بيسوع: eÙhggel…sato

+
“ففتح فيلبُّس فاه وابتدأ من هذا الكتاب فبشَّره بيسوع.. فقال الخصي
هوذا ماء ماذا يمنع أن أعتمد” (أع 8: 35و36)

§ فتح الرب قلبها لتصغي: di”noixen
t¾n kard…an prosšcein

+
“فكانت تسمع امرأة اسمها ليدية بيَّاعة أرجوان من مدينة ثياتيرا متعبِّدة
لله. ففتح الرب قلبها لتصغي إلى
ما كان يقوله بولس. فلمَّا اعتمدت هي وأهل بيتها.” (أع 16: 14و15)

§ وكلَّماه وجميع مَنْ في بيته بكلمة الله:
™l£lhsan

+
وكلَّماه (حافظ السجن) وجميع مَنْ في بيته بكلمة الرب. فأخذهما
في تلك الساعة من الليل وغسلهما من الجراحات
واعتمد في الحال هو والذين له أجمعون” (أع 16: 32و33)

§ إذ سمعوا آمنوا: ¢koÚontej

+
“وكريسبس رئيس المجمع آمن بالرب مع جميع بيته. وكثيرون من الكورنثيين إذ
سمعوا آمنوا واعتمدوا” (أع 8: 18)

+
فبينما بطرس يتكلَّم بهذه الأمور حلَّ الروح القدس على
جميع الذين كانوا يسمعون الكلمة” (أع 44: 10)

+ “فلمَّا ابتدأت أتكلَّم حلَّ الروح القدس
عليهم” (أع 15: 11). هذا كان في عماد
كرنيليوس.

هذه
الأمثلة توضِّح أنه ينبغي أن نلتفت إلى كثرة المرَّات التي فيها حدثت المعمودية
مباشرة بعد الكلام والسمع وقبول الكلمة والإيمان. فالمعمودية هنا استجابة
لرسالة الإنجيل.
وهذه في لغة الكنيسة الأُولى كانت تُدعى
kerygma أي المضمون الأساسي لتعليم الرسل.

خلاصة
ما وجدناه في سفر الأعمال فيما يخص المعمودية:

(أ)
أنه منذ الأيام الأُولى للكنيسة وطقس المعمودية بالماء كان هو المعتبر الإجراء
الأساسي للدخول في المسيحية.

(ب)
أحياناً كان الطقس يُذكر ببساطة كما نراه في الأمثلة الآتية:

+
“وسيمون أيضاً نفسه آمن. ولمَّا اعتمد كان يلازم فيلبس” (أع 13: 8)

+
“وفيما هما سائران في الطريق أقبلا على ماء، فقال الخصي هوذا ماء ماذا يمنع
أن أعتمد.. فنزلا كلاهما إلى الماء فيلبُّس والخصي فعمَّده” (أع 8: 36و38)

+
“فلمَّا اعتمَدَتْ هي وأهل بيتها طلبت قائلة إن كنتم قد حكمتم أني مؤمنة
بالرب فادخلوا بيتي وامكثوا. فألزمتنا” (أع 15: 16)

+
“فأخذهما في تلك الساعة من الليل وغسلهما من الجراحات واعتمد في الحال هو
والذين له أجمعون” (أع 33: 16)

+
“وكريسبس رئيس المجمع آمن بالرب مع جميع بيته، وكثيرون من الكورنثيين إذ
سمعوا آمنوا واعتمدوا” (أع 8: 18)

(ج)
أحياناً أخرى كان يوصف بالتفصيل كما في المعمودية باسم يسوع المسيح:

+
فقال لهم بطرس توبوا وليعتمد كل واحد
منكم على اسم
يسوع المسيح” (أع 38:
2)

أو
باسم الرب:

+
“وأمر أن يعتمدوا باسم الرب. حينئذ سألوه أن يمكث أياماً” (أع 48: 10)

أو
باسم الرب يسوع:

+
“.. غير أنهم كانوا معتمدين باسم الرب يسوع” (أع 16: 8)

+
“فلمَّا سمعوا اعتمدوا باسم الرب يسوع” (أع 5: 19)

(د)
أو أن ترافق المعمودية عملية توبة وتكون المعمودية لمغفرة الخطايا:

+
“فقال لهم بطرس توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران
الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس” (أع 38: 2)

+
“والآن لماذا تتوانى؟ قم واعتمد واغسل خطاياك داعياً باسم الرب” (أع16:
22)

(ه)
وهي كذلك متصلة بالروح القدس كعطية:

+
“فقال لهم بطرس توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لغفران
الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس” (أع 38: 2)

+
“فبينما بطرس يتكلَّم بهذه الأمور حلَّ الروح القدس على جميع الذين كانوا
يسمعون الكلمة، فاندهش المؤمنون الذين من أهل الختان كل مَنْ جاء مع بطرس لأن
موهبة الروح القدس قد انسكبت على الأُمم أيضاً، لأنهم كانوا يسمعونهم يتكلَّمون
بألسنة ويعظِّمون الله. حينئذ أجاب بطرس: أترى يستطيع أحد أن يمنع الماء حتى لا
يعتمد هؤلاء الذين قبلوا الروح القدس كما نحن أيضاً. وأمر أن يعتمدوا باسم
الرب” (أع 10: 4448)

غير أن في هذه الحالات كانت المعمودية تتبع وتأتي بعد أن يحل
الروح القدس بدلاً من أن يرافقها.

(و)
وفي أمثلة أخرى وجدنا أن الروح القدس كان مرتبطاً بوضع اليد بالضرورة:

+
“لأنه لم يكن قد حلَّ بعد على أحد منهم، غير أنهم كانوا معتمدين باسم الرب
يسوع. حينئذ وضعا الأيادي عليهم فقبلوا الروح القدس” (أع 8: 16و17)

+
“فمضى حنانيا ودخل البيت ووضع عليه يديه. وقال أيها الأخ شاول قد أرسلني الرب
يسوع الذي ظهر لك في الطريق الذي جئت فيه، لكي تبصر وتمتلئ من الروح القدس. فللوقت
وقع من عينيه شيء كأنه قشور، فأبصر في الحال وقام واعتمد” (أع 9: 1718)

+
“فلمَّا سمعوا اعتمدوا باسم الرب يسوع. ولمَّا وضع بولس يديه عليهم حلَّ
الروح القدس عليهم، فطفقوا يتكلَّمون بلغات ويتنبَّأون” (أع 19: 5و6)

النتيجة:

إن
الحقيقة العظمى فيما يخص المعمودية في سفر الأعمال:

1- أنها كانت التعبير العملي لمعنى الإنجيل، فهي محسوبة
أنها المحتوى الأساسي لتعليم الرسل!

2-
أنها تعني تماماً مغفرة الخطايا، والعضوية
الحيَّة في الجماعة المسيحية الجديدة، وأنها تحمل هبة أو عطية الروح القدس، وكل
بركات العهد الجديد كتحصيل لكل ما وعدت به العظات بالكلمة.

3-
أنها هي بالنسبة للذي اعتمد: شهادة له وشهادة منه أنه قَبِل الكلمة وأنه آمن.

4-
ينبغي أن ندرك أن المقصود من هذه النواحي الخاصة بالمعمودية كما جاءت في سفر الأعمال
هو أنها تعبِّر عن عظمة وقيمة الطقس.

5-
والخضوع والطاعة للتعميد هي التعبير العملي المسموع في السماء عن إيمان الموعوظ،
ولكن ليس الموعوظ هو الذي يعطي المعمودية قيمتها وعظمتها.

6-
ونعود نقول إن المعمودية تحمل جوهر ومعيار إنجيل القيامة. فطقس المعمودية قد أُعطي
كسّر “تحقيق الأخرويات!”. فهو يحمل في مضمونه وشكله معنى وروح الإنجيل.

7-
إن حلول الروح القدس في المعمودية على المعمَّد هو المعاملة العلنية للروح القدس
مع الخاطئ، تماماً كما كان المسيح يجالس الخطاة قبل الصليب!

8-
والإنسان الذي تعمَّد أصبح يمتلك في كيانه وقلبه وذهنه قوة هذا السر وفاعليته
ليرافقه مدى الحياة وبعد الحياة!

9-
والذخيرة التي تحملها المعمودية كطقس بالنسبة للمعمَّد هي فرصة العمر الأُولى
والعظمى لإدراك حقيقة هبة المسيحية التي كانت تسمِّيها الكنيسة الأُولى “عطية
الروح” (أع 38: 2 و45: 10)، أو نعمة المسيحية التي تطل من وجه المعمَّد لتحكي
قصته.

10-
وعلى أساس أن في معمودية المسيح بعد أن خرج من الماء انفتحت له السموات، هذا
بعينه يشعر به الذي يعتمد (عَلَى كِبَر) إذ يحس بأنه وكأن السموات قد انفتحت له!
وحياة جديدة امتدت أمامه وفرح لا يُنطق به. اسألوا المتنصِّرين! وسوف نقابل في
رسائل بولس الرسول ما يطابق هذا.

11-
وكانت معمودية المسيح على يد يوحنا من الماء على نهر الأُردن هي الضمان الإلهي
لدوام معمودية الماء والروح كل الأجيال وإلى الانقضاء!

 

2-
المعمودية في كتابات القديس يوحنا

(يو
3: 35):

حديث
المسيح مع نيقوديموس:

+
“أجاب يسوع وقال له: الحق الحق أقول لك: إن كان أحد لا يولد من فوق لا يقدر
أن يرى ملكوت الله. قال له نيقوديموس: كيف يمكن الإنسان أن يولد وهو شيخ. ألعلَّه
يقدر أن يدخل بطن أُمه ثانية ويولد. أجاب يسوع: الحق الحق أقول لك، إن كان أحد لا
يولد من الماء والروح لا يقدر أن يدخل ملكوت الله”

حديث
المسيح مع نيقوديموس هو تشديد الحاجة إلى الميلاد الروحي! كضرورة حتمية لدخول
ملكوت الله. ولكن قد سبق أن عبَّر القديس يوحنا عن الميلاد الروحي في بدء إنجيله
إذ قال:

1- “وأمَّا كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا
أولاد الله، أي المؤمنون باسمه” (يو 12: 1)

2- “الذين ولدوا ليس من دم ولا من مشيئة جسدٍ ولا من
مشيئة رجل، بل من الله” (يو 13: 1)

وتأتي
في اليونانية:
™k qeoà
™genn”qhsan
. هنا استخدام الحرف ™k يقابل استخدام نفس هذا
الحرف في الحديث مع نيقوديموس: “
المولود
من الجسد جسد هو والمولود
من™k الروح هو روح
فالروح محسوب عند ق. يوحنا أنه هو الذي يلد المؤمنين([4]).
فإذا أُضيفت المياه تحقَّق للمعمودية عمق لاهوتي في الطقس المسيحي “بالماء
والروح”، كما حدَّده المسيح لنيقوديموس ليكونا الواسطة للميلاد من فوق. هنا يمتاز
طقس العماد في إنجيل ق. يوحنا باستعلان الميلاد الجديد، الخليقة الجديدة من الماء
والروح القدس.

فطقس
معمودية الماء عند ق. يوحنا متحداً مع فعالية الروح يُعتبر الواسطة التي بها يولد
المسيحي “من فوق” كنص المسيح الرب.

هذا
التعليم فيما يخص الخليقة الجديدة الممثَّلة في إنجيل ق. يوحنا أنها “ميلاد
من فوق”،
قد وضعه الإنجيل على قاعدة موت المسيح، إذ أكمل المسيح تعليمه
لنيقوديموس بقوله:

+
“وكما رفع موسى الحية في البرية هكذا ينبغي أن يُرفع ابن الإنسان، لكي لا
يهلك كل مَنْ يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 3: 14و15)

§ هكذا جعل المسيح موته على الصليب أساس الميلاد من الماء والروح،
والإيمان بالمسيح المرفوع على خشبة كشرط أساسي
لعبور الهلاك (عقوبة الموت). وهكذا تصوَّرت المعمودية منذ البدء.

§ والقديس يوحنا أعطى “للإيمان بالمسيح” موضعه في أساس المعمودية
منذ بدء إنجيله بقوله:

+
“وأمَّا كل الذين قبلوه فأعطاهم سلطاناً أن يصيروا أولاد الله، أي المؤمنون
باسمه
، الذين وُلِدُوا.. من الله” (يو 1: 12و13)

§ وهكذا تأسَّس الميلاد من فوق “بالماء والروح” كعمل الروح القدس في
المعمودية، وأصبح الحصول على الحياة الأبدية كأولاد الله هو النتيجة النهائية لرفع
الابن على الصليب، وصارت المعمودية عند ق. يوحنا مثيلة للمعمودية عند القديس بولس.

(1يو
5: 58):

+
“مَنْ هو الذي يغلِبُ العالم، إلاَّ الذي يؤمن أن يسوع هو ابن الله؟ هذا هو
الذي أتى بماء ودم يسوع المسيح. لا بالماء فقط بل بالماء والدم، والروح هو الذي
يشهد لأن الروح هو الحق. فإن الذين يشهدون في السماءِ هم ثلاثةٌ: الآبُ، والكلمةُ،
والروح القدس. وهؤلاء الثلاثة هم واحدٌ. والذين يشهدون في الأرضِ هم ثلاثةٌ: الروح
والماءُ والدمُ. والثلاثة هم في الواحد”

هنا
يدافع ق. يوحنا عن أن المعمودية ليست ماءً فقط (كقول كيرنثوس الهرطوقي) بل
روح وماء ودم، والثلاثة على مستوى المسيح (هم في الواحد). ولكن واضح أن المقاومين
ينكرون صليب ربنا يسوع المسيح كعنصر أساسي في الخلاص، كما يكشفها إيرينيئوس بعد
ذلك عن كيرنثوس قائلاً إنه يَفْصِل يسوع عن المسيح ويدَّعي أن المسيح فارق يسوع
عند الصليب([5]).
لذلك اهتم ق. يوحنا بذكر يسوع أنه هو المسيح، وهو الذي صُلب وأتى بماء ودم، وليس
بماء فقط كقول كيرنثوس. وق. يوحنا يؤكِّد أن الماء والدم والروح هم في الواحد أي
في يسوع المسيح. هنا ق. يوحنا يلجأ إلى الرموز، علماً بأن ق. يوحنا شَهِدَ خروج
الدم والماء من جنب المسيح على الصليب من ضربة حربة وكان قد مات (يو 34: 19).

يفسِّر
الآباء والعلماء أن هذا النص يفيد المعمودية وأصولها الأُولى وكذلك الإفخارستيا([6])،
ولكن كثيرين يؤكِّدون أن هذا النص يختص فقط بالمعمودية، حيث الدم يفيد ويرمز إلى
موت الرب على الصليب، بحسب التقليد الذي كان سارياً في الكنيسة الأُولى. وقد أشار
إليه ق. بولس في (رو 3: 6): “أم تجهلون أننا كل مَنْ اعتمد ليسوع المسيح
اعتمدنا لموته” وتأخذ أصولها الأُولى من قول الرب نفسه: “لي صبغة
b£ptisma أصطبغها وكيف أنحصر حتى تُكمل” (لو 50: 12)

ويقول
الشُّرَّاح وهم على حق أن ق. يوحنا يقصد معمودية المسيح إنه اعتمد بالماء على
الأُردن واعتمد بدمه على الصليب، وهذا منتهى الحق- ونحن نلنا هذا كأساس
لمعموديتنا.

§ وهكذا فإن ربط المعمودية بموت الرب
لم يكتشفه ق. بولس ولكنه تقليد الكنيسة الأُولى
المأخوذ من المسيح. وإدخال “الروح” كعنصر أساسي هو
من صُنع الرب نفسه في حديثه مع نيقوديموس.

§ إن حقيقة المعمودية وقيامها أساساً على فعل موت ابن الله على
الصليب وصبغة الدم وفعالية الروح القدس هي التقليد الثابت الدائم والأبدي للكنيسة،
كذلك قيام المعمودية المسيحية على أساس مقولة ق. يوحنا: “وأعطاهم سلطاناً أن
يصيروا أولاد الله” (يو 12: 1)، على أساس معمودية
المسيح في الأُردن ونزول صوت الآب عليه قائلاً: “هذا هو ابني الحبيب”
(مت 17: 3)

§ ذلك لأن قول ق. يوحنا: “يصيروا أولاد الله” هو نابع من
الإيمان بالمعمودية. فإذا كانت المعمودية المسيحية في الكنيسة قامت أصلاً على
معمودية المسيح في الأُردن وصبغة الصليب بالدم، فحتماً كلمة “يصيروا أولاد الله”
أو أبناء الله هي امتداد لصوت الآب من السماء على المسيح “هذا هو ابني
الحبيب” (مت 17: 3)

§ وإن كان دخول الملكوت كما يقول الرب لنيقوديموس يقوم على الميلاد
الثاني من الماء والروح أي من فوق، فالنتيجة المرصودة في حديث نيقوديموس هي الدخول
إلى الملكوت الذي افتتحه الرب بموته وقيامته.

§ وكان من المحتَّم بحسب قول المسيح: “خير لكم أن أنطلق، لأنه
إن لم أنطلق لا يأتيكم المعزي” (يو 7:
16) أن يدخل المسيح أولاً إلى ملكوته منتصراً قائماً من الأموات. فدخوله ملكوت

الله الذي أعدَّه للمؤمنين باسمه هو الذي أفاض
الروح القدس من عند الآب ليعدّنا لدخول
الملكوت أيضاً عبر المعمودية، التي
تعطينا شركة مع المسيح المقام والجالس في السماء عن يمين الآب.

§ قد لاحظ العلماء أنه ولو أننا نجد في
كتابات ق. يوحنا القدر الكثير من تعاليم الأسرار في
العهد الجديد، غير
أنها تأتي عادة بصورة مغطَّاة
veiled، وليست مباشرة. ولكن يقول العالِم هوارد إن العلَّة في ذلك بسبب
ظروف الجيل الذي يكتبه له ق. يوحنا([7]).
فهو قد مهَّد على مدى نصف جيل لظهور التعليم الواضح المقنَّن عن الأسرار كما نجده
مثلاً في خطابات القديس إغناطيوس. فمثلاً في تعاليم ق. إغناطيوس عن الإفخارستيا
يقول عن خبز الإفخارستيا (الجسد) إنه “دواء عدم الموت =
f£rmakon
¢qanas…aj
([8]).
وكان القديس يوحنا هو المُلهِم للقديس إغناطيوس بهذا الاصطلاح بقوله المتكرِّر في
إنجيله: “لكي يأكل منه الإنسان ولا يموت” (يو 50: 6)، “مَنْ يأكل
هذا الخبز فإنه يحيا إلى الأبد” (يو 6: 58و51)

§ تعاليم ق. يوحنا تربط بين المعمودية
والميلاد الجديد
Regeneration, ¢nagšnnhsij ولو أن هذه الكلمة لم ترد في كتاباته، ولكنه أورد الفعل genn£w في المبني للمجهول: “إن كان أحد لا يولد من فوق” وهذا يشرح عبارة: “أولاد الله tškna
qeoà

(يو 12: 1) الواردة في بدء إنجيله والمعبّر عنها في نفس المكان بعبارة:
“الذين وُلِدُوا من الله
™k
qeoà ™genn”qhsan

كذلك في (1يو 29: 2): “كل مَنْ يصنع البر مولود منه
™x aÙtoà gegšnnhtai” وأيضاً في (1يو 9: 3): “كل مَنْ هو مولودٌ من الله Ð
gegennhmšnoj ™k toà qeoà

§ ويُعتقد أن ق. يوحنا استلهم “الميلاد الجديد” كاصطلاح،
واصطلاح “أولاد الله” (يو 12: 1) من قول المسيح نفسه: ” إن لم
ترجعوا وتصيروا مثل الأولاد فلن تدخلوا ملكوت السموات.”
(مت 3: 18)

§ كما أن صلة اصطلاح “الميلاد من فوق” (يو 3: 3) و“المولودين
من الله”
(يو 13: 1) في إنجيل ق. يوحنا شديدة القربى باصطلاح “التبني” عند
القديس بولس، الذي نناله بالمعمودية (غل 3: 2627). فهي اصطلاحات
متوازية لحقيقة واحدة. وقد بدأها المسيح بنفسه في المعمودية التي نال فيها نداء
الآب بالبنوَّة. وهذه البنوَّة انعكست على المعمودية المسيحية للمؤمنين،
فالمولودون من الماء والروح هم المولودون من فوق، هم المولودون من الله، هم “أبناء
الله”، سواء عند القديس يوحنا أو عند القديس بولس.

§ كما لا يمكن أن نغفل حادثة القيامة، فظهور المسيح في العلية الذي
سجَّله القديس يوحنا: “فقال لهم يسوع أيضاً سلام لكم، كما أرسلني الآب أرسلكم
أنا. ولمَّا قال هذا نفخ وقال لهم: اقبلوا الروح القدس، مَنْ غفرتم خطاياه تغفر
له، ومَنْ أمسكتم خطاياه أُمسكت” (يو 20: 2123). ألا نرى في هذا
إشارة واضحة إلى التعميد وإعطاء هذا السطان الروحي من قِبل الرب كقوة للتعميد؟ لأن
التلاميذ كانوا يعمِّدون بالماء كتعليم يوحنا المعمدان. هنا أضاف المسيح الروح
القدس على معمودية الماء كقوة وسلطان إلهي لمغفرة الخطايا بواسطة التعميد. لأن
مغفرة الخطايا والتعميد هما عمل واحد في العهد الجديد والأناجيل.

 

3-
المعمودية في رسالة بطرس الرسول الأُولى

إن
رسالة بطرس الأُولى بشهادة أقوى العلماء المتخصِّصين في شرح الأسفار والطقوس
باقتدار، تُعتبر بأكملها عظة موجَّهة للذين قبلوا العماد حديثاً وخرجوا وذاقوا
اللبن والعسل اللذين يُعطيان للمُعمَّد وهو خارج من المعمودية، رمزاً لميراث كنعان
السماوية، وكلها مشحونة بمعاني واصطلاحات المعمودية.

ونحن
هنا نقدِّم مقتطفات من هذه الرسالة كنصوص مضيئة في شرح معنى المعمودية ولاهوتها
وعملها في المعمَّدين:

1-”
مباركٌ الله أبو ربنا يسوع المسيح، الذي حسب رحمته الكثيرة ولدنا ثانيةً لرجاءٍ
حيٍّ، بقيامة يسوع المسيح مِنَ الأمواتِ.”
(1بط 3: 1)

يكمِّلها
بوضوح قوله: “فاطرحوا كل خبثٍ وكل مَكرٍ والرياء والحسد وكل مذمَّةٍ، وكأطفالٍ
مولودينَ الآنَ،
اشتهوا اللبن العقليَّ العديمَ الغِشِّ لكي تنموا
به” (1بط 2: 1و2)

هنا
إشارة قوية لكأس اللبن الممزوج بالعسل الذي كان يُعطى للخارجين من المعمودية. ثمَّ
يقول في الموضع نفسه وبخصوص اللبن والعسل: “إن كنتم قد ذقتم أن الرب
صالِحٌ” (1بط 3: 2). هنا عودة إلى مذاقة كأس اللبن والعسل.

2-
“الذين أُعلن لهم (الآباء) أنهم ليس لأنفسهم، بل لنا كانوا يخدمون بهذه
الأمور
التي أُخبرتُم بها أنتم الآن، بواسطة الذين بشَّروكم في الروح القدس
المرسل من السماء، التي تشتهي الملائكة أن تطَّلع عليها” (1بط 12: 1)

هنا
بقوله: “إنه ليس لأنفسهم” (هؤلاء الآباء والأنبياء قديماً) يلغي كل
الأمور القديمة بالنسبة لليهود المعمَّدين جديداً باعتبارهم يهوداً وتنصَّروا
وصاروا مسيحيين. ثمَّ بقوله: ” بل لنا كانوا يخدمون بهذه الأمور”،
ينسب كل أقوال الآباء قديماً وكل أقوال الأنبياء أنها لم تكن لليهود بل لنا نحن
المسيحيين، لأنها كانت تُشير للمسيح الآتي. وقوله: ” التي أُخبرتم بها
أنتم الآن بواسطة الذين بشَّروكم في الروح القدس”:
هنا الرد والتوضيح
لكلمة” بهذه الأمور” فهي نفسها التي بشَّرهم بها الرسل قبل قبول
العماد، ولأنها كانت مزكَّاةٌ من الروح القدس لذلك آمنوا بها واستجابوا لها
وللدعوة إلى المعمودية المسيحية: “نظير القدوس الذي دعاكم” (1بط 15: 1)

3-”
كأولاد الطاعةِ، لا تُشاكِلوا شهواتكم السابقة في جهالتكم، بل نظير القدوس الذي
دعاكم، كونوا أنتم أيضاً قديسين في كلِّ سيرةٍ.”
(1بط 1: 14و15)

«كأولاد
الطاعة”:
وهي لقب المعمَّدين جديداً لأنهم أطاعوا الإيمان وأطاعوا
دعوة العماد.

«القدوس
الذي دعاكم”:
واضح أنه المسيح هو الذي دعاهم للإيمان
والاعتراف به، وقبلوا المعمودية كدعوة لإعلان إيمانهم عملياً بالموت مع الرب
والقيامة معه. وهنا القداسة موهوبة لهم بالمعمودية والاعتماد باسم المسيح القدوس،
فقدَّسهم. والقديس بطرس يعظهم بأن يحتفظوا بهذه القداسة” كونوا أنتم أيضاً
قديسين”.

4-”
مولودينَ ثانيةً، لا مِنْ زرعٍ يفنى، بل مما لا يفنَى، بكلمة الله الحيَّةِ
الباقيةِ إلى الأبدِ.”
(1بط 23: 1)

هنا
كشف المعنى اللاهوتي لعمادهم باسم المسيح إنه “ميلاد ثانٍ”، ومواجهة
للمعمَّدين بوصفهم الجديد في المسيحية: ” مولودين ثانية”. ومعروف
أن الميلاد الثاني هو من الماء والروح بحسب الرب.

ولكي
يفرِّق بين ولادة الجسد وولادة الروح كما قال المسيح: “المولود من الجسد جسد
هو والمولود من الروح هو روح”! (يو 6: 3)، هذه يترجمها بطرس الرسول بقوله:
“مولودين ثانية لا من زرع يفنى بل مما لا يفنى” تماماً كما قال المسيح،
حيث “مما لا يفنى” تعني من الروح من الله!! والواسطة هي كلمة الله
الحية الباقية إلى الأبد.
هنا شرح مباشر لقوة الكلمة الفاعلة في المعمودية
للميلاد الثاني.

ويُلاحَظ
هنا أن ق. بطرس يعظ المولودين ثانية أي المعمَّدين جديداً.

5-”
وكأطفالٍ مولودينَ الآنَ، اشتهوا اللبن العقليَّ العديمَ الغِشِّ لكي تنموا به،
إن كنتم قد ذقتم أن الرب صالِحٌ.”
(1بط 2: 2و3)

يُلاحَظ
أن كلمة “الآن” هنا تعني أنهم اعتمدوا حديثاً جدًّا، حتى عبَّر عنها ق.
بطرس بكلمة “الآن”. أمَّا قوله: ” اشتهوا اللبن العقلي عديم الغش لكي
تنموا به”
يقصد بها بوضوح أنهم كما ذاقوا اللبن والعسل الشهي بعد خروجهم
من المعمودية،الآن عليهم أن يشتهوا اللبن العقلي الذي يعني الإنجيل
وتعليم الرسل، الأمور التي تبني النفس. وقوله: “عديم الغش” يقصد به
أقوال الرب الصادقة والحقَّة وأقوال الرسل غير المغشوشة بتعاليم الخارجين عن
الإيمان، وما أكثرهم في تلك الأيام، وقد اشتكى منهم بولس الرسول مرّ الشكوى وهم
اليهود المنازعين.

ثمَّ
يقول: ” إن كنتم قد ذقتم أن الرب صالح”. هنا لعب بالألفاظ، فإنهم
ذاقوا اللبن والعسل اللذيذ فيأخذها ق. بطرس ويجعلها: ” ذقتم أن الرب
صالح”.
وهذا قد نالوه بالتعليم الذي ذاقوه على أيدي الذين عمَّدوهم.
أمَّا قوله: ” لكي تنموا به” فهنا قوة كلمة الحق سواء في الإنجيل
أو عند الرسل، القادرة فعلاً أن تبني الفكر والإيمان حتى بلوغ “قامة ملء
المسيح” (أف 13: 4). “أمَّا نحن فلنا فكر المسيح” (1كو 16: 3)

6-”
كونوا أنتم أيضاً مبنيِّينَ- كحجارةٍ حيَّةٍ- بيتاً روحيًّا، كهنوتاً مقدَّساً،
لتقديم ذبائح روحيَّةٍ مقبولةٍ عند الله بيسوع المسيح.”
(1بط 5: 2)

هنا
إشارة واضحة لبناء الهيكل بحجارته الضخمة التي كانت فخر إسرائيل، والكهنة اللاويين
الذين يقدِّمون الذبائح الحيوانية. وواضح من هذا أن ق. بطرس يخاطب يهوداً تنصَّروا
وقبلوا العماد.

فبعد
أن صاروا مولودين ثانية بكلمة الله الحيَّة، واشتهوا اللبن العقلي عديم الغش، أي
تتلمذوا لكلمة الله، وهي فرح ومسرَّة للنفس، فهنا يحضّهم القديس بطرس أن يكونوا
مبنيين،
ولكن هنا البناء ليس بحجارة صمَّاء ميتة بل حجارة حيَّة، وهي ذاتها
كلمات الحق الثابتة والقوية.

وعوض
الهيكل الذي كان مبنيًّا بحجارة ومدعواً هيكلاً للرب، يقول هنا أن الكلمات
“الحية الباقية إلى الأبد” التي تعمَّدوا بمقتضاها هي نفسها التي تبني
النفس، ومع بقية نفوس الذين تعمَّدوا يصنعون هيكلاً جديداً أو بيتاً حقيقياً
روحياً له.

وعوض
الكهنوت اللاوي الذي كان يقدِّم ذبائح حيوانية لا قيمة لها عند الله ولا مقبولة،
جاء هنا” كهنوتاً مقدَّساً” في المسيح لا من سبط لاوي بل في يسوع
المسيح نفسه، لتقديم ذبائح روحية التي وصفها بولس الرسول أنها ثمر الشفاه (عب 15:
13) أي التسبيح والتمجيد والصلاة والترتيل، وهي مقبولة جدًّا من الله لأنها في
المسيح يسوع.

7-”
وأمَّا أنتم فجنسٌ مختارٌ، وكهنوتٌ ملوكيٌّ، أُمَّةٌ مقدَّسةٌ، شعبُ اقتناءٍ،
لكي تُخبِروا بفضائل الذي دعاكم مِنَ الظلمةِ إلى نورهِ العجيب.”
(1بط 9:
2)

هنا
الكلمات مصوَّبة للمعمَّدين الجدد وقد تغيَّروا من مختارين في إبراهيم ويعقوب
إسرائيل، إلى مختارين من المسيح في المسيح.

وقوله:
“كهنوت ملوكي” يقابل كهنوت العهد القديم للاوي، أمَّا هنا فكهنوت ملوكي
نسبة إلى الملك المسيح ملك المجد.

وقوله:
“أُمَّة مقدَّسة” فهو يقابل بها الأُمة الإٍسرائيلية التي كانت تُدعى
ظلماً أُمَّة مقدَّسة، ولكن هنا أُمة مقدَّسة لأنها تقدَّست بالمسيح نفسه- كرأس
الكنيسة- إيماناً به واتحاداً في المعمودية، هنا التقديس إلهي.

وقوله:
“شعب اقتناء” يعني شعب مقتنى من الله في المسيح وله الميراث الحقيقي.

وقوله:
“من الظلمة إلى نوره العجيب” فالظلمة ما قبل المسيحية والنور في
المسيحية لأن المسيح هو نور العالم.

8-”
الذين قبلاً لم تكونوا شعباً، وأمَّا الآن فأنتم شعبُ الله. الذين كنتم غير
مرحومين، وأمَّا الآن فمرحومون.”
(1بط 10: 2)

كانوا بصفتهم يهوداً فهم شعب إسرائيل وأمَّا الآن فشعب
الله، مما يفيد أنهم لم يكونوا شعب الله.

وقوله:
“كنتم غير مرحومين” ذلك بسبب غضب الله عليهم وسبيهم. وأمَّا الآن فدخلوا
في رحمة الله بواسطة يسوع المسيح الذي صالح الاثنين في جسد واحد.

9-”
الذي مِثَالُهُ (مثال الفلك) يُخلِّصُنَا نحن الآن، أي المعموديةُ، لا إزالةُ
وسخِ الجسدِ، بل سؤالُ ضميرٍ صالحٍ عن الله، بقيامة يسوع المسيح”
(1بط
21: 3)


سؤال
ضمير صالح” صحتها: “الاعتراف لله من ضمير صالح بقيامة يسوع المسيح” =

seineid”sewj ¢gaqÁj ™perèthma e„j qeÒn
di’ ¢nast£sewj ‘Ihsoà
Cristoà.

وفي
الأبحاث الآبائية عند كليمندس الإسكندري([9]) قُرئت: “
™perèthma = سؤال” على أنها Confessio أي اعتراف إيمان لتكون اعتراف لله
بضمير صالح بقيامة يسوع المسيح لتصبح منطوق معمودية. وقد أخذ بهذا المعنى القديس
كيرلس الإسكندري
On Rom: 6: 3 (P.G. 74. 729)

هنا
يعطي ق. بطرس المثال الذي انحدرت منه المعمودية في المسيح وهو الفلك وخلاص مَنْ
بداخله وهلاك الذي لم يدخل الفلك، وبذلك خَلُصت هذه الثمانية أنفس التي كانت فيه
من الهلاك. ولكن المعمودية الآن وهي مثال الفلك([10])
لا تخلِّص من هلاك الجسد بل تخلِّص من هلاك النفس. ثمَّ يعود ويصف قيمة المعمودية في
المسيح بالماء والروح إذ هي ليست استحماماً عادياً لإزالة وسخ الجسد، بل غسل
النفس من الخطايا وسؤال ضمير صالح عن الله بقيامة المسيح من الأموات.
لأن
المعمودية هي شركة في موت المسيح على الصليب ثمَّ القيامة معه، فشركة الصليب هي
شركة في الدم المسفوك الذي قال عنه ق. بولس: “دم المسيح الذي بروح أزلي قدَّم
نفسه لله بلا عيب يطهِّر ضمائركم من أعمال ميتة” (عب 14: 9). هذا هو” الضمير
الصالح عن الله بقيامة يسوع المسيح”
الذي صالحنا مع الله فأصبح لنا ضمير
قد اغتسل بدم المسيح من كل الخطايا، التي سمَّاها الأعمال الميتة والمؤدِّية إلى
الموت، وقد صار ضميراً مطهَّراً بدم المسيح أي صالحاً.

إلى
هنا نكون قد انتهينا من الرسالة الأُولى للقديس بطرس. والواقع أن رسالته الثانية
لا تخلو من تعبيرات تكشف أنها تعليم لليهود المتنصِّرين، ولكن نكتفي بالرسالة
الأُولى.

 

4-
مدى الإلهام الذي قدَّمه القديس بولس

لخزانة
الكنيسة في عقيدة المعمودية
([11])

كان
الأثر الذي أحدثه انضمام القديس بولس الرسول انضماماً إلهياً حرًّا مثيراً للجماعة
المسيحية الأُولى ذا فاعلية تفوق الحدود والتصوُّر. كما أن التحامه الهادئ غير
المثير في تقليد الكنيسة الأُولى يبدو وكأنه طبيعي لعلو الوسائل التي أدخلته في
عمق الكنيسة، كشاهد مثل باقي الشهود، مع أنه لم ير الرب يسوع المسيح على الأرض قط.
مما يفيد إفادة بالغة أن مقدار انسكاب النعمة والمعرفة والحكمة والرؤية والشهادة
معاً كانت فوق العادة.

ولأول
وهلة أعلن أمانته المطلقة لمضمون إيمان الكنيسة العام: “فإنني سلَّمت إليكم
في الأول ما قبلته أنا أيضاً، أن المسيح مات من أجل خطايانا حسب الكتب. وأنه دُفن
وأنه قام في اليوم الثالث حسب الكتب. وأنه ظهر لصفا ثمَّ للاثني عشر، وبعد ذلك ظهر
دفعة واحدة لأكثر من خمس مئة أخ أكثرهم باقٍ إلى الآن ولكن بعضهم قد رقدوا. وبعد
ذلك ظهر ليعقوب ثمَّ للرسل أجمعين. وآخر الكل كأنه للسقط ظهر لي أنا، لأني أصغر
الرسل، أنا الذي لست أهلاً لأن أُدعى رسولاً، لأني اضطهدت كنيسة الله” (1كو
15: 39)

كما
أن شاول المدعو بولس قد استلم سر العماد كبداية ونهاية لكرازته وختم إيمانه وعلامة
غفران خطاياه: “أيها الأخ شاول أبصر. ففي تلك الساعة نظرت إليه. فقال: إله
آبائنا انتخبك لتعلم مشيئته وتبصر البار وتسمع صوتاً من فمه. لأنك ستكون له شاهداً
لجميع الناس بما رأيت وسمعت. والآن لماذا تتوانى؟ قُم واعتمد واغسل خطاياك داعياً
باسم الرب” (أع 22: 1216)، الأمور التي صارت في صميم لاهوته
وكرازته منذ أول يوم كشاهد وكارز. وكانت المعمودية انفتاحه الأول على الكنيسة
والإيمان والموت والقيامة. وصار مركز لاهوته أن كل تغيير أخلاقي يؤهِّل لدخول
ملكوت الله قائم على اسم الرب يسوع من داخل الثالوث: “وهكذا كان أُناس منكم،
لكن اغتسلتم، بل تقدَّستم، بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا” (1كو 11:
6). حيث بالمعمودية تقوم التوبة ومغفرة الخطايا لا بالماء وحده أو بفعل الغسل، بل
بسلطان موت المسيح وقيامته وقوة روح الله! حيث تقوم هذه المفاعيل كلها كما ذكرها
في شأن العروس الكنيسة أنه أسلم نفسه لأجلها ليقدِّسها بتطهيرها بغسل الماء
بالكلمة، أي باعترافها العلني. وهكذا تصبح المعمودية القائمة على تسليم الرب لنفسه
على الصليب للفرد ولمجموع الأفراد أي للكنيسة هي المدخل المقدَّس للمقدَّسات من
خلال الكلمة، أي الاعتراف بمضمون الكريجما.

وفي
رسالته إلى تيطس جمع التجديد بما حوى من تغيير أخلاقي والمروق إلى حالة الجدة
المطلقة كخليقة جديدة بفعل الروح القدس، بصورة إعجازية يستمدها من الصليب:
“لا بأعمال في برٍّ عملناها نحن، بل بمقتضى رحمته (على الصليب) خلَّصنا بغسل
الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس” (تي 5: 3). على أن الروح القدس لا من
ذاته ولا من دعاء آخرين بل: “سكبه (الله) بغنى علينا بيسوع المسيح
مخلِّصنا” (تي 6: 3)

وهكذا
كان دأب بولس الرسول أن يأخذ التقليد الجاري ويُرجعه إلى أصوله، ويعمِّق مفهومه
اللاهوتي، ليكون الخلاص مفهوماً وممارساً معاً على ضوء نعمة الله المجانية.

وهكذا
دخلت المعمودية في مدرسة ق. بولس الرسول اللاهوتية كفعل تطهير أخلاقي، كما نصَّت
عليه العقيدة الأُولى في الكنيسة، ولكن على أساس “الكلمة” قبولاً واعترافاً
واستجابة لحياة جديدة معطاة بالروح القدس.

أمَّا
أن المعمودية فعل انضمام للكنيسة فقد أوضحها ق. بولس في رسالته إلى أفسس:
“كما أحبَّ المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه لأجلِها، لكي يقدِّسها، مطهِّراً
إِيَّاها بغسلِ الماءِ بالكلمةِ، لكي يُحضِرها
لنفسه كنيسةً (أفراد) مجيدةً، لا دنَسَ فيها.. مقدَّسةً وبلا عيبٍ” (أف 5: 25
27)

وكما
جاء أيضاً في (1كو 13: 12): “لأننا جميعنا بروح واحد أيضاً اعتمدنا إلى جسد
واحد، يهوداً كنا أم يونانيين، عبيداً أم أحراراً، وجميعنا سقينا روحاً
واحداً” هنا الفرد أخذ وجوده في جسم الكنيسة بل وجسد المسيح بالنهاية.

فسواء
كان الجسد أو العروس في المسيح، فالكنيسة تستقبل كل الذين يعتمدون باسم المسيح
للمسيح ليكونوا في المسيح = “لأن كُلَّكُم الذين اعتمدتُم بالمسيح قد لبستُم
المسيح” (غل 27: 3). أي وُجدتم فيه متحدين، لأن غاية ق. بولس اللاهوتية أن
تصير البشرية كلها إنساناً واحداً على قامة ملء المسيح، كنيسة يملأها المسيح.

وهكذا
بقيت المعمودية في فكر القديس بولس الرسول طقساً كنسياً عائلياً بشبه بيت الله،
بحيث أن الذي يُطرد منها لا يكون له عزاء ولا وجود ولا كيان: “ولكن إن كان
أحد قد أحزن فإنه لم يحزنني بل أحزن جميعكم.. مثل هذا يكفيه هذا القصاص الذي من
الأكثرين” (2كو 2: 5و6)، “لأننا
بروح واحد اعتمدنا إلى جسد واحد” فإذا كان الطقس بدون معنى ولا قوة داخلية
فهو لا
شيء.

هكذا
فالتغيير الأخلاقي والتجديد والانفتاح في المعمودية يعتمد أساساً على الروح القدس!
هذا هو أساس فكر بولس الرسول. فالقديس بولس يقول عن المسيح بالنسبة لآدم:
“(صار) آدم الأخير روحاً محيياً” (1كو 45: 15) بمعنى أن كل المسيحيين هم
حاملون الروح القدس: “وأمَّا أنتم فلستم في الجسد بل في الروح إن كان روح
الله ساكناً فيكم. ولكن إن كان أحد ليس فيه روح المسيح فذلك ليس له (أي
المسيح)” (رو 9: 8). لأن ق. بولس بعد خبرة طريق دمشق لم يعد يستطيع أن يفرِّق
بين خبرة الروح وخبرة المسيح. وأصبح عنده اقتران المعمودية بعمل الروح القدس أمراً
حقيقياً لا يمكن التفريط فيه، ومسحة المعمودية هي عمل الله وهي عمل الروح القدس:
“ولكن الذي يثبِّتنا معكم في المسيح وقد مسحنا هو الله. الذي ختمنا أيضاً
وأعطى عربون الروح في قلوبنا” (2كو 1: 21و22). بمعنى أن الأداء الذي تمَّ في
المعمودية هو أداء الله بمسحة الخدمة أو بطابع أو ختم التبعية للأصالة بالروح.
والتجميع لا يفارق ذهن ق. بولس: “لأننا جميعنا بروح واحد أيضاً اعتمدنا إلى
جسد واحد.. وجميعنا سُقينا روحاً واحداً” (1كو 13: 12). لذلك يقول بمعمودية
واحدة وروح واحد ورب واحد. بهذا انجمعت البشرية المشرَّدة المرفوضة تحت الخطية
واللعنة. فالخلاص وإن كان يلزم أن يكون فردياً، لأن الإيمان يلزم أن يكون فردياً،
ولكن غاية الخلاص جماعية، فمن هو خارج الإيمان هو خارج الكنيسة، هو خارج الصليب حيث
لا يخلص أحد. ولكن الصليب والكنيسة وملء المسيح هو للكل في الكل. والمعمودية تعطي
هذا الملمح.

والقديس
بولس يحذِّر أن يفهم أحد أن طقس المعمودية من ذاته يمنح الروح القدس، هذا لا يطيق
تصوُّره، ولكنه ينسب دائماً عطية الروح لله ذاته:

+
“ونحن لم نأخذ روح العالم بل الروح الذي من الله لنعرف الأشياء الموهوبة لنا
من الله” (1كو 12: 2)

 فالمعمودية
هي هبة الله بالروح وليست المعمودية تهب الروح! فالروح هو من الله ومن الله فقط:
“ولكن الذي صنعنا لهذا عينه هو الله الذي أعطانا أيضاً عربون الروح”
(2كو 5: 5)، “فالذي يمنحكم الروح ويعمل قوات فيكم أبأعمال الناموس أم بخبر
الإيمان؟” (غل 5: 3)، “ثم بما أنكم أبناءٌ أرسل الله روح ابنه إلى
قلوبكم صارخاً: يا أبَا الآبُ” (غل 6: 4)

من
هذا نفهم أنه كان يسيطر على فكر ق. بولس اللاهوتي أن الإنسان المسيحي يرتبط
بالمسيح بالإيمان والمعمودية. هنا المشكلة التي يحلها بولس الرسول بتلقائية سهلة
هي علاقة الإيمان بالمعمودية بالنسبة للمسيحي. فالإيمان هو القوة والطاقة الإلهية
في حياة المسيحي، أمَّا المعمودية فيراها مُكمِّلةً دائماً للإيمان ومترافقة معه.

فبالإيمان
والمعمودية يستقي المسيحي من الروح الواحد: “هل قبلتم الروح القدس لمَّا
آمنتم؟” (أع 2: 19) كفعل مرافق. وق. بولس يرى أن المعمودية مربوطة بالروح
القدس بالنتيجة الطبيعية التي تنشأ من عمل الروح في المعمودية، وهي حصول حالة
البنوَّة الروحية لله. وعنده قانون روحي مسيطر على تفكيره أن المنقادين بروح الله
هم أولاد الله، لأن الروح المعطَى في المعمودية هو روح البنوَّة، يشهد للتبني الذي حصلنا عليه كأهل بيت الله، الذي يلهمنا الصلاة
لله كأب: “يا أبا
الآب”

+
“لأن كُلَّ الذين ينقادون بروح الله، فأُولئِكَ هُم أبناءُ اللهِ. إذ لم
تأخذوا روح العبودية أيضاً للخوفِ، بل أخذتم روح التبنِّي الذي به نصرخُ: يا أَبَا
الآبُ!” (رو 8: 14و15)

+
“ثم بما أنكم أبناءٌ أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً: يا أبَا
الآبُ” (غل 6: 4)

والقديس
بولس يقولها صراحة إن بالمعمودية نحن نصير “في المسيح” وإذ نصير في
المسيح نصير أبناء الله، ولأننا نصير أولاد الله يُرسل الله روح ابنه إلى قلوبنا،
وهذا كله يصير لنا بالإيمان: “لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح
يسوع” (غل 26: 3)

+
“إذاً لستَ بعدُ عبداً بل ابناً. وإن كنتَ ابناً فوارثٌ لله بالمسيح”
(غل 7: 4)

ومن
مآثر بولس الرسول في عقيدة الانفتاح الأساسية للروح موضوع “الختم” الروحي فيما يخص
الأخرويات، مترافقاً مع ومقترناً في سياق الخلاص. كما نراه في (أف 30: 4):
“ولا تُحزِنُوا روحَ الله القدوس الذي به خُتِمْتُم ليومِ الفداءِ”
وأيضاً في (أف 13: 1و14): “الذي فيه أيضاً أنتم، إذ سمِعتُم كلمة الحقِّ،
إنجيل خلاصِكُم، الذي فيه أيضاً إذ آمنتم خُتِمتُم بروح الموعد القدوس، الذي هو
عربون ميراثنا، لفداء المقتنى، لمدحِ مجدهِ” وأيضاً في (2كو 22: 1):
“الذي ختمنا أيضاً وأعطى عربون الروح في قلوبنا”

حيث
يُفهم الختم أنه ميثاق للضمان أو عربون ذو مقدرة للميراث القادم مثل: “ولكن أساس
الله الراسخ قد ثبت إذ له هذا الختم” (2تي 19: 2)، أو مثل: “لا تضروا
الأرض ولا البحر ولا الأشجار حتى نختم عبيد إلهنا على جباههم” (رؤ 3: 7).
وكأنه صك إلهي للحماية والعناية: “وقيل له أن لا يضر عشب الأرض ولا شيئاً
أخضر ولا شجرة ما إلاَّ الناس فقط، الذين ليس لهم ختم الله على جباههم” (رؤ
4: 9). وهنا غياب الختم معناه فقدان الحماية والرعاية والوقوع تحت الغضب المريع.
هكذا كان الختم معروفاً في الكنيسة وأعطاه ق. بولس تقييمه الروحي الأخروي مع
الخلاص ويوم الفداء.

 

5-
التعليم عن المعمودية في رسائل بولس الرسول

+ “جسدٌ واحِدٌ، وروحٌ واحِدٌ، كما دعيتم أيضاً في
رجاءِ دعوتكم الواحد. ربٌّ واحِدٌ، إيمانٌ واحِدٌ، معموديةٌ واحِدةٌ، إلهٌ وآبٌ
واحِدٌ للكلِّ، الذي على الكل وبالكل وفي كلكم” (أف 4: 46)

الآيات
الواضحة عن المعمودية في رسائل بولس الرسول- بالرغم من أنها مملوءة نفائس-إلاَّ
أنها قليلة في العدد. وهذا لا يثير عجبنا إذا التفتنا إلى الغاية التي من أجلها
كُتبت هذه الرسائل.

والمعروف
عن بولس الرسول أن أهمية العقائد عنده لا تُقاس بعدد المرَّات التي يذكرها،
فالمعمودية عقيدة أساسية عنده على الرغم من أنه قليلاً ما يذكرها. وربما كان لقوله
إن الله قد أرسله ليُبشِّر وليس ليُعمِّد دخل في هذا الأمر. إنها حقيقة معروفة أن
ق. بولس في الرسائل حتى الكبرى منها والأساسية لا يُقدِّم تعليماً منهجياً للاهوت
المسيحي، حتى في رسالتَيْ رومية أو أفسس.

فبينما
نجد أن التوبة والمعمودية يردان بكثرة في تعاليم الأناجيل المتناظرة وفي سفر
الأعمال، ولكن لأن الذين كان يخاطبهم بولس الرسول كانوا قد أكملوا توبتهم
ومعموديتهم، لذلك نجده نادراً جدًّا ما يذكر لهم التوبة (ذكر اسم التوبة 3 مرات
والفعل مرَّة واحدة فقط). وبالمقارنة بذلك يكون ذكره للمعمودية ليس بقليل إذ أنه
ذكر اسم المعمودية 3 مرَّات وأمَّا الفعل “يُعمِّد” فقد ذكره أكثر من 13 مرَّة!

وعند
القديس بولس تأخذ المعمودية عملاً له أهمية تاريخية في حياة الإنسان، فهو كثيراً
ما يرجع بالمؤمنين إلى زمن معموديتهم وكيفية التحامهم واتحادهم في جسد المسيح.

ولكي
نسهِّل البحث في الموضوع نُقسِّم المعمودية عند ق. بولس إلى ثلاثة أقسام:

(أ)
أربعة نصوص ذكر فيها المعمودية في الرسالة الأُولى لأهل كورنثوس.

(ب)
ثلاثة نصوص من الرسائل الأخرى وفيها تعرَّض لمعنى المعمودية بأكثر تفصيل.

(ج)
نصَّان في الرسالة إلى أفسس.

(د)
ثلاثة نصوص أخرى استخدم فيها الفعل يختم
sfrag…zomai مشيراً به إلى المعمودية.

 

(أ)
التعاليم الواردة في الرسالة الأُولى إلى أهل كورنثوس عن المعمودية:

(1كو
1: 1317):

+
“هل انقسم المسيح؟ ألعلَّ بولس صُلب لأجلكم، أم باسم بولس اعتمدتم؟ أشكر الله
أني لم أُعمِّد أحداً منكم إلاَّ كريسبس وغايس، حتى لا يقول أحدٌ إني عمَّدت
باسمي. وعمَّدت أيضاً بيت استفانوس. عدا ذلك لست أعلم هل عمَّدتُ أحداً آخر، لأن
المسيح لم يُرسلني لأُعمِّد بل لأُبشِّر، لا بحكمة كلام لئلاَّ يتعطَّل صليب
المسيح”

القديس
بولس الرسول كان قد عَلِمَ بأن هناك مشاجرة في كنيسة كورنثوس بين قادة مسيحيين
انقسموا، بعضهم تشايع لبولس والآخر تشايع لأبُولُّس وآخرون إلى كيفا أي بطرس. لهذا
خصَّص بولس الرسول الجزء الأول من رسالته لفض هذه المشاجرة. ولكنه أثار موضوعاً
هاماً يخصنا جدًّا وهو كيف يتشايعون لاسمه؟ هل صُلب بولس من أجلهم حتى يستخدموا
اسمه وكأنهم اعتمدوا لاسم بولس وليس لاسم المسيح؟ هنا يثير ق. بولس اختراع صلة
الذين يعتمدون بالذي يُعمِّدهم، كما ذكر العالِم موفات([12])
أن في بعض طقوس غير المسيحيين يُكرِّم المعتمد الذي عمَّده كأب.

هذا
مما أرعب بولس الرسول أن ينحرف أهل كورنثوس في تعليم المعمودية وفي أخطر عناصرها،
وهو أن المعمودية هي باسم يسوع المسيح، هذا جعل ق. بولس يصرخ: “المسيح لم
يرسلني لأُعمِّد بل لأبشِّر بالإنجيل” فعمله هو الإنجيل أساساً كرسول.
والتركيز هنا على أن المسيحية قائمة على اسم المسيح وليس اسم آخر.. به ينبغي أن نخلص
(أع 12: 4)، والمعمودية لا تصح ولا تجوز إلاَّ إذا كانت بدعاء اسم يسوع المسيح.

وفي
الحال الحادث هنا لمَّا انقسم القوم بين المتشيعين لبولس ولأبُولُّس ولصفا صارت
هذه الأسماء طاغية على العبادة والطقس.

(1كو
6: 911):

بولس
الرسول يذكر هنا العماد باسم الثالوث الأقدس:

+
“أم لستم تعلمون أن الظالمين لا يرثون ملكوت الله: لا تضلوا، لا زناة ولا
عبدة أوثان ولا فاسقون ولا مأبونون ولا مضاجعو ذكور ولا سارقون ولا طمَّاعون ولا
سكِّيرون ولا شتَّامون ولا خطَّافون يرثون ملكوت الله. وهكذا كان أُناس منكم؛ لكن
اغتسلتم بل تقدَّستم بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا”

هذا
موضع من المواضع التي بلغ فيها بولس الرسول الحسم القاطع بين أخلاق الحياة القديمة
والحياة الجديدة. وهو هنا يضغط بشدَّة لدعوى أخلاقية مذكِّراً القرَّاء أن الإنسان
المسيحي إنسان قد تعمَّد!! ويذكر هنا مجموعة من القبائح والشذوذ التي كان يمارسها
غير المسيحيين والتي كان يُقشعرّ منها حتى في عين الوثنيين، والتي كان يمارسها
بعضهم. ولكن الآن كل هذا انتهى، فالأمور تغيَّرت جدًّا حينما صاروا مسيحيين:

(أ)
لقد اغتسلتم
¢peloÚsasqe: وذلك بمياه المعمودية. وهي تعني الاغتسال من الخطية.

(ب)
بل تقدَّستم: أي تكرَّستم لخدمة الله، إذ قد صاروا أبراراً في عين الله. بمعنى أن
المسيحي الذي يعيش عيشة لا أخلاقية فهو ينكر معموديته.

وملاحظتنا
على هذا المثل هي:

1-
أنه يذكر العماد باسم الرب يسوع، ويذكر روح إلهنا باهتمام كأحد مفاعيل المعمودية
والغسيل والتقديس والتبرير.

2-
يربط المعمودية بالتبرير والتقديس (ع 11) وهما من مدركات ق. بولس العظمى عن
عمل الصليب.

3-
يذكر ميراث الملكوت (ع 10).

4-
يذكر أن الله قد أقام الرب وسيقيمنا نحن أيضاً بقوته (ع 14).

ق.
بولس يقدِّم اعترافاً للمعمودية باسم الثالوث مبكِّراً جداً:


اغتسلتم
بل تقدَّستم بل تبرَّرتم باسم الرب يسوع وبروح إلهنا” (1كو 11: 6)

هنا
ثلاثة مفاعيل:

اغتسل،
تقدَّس، تبرَّر

لثلاثة
أسماء:

باسم
الرب يسوع، وروح، إلهنا.

الاغتسال
بالإيمان باسم الرب يسوع.

التقديس
في الروح القدس.

التبرير
أمام الله الآب.

وقد
علَّق عليها ثيؤدوريت بقوله([13]):

tÍ g¦r ™pikl”sei tÁj ¡g…aj
Tri£doj ¡gi£zetai tîn Ød£twn ¹ fàsij kaˆ corhge‹tai tîn
¡marthm£twn ¹ ¥fesij
.

وترجمتها:

[لأنه باستدعاء الثالوث الأقدس، تتقدَّس طبيعة المياه،
وتُمنح مغفرة الخطايا].

(1كو
10: 14):

+
“فإني لست أريد أيها الإخوة أن تجهلوا أن آباءنا جميعهم كانوا تحت السحابة،
وجميعهم اجتازوا في البحر، وجميعهم اعتمدوا لموسى في السحابة وفي البحر، وجميعهم
أكلوا طعاماً واحداً روحياً، وجميعهم شربوا شراباً واحداً روحياً، لأنهم كانوا
يشربون من صخرة روحية تابعتهم، والصخرة كانت المسيح”

هنا
ق. بولس يمزج خبرة شعب إسرائيل القديم بشعب المسيح الجديد، والاثنان طبعاً هما شعب
الله. فكما أن المسيحيين يعتمدون في المسيح، هكذا الآباء الأول القدامى اعتمدوا
لموسى. وكما أن المسيحيين يشتركون في طعام وشراب على مائدة الرب في عشاء الرب بعد
المعمودية، كذلك آباء إسرائيل أكلوا طعاماً وشراباً روحياً.

ولكن
النتيجة أن بأكثرهم لم يُسرّ الله وهلكوا في القفر!!

هنا يستخدم ق. بولس هذا المثل وهذه الخبرة المؤلمة لتحذير
شعب المسيح، إسرائيل الجديد!
فطقوسهم لا تسعفهم أو تخلِّصهم من الهلاك.
فالأسرار
Sacraments ليست حماية لحياة منحلة آثمة، ولكن
فقط إذا مورست بروح الله، فروح الله وحده هو الذي يحفظهم ويحميهم ويقودهم في
الطريق
الصحيح.

(1كو
12: 12و13):

+
“لأنه كما أن الجسد هو واحد وله أعضاء كثيرة وكل أعضاء الجسد الوحد إذا كانت
كثيرة هي جسد واحد، كذلك المسيح أيضاً. لأننا جميعنا بروح واحد أيضاً اعتمدنا إلى
جسد واحد، يهوداً كنَّا أم يونانيين، عبيداً أم أحراراً، وجميعنا سقينا روحاً
واحداً”

هنا
يذكر بولس الرسول في معرض ذكره للمعمودية عطايا روحية كمواهب التكلُّم
بألسنة أو النبوَّة أو الشفاء، مما جعل بعض الأعضاء يتكبَّرون. هنا بدأ يمثِّل
الكنيسة بجسد له أعضاء كثيرة ولكن الجسد واحد، لأنهم حينما اعتمدوا اتحدوا في جسد
المسيح أي الكنيسة. هذا هو المعنى الحقيقي للمعمودية وهو من عمل الروح، ثمَّ قدَّم
تعبيراً جديداً عن استقبال المعمودية في كياننا بأننا “سُقينا روحاً واحداً”
بمعنى أنهم لمَّا اعتمدوا وانضموا إلى الكنيسة، وكان هذا هو انضمامهم الحقيقي لجسد المسيح كأعضاء بالمعمودية، كانت هذه
العمليات الأولية كلها بفاعلية الروح الواحد.

والملاحظات
الهامة في هذا المثل:

1-
أن المسيحيين يعتمدون” إلى جسد واحد”: هذا الاصطلاح وبمقتضى ما
قاله في (عدد 12)، فالقديس بولس يعني في المسيح كما جاءت في (غل 27: 3، رو
3: 6).

2-
يقدِّم لنا المعمودية كسرِّ الوحدة: أي المعمودية هي الرمز أو المعيار
الفعَّال الذي يجمع كل المسيحيين إلى واحد في
المسيح. حيث تتلاشى كل المفارقات العنصرية والجنسية
والاجتماعية.

3-
ونلاحظ أن من بين المواهب الروحية المذكورة في عدد (9): الإيمان.

(ب)
التعاليم الواردة في الرسائل الأخرى:

(غل
3: 2629):

+
“لأنكم جميعاً أبناء الله بالإيمان بالمسيح يسوع. لأن كلكم الذين اعتمدتم
بالمسيح (أو في المسيح
e„j
CristÒn
)
قد لبستم المسيح. ليس يهودي ولا يوناني، ليس عبد ولا حر، ليس ذكر وأنثى. لأنكم
جميعاً واحد في المسيح يسوع. فإن كنتم للمسيح فأنتم إذاً نسل إبراهيم وحسب الموعد
ورثة

1-
يضع ق. بولس هنا اصطلاحين في المعمودية في غاية الأهمية والعمق:

الأول:
في المسيح
e„j CristÒn: حينما يخلعون ثيابهم
ويدخلون الماء عرايا يعتمدون في المسيح فيصيرون تبع المسيح.

الثاني: يلبسون المسيح: حينما
يخرجون من الماء يلبسون ثياباً جديدة بيضاء، هذا بمعنى أنهم يلبسون المسيح.

2-
يعطي ق. بولس هبة جديدة للمعمودية من خلال الإيمان: “لأنكم جميعاً أبناء الله
بالإيمان بالمسيح يسوع” هذه البنوَّة تبدأ بإعلان الآب من السماء لما انشقَّت
السماء بعد خروج المسيح من الماء والإعلان عن البنوَّة الفائقة للمسيح، ثمَّ
تسحَّبت على المعمَّدين باسم يسوع المسيح إذ
ينالون بالمثل، ولكن بالتبنِّي([14])
حالة بنوَّة لله إذ قبلوا المسيح بالإيمان
واعتمدوا له. ولأن الحياة الجديدة في المسيح هي حياة حرَّة
وهي عكس حياة عبد، فهي حياة ابن:

+
“ولكن لمَّا جاء ملءُ الزمان، أرسلَ الله ابنه مولوداً من امرأةٍ، مولوداً
تحت الناموسِ، ليفتدي الذين تحت الناموس، لننال التبني. ثم بما أنكم
أبناءٌ
أرسل الله روح ابنه إلى قلوبكم صارخاً: يا أبَا الآبُ. إذاً
لستَ بعدُ عبداً بل ابناً. وإن كنتَ ابناً فوارثٌ لله بالمسيح”
(غل 4: 47)

3-
هنا إرسال الله روح ابنه إلى قلوبنا هو عمل الآب في المعمودية، إذ يعطينا التبني
على مثال ما أعلنه عن ابنه في المعمودية مثالاً لنا.

4-
يكشف لنا ق. بولس عن عطية جديدة مخفية في المعمودية، لأنه إن كنَّا في المعمودية
نعتمد في المسيح ونصير أعضاءً في جسده، فقد صرنا بالتالي أبناءً معه وورثة،
ورثة حسب الموعد لإبراهيم، وورثة بحسب التبني لله بآن. هنا تُحسب المعمودية سرًّا
أخروياً بمعنى تحقيق ما هو آت،
بميراث الحياة الأبدية. فالمعمودية باب
التبنِّي والميراث. وقوله: “لبستم المسيح” بهذا الفعل السرِّي أي دخلنا في عمق
حياة المسيح وأخذنا مخصَّصاته، يحتِّم أن نكون أبناءً وورثة معه، وأن نقبل الروح
العامل في قلبه للشهادة بأبوة الله “يا أبا الآب”، فهي حياة بنويَّة تحت رضا الآب.

(رو
6: 18):

+
“فماذا نقول؟ أنبقَى في الخطية لكي تكثر النعمة؟ حاشا! نحن الذين مُتنا عن
الخطية، كيف نعيش بعد فيها؟ أم تجهلون أننا كل مَنِ اعتمد ليسوع المسيح اعتمدنا
لموته، فدُفِنَّا معه بالمعمودية للموت، حتى كما أُقيم المسيح من الأموات، بمجد
الآب، هكذا نسلك نحن أيضاً في جدَّة الحياة. لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه
موته، نصير أيضاً بقيامته. عالمين هذا: أن إنساننا العتيق قد صُلب معه ليُبطَلَ
جسد الخطية، كي لا نعود نُستعبد أيضاً للخطية. لأن الذي مات قد تبرَّأَ من الخطية.
فإن كنا قد متنا مع المسيح، نؤمن أننا سنحيا أيضاً معه”

هنا
يضغط بولس الرسول على الحياة الجديدة في المسيحية من زاوية جديدة. فهو يركِّز
بوضوح على لحظة المعمودية باعتبارها تجمع كل ما تعنيه المسيحية، وكما ركَّز في
رسالته إلى غلاطية (26: 329) على أنَّ من يعتمد يلبس المسيح، بلبسه
الجديد بعد خروجه من الماء، هكذا يركِّز هنا على
لحظة الانغمار تحت الماء أنها لحظة موت حقيقي بل ودفن (ثلاثة أيام بثلاث مرَّات مع
المسيح).

فالمسيحي
في لحظة العماد والانغمار تحت الماء يمارس بالإيمان حالة شركة حقيقية في موت
المسيح. ولكن المسيح مات من أجل الخطية ليدوسها ويميتها بموته، هكذا نحن لمَّا
متنا معه متنا بسبب الخطية كعقوبة قديمة حلَّت بآدم وذريَّته، وبالتالي متنا عن
الخطية ومات الجسد العتيق تماماً كما مات المسيح ودفن في القبر ثلاثة أيام. هنا
المعمودية تشمل حالة موت
¢peq£nomen، فكيف نعيش بعد في الخطية.

وبولس
الرسول يستخدم هذه الحقيقة ردًّا على بدعة سرت في رومية يرد عليها في الأصحاح
الخامس دون أن يُعلن مضمونها: أنه إن كنَّا قد حصلنا على نعمة، والنعمة شيء عظيم
فلا تحسب معها الخطية بعد، بمعنى خاطئ: أن نبقى في الخطية. فردَّ عليهم: فماذا
نقول؟ أنبقى في الخطية لكي تكثر النعمة؟ أم تجهلون أننا كل مَن اعتمد ليسوع المسيح
اعتمدنا لموته.. كما جاء عاليه.

هنا
يعطينا ق. بولس معياراً جديداً أو قياساً جديداً نقيس به المعمودية، وهو التطبيق
العملي لِما تمَّ للرب يسوع على الصليب وفي القبر. فإذا نحن آمنا تماماً أننا متنا
مع المسيح ودفنا معه، لأن المسيح يحملنا في جسده وقد حمل خطايانا في جسده على
الخشبة ومات فمتنا معه، فبهذا الإيمان نحن ننزل إلى ماء المعمودية ونُدفن فيه
تحقيقاً سريًّا واعترافاً إيمانياً لما تمَّ بالفعل على الصليب وفي القبر. لذلك
حُسبت المعمودية: أننا” اعتمدنا في المسيح”، و«اعتمدنا لموته”،
و«دُفنَّا معه”، و«قمنا معه”
كما أُقيم المسيح من الأموات بمجد الآب” وبناء على ذلك نسلك نحن أيضاً
كبني قيامة في جدَّة الحياة.

لأنه
بحسب محاجاة ق. بولس: “لأنه إن كنا قد صرنا متحدين معه بشبه (مثال) موته،
نصير أيضاً بقيامته” وحجة ق. بولس في هذا أنه بموت المسيح أمات الخطية
وأبطلها بقيامته ونحن فيه، في موته وقيامته. إذن، فنحن أيضاً قد متنا عن الخطية
وأبطلناها بحياتنا الجديدة معه! بهذا أصبح القول بإمكانية الخطية في الحياة
الجديدة باطلاً ومنافياً لواقع الإيمان والمعمودية التي نلنا فيها الحياة الجديدة.

وحجَّته
الختامية في هذا: “أن الذي مات قد تبرَّأ من الخطية” بمعنى أنه بموته
بالإيمان وبالمعمودية مع المسيح يكون قد دفع ثمن العقوبة القديمة، ويكون قد تبرَّأ
أو صار بريئاً من دينونتها وفعلها.

ثمَّ
يستطرد ق. بولس بعد ذلك في نفس الأصحاح ويقول: “فإن كنا قد متنا مع المسيح نؤمن
(بفاعلية سر المعمودية أيضاً) أننا سنحيا أيضاً معه، عالمين أن المسيح بعدما
أُقيم من الأموات لا يموت أيضاً” (رو 6: 8و9). بمعنى أنه يستحيل أن يحمل
الخطية مجدَّداً ليموت بها! ويشرح ذلك أيضاً: “لأن الموت الذي ماته قد ماته
للخطية مرَّة واحدة (الصليب) والحياة التي يحياها فيحياها لله” (رو
10: 6). بمعنى أننا نحيا الآن مع المسيح لله وليس للخطية.

وفي
موضع آخر في رسالة غلاطية (5: 24و25) يقول ق. بولس: “ولكن الذين هم للمسيح قد
صلبوا الجسد مع الأهواءِ والشهواتِ. إن كنَّا نعيش بالروح، فلنسلك أيضاً بحسب
الروح” وإن كان هذا النص لا يخص المعمودية ولكنه ينطبق على ما يقوله هنا في
رسالة رومية في أمر المعمودية أننا متنا معه والآن نحيا معه بحياته!!

فقول
ق. بولس في (غل 24: 5): ” الذين هم للمسيح” هو قائم على خلفية
قوله: ” إننا كل مَن اعتمد ليسوع المسيح” (رو 3: 6)، وأيضاً قوله:
“لأن كلكم الذين اعتمدتم بالمسيح قد لبستم المسيح” (غل 27: 3). فخلفية
ق. بولس حينما يتكلَّم عن علاقتنا بالمسيح هي خلفية المعمودية.

(كو
2: 913)

+
“فإنه فيه يحل كل ملء اللاهوت جسديًّا. وأنتم مملوؤون فيه، الذي هو رأس كل
رياسةٍ وسلطانٍ. وبه أيضاً ختنتم ختاناً غير مصنوع بيدٍ، بخلع جسم خطايا البشرية،
بختان المسيح. مدفونين معه في المعمودية، التي فيها أُقمتم أيضاً معه بإيمان عمل
الله، الذي أقامه من الأموات. وإذ كنتم
أمواتاً في الخطايا وغلف جسدكم، أحياكم معه، مسامحاً لكم بجميع

الخطايا”

وأيضاً
في هذا النص نجد الرباط يمتد بين المعمودية والحياة الجديدة للمسيحي. ففكر ق. بولس
هنا يتماشى مع فكره الذي رأيناه في (رو 1: 68)، حيث كان ق. بولس
يقدِّم المعمودية المسيحية على أنها إعادة درامية فعلية لموت ودفن وقيامة المسيح.
كذلك فكره هنا، حيث النتيجة العملية هي أن الله الذي أقام يسوع قادرٌ أن يقيمنا
معه نحن الذين اعتمدنا في المسيح، ويعطينا القوة لنحيا حياة جديدة ذات أخلاق
جديدة. هذه الحياة الجديدة ذات الأخلاق الجديدة التي للمؤمنين هي كامتداد لحياة
المسيح الفادي القائم من الأموات.

ولكن
هنا في رسالته إلى كولوسي ينبِّه ق. بولس ذهننا إلى ناحية أخرى وهي أن المعمودية
تُحسب بمثابة ختانة اليهود، حيث كانت الختانة تعني ليس أكثر من إشارة مسبقة
للمعمودية في العهد الجديد. حيث كانت الختانة هي قطع الجزء المنجس من الجسد،
والمعمودية قطع أو موت الإنسان العتيق الفاسد. وقد أخذ إبراهيم الختان كعلامة للإيمان
الذي آمن به بالله وكهبة له للتبرير المجاني.
وهكذا نأخذ المعمودية في المسيح هبة التبرير المجَّاني نتيجة أو مجازاة
للإيمان
الذي آمنا به بالمسيح.

وقبل
الختان كان إبراهيم إنساناً عادياً، وبعد الختان صار باراً مؤمناً بالله بختم.
وهكذا قبل المعمودية كان المسيحي رجلاً خاطئاً غير بار، وبعد المعمودية صار باراً
بلا خطية. إبراهيم لم يعمل أي عمل، ولكنه آمن فتبرَّر وأخذ الختان علامة برِّ،
والإنسان المسيحي لم يعمل أي عمل بل كان في الخطية، ولكنه آمن فتبرَّر وأخذ
المعمودية ختم إيمان وبر.

ولكن
العنصر المهم في المعمودية هو “الموت”، موت الإنسان العتيق الذي يتساوى مع الختان.
وقول بولس الرسول هنا: “وبه أيضاً ختنتم ختاناً غير مصنوع بيد بخلع جسم خطايا
البشرية بختان المسيح” هنا عبَّر عن موت المعمودية الذي هو المثيل المتحد
بموت المسيح بختان غير مصنوع باليد، حيث خلعنا الإنسان العتيق مع خلع المسيح جسد
خطايا البشرية مع الصليب، الذي نرمز إليه بخلع الملابس عند النزول إلى المعمودية.

أمَّا
ما هي ختانة المسيح؟ فهي موت الجسد الحامل للخطايا بالصليب والدفن وقيامة
المسيح كإسرائيل الجديد مبرَّراً.

§ ويضيف بولس الرسول معلومة جديدة أن الإيمان بعمل الله سواء في موت
المسيح أو قيامته هو العامل الأساسي في إماتتنا نحن أيضاً مع المسيح وإقامتنا معه
(12).

§ كما يضيف بولس الرسول أن الآب أحيانا مع المسيح بعد أن كنا
معتبرين أمواتاً بالخطايا ونجاسات الجسد (13).

§ كما يضيف العامل الأول والأساسي في نوال بر الله وهو
“مسامحاً لكم بجميع الخطايا” على أساس صليب ابنه: “هكذا أحبَّ الله
العالم حتى بذلك ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل مَنْ يؤمن به بل تكون له الحياة
الأبدية” (يو 16: 3)

+
وهكذا حُسبت المعمودية عملية موازية للصليب والقيامة، وتضمَّنت مسامحة الله لنا
من جميع الخطايا =” إذ محا الصك الذي علينا في الفرائض الذي كان ضدًّا لنا،
وقد رفعه من الوسط مسمِّراً إيَّاه بالصليب”
(كو 14: 2). فكما
سمَّرت الخطية يدي المسيح ورجليه على الصليب،
هكذا سمَّر الله سجل خطايانا
كله ومحاه على الصليب. فالخطية أماتت المسيح على الصليب، ولكن على نفس الصليب أمات
المسيح الخطية وأنهى على سلطانها.

 

(ج)
التعاليم الواردة في رسالة أفسس:

(أف
4: 46)

+
جسدٌ واحِدٌ، وروحٌ واحِدٌ، كما دعيتم أيضاً في رجاءِ دعوتكم الواحد.
ربٌّ واحِدٌ، إيمانٌ واحِدٌ، معموديةٌ واحِدةٌ، إلهٌ وآبٌ واحِدٌ للكلِّ،
الذي على الكل وبالكل وفي كلكم” أولاً: أن يضع ق. بولس المعمودية
الواحدة مع الإيمان والله الآب الواحد كتفاً بكتف شيء مذهل للعقل، يجعل الإنسان
يفكر مائة مرَّة في قيمة المعمودية عند ق. بولس أولاً، ثمَّ قيمة المعمودية ماذا
تكون عندنا.

ثانياً:
والذي
يثير العجب في هذا النص الفريد أنه لا يحوي الإفخارستيا، مع أن ق. بولس يقول في
رسالة كورنثوس: “فإننا نحن الكثيرين خبز واحد جسدٌ واحد، لأننا جميعاً نشترك
في الخبز الواحد” (1كو 17: 10). هكذا كنا نظن أنه يورد هذا هنا في هذا النص!

لم
يورد نص (1كو 17: 10) هنا في (أف 4: 46) يجعلنا أكثر تأثراً.

لهذا
إذا أخذنا نص
(أف 4: 46) بجزئياته نجد أنه لا يوجد
أي نص آخر للمعمودية له مثل هذه القوة والبلاغة والاختصار في وصف وتقييم المعمودية
ومعناها وهيبتها في العهد الجديد، بل وفي كل القرن الأول المسيحي.

فإذا
بحثنا في ما كان السبب في إيراد هذا النص لهذه الجماعة، نجده أنه جاء كتعقيب
لدعوته لهم: “أن تسلكوا كما يحق للدعوة التي دعيتم بها”

فضخامة
النص الذي رفع من شأن المعمودية الواحدة هو ليقنع أهل أفسس بمدى خطورة وأهمية
السلوك الذي يحق لهذه الدعوة أي المعمودية.

(أف
25: 527)

+
“أيها الرجال، أحبُّوا نساءَكُم كما أحبَّ المسيح أيضاً الكنيسة وأسلم نفسه
لأجلِها، لكي يقدِّسها، مطهِّراً إِيَّاها بغسلِ الماءِ بالكلمةِ، لكي يُحضِرها
لنفسه كنيسةً مجيدةً، لا دنَسَ فيها ولا غضنَ أو شيءٌ من مثل ذلك، بل تكون
مقدَّسةً وبلا عيبٍ”

القديس
بولس أراد أن يصوِّر محبة المسيح للكنيسة (التي هي جسده) بمحبة الرجل لامرأته!
لماذا؟ لأن المرأة أصلاً غريبة عن الرجل، فالحب الذي طرأ عليهما هو بالرغم من عدم
وجود علاقة سابقة، هذا الحب ظهر إلى الوجود بسبب رغبة الرجل للارتباط بالمرأة
وإنجاب البنين منها، هذه هي علة حب الرجل للمرأة. ق. بولس يرى أن هذه العلَّة
واردة بين المسيح والكنيسة، فالمسيح إله ولكنه تنازل وأخذ جنس المرأة (الكنيسة)
وصار إنساناً ليناسبها، ثمَّ وجد أنه لكي يحبّها حبًّا صادقاً يؤدِّي فعلاً إلى
وحدة واتحاد، التزم التزاماً أن يموت على الصليب من أجلها، وجرى دمه على الصليب
وعلى جسده الذي احتوى البشرية، جسده الذي تجسَّد به والكنيسة منه وفيه، فقدَّس
الجسد أي قدَّس الكنيسة. ووضع لها سر
المعمودية بالماء والكلمة ليطهِّرها من كل دنس لتكون مقدَّسة وبلا
عيب!

ونلاحظ
ما يلي:

1-
أن ق. بولس قد أورد اصطلاحين: “أحب
ºg£phsen”،
والاصطلاح الآخر: “أسلم
paršdwken”. فبالبحث عن هذين الاصطلاحين في أقوال ق. بولس وجدناهما يعبِّران
عن محبة الله للقديس بولس نفسه:

+
“مع المسيح صُلِبتُ، فأحيا لا أنا، بل المسيح يحيا فيَّ. فما أحياهُ الآن في
الجسد، فإنما أحياه في الإيمان، إيمان ابن الله، الذي أحبني وأَسلَمَ نفسه لأجلي”
(غل 20: 2)

فالقديس بولس دون أن يدري سابقاً أعطى نفسه مثالاً فردياً
لما عمله المسيح في الكنيسة
ككل. ولكن أضاف في حب المسيح للكنيسة أنه أسلم
نفسه لأجلها “لكي يقدِّسها مطهِّراً إيَّاها بغسل الماء بالكلمة”

2-
والمعنى في ذلك عميق وسامٍ سمو السماء، إذ أن هذا يعني أن المسيح لكي يدشِّن حبه
الإلهي للكنيسة ويوثِّقه دشَّنه ووثَّقه بدم العهد!! وهذا منتهى التقديس الذي جعله
في متناول يدها بالمعمودية التي عبَّر المسيح عنها سابقاً تعبيراً مأساوياً هكذا:

+
“ولي صبغة (أي معمودية) أصطبغها وكيف أنحصر حتى تُكمل” (لو 50: 12)

وهنا
حسناً أعطانا المترجم اسماً آخر للمعمودية وهو الصبغة والاصطباغ، فجعلت المعنى
أقرب وأقوى، وأظهر فيها الدراما أي المأساة، إذ أن الصبغة تفيد هنا الدم كما تفيد
المعمودية. فالمسيح عَبَرَ معمودية الصليب للموت فاصطبغ الجسد بالدم وقدَّسه
تقديساً- وأسكن روحه فيه- إعداداً للموت وللنزول إلى القبر، تمكيناً للجسد
(الكنيسة) الذي فيه روح الرب من القيامة بقيامته! جسداً روحانياً جديداً خليقة
جديدة مبرَّرة ببر المسيح!

3-
نستفيد من هذا أن تسليم المسيح نفسه هو الذي أعطى المعمودية فعلها المؤثِّر
الإلهي.

4- هذا يفيد إفادة قاطعة أن أي إنسان مسيحي قد تعمَّد
صحيحاً يكون وراءه موت المسيح.

5- كذلك فإن وراء كل معمودية إنسان مسيحي حُب المسيح
الذي ألزمه بتسليم نفسه
بالآلام.

6-
هذا أوجب للمعمودية أن تكون سرًّا
sacrament رهيباً.

7-
وهذا هو الذي أوجب على ق. بولس أن يقول: “إننا كل مَنْ اعتمد ليسوع المسيح
اعتمدنا لموته” (رو 3: 6). وأيضاً: “مدفونين معه في المعمودية التي فيها
أُقمتم أيضاً معه” (كو 12: 2).

8-
هنا أيضاً أعطى ق. بولس للمعمودية سمة إلهية لا تُمحى، ورفع من سر الماء فيها
بقوله: “لكي يقدِّسها مطهِّراً إيَّاها بغسل “الماء بالكلمة”
فالتطهير الذي يفعله ماء المعمودية يرجع أصلاً للكلمة الفاعل فيه
وهو النطق الإلهي، الذي هو هو قوة الإيمان.

9-
وكنتيجة لحبه وتسليم نفسه للصليب بإرادته من أجلها، الذي أنشأ تقديساً لها، ثمَّ
تطهيرها بغسل الماء بالكلمة، فإنه في النهاية يحضرها لنفسه كنيسة مجيدة
œndoxon، بهذا يكون
قد أعطى للمعمودية بعداً أخروياً سيظهر في المجد.

10-
وبالنهاية لكي تكون بلا عيب، حيث الكلمة بلا عيب
¥mwmoj
أو بلا لوم تعني بلوغها منتهى الاستحقاق أن تتقدَّم للوقوف أمام الله، كما جاء في
رسالة أفسس (4: 1):

+
“كما اختارنا فيه قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم
¢mèmouj قدامه في المحبة”

وكما
جاءت أيضاً في الرسالة إلى كولوسي (1: 21و22):

+
“قد صالحكم الآن في جسم بشريته بالموت، ليحضركم قديسين وبلا لوم
ولا شكوى أمامه”

(د)
النصوص التي تحتوي على الفعل “يختم”:

(2كو
1: 21و22):

+
“ولكن الذي يثبِّتنا معكم في المسيح وقد مسحنا هو الله. الذي ختمنا
أيضاً وأعطى عربون الروح في قلوبنا”

(أف
13: 1و14):

+
“الذي فيه أيضاً أنتم، إذ سمِعتُم كلمة الحقِّ، إنجيل خلاصِكُم، الذي فيه
أيضاً إذ آمنتم خُتِمتُم بروح الموعد القدوس، الذي هو عربون ميراثنا، لفداء
المقتنى، لمدحِ مجدهِ”

(أف
30: 4):

+
“ولا تُحزِنُوا روحَ الله القدوس الذي به خُتِمْتُم ليومِ
الفداءِ”

في
هذه التسجيلات توجد كلمة مشتركة وهي الفعل خَتَمَ
sfrag…zomai ويقصد به بولس الرسول
الختم الذي يناله المعمَّد باعتباره صار من رعية المسيح.

وقد
ذكرها هرماس (الراعي)
Sim., IX,
vvi
، كما ذُكرت أيضاً في
الرسالة الثانية المنسوبة لكليمندس الروماني
2 Clem. 7.6; 8.6– وقد استخدمها بولس الرسول في الرسالة إلى أهل رومية (11: 4)
للتعبير عن الختانة، باعتبار أن الختان هو ختم الإيمان عند إبراهيم. والكلمة
متداولة في الكنيسة من القرن الثاني ومنذ ذلك التاريخ وهي تستعمل كرمز للمعمودية.
ولكن بتاريخ سابق كانت تُستخدم للتعبير عن الختان، وانتقلت من التراث اليهودي إلى
المسيحية الأُولى. والقديس بولس استخدمها لقربها من اصطلاح الختانة كختم الله، مما
دعاه أن يعتبر المعمودية كنوع من الختانة المسيحية غير مصنوع باليد كما سبق وقال
ذلك.

والذي
يرجِّح بالأكثر أن المقصود بالختم عند بولس الرسول هو المعمودية، هي الكلمات
الواردة مع النصوص، فمثلاً في (2كو 22: 1) وردت كلمة المسحة وأيضاً عربون
الروح
وهي خاصة بالمعمودية، وأيضاً: “في المسيح”.

ومع
أن المسحة في الأناجيل وسفر الأعمال قد جاءت فقط للتعبير عن حلول الروح على المسيح
وقت العماد (أع 10: 37و38)، ولكن هنا يجيء القول: “الذي يثبتنا معكم في
المسيح وقد مسحنا هو الله” ذلك لأن الذين اتحدوا في جسد المسيح هكذا
أيضاً استلموا مسحته، كما عبَّر عنها القديس يوحنا في رسالته: “وأمَّا أنتم
فلكم مسحة من القدوس وتعلمون كل شيء” (1يو 20: 2). وهذه أيضاً تزيد
اليقين أن كلمة ختم في (2كو 1: 21و22) هي تعبير عن المعمودية.

أمَّا
في النص الثاني (أف 1: 13و14): ” الذي فيه أيضاً أنتم، إذ سمِعتُم كلمة
الحقِّ، إنجيل خلاصِكُم، الذي فيه أيضاً إذ آمنتم خُتِمتُم بروح الموعد القدوس،
الذي هو عربون ميراثنا، لفداء المقتنى، لمدحِ مجدهِ”.

فلكي
نحدِّد الوارد هنا عن المعمودية يلزم أن ندرك أن الموضوع يبدأ من العدد (3)،
ذاكراً أعمال الله في الأزلية من الأعداد 314، والقصد هو الاختيار
الأزلي للتبني، حيث يبدأ الكلام في العدد (3) ببركة الله لنا منذ الأزل (نحن
المسيحيين) في المسيح، ثمَّ عدد (4) الله الآب اختارنا في المسيح قبل تأسيس العالم
لنكون قديسين وبلا لوم في المحبة، ثمَّ (5) التبني إذ سبق فعيَّننا للتبني بيسوع
المسيح لنفسه، ثمَّ (6) الفداء بموت المسيح، ثمَّ (7) غفران الخطايا، ثمَّ مدح
مجده، وفي عدد (13) ختم الروح القدس إذ آمنتم، ثمَّ الميراث جاء في (11)، (14) كما
جاء في النص عاليه.

والذي
يلفت نظرنا هنا أن من عدد (13) يبدأ بذكر سماع الكلمة “كلمة الحق إنجيل
خلاصكم” هذا يطابق ما جاء كثيراً في سفر الأعمال عن “سماع الكلمة والعماد”.
وهكذا نرى هنا أن الختم بروح الموعد القدوس يأتي مباشرة نتيجة لسماع إنجيل خلاصكم،
فهو يقابل المعمودية في سفر الأعمال.

بهذا
يتضح لنا أن استخدام ق. بولس لكلمة خُتمتم يقصد بها المعمودية دائماً.

 

6-
تعقيب على تعاليم بولس في كل رسائله عن المعمودية

وإلى
أي مدى يُعتبر تعليماً سرائرياً
Sacramental

 

1-
كانت نظرة ق. بولس للمعمودية دائماً أنها طقس مهيب:
حيث يتحد الموعوظون في
الكنيسة في جسد واحد: (1كو 13: 12)، أو في المسيح يسوع (رو 3: 6) أو في المسيح (غل
27: 3)، (2كو 21: 1).

2-
وأن المعمودية فعل يتم بواسطة الروح القدس:
ومن خلالها يقبل
المعتمد الروح (1كو 11: 6، أف 13: 1 وأيضاً: غل 2: 3، رو 15: 8).

3-
أن الروح الذي يقبله المعمَّد كان أيضاً يسمَّى “روح ابنه”:
(غل 6: 4)
معطياً للمعتمد المسيحي إحساساً بأبوَّة الله (يا أبا الآب) = (غل 6: 4، رو15: 8).

4-
عطية أو هبة الروح القدس تُعطى من خلال الإيمان:
(غل 26: 3و23-25، كو
12: 2، أف 13: 1 و5: 4، رو 8: 6، 1كو 9: 12).

5-
اهتم ق. بولس بذكر عمل الله الآب في المعمودية:
(رو 4: 6، 2كو 21:
1و22، كو 12: 2، أف 6: 4 و3: 1 وغل 6: 4).

6-
الصلة بين المعمودية والروح، والروح والتبني:
قادت بولس الرسول أن
يذكر الصلة بين المعمودية والتبني: (غل 26: 3و27) مع (غل 6: 4).

7-
الثلاثة مدركات: المعمودية والروح والتبني:
موجودة في الأصحاح
الأول من الرسالة إلى أهل أفسس، ولو أن التبني (عدد 5) منفصل بعدة أعداد عن
المعمودية والروح (13)، غير أن النص كله يُعتبر جملة واحدة.

علماً
بأن الروح والبنوَّة مرتبطان بوضوح في قصة عماد المسيح.

8- هناك اتصال بين المعمودية والتقديس والتبرير باسم الرب
يسوع وروح إلهنا:
(1كو 11: 6).

9-
وأيضاً اتصال بين المعمودية والتبرير:
(غل 24: 3، رو 7: 6).

10-
واتصال بين مغفرة الخطايا والمعمودية:
(كو 13: 2، أف 7: 1
و32: 4).

11-
أفعال المعمودية غاية في الأهمية وتعطي للطقس معناه:

(أ) خلع
الملابس قبل الانغمار في المعمودية:
يعتبرها ق. بولس رمزاً لخلع الإنسان
العتيق (كو 11: 2، أف 22: 4).

(ب)
لبس الملابس البيضاء بعد الخروج من المعمودية:
(غل 27: 3) يعتبرها
أننا “لبسنا المسيح” (كو 11: 2)، (كو 8: 3و12 ولكن هذه بدون ذكر
المعمودية).

12-
التغطيس الكلِّي تحت الماء:
يوضِّح أن المسيحي يموت ويُدفن ويقوم مع المسيح:

(أ)
المسيحي في المعمودية يموت مع المسيح:
(رو 3: 6، كو 3: 3، غل
24: 5).

(ب)
المسيحي في المعمودية يندفن مع المسيح:
(رو 4: 6، كو 12: 2).

(ج)
ويقوم في المعمودية مع المسيح:
(رو 4: 6، كو 12: 2 و1: 3).

13- كل هذا من خلال الإيمان بالله الذي أقام المسيح من
الأموات:
(كو 12: 2، 1كو 14: 6).

14-
القيامة مع المسيح تعني حياة أخلاقية للدخول في صفات جديدة:
(رو 4: 6
و13و19، كو 6: 2 و1: 3 إلخ و12 إلخ، أف 4: 1 و1: 4و2و32، 1كو 9: 6-11).

15-
وأحياناً بدون ذكر المعمودية يذكر ملابساتها ونتائجها:
إننا متنا
وقمنا مع المسيح (رو 10: 8و11)، ونحيا حياة جديدة في الروح (رو 9: 8 إلخ).

16-
ليس الموت والقيامة مع المسيح فقط بل وأيضاً التمثُّل بمحبته وبذل ذاته هي التي
تعطي المعمودية قوتها للتطهير والتقديس
بالنسبة للكنيسة: (أف 25: 527، أف 30: 4 ؛2: 5).

17-
نصوص كثيرة يُرى فيها الصلة الوثيقة بين المعمودية المسيحية والكنيسة كإسرائيل
الجديدة:

(أ)
المعمودية في المسيحية هي كالختانة لليهود: (كو 11: 2).

(ب)
استخدام كلمة ختم وختمتم (
sfrag…zomai): (2كو 22: 1، أف 13: 1 و30: 4).

(ج)
بالمعمودية في المسيح (غل 27: 3) يصير المعمَّد جزءاً من نسل إبراهيم ووارثاً
حسب الموعد (غل 29: 3 و7: 4، 1كو 9: 6و10، أف 14: 1، رو 17: 8). حيث شرط في المسيح
أو بالمسيح أو مع المسيح فيها جميعاً.

(د)
يؤرِّخ لبدء انتماء الإنسان للمسيح والمسيحية من لحظة المعمودية- (كمثيل للختان):
(غل 26: 3و27، كو 10: 212)
™n aÙtù
وأنتم مملوؤون فيه = في المسيح!! (رو 11: 6 و1كو 11: 6و17).

18-
عند القديس بولس الإفخارستيا طقس أخروي
[.. إلى أن أجيء] وفي
المعمودية ما يفيد ذلك كما في (أف 30: 4): “خُتمتم “ليوم الفداء”
أي أن نظرة ق. بولس في تسجيلاته للمعمودية أنها هي طقس أخروي لأن الحياة
الجديدة في المسيح ممتدة إلى كمال الأخروية:

(أ)
لهذا يربط ق. بولس المعمودية بهبة الروح القدس: [ومعروف أن تعاليم اليهود ترهن
انسكاب الروح القدس بأنه هو علامة الدهر الآتي (يؤ 28: 2) كما هو مذكور في (أع 16:
218)].

(ب) في كثير من تسجيلات المعمودية يذكر “المجد” حيث
ملكوت المسيَّا (رو 4: 6، أف 14: 1).

(ج)
يشرح ق. بولس الكلمات الواردة في (2كو 5: 5): “ولكن الذي صنعنا لهذا عينه هو
الله الذي أعطانا أيضاً عربون الروح” أن هذا العربون للروح هو المأخوذ في
المعمودية (2كو 22: 1)، وهذا العربون هو لضمان الميراث الآتي كما في (أف 13: 1):
“ختمتم بروح الموعد القدوس الذي هو عربون ميراثنا لفداء المقتنى (تكميل فداء
أجسادنا المقتنى لمدح مجد نعمته)” = “نحن الذين لنا باكورة الروح
(بالمعمودية) نحن أنفسنا أيضاً نئن في أنفسنا متوقِّعين التبني فداء أجسادنا”
(رو 23: 8) = منتهى الأخروية!

(د)
فالروح والتجديد الأخلاقي للحياة الجديدة بالقيامة والخروج من المعمودية ولبس
الثياب السمائية هذه كلها سَبْق مذاقة البركات التي تنتظرنا في الحياة الأخرى، حيث
الثياب الجديدة ترمز أيضاً إلى بيتنا السماوي الجديد، لأن خلع الملابس لدخول
المعمودية يعتبرها ق. بولس نقض بيتنا الأرضي أو خيمتنا الأرضية (2كو 1: 5)، ولبس
ثوب المعمودية الجديد هو كناية عن البناء في السموات من الله: بيت غير مصنوع بيد،
أبدي = مسكننا الذي من السماء. فإن كنا نئن في أنفسنا مشتاقين أن نلبس مسكننا الذي
من السموات كما يقول ق. بولس، لذلك أعطانا أيضاً عربون الروح! لنتأكَّد من
الآتي!

(ه)
المعمودية طقس أخروي بدأه المسيح منذ أن بدأ يربط المعمودية بموته [الذي بدأه
المسيح نفسه بقوله: “لي صبغة أصطبغها وكيف أنحصر حتى تُكمَل” (لو 50:
12)]، وفي الحال جعل الخروج من المعمودية كاشتراك في قيامة الرب، الأمر الذي صار
معياراً لاهوتياً شاملاً جامعاً لكل لاهوت العهد الجديد كالمعمودية، حيث الأخروية
تربط نظرنا لا للمعمودية فقط بل للاهوت العهد الجديد. فالمسيحية بكل أسرارها تحقيق
أخروي في الحاضر الزمني! فإذا أدخلنا هذا في اعتبارنا انفتحت كل أبواب فهم ومعرفة
كل الأناجيل والرسائل.

هذا كله نابع من المعمودية التي تعطي خليقة جديدة وروح
عربون الميراث المعد!

لذلك
رأينا سابقاً أن في هبة المعمودية كل شرح لكل شيء.

19-
المعروف الآن لاهوتياً أن قول ق. بولس وبإصرار إننا “نعتمد في المسيح”
Into =e„j هو تجميع لكل ما يخص المسيح من أعماله
الخلاصية من موت ودفن وقيامة وتخصيصه لنا، فهي
ليست
مجرَّد أوصاف أو رموز بل حقائق لاهوتية يستقيها ق. بولس من التراث القائم
ويشرحها.

20-
ففي الفكر اللاهوتي للقديس بولس أن المعمودية هي الشرح العملي الظاهري للإنجيل!
لأن موت الرب وقيامته هو الأمر الذي قامت وانبنت عليه المعمودية، والذي أعطى
المعمودية معناها المميَّز المتخصِّص! لذلك فكل ما استخرجه ق. بولس من المعمودية
لا يُشكِّل أي اجتهاد أو تصوُّر شخصي، ولكن هو ملء وعاء المعمودية بما هو لها وبما
هي تعنيه من واقع التقليد اللاهوتي. والدليل على ذلك أن اعتماد ق. بولس الأساسي في
التعرُّض للمعمودية قائم على أساس تصريح المسيح نفسه “لي معمودية أعتمد بها وكيف
أنحصر حتى تكمل” التي ترجمها المترجم إلى “صبغة”. فإن كانت معمودية المسيح هي
الموت فمعموديتنا هي موت المسيح.

21-
والذي عمله ق. بولس وأصرَّ عليه أنه دشَّن العلاقة بين موت الرب والمعمودية،
معتبراً بعد ذلك أن المعمودية تحمل في عملها ومفهومها تعاليم الرسل للخلاص.

22-
كذلك فإن الطقس في نظر بولس الرسول يجمع أهم وأخطر عمليات تعبِّر عن الحقيقة
الأساسية للتسليم الرسولي.
فوراء كل معمَّد موت وقيامة المسيح، عمل الله الذي افتتح
به العهد الجديد. فالمعمودية تفتح أمام المعمَّد فجر حياة جديدة، وتجعله وريثاً
للملكوت وتسلِّمه الروح عربوناً لميراثه. وتجعل كل الأخرويات بالنسبة له أموراً
متوقَّعة!
(وليست محقَّقة بعد).

23-
فالمسيح أمامه عاش (في الإنجيل) ومات على الصليب وقام، وأعطى الروح القدس
للكنيسة، وجعل ملكوت الله أمراً متوقَّعاً وصارت للمعتمد شركة فيه لم تكمل بعد.
فالدهر الآتي الجديد أشرق له مع المسيح، وفي المعمودية بلغته بركات هذا الدهر
الآتي.

24-
ولم يكفّ بولس الرسول في كل رسائله من أن ينظر إلى تكميل المستقبل جنباً إلى جنب
مع الحياة الحاضرة ذات صفات سماوية: فيكتب إلى فيلبي (20: 3): “فإن سيرتنا
نحن هي في السماوات، التي منها أيضاً ننتظر مخلِّصاً هو الربُّ يسوع المسيح”
وأيضاً في كولوسي (3: 3و4): “لأنكم قد مُتم وحياتكم مستترة مع المسيح في
الله،
متى أُظهر المسيحُ حياتُنا، فحينئذ تُظهرون أنتم أيضاً معه في المجد
هذه أفكار رسولية موضوعية تنتظر بفارغ الصبر الاستعلان الأخير!

§ المعمودية تشير في معناها إلى موت آتٍ: “الذي به ختمتم ليوم
الفداء!” (أف 30: 4)

§ في نظر ق. بولس أننا نعيش تحقيق
الرجاء جزئياً، وتكميل الرجاء ننتظره في المستقبل بفارغ الصبر.

§ بالمعمودية اعتمدنا لإنجيل خلاصنا
وننتظر تكميل الخلاص بمجيء المخلِّص من السماء الذي ننتظره.

§ موت الرب وقيامته: الأعمال الخلاصية التي أتمَّها ليست أخباراً عن
حقائق لماض في التاريخ، ولكن وُهِبَ للكنيسة أن تحقِّقها وتعيد عملها في المعمودية
والإفخارستيا، فالقديس بولس لا يقف عند عطية الروح القدس والتكلُّم بألسنة ولكنه
يمتد إلى طريق أفضل ومواهب حسنى.

§ المعمودية حقيقة مسيحية لا تُشرح للمعتمد
ولكن تُعمل له، يقبلها بالإيمان ليُقبل كمسيحي
.

§ عند القديس بولس الطقس الذي تجرى به المعمودية ومعناه اللاهوتي هو
وحدة واحدة لا تنفصل. فالمعمودية كإجراء خارجي للإيمان بالمسيح له في كل أجزائه
وحركاته عمق المعنى الروحي بلا فرق.

 

ملخَّص
تعاليم العهد الجديد عن المعمودية

المعمودية
جاءت في سفر الأعمال 21 مرَّة كمجرد إجراء عملي، وفي إنجيل ورسالة ق. يوحنا 13
مرَّة.

في
سفر الأعمال:

§ طقس المعمودية بالماء يحوي تعاليم الرسل التي يقابلها رد فعل
الإنسان إزاء رسالة الخلاص.

§ فالذين يسمعون ويتوبون ويؤمنون يُعمَّدون باسم يسوع المسيح
فيتَّحدون في جماعة المسيحيين.

§ منذ بدء المسيحية أخذت المعمودية معناها
من إنجيل الخلاص في المسيح مصلوباً وقائماً من الأموات.

§ المعمودية مربوطة بغفران الخطايا، والمعمودية مربوطة بالروح القدس
وبوضع اليد.

في
رسائل القديس بولس الرسول:

§ المعمودية تحوي كل المعروف إنجيلياً منذ بدء التعليم المسيحي،
لذلك فالقديس بولس يربط بين المعمودية وموت المسيح وقيامته وبذلك تتحقَّق
الكريجما، أي تعليم الرسل الأساسي.

§ والخلاص يعني الاشتراك بواسطة المعمودية في موت الرب وقيامته، المعبَّر
عنه بالإيمان (غل 20: 2)، وهو في نفس الوقت معنى المعمودية (رو 3: 6و4).

§ المعمودية هي لبس المسيح والحصول على التبني (غل 26: 3و27) كنتيجة
للإيمان.

§ ثمر المعمودية هو التجديد الأخلاقي كنتيجة لعطية الروح القدس
المربوطة بالمعمودية، حيث المحبة تفوق التكلُّم بالألسن.

§ المعمودية اتحاد في جسد المسيح والباب المؤدِّي إلى مخصصات العهد
الجديد في اسم يسوع المسيح وعمل الآب، الذي أقام المسيح من الأموات والذي يقيم
المؤمن من الموت، وحالياً ينقله إلى حياة جديدة أخلاقياً (1كو 14: 6، رو 4: 6، كو
12: 2و13، أف 6: 4). والمعمودية قائمة أساساً على الإيمان (غل 24: 326،
1كو 9: 12، رو 8: 6، كو 12: 2، أف 13: 1و5: 4)، وبها يصير المعمَّد “في المسيح”
(غل 26: 3، رو 11: 6، كو 10: 2)، ويتحد بجسد المسيح (غل 28: 3، 1كو 12: 12و13، أف
3: 46)، والكنيسة تصير إسرائيل الجديدة (غل 29: 3، 1كو 9: 6و10، كو
11: 2، أف 14: 1).

 

في
إنجيل القديس متى:

في
نهاية إنجيل ق. متى، أصل التقليد الكنسي بالنسبة للمعمودية وله صدى في إنجيل ق.
مرقس، يفيد على أية حال أن المعمودية تأسَّست وصارت بدايتها ببداية الكنيسة ذاتها
كصفة خاصة جدًّا لها ومميِّزة، كواسطة للالتحاق بالجماعة المسيحية الأُولى بسلطان
قيامة المسيح:

(مت
18: 2820)

+
“فتقدَّم يسوع وكلَّمهم قائلاً: دُفع إليَّ كل سلطان في السماء وعلى الأرض،
فاذهبوا وتلمذوا جميع الأُمم وعمِّدوهم باسم الآب والابن والروح القدس. وعلِّموهم
أن يحفظوا جميع ما أوصيتكم به. وها أنا معكم كل الأيام إلى انقضاء الدهر.
آمين”

§ هنا النص يوفِّر لنا البرهان على أن تأسيس المعمودية هو من عمل
المسيح.

§ والبرهان الذي يوفِّر لنا أيضاً أصالة وجود هذا النص هو ما قاله
بولس الرسول عن إرساليته الرسولية قائلاً: “لأن المسيح لم يرسلني لأُعمِّد بل
لأُبشِّر” (1كو 17: 1). يُفهم من هذا فوراً أن باقي الرسل أُرسلوا ليعمِّدوا
بأمر الله والمسيح! وأن المعمودية هي تأسيس صادق من المسيح نفسه.

في
كتابات القديس يوحنا الرسول:

§ المعمودية تتم ظاهرياً بالماء وداخلياً بالروح لكنها ولادة من
فوق!

§ هي ولادة من فوق تؤهِّل مباشرة لدخول ملكوت الله.

§ المعمودية المسيحية في الكنيسة هي المثيل
المقابل لمعمودية المسيح في الأُردن وعلى الصليب بالدم.

§ وهكذا أصبح نوال البنوية لله في المعمودية أمر استحقاق كمثيل
للمثيل، خاصة بعد قبول الروح القدس.

§ القديس يوحنا يعي تماماً علاقة المعمودية
بموت المسيح واستوفاها بعبارة: “هذا هو الذي أتى بماء ودم” ويرمي بهذا
الاصطلاح إلى قول المسيح أن له معمودية (صبغة) ينبغي أن يصطبغ بها.

في
رسائل بطرس الرسول:

(1بط
18: 321):

+ “فإن المسيح أيضاً تألَّم مرَّة واحدةً من
أجلِ الخطايا، البارُّ مِنْ أجل الأثمةِ، لكي يقرِّبنا إلى الله، مُماتاً في
الجسدِ ولكن محييً في الروحِ، الذي فيه أيضاً ذهب فكرز للأرواح التي في السجن، إذ
عصت قديماً، حين كانت أناة الله تنتظر مرَّةً في أيام نوحٍ، إذ كان الفُلْكُ
يُبنَى، الذي فيه خَلَصَ قليلونَ، أي ثماني أنفسٍ بالماءِ. الذي مِثَالُهُ
يُخلِّصُنَا نحن الآن، أي المعموديةُ، لا إزالةُ وسخِ الجسدِ، بل سؤالُ ضميرٍ
صالحٍ عن الله، بقيامة يسوع المسيح

§ هنا يؤسِّس ق. بطرس الحياة الجديدة بعد المعمودية على ضمير صالح على
أساس قيامة يسوع المسيح من الأموات.
ليس بجهد ذاتي من الإنسان بل بالله الآب
الذي أقام ابنه يسوع المسيح من الأموات لكي يلدنا جديداً (1بط 3: 1) لحياة جديدة،
هو العامل فيها بقوته، التي أقام بها ابنه من الأموات.

§ إن المعمودية المسيحية تعتمد أساساً في قوتها وفعلها على قيامة المسيح
من الأموات، فالمسيح الذي دخل إلى راحته في الأمجاد السماوية هو الذي يعطي الحياة
الجديدة للإنسان لأنه هو نفسه دخل إلى مثلها.

§ كما يذكر بطرس الرسول أن القيامة والحياة الجديدة المطهَّرة من كل
عيب تقوم على قوة الروح “مماتاً في الجسد ولكن محييً في الروح” (18). أي
على موت المسيح وعلى الروح!

إشارات
عن المعمودية في مواضع أخرى في العهد الجديد:

§ غسيل المعمودية يعني داخلياً محو الخطية، الأمر الذي يكشف عن أن غسل
الخطية قد تمَّ بذبيحة المسيح.

(عب
19: 1022):

+
“فإذ لنا أيُّها الإخوةُ ثقةٌ بالدخولِ إلى الأقداس بدم يسوع، طريقاً كرَّسه
لنا حديثاً حيًّا، بالحجابِ، أي جسده، وكاهنٌ عظيمٌ على بيت الله، لنتقدَّم بقلبٍ
صادقٍ في يقين الإيمان، مرشوشةً قلوبنا من ضميرٍ شريرٍ، ومُغتَسِلةً أجسادنا
بماءٍ نقيٍّ”
هنا المفهوم عملياً أن يسوع المسيح بكونه كاهناً عظيماً على
رتبة ملكي صادق بذبيحة نفسه للموت قد فتح لنا طريقاً حيًّا حديثاً. هنا الحي
الحديث يشير إلى الذبيحة الحديثة فهي نظرة حادة إلى الأصل الذي انبثق منه سر
العماد كطريق نقترب به إلى الله، بشجاعة الإيمان بناءً على شركة معه غير محدودة.
هذا يقوله صاحب السفر لتشجيع القلوب المطهَّرة من ضمير يشتغل بالشر بسبب اغتسال
أجسادنا، وهي لغة تكريس الكهنة في القديم حيث رش الدم هو من الذبيحة المقدَّسة، والاغتسال والتطهير بالماء طبَّقها المؤلِّف على
المعمودية مثل ما قاله ق. بطرس في (1بط 21: 3)،
حيث الاغتسال بالماء يشمل فعلاً سرًّا متعمِّقاً في كيان المعمَّد أي نفسه،
وذلك بسبب أن الذبيحة هي ذبيحة
المسيح، ورش دم المسيح يُطهِّر كما يقول ق.
بولس حتى الضمائر من الأعمال الميتة (عب 14: 9).

 

1-
هنا واضح أن سفر العبرانيين يعطي المعمودية معناها على أساس موت المسيح على
الصليب كذبيحة حيَّة!

2-
ولكن الملاحَظ في سفر العبرانيين أنه ينتحي ناحية جديدة في ربط المعمودية بموت
المسيح تُخالف الذي علَّم به ق. بولس. فالقديس بولس جعل الانغمار في ماء
المعمودية، بينما سفر العبرانيين يؤسِّسه على
رش الدم كطقس خيمة الاجتماع في تكريس أي تقديس
الكهنة.

3-
كما نُلاحِظ أن المعمودية هنا لا تقوم فقط على موت المسيح بل على الإيمان
(عدد 22) وعلى الوضع الأخلاقي الجديد (عدد 24): “ولنلاحِظ بعضنا بعضاً
للتحريض على المحبة والأعمال الحسنة” وعلى الرجاء (عدد 23): “لنتمسَّك بإقرار
الرجاء
راسخاً لأن الذي وعد هو أمين”

§ الاستنارة صفة المعمودية:

+
“لأنَّ الذين استنيروا مرَّة، وذاقوا الموهبة السماوية وصاروا شركاء
الروح القدس.. وسقطوا، لا يمكن تجديدهم أيضاً للتوبة” (عب 4: 66)

+ “ولكن تذكَّروا الأيام السالفة التي فيها بعدما أُنرتم
صبرتم على مجاهدة آلام كثيرة”
(عب 32: 10)

وهكذا
نرى أن تسمية المعمودية بالاستنارة قديمة قِدَم الإنجيل والرسائل.

§ المعمودية تعني الميلاد الثاني وتحقِّق التجديد بقوة الروح القدس:

+
“ولكن حين ظهر لطف مخلِّصنا الله وإحسانه- لا بأعمال في برٍّ عملناها نحن، بل
بمقتضى رحمته- خلَّصنا بغُسل الميلاد الثاني وتجديد الروح القدس، الذي سكبه
بغنى علينا بيسوع المسيح مخلِّصنا. حتى إذا
تبرَّرنا بنعمته، نصير ورثة حسب رجاء الحياة الأبدية” (تي 4: 37)

1-
هذا يثبت أن التغيير الحادث لهم من حياة شريرة منحلة إلى حياة برّ هو من عمل قوة
الله المخلِّصة بلطف الله
crhstÒthj وإحسانه filanqrwp…a أي محبته للبشر التي فجأة أُظهرت للعالم في المسيح، ليس بجهد بشري
بل بسبب طبيعة الله الرحومة التي أنعمت بغسل الميلاد الثاني
regeneration والروح القدس.

2-
جعل “غسل الميلاد الثاني والروح” مبادرة سماوية “انسكبت” في جملتها
مرَّة واحدة كما “انسكب” الروح القدس يوم الخمسين، بقصد “تبرير الإنسان”
بنعمة الله.

3-
غاية الغسل للميلاد الثاني والروح هو: “فإذ قد تبرَّرنا بنعمته نصير ورثة حسب
رجاء الحياة الأبدية”

4-
وعليه يبدأ يعيش الآن الإنسان هنا على رجاء الحياة الأبدية الآتية.

5-
هكذا تربط هذه الرسالة بين المعمودية والروح القدس. كما رأينا سابقاً في (1كو 6:
1113، 2كو 22: 1، أف 13: 1 و4: 4و5).

6-
والمُلاحَظ أنه هنا يذكر الله كمخلِّص، ووصف المعمودية بالميلاد الجديد
paliggenes…a ووصف عمل الروح القدس بالتجديد ¢nakainèsewj.
هذه أمور جديدة ليس بالألفاظ والمعاني ولكن من واقع السر.

7-
وصف عمل الله في المعمودية بأنه “
سكب علينا بغنى بيسوع المسيح” يعتبر
تعبيراً جديداً.

8-
في الرسائل السابقة كانت النعمة والتبرير هي حاصل موت المسيح، ولكن هنا تعود إلى
صلاح الله وإحسانه.

9- نلاحظ هنا في الرسالة إلى تيطس أن “موت المسيح”
لا يتصدَّر عمل المعمودية ولكنه موجود.

10-
هنا عمل المعمودية معتبر كغسل كما سبق أن رأينا في (أف 26: 5).

وأخيراً
نستخلص من تعليم العهد الجديد عن المعمودية:

§ أن التبني وعطية الروح القدس وفعله
في المعمودية في العهد الجديد هذه كلها مثيل لمعمودية المسيح.

§ كل التعاليم الواردة في العهد الجديد تكشف عن مدى أهمية المعمودية
ورهبتها والتجديد الأخلاقي فيها لا يُعلَّل إلاَّ كنتيجة لعمل الله والمسيح والروح
القدس.

§ في كل أمثلة المعمودية في العهد الجديد هي في الحقيقة طقس له
معناه ومبناه وقيامه الثابت في أساس نمو الكنيسة ووجودها.

§ الأساس الروحي اللاهوتي لقيام المعمودية وأصولها الأُولى قائم في
موت المسيح وقيامته، وفي الخلاص الذي تمَّ بهذا الموت وهذه القيامة، حيث فعل الموت
والقيامة متجدِّد في المعمودية، فهو واسطة خلاص بالدرجة الأُولى.

§ لذلك فشكل الطقس خارجياً لا يعبِّر إطلاقاً عن مضمونها الرهيب كسر
الأسرار.

§ إن تطوُّر المعمودية بمرور الزمن لتصبح من نصيب الصغار حتى إلى 8
أيام
جعل المعمودية غائبة عن فكر الناس جميعاً. ولكن الحقيقة هي أن الإنسان
المسيحي مهما بلغ من العمر فالمعمودية هي أُمّه التي لم يفارق رحمها. لذلك فشكل
المعمودية وواقعها يستحيل فصلهما لأنهما معاً في كيان الإنسان وحدة واحدة لا
تنفصل.

§ المعمودية تحيا مع الإنسان إلى النهاية وتستمر من جيل إلى جيل
طالما استمرَّت الحياة المسيحية، لأنها في مصدرها الأول كانت أمراً إلهياً صدر من
المسيح بعد قيامته كما هو وارد في إنجيل ق. متى (28: 1820). فكما قال
الله ليكن نور فكان وهو قائم حتى اليوم كيوم خلقته، كذلك المعمودية أصل الاستنارة
للإنسان الجديد فهي امتداد لخلقة النور، ولكن على مستوى السماء وقلب الإنسان.

§ والمعمودية ستظل مرتبطة- كيوم ما أمر بها المسيح- بالتلمذة بكل
معناها، فطالما كانت هناك تلمذة جديدة فهناك معمودية حتماً “تلمذوا..
وعمِّدوهم” (مت 19: 28)

§ لهذا اعتبرت المعمودية سر المسيحية!!

§ فإن كان سر المسيحية الأعظم هو المسيح، فالسر الذي ربط المسيح
بالإنسان المسيحي هو المعمودية.

 

7-
ختم الروح القدس

(سر
التثبيت)

§ بينما في المعمودية ينال المعَمَّد هبة مغفرة الخطايا والتجديد
لحياة مسيحية قائمة مع المسيح بواسطة حلول
الروح القدس الملازم لمعمودية الماء؛ إلاَّ أنه في سر التثبيت بالميرون المقدَّس
تنال
النفس عطية الروح القدس للسكنى
والإقامة في هيكل الإنسان الجديد لملء حياة المعمَّد بمواهب الروح.

§ ومعلوم أنه في الكنيسة الأُولى كان سر التثبيت، الذي يُجرى على
المعمَّد في هذه الأيام الأخيرة بزيت الميرون، كان يُجرى ويُمارس على المعمَّد
برسم الصليب على الجبهة ثمَّ بوضع يد الأسقف أو الكهنوت حيث يُعطَى الروح القدس
بكل مواهبه، حتى أنه بوضع اليد كان يحصل المعمَّد على التكلُّم بالألسن في الحال.

§ ويُلاحَظ أن وضع اليد إجراء سرِّي كان منفصلاً عن المعمودية ولكن
مُكمِّلاً لها، كما هو ظاهر في (أع 14: 817): “ولمَّا سمع الرسل
الذين في أُورشليم أن السامرة قد قبلت كلمة الله، أرسلوا إليهم بطرس ويوحنا اللذين
لمَّا نزلا صلَّيا لأجلهم لكي يقبلوا الروح القدس، لأنه لم يكن قد حلَّ بعد على
أحد منهم. غير أنهم كانوا معتمدين باسم الرب يسوع. حينئذ وضعا الأيادي عليهم
فقبلوا الروح القدس”

§ كذلك يمكن أن نجيز في (2تي 6: 1) أنها حالة وضع يد لقبول الروح
القدس: “فلهذا السبب أذكِّرك أن تضرم أيضاً موهبة الله التي فيك بوضع
يديَّ” ويُلاحَظ أنها وضع اليدين.

§ ولكن يوجد شواهد كثيرة تثبت أنه كانت هناك مسحة أو ختم بالروح
القدس التي تشير إمَّا إلى وضع اليد فقط أو معها المسحة بالميرون.

+
“ولكن الذي يثبِّتنا معكم في المسيح وقد مسحنا هو الله. الذي ختمنا
أيضاً وأعطى عربون الروح في قلوبنا” (2كو 1: 21و22)

ومعروف
منذ العهد القديم أن المسحة كانت بقرن الدهن وحلول الروح القدس، ولو أن المسيح قد
قبل مسحة بالروح القدس فقط.

+
“وأمَّا أنتم فلكم مسحةٌ من القدوس وتعلمون كل شيءٍ.. وأمَّا أنتم فالمسحة
التي أخذتموها منه ثابتةٌ فيكم، ولا حاجة بكم
إلى أن يعلِّمكم أحدٌ، بل كما تعلِّمكم هذه
المسحة عينها عن كل شيءٍ،
وهي حقٌّ وليست كذباً. كما علَّمتكم تثبتون فيه” (1يو 2: 20و27)

+
“الذي فيه أيضاً أنتم، إذ سمِعتُم كلمة الحقِّ، إنجيل خلاصِكُم، الذي فيه
أيضاً إذ آمنتم خُتِمتُم بروح الموعد القدوس” (أف 13: 1)

+
“ولا تُحزِنُوا روحَ الله القدوس الذي به خُتِمْتُم ليومِ
الفداءِ” (أف 30: 4)

والمعروف
أن طقس المسحة
unction كان يُجرى في الكنيسة الأُولى منذ الأيام الأُولى. وهناك إشارة
ضمنية على أن قبول الروح القدس كان له إجراء خاص بعد المعمودية وذلك من قول بطرس
الرسول: “توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح لمغفرة
الخطايا، فتقبلوا عطية الروح القدس” (أع 38: 2). كذلك نجد في كلام
بولس الرسول تفريقاً بين المعمودية وقبول الروح القدس فيها وسقي الروح القدس بعدها
(1كو 13: 12): “لأننا جميعنا بروح واحد أيضاً اعتمدنا إلى جسد واحد، يهوداً
كنَّا أم يونانيين، عبيداً أم أحرار. وجميعنا سقينا روحاً واحداً”

 

ب-
معمودية الأطفال- شهادة الآباء

أولاً:
عماد الأطفال

إن
قانونية ولاهوتية عماد الأطفال، كانت مشروحة جاهزة في حلول الروح القدس على أهل
البيت كباراً مع صغار فيعتمدون جميعاً، فهذه هي شهادة الروح القدس، وبالتالي شهادة
المسيح، لأن الروح القدس يشهد للمسيح.

والبحث
في مؤلفات الآباء القدامى جدًّا انتهى إلى أن عماد الأطفال صار من الصعب تتبُّعه
في ما قبل منتصف القرن الثاني.

ولكن
الكتاب المقدَّس كوثيقة من القرن الأول أشار بوضوح إلى معمودية الأطفال ضمن
العائلة أو الأسرة التي كانت تدخل العماد بكاملها تحت كلمة: “فلان وجميع بيته” أو
“أهل بيته”، حيث جميع أفراد الأسرة تعني حتماً الأطفال. والكلمة المدرجة في
الأسفار والأناجيل هي
Household بمعنى كل مَنْ في البيت.

والأمثلة
على ذلك هي:

+
“..وهو تقي وخائف الله مع جميع بيته.. ويصلِّي إلى الله كل حين”
(أع 2: 10)

+
“وهو يكلِّمك كلاماً به تخلص أنت وكل بيتك، فلمَّا ابتدأت أتكلَّم
حلَّ الروح القدس عليهم كما علينا أيضاً في البداءة. فتذكَّرت كلام الرب كيف قال
إن يوحنا عمَّد بماء وأمَّا أنتم فستتعمَّدون بالروح القدس” (أع 11:
1416)

وهكذا
كل أهل البيت قبلوا الخلاص وحلَّ عليهم الروح القدس.

+
“فقالا (بولس وسيلا) آمن بالرب يسوع المسيح فتخلُص (حافظ السجن) أنت
وأهل بيتك، واعتمد في الحال هو والذين له أجمعون”
(أع 16: 3133)

+
“وكريسبس رئيس المجمع آمن بالرب مع جميع بيته” (أع 8: 18)

+
“ففهم الأب أنه في تلك الساعة التي قال له فيها يسوع أن ابنك حيّ. فآمن هو
وبيته كله”
(يو 53: 4)

+
“وعمَّدت أيضاً بيت استفانوس.” (1كو 16: 1)

+
“فلمَّا اعتمدت هي (ليدية بيَّاعة الأرجوان) وأهل بيتها.” (أع
15: 16)

بجوار
هذه الشهادات توجد شهادة القديس بطرس نفسه:

+ “فقال لهم بطرس: توبوا وليعتمد كل واحد منكم على اسم
يسوع المسيح لغفران الخطايا فتقبلوا عطية الروح القدس. لأن الموعد هو لكم
ولأولادكم
ولكل الذين على بُعدٍ” (أع 2: 38و39)

هنا كلمة أولادكم تشمل كل الذرية، ولكي نحدِّد معنى كلمة
“أولادكم” تُقرأ في الإنجليزية:
Children.

 

ثانياً:
شهادة الآباء

1-
هيبوليتس (التقليد الرسولي) سنة 215م تقريباً:

+
[1: 21 في الساعة التي يصيح
فيها الديك يبتدئون بالصلاة على الماء.

2-
وليكن الماء الذي يأتون إليه نقياً وجارياً.

3-
وحينئذ يخلعون ملابسهم.

4- ويعمِّدوا الأطفال أولاً فالذين يستطيعون أن يجاوبوا عن
أنفسهم فليجاوبوا. والذين لا
يستطيعون ذلك فليجاوب عنهم أبوهم أو أي
شخص آخر من العائلة.

5-
وبعد ذلك يعمِّدوا الرجال البالغين وأخيراً السيدات.]
([15])

على
أن أقوال هيبوليتس وهي الموجودة في التقليد الرسولي لا تخص أيامه فقط، ولكنه يسرد
ما اعتادت الكنيسة عليه منذ القديم في تدبيرها أثناء العماد.

وتعليقنا
على هذا أن الكنيسة منذ البدء، منذ أيام الرسل، كانت تعمِّد البيت كله بكل أهله
صغاراً وكباراً، وكانت تراعي الفصل بين الرجال والنساء، وهذا سار عليه الجيل الذي
جاء بعد الرسل وهكذا.

2-
العلاَّمة ترتليانوس (شمال أفريقيا سنة 203م):

ولو
أن العلاَّمة ترتليانوس كان شخصياً لا يشجِّع تعميد الأطفال إلاَّ في حالة
الضرورة، ولكن أقواله تبيِّن أن العادة السائدة في الكنيسة في أيامه كانت أن
يُعمَّد جميع الأطفال.

يقول
ترتليانوس معترضاً على العجلة في تعميد الأطفال:

+
[لماذا هذه اللهفة في تعميد الأطفال في غير الحالات الخطرة؟ ولماذا نعرِّض الأشبين
للخطر؟ لأنه ربما يموت الأشبين قبل أن يتمم
واجبه تجاه الطفل الذي ضمنه، وربما يخيب عشمه في هذا الطفل بظهور ميول رديئة

فيه.]
([16])

لكن
هذا بحد ذاته يثبت أن في أيام ترتليانوس في قرطاجنة سنة 200م كانت العادة السائدة
في الكنيسة أن يُعمَّد الأطفال، وأن يُحدَّد لكل منهم أشبين يجاوب عنه في
المعمودية ويتعهَّد أن يلقِّنه حقائق الإيمان متى بلغ سن الرشد، حتى أن موقف
الأشبين يكون خطراً إن لم يُتمِّم هذا الواجب.

هذه
كانت عادة الكنيسة في شمال إفريقيا سنة 200م، حيث نرى أن عماد الأطفال كان جارياً
وبلهفة. وبعد ذلك بخمسين سنة أي سنة 251253م جاء أسقف يُدعى
Fidus وأعطى أمراً أن لا يُعمَّد الأطفال حتى يبلغوا ثمانية أيام
بعد الولادة (زمن الختانة عند اليهود). وبعد ذلك في اجتماع للأساقفة وعددهم كان 67
أسقفاً في مجمع قرطاجنة، أقروا أن العماد يلزم أن يحدث بصفة دائمة حتى في اليوم الثاني أو الثالث بعد الولادة.
هكذا في هذا العصر كانت تُمارس معمودية
الأطفال([17]).

3-
شواهد على قبور الأطفال:

وهناك
ثلاثة شواهد على قبور الأطفال من القرن الثالث وتذكر وقت عماد أصحابها لأنهم
توفّوا مباشرة بعد عمادهم:

الأول:
مكتوب
اسمها
Tyche وعمرها سنة واحدة وعشرة شهور وخمسة عشر يوماً وماتت في يوم عمادها([18]).

الثانية:
مكتوب
اسمها
Irene ماتت عن عمر أحد عشر شهراً بعد عمادها بستة أيام([19]).

الثالث:
مكتوب
اسمه أبرونيانس
Apronianus وعمره واحد وعشرون شهراً وثلاثة أيام عُمِّد في حالة مستعجلة([20]).

وهذه
الثلاث كتابات المحفورة هي في روما في السراديب التي تحت الأرض([21]).

4-
القديس يوستين (150155م):

في
دفاعه الأول يقول:

+
[هناك كثير من الرجال والنساء بلغوا من العمر ستين سنة وسبعين سنة محتفظين
بالبتولية كل أيام حياتهم منذ أن صاروا تلاميذ للمسيح في طفولتهم.] (الدفاع الأول
6: 15)

والقديس
يوستين يكتب بين سنة 150155م وقد جاءت باليونانية بوضوح أكثر:

[o† ™k pa…dwn ™maqhteÚqhsan tù Cristù]

فالمعنى
الدقيق أنهم حفظوا بتوليتهم منذ الطفولة! وكانوا تلاميذ المسيح منذ طفولتهم
وصاعداً. وهنا يشرح العالِم يواقيم إرميا([22]) عبارة: “صاروا
تلاميذ للمسيح” على أنها تعني أنهم اعتمدوا باسمه! ومرجعه في ذلك ما ورد في (مت
19: 28): “فاذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمِّدوهم
والتلمذة للمسيح هي قرينة المعمودية. ويُلاحِظ العالِم إرميا أنهم كانوا في أعمار
ستين وسبعين سنة، هذا يعني أنهم اعتمدوا ما بين سنة 80م، 95م في القرن الأول
المسيحي!

5-
القديس بوليكاربوس الشهيد أسقف سميرنا 167168م:

عندما
طالبه الوالي أن ينكر المسيح أجاب:

+
[ستاً وثمانون سنة وأنا أخدم المسيح ولم يسيء إليَّ في أي شيء. فكيف أجدِّف الآن
على ملكي الذي خلَّصني؟]
([23])

ويقول
العالِم يواقيم إرميا([24])
إن بقية تواريخ حياة بوليكاربوس معروفة وأنها تحتِّم أن يكون قد استشهد وعمره 86
سنة، وعلى ذلك يكون قد حسب سني خدمته للمسيح منذ ولادته. وفي هذا إشارة ضمنية أنه
اعتمد في بدء طفولته. وهذا دليل أنه منذ سنة 80م كان يُمَارَس عماد الأطفال.

وما يُقال عن القديس بوليكاربوس يُطبَّق على بوليكراتس أسقف
أفسس سنة 190191م إذ يقول:

+
[أنا عشت إلى الآن أيها الإخوة 65 سنة في الرب وقد تكلَّمت مع إخوة من كل أنحاء
العالم وقد تلوت كل الأسفار- (كان الأسقف هو الثامن في عائلته)].

وهذا
يعود بنا إلى سنة 125-126م عندما تعمَّد لأنه يقول إن له 65 سنة في الرب، بمعنى
أنه تعمَّد في بدء عمره.

 

6-
القديس إيرينيئوس:

يكتب
بعد سنة 180م ويقول:

+
[إن الرب جاء ليخلِّص الجميع بذاته، أعنى جميع الذين وُلِدُوا لله ميلاداً ثانياً
بواسطته: الرُضَّع والأطفال الصغار والصبيان والبالغين والشيوخ.]
([25])

هنا
القديس إيرينيئوس يقصد بالولادة الثانية المعمودية. وهو في قوله هذا يدافع عن
العلاقة بين الميلاد الثاني والمعمودية (ضد مرقيانوس). والمعنى هو أن المسيح
يُخلِّص ويُقدِّس الناس من كل الأعمار: من الرُضَّع إلى الأطفال إلى الرجال
البالغين لأنهم قد اعتمدوا، إذ يقول صراحة: إنهم “وُلِدوا لله ميلاداً ثانياً
بواسطة المسيح” وهذه إشارة واضحة إلى المعمودية.

7-
أوريجانوس 231250م:

يذكر
أوريجانوس أن عماد الأطفال هي عادة الكنيسة، وفي تعليقه على رسالة رومية يقول إن
هذا التقليد في الكنيسة يعود إلى الرسل([26])!

ويُعلِّق
على اختتان المسيح وهو ابن ثمانية أيام بقوله:

+
[بهذه المناسبة يلزم أن أقول كلمة بخصوص السؤال الذي يثير مناقشات بين الإخوة
بخصوص عماد الأطفال. فإن الأطفال يُعمَّدون لمغفرة الخطايا. أية خطايا؟ ومتى
أخطأوا؟ في الحقيقة لم يخطئوا قط، ومع ذلك فإنه” ليس أحد بلا دنس” (أي
4: 14 سبعينية) ولو كانت حياته يوماً واحداً، وهذا الدنس يُرفع عنهم بواسطة سر
المعمودية. ولهذا السبب فإن الأطفال يُعمَّدون.]
([27])

+
[من أجل هذا استلمت الكنيسة من الرسل تقليد عماد الأطفال لأن الذين استؤمنوا على الأسرار
الإلهية (أي الرسل) كانوا يعلمون أن في كل واحد يوجد تلوث جذري (من آدم) يلزم أن
يُغسل بالماء والروح.]
([28])



اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى