اللاهوت العقيدي

رابعاً: أبحاث جادة للعلماء وراء الإفخارستية الضائعة ولكن دون أن يهتدوا إلى الحقيقة



رابعاً: أبحاث جادة للعلماء وراء الإفخارستية الضائعة ولكن دون أن يهتدوا<br /> إلى الحقيقة

رابعاً:
أبحاث جادة للعلماء وراء الإفخارستية الضائعة ولكن دون أن يهتدوا إلى الحقيقة

كان
رائد هذه الأبحاث العالِم ليتزمان الذي اتجهت أنظاره بإصرار نحو الطقس القبطي
معتبراً أنه يحوي طقس أُورشليم الأول.

وإليك
خلاصة دراساته في هذا الموضوع الذي هو موضوع بحثنا أيضاً:

[إن
وراء ليتورجية سيرابيون يوجد
بصورة قاطعة طقس آخر
ليس مأخوذاً (أي ليس متطوِّراً) من العشاء الأخير (أي ليس حسب تسجيل الأناجيل).
هذا الطقس هو الممارسة الفعلية لتلاميذ أُورشليم، وقد حُفظ في مصر وحدها
لأن بولس
الرسول لم يفد إلى هذه البلاد
على أن كل الطقوس
الأخرى التي ليست ذات أصول مصرية فإنها ترجع إلى ليتورجية هيبوليتس الذي يتبع
أصلاً آخر للإفخارستيا يقوم على أساس تذكار للعشاء الأخير نشره بولس الرسول.]
([1])

مقالات ذات صلة

هنا
يستقرئ ليتزمان من وراء ليتورجية سيرابيون المصرية طقس ليتورجية أخرى هي ليتورجية
أُورشليم الأصلية. ولكن ما هو طقس أُورشليم؟

[المشكلة
تحتِّم علينا أن نسأل هل دخل مع طقس “كسر الخبز” الذي كان يمارسه جماعة
التلاميذ في أُورشليم على وجه التحقيق طقس آخر له صلة بتذكار العشاء الأخير
أقاموه تذكاراً للرب؟

لا
يوجد أمامنا ما يقودنا إلى هذا.

مع
أننا نجد هذا الطقس الثاني منتشراً في كنائس بولس الرسول منذ البدء، فهل نشأ هذا
الطقس على تربة بلاد اليونان أولاً، ثمَّ انتشر بين مسيحيي الأُمم عموماً، ثمَّ
ساد في النهاية على الكل؟ بينما بقيت آثار الطقس الأُولى محفوظة أساساً في الأوساط
التي ظلَّت تحت تأثير المسيحية اليهودية (أي اليهود المتنصرين)؟

إننا
نعلم بالدليل المحسوس أن القطر الوحيد الذي بقي فيه هذا الطقس الأول (طقس
أُورشليم) هو مصر،
وذلك إلى وقت متأخِّر، بالرغم من تراكم الطقس
الثاني عليه حتى أخفاه. على أن مصر هي البلد الوحيد الذي لم يزره بولس الرسول
وبالتالي لم تنشأ فيها كنائس تتبع بولس الرسول.]
([2])

هنا
يوضِّح ليتزمان بالتأكيد أنه يوجد طقسان للإفخارستيا: طقس أُورشليم الأول
الذي أسماه طقس كسر الخبز، وطقس آخر أسماه طقس تذكار العشاء وليس العشاء
نفسه.

وبدأ
ليتزمان يسأل هل الرسل أنفسهم هم الذين أقاموا هذين الطقسين؟

ووقف
حائراً عند هذا الحد إذ ليس أمامه ما يدله على أن جماعة تلاميذ أُورشليم أقاموا
بالفعل هذين الطقسين. واعتقد خطأ أن بولس الرسول هو المسئول عن هذا الطقس الثاني،
أي الطقس التذكاري، عن العشاء الأخير.

وفي
هذا قد أخطأ ليتزمان:

أولاً:
إذ
اعتبر أن طقس إفخارستية أُورشليم الذي دعاه طقس “كسر الخبز” كان يخلو من الكأس، أي
أن الإفخارستيا التي كان يقيمها جماعة تلاميذ أُورشليم لم يكن فيها كأس
الإفخارستيا
أي الدم.

وتصحيح
ذلك أن طقس عشاء الرب كان يدعى طقس كسر الخبز، لأن أول إجراء فيه كان هو كسر الخبز.
فلمَّا رُفعت الأغابي رُفع معها كسر الخبز (الذي كان يسبقها)، وانضم كسر الخبز مع
الكأس، فجاء الشكر (الإفخارستيا) في أول الطقس فسُمِّي الطقس بالإفخارستيا (الشكر)
بدل “كسر الخبز”. ومعروف أن التلاميذ جميعاً أقاموا السرّ على أساس الجسد والدم.
والقديس متى الرسول يشدِّد في إنجيله بوضوح على أن الكأس
أي الدم هو لمغفرة
الخطايا. وهذا نعلمه تماماً أن “بدون سفك دم لا تحدث مغفرة” حسب الناموس القديم
(عب 22: 9).

أمَّا
الخطأ الثاني الذي وقع فيه ليتزمان، فهو اعتقاده “بأن الطقس التذكاري
الثاني مختلف تماماً عن الطقس الأول وأنه من وضع بولس الرسول نفسه بإلهام من
المسيح”
([3]).

والحقيقة
أن الطقس الثاني هو الطقس الأول بنفسه إنما مشروحاً وموصوفاً ومُضافاً إليه كل
المعاني الليتورجية السرية التقليدية واللاهوتية التي يحويها الطقس الأول، ولكن
دون أن يشير إليها. ويستحيل على أي إنسان كان من كان أن يضع هذا الطقس الثاني
المتركِّب بدقة وحكمة وفهم، عن دراية بكل ما تمَّ في العشاء الأخير، إلاَّ الرسل
أنفسهم تلاميذ أُورشليم الذين عاينوا سر العشاء الأخير وفهموه واستوعبوا أعماقه
الإلهية السرية.

أمَّا
الوقائع التي نجح فيها ليتزمان من جهة الكشف عن هذا الطقس الأورشليمي الأول ومن
جهة احتفاظ مصر بهذا الطقس دون كافة بلاد العالم، فقد كان هو في ذلك رائد البحث
الليتورجي قاطبة، لأنه أول مَنْ وضع يده على النظرية بدقة بالغة دون أن يكون تحت
يده المادة المسجَّلة التي يستند عليها. فكان مثله في ذلك مثل علماء الفيزياء
physics الذين ينجحون في التعرُّف على معدن من المعادن ويصفونه بدقة قبل
أن يكتشفوه بالفعل.

 

ليتزمان
يصف طقس أُورشليم الأول المحفوظ في مصر بدقة بالغة دون أن يعثر عليه:

في
نهاية التحليل الذي يقدِّمه ليتزمان عن الشكل الأصلي لليتورجيا المصرية الأُولى،
ينتهي إلى التقرير الآتي:

[(أ) إن التقليد المصري الأصيل (فيما قبل أنافورا سيرابيون)
لا يعرف قط التلاوة الكلامية لرواية التأسيس (كأن يقول: أخذ خبزاً على يديه …
وهكذا بعد العشاء أخذ كأساً … إلخ).

(ب)
وهذا الطقس يتكوَّن من الحوار (بين الكاهن والشعب: الرب مع جميعكم. وارفعوا قلوبكم.
وفلنشكر الرب)، ثمَّ المقدِّمة (حيث المقدِّمة هي ما يتبع “مستحق وعادل” حتى
“التسبحة الشاروبيمية”).

(ج)
ثمَّ التسبحة الشاروبيمية
Sanctus، وبعدها

(د)
الاستدعاء
Epiclesis.

(ه) على أن مفهوم هذا الطقس هو من جهة أنه ذبيحة ينحصر
في عملية وضع القرابين على المذبح والصلاة التي تُقال عليها. وبهذا تتكوَّن “الذبيحة”،
“الحيَّة”،
“غير الدموية” لدى المسيحيين.

(و)
وهذا يعني أن هذه الليتورجية لا تربط العشاء
بالموت كتذكار يسوع في العشاء الأخير.

(ز)
وهذا يدعِّمه غياب التذكار من هذا الطقس جملة.

(ح)
وقد ظلَّ التذكار غائباً عن هذا الطقس حتى إلى زمن متأخِّر (عندما جاءه من تربة
أخرى بتأثير بولس الرسول كمحاولة لبلوغ الكمال).

(ط)
وبهذا أصبحت ذبيحة العشاء صورة لذبيحة الجلجثة.

(ي)
ولكن في مواجهة هذا الطقس البدائي لليتورجية المصرية التي بلغنا إليها بهذه
الطريقة يقابلنا سؤال حرج: هل يمكن أن يوجد طقس عشاء لا يوجد فيه أي إشارة للعشاء
الأخير ولموت الرب؟]
([4])

[إن
التأسيس
Institution مع التذكار Anamnesis الذي يعتمد أصلاً على التأسيس ذاته، يُحتمل أن يكونا غير موجودين
أصلاً في الليتورجية المصرية القديمة التي على أساسها وُضعت ليتورجية سيرابيون.]
([5])

وهنا
يعتبر هذا الحدس في غاية الدقة والصحة، ولكن الأصح هو أن الليتورجية المصرية
القديمة تخلو من كلمات التأسيس وكلمات التذكار. أمَّا التأسيس
والتذكار فيستحيل أن يغيبا قط عن الإفخارستيا وإلاَّ لا يمكن أن تحسب إفخارستيا
“عشاء الرب”.

في
هذا التقرير الحدسي (التنبُّؤي) عن الليتورجية القبطية الأُولى المسلَّمة من
تلاميذ أُورشليم والمعتبرة أنها ليتورجية الممارسة الأُولى للكنيسة، سواء في
أُورشليم أو مصر:

1
نجح
ليتزمان في إعطاء أهم ملامح صورة إفخارستية عشاء الرب المحفوظة في مصر (في البند
رقم: “ أ ”) الذي يقول فيه إنها كانت “بدون رواية” أي لا تقوم
على وصف ما قام به المسيح أثناء تأسيس السر).

2
ولكن لمَّا
بدأ ليتزمان يتدرَّج في وصف هيكل الإفخارستيا العام خرج عن الحقيقة عندما قال في “ب”
إنها تبدأ بالحوار المعروف [الرب مع جميعكم
ارفعوا
قلوبكم
فلنشكر
الرب]، لأن هذا الحوار مستحدث في الإفخارستيات المتطوِّرة، وهو مأخوذ أصلاً من
بداية الأغابي
([6]) فلمَّا
رُفِعَتْ الأغابي من أمام الإفخارستيا، التزم واضع الإفخارستيا المتطورة أن يضيف
إليها في البداية حوار الأغابي.

أمَّا
إفخارستية أُورشليم التي احتفظت بها مصر، فهي غير متطوِّرة، فمن غير المعقول أن
تأتي فيها صلاة الإفخارستيا (الشكر) في البداية، بل يتحتَّم أن تأتي في مكانها
الأصيل على الكأس، لذلك وجب أن لا يكون فيها هذا الحوار الذي هو بادئة صلاة
الإفخارستيا.

3
كذلك عندما
يتكلَّم ليتزمان عن المقدِّمة التي تأتي بعد [مستحق وعادل] فهو يسترسل في وصف
الليتورجيا المتطوِّرة، وهذا لا ينطبق على ليتورجية أُورشليم البدائية.

4
أمَّا عن
التسبحة الشاروبيمية
Sanctus فهي جزء أصيل من خدمة الصباح والمساء في السيناجوج (المجمع) أصلاً
وليست من صميم جسم الإفخارستيا، وهي لم تدخل الليتورجية المصرية إلاَّ في
الإفخارستية المتطوِّرة التي التحمت بخدمة الصباح.

وليتزمان
نفسه يقرِّر ذلك في موضع آخر بقوله:

[الطقس
المصري الأكثر بداءة كان يخلو من كل من مقدِّمة التسبحة الشاروبيمية والتسبحة
ذاتها.]
([7])

5
أمَّا من
جهة الاستدعاء فهو أصيل فعلاً في ليتورجية أُورشليم بلا نزاع، ولكن ليس هذا مكانه،
فهو لا يأتي قبل البدء بالإفخارستيا بأي حال من الأحوال.

6
وبخصوص وضع
القرابين على المذبح كونه بحد ذاته يجعل الخبز والخمر ذبيحة، هذا خارج عن المنطق
التقليدي الليتورجي جملة وتفصيلاً سواء المنطق اليهودي أو المنطق المسيحي على السواء.
وإن كان ليتزمان يقول هنا تحت رقم “ه” إن الذبيحة تنحصر في وضع القرابين
على المذبح والصلاة التي تُقال عليها، فهو هنا لا يحدِّد ما هي هذ الصلاة. كذلك
فإنه في أماكن أخرى من أبحاثه يقرِّر أن من خصائص التقليد الليتورجي الشرقي أن بمجرَّد
وضع الخبز والخمر علىالمذبح يصيران ذبيحة
([8]).

ولكن
سيتبيَّن في الصفحات القادمة ما هو وضع القرابين على المذبح وما يحمله من طقس
ليتورجي كامل.

7
في
أرقام “ و ”، “ ز ”
يرى ليتزمان أن الليتورجية المصرية
الأُولى المسلَّمة من أُورشليم سقط منها التذكار، أي لا يذكر فيها “اصنعوا هذا لذكري”.
كذلك لا يذكر فيها موت الرب، أي “كلما أكلتم من هذا الخبز وشربتم من هذه الكأس
تبشرون بموت الرب إلى أن يجيء”.

والصحيح
في ذلك هو أن التذكار
Anamnesis هو من أهم خصائص الليتورجية المتطوِّرة؛ أمَّا ليتورجية أُورشليم
فهي لا تصف موت المسيح ولا تذكره بالكلام، وذلك لأنها ليتورجية عملية. فهي ليست
“تذكار عشاء الرب” بل “عشاء الرب”، وليست وصفاً وبشارة كلامية بما تمَّ على
العشاء من جهة تذكار الرب بل هي بحد ذاتها “ذبيحة المسيح الحية”، وهي بحد ذاتها
“فعل” تذكار وليست “كلمة” تذكار، وهي بحد ذاتها إنجيل “يؤخذ”
وليست بشارة
تُقال.

8 رقم “ح ”. يقول ليتزمان أن التذكار دخل الليتورجيا المصرية المسلَّمة من
أُورشليم في عصر متأخِّر.

ولكن
الصحيح في ذلك أنه لم يدخل هذه الليتورجية البدائية أي تذكار، وظلَّت كما هي حتى
اليوم كما هو مبيَّن في الجدول صفحة 22.

أمَّا
دخول التذكار فكان في الليتورجيا المتطوِّرة ومنذ البدء أيضاً، وذلك كشرح موضوعي
لإفخارستيا التقليد الأُورشليمي الأَولي.

9
رقم “ط”: يقول
ليتزمان أن بهذا أصبحت ذبيحة العشاء في ليتورجية مصر المسلَّمة من أُورشليم صورة
لذبيحة الجلجثة.

والصحيح
أنها ليست صورة لذبيحة الجلجثة بل ذبيحة الجلجثة إنما في “سر”.

والسبب
المباشر الذي جعل ليتزمان يخطئ في هذا معتبراً أنها مجرَّد صورة هو بالطبع ما جاء
في ليتورجية سيرابيون عند قوله في تقديم الخبز “مثيلاً للجسد المقدَّس”،
وعند تقديم الكأس “مثيل الدم”، وعند ذكر موت الرب يقول: “نصنع مثال
موته”.

ولكن
فات على ليتزمان أن ليتورجية سيرابيون بجملتها هي ليتورجية متطوِّرة أي وصفية، فهي
تصف ما تمَّ في العشاء في التقديم الصامت. أمَّا فعل التقديم نفسه فواضح
أنه يقوم على أساس تقديم جسد المسيح ودم المسيح، أي تقديم ذبيحة الجلجثة ذاتها
للآب. فواضح جدًّا في قداس القديس باسيليوس أن القداس يبلغ ذروة معناه وقيمته
العملية والروحية في قوله: [نقدِّم لك هذه القرابين التي لك على كل حال ولأجل كل
حال وفي كل حال.] (مقدِّمة الاستدعاء)

وليس
أدل على ذلك من قول سيرابيون: [ونحن إذ نصنع مثال موته، نقدِّم هذا الخبز ونتضرَّع
إليك أن بهذه الذبيحة تتصالح معنا كلنا وتكون معنا رحيماً أنت الإله
الحقيقي]. وهل يمكن أن تكون هناك ذبيحة للمصالحة مع الآب إلاَّ ذبيحة الجلجثة؟
أمَّا أي صورة لذبيحة الجلجثة فهي لا تصلح قط للمصالحة مع الله الآب. ولا ينبغي أن
يغيب عن بالنا قط أن المسيح لمَّا أخذ “الخبز” وباركه وقسمه، قال: خذوا هذا هو
“جسدي المكسور لأجلكم”.

والقديس
سيرابيون لم يضع بنفسه هذا النص الإفخارستي، فهو تقليد رسولي احتفظت به مصر منذ
البدء، نقرأه بغاية القوة والوضوح في كتابات أوريجانوس: [إن المسيح هو الكاهن
الحقيقي الذي دمه جعل الله يتعطَّف علينا، ويصالحنا مع الآب، وأن هذا التذكار
(الإفخارستيا) وحده هو الذي جعل الله يتعطَّف على الإنسان.
]
([9])

10
رقم “ي”:
وسؤال ليتزمان بخصوص الليتورجية المصرية البدائية المسلَّمة من أُورشليم
واندهاشه من خلوها من أية إشارة للعشاء الأخير وموت الرب، فالرد على ذلك أنها ليست
ليتورجية متطوِّرة عن العشاء الأخير حتى تلتزم بالإشارة إلى مصدرها التي أخذت عنه،
بل هي نفسها العشاء الأخير، وذلك باعتبار حضور الرب فيها. فالعشاء الأخير أصبح
حدثاً إلهياً موروثاً في الكنيسة، لا كتراث يوصف، بل كحقيقة حيَّة تُعاش، يؤمِّن
دوامها واستمرارها حضور الرب نفسه كمذبوح وقائم من الأموات. وحضور الرب، فالذي
يؤمِّن وجوده في العشاء هو صلاة الاستدعاء، وصلاة الاستدعاء تقوم على وصية الرب:
» حيثما اجتمع
اثنان أو ثلاثة باسمي فهناك أكون في وسطهم.
«(مت 20: 18).

 

ملخَّص
للأوصاف الصحيحة لإفخارستية أُورشليم البدائية

المحفوظة
في مصر، التي توصَّل إليها ليتزمان

1
إن طقس
أُورشليم المحفوظ في مصر ليس متطوِّراً من العشاء الأخير (لا يعتمد على تسجيلات
الأناجيل عن العشاء الأخير).

2 هذا الطقس هو الممارسة الفعلية لتلاميذ أُورشليم، وقد حُفظ في مصر وحدها
(طقس رسولي).

3
إن التقليد
القديم الذي يقوم عليه هذا الطقس لا يعتمد على الرواية، أي لا يستخدم تلاوة (أي
وصف) الكلمات التي جاءت في “رواية التأسيس” في الأناجيل.

4
يعتمد هذا
الطقس على “وضع” القرابين على المذبح كعمل ذبائحي (على نوع ما).

5
هذا الطقس
لا يستخدم كلمات التذكار.

6
لا يوجد في
هذا الطقس مقدِّمة للتسبحة الشاروبيمية ولا التسبحة نفسها
Sanctus.

7
لا يوجد في
هذا الطقس كلمات للتأسيس أو كلمات للتذكار.

8
إن هذا
الطقس هو الأصل الذي أخذت عنه ليتورجية سيرابيون وغيرها.

أمَّا
علاقة “قداس عشاء الرب” هذا بالأنافورا
أي “قداس
الصعيدة”، فهي واضحة غاية الوضوح في أنافورا سيرابيون، حيث الطقس الذي تقوم عليه
الأنافورا واضح أنه طقس تذكاري
([10])، لأنه
قدَّاس وصفي على أساس أنه سبقه تقديس عملي للقرابين وتمَّ تحوُّلها إلى جسد ودم،
فأصبح قداس سيرابيون (أو أي قداس آخر) هو رفع هذه الصعيدة “رفع الجسد والدم” إلى
الآب. وهذا هو صميم معنى التذكار.

وبهذا
يتراءى أمامنا أن القداس الوصفي كان ضرورة حتمية لتكميل أمر الرب
» اصنعوا هذا [الخبز
المتحوِّل إلى جسد والخمر المتحوِّل إلى دم = قداس عشاء الرب]
ß
لذكري
«[رفع الجسد والدم
إلى الآب تذكاراً حيًّا لذبيحة حية أبدية].

وتأكيداً
لهذا تقول أنافورا القديس غريغوريوس القبطية قبل التقديس وقبل حلول الروح القدس
هكذا: [أنت الذي أعطيتني هذه الخدمة المملوءة سرًّا، أعطيتني “إصعاد جسدك”
بخبز وخمر].

 

العالِم
ريتشاردسن يكمِّل ملامح الصورة التي وضعها

ليتزمان
عن طقس أُورشليم المحفوظ في مصر

جاء
العالِم ريتشاردسن وله نفس اهتمام ليتزمان من جهة الكشف عن الأصول الأُولى
لليتورجية عامة، فقاده البحث هو الآخر إلى أن موطن ليتورجية أُورشليم الأُولى هو
الشرق عامة وليس في مصر وحدها كموطن أصيل لليتورجيا الأُولى. ولكن أبحاثه ركَّزت
على مصر خاصة. فقد أشارت إلى أن أصالة الليتورجيا في مصر تنبع من أصالة موازية
لدراستها للأناجيل المقدَّسة، إذ احتفظت مصر بأصح النسخ وأدقها قاطبة
([11]). وأبحاث
ريتشاردسن ليست مستقلة عن أبحاث ليتزمان، فهي تعتمد عليها اعتماداً كلياً.

يقول
ريتشاردسن:

[إن
التقليد الإفخارستي الأول الذي يبدو متأثِّراً فكرياً بالرمزية من جهة الخبز
والخمر (كمثيلين للجسد والدم) لم يستوطن مصر وحدها، ولكن ظل القوة المسيطرة في كل
الشرق أثناء تطوير الليتورجيا. ومن خصائصه أن التأسيس
Institution فيه ليس هو القطب الموجِّه لليتورجيا، ولا يبدو من سياق الترتيب
أنه ذو أهمية مطلقة. وإن ما ذكر من هذا الطقس يمكن تتبعه من القرن الخامس حتى
القرن الثاني. ومن جهة أخرى، فإن الطقس الروماني قد تأسَّس فعلاً على كلمات
التأسيس التي رتبها الرب، وهو أيضاً له تاريخ يمكن تتبعه عندما ظهر أولاً في القرن
الثاني وإن كان في كثير من عدم الوضوح.

ولهذا
أصبح من الملحّ جدًّا أن نبحث هل يوجد إذن طقس للعشاء من القرن الأول يكون هو الذي
انبثق منه هذان الطقسان؟ الأول حسب جنس الطقس الشرقي، والثاني حسب جنس الطقس
الغربي؟]
([12])

هنا
لا يزيد ريتشاردسن شيئاً على سابقه، ولكنه ينبِّه أن كلا الطقسين الشرقي والغربي
منبثقان من طقس واحد عاش في القرن الأول أي طقس أُورشليم.

كما
يضيف أن ما يفصل طقس الشرق عن الغرب ويجعلهما ذوي جنسين متمايزين هو التأسيس، ففي
الشرق لا يأخذ في الليتورجيا وظيفة التقديس الكبرى، أمَّا في الغرب فكل القيمة
التقديسية في الليتورجيا واقعة عليه.

هذا
في الواقع تمادٍ مبالغ فيه نشأ عن عدم فهم واقع الليتورجيا الأُولى، أي طقس
أُورشليم المحفوظ في مصر، فالتأسيس
أي كلمات
الرب التي قالها على الخبز والخمر
هو، في طقس أُورشليم
أصلاً، مركز التقليد القديم. ولكن لأن الرسل في ليتورجيتهم الأُولى التي بدأوا
يمارسونها في أُورشليم بعد صعود الرب كانوا يمارسونها حسب تقليدهم القديم المعتاد
دون أن يشرحوا أثناء البركة على الخبز والكأس ما شرحه المسيح، ظهرت الليتورجية
وكأنها بدون تأسيس
أي بدون كلمات
الرب 
مع أنهم كانوا يعتمدون في تقديس الخبز
والخمر على حضور المسيح
([13]) الذي يجعل
البركة على الخبز والبركة على الكأس مستمدَّة من العشاء الأخير. بمعنى أن التأسيس
الذي أجراه المسيح في العشاء الأخير هو بحضور الرب ساري المفعول على كل عشاء، فما
عليهم إلاَّ أن يتمِّموا الطقس حسب التقليد القديم ويباركوا على الخبز والخمر فقط.
والرب بحضوره “يجعلهما جسده ودمه كالتأسيس” أو “بمقتضى التأسيس”،
وإلاَّ فلماذا سُمِّي بالتأسيس؟

أمَّا
الاستدعاء فهو أصلاً لحضور المسيح (استدعاء اللوغس حسب الطقس القبطي) حيث حضور
المسيح يتوقَّف عليه تقديس الخبز والكأس، أو بمعنى أوضح يتوقَّف عليه تكميل
“التأسيس” على مستوى العشاء الأخير. أي أن الاستدعاء
Epiclesis
هو لتدعيم التأسيس
Institution فكل اهتمام أو تكرار
للاستدعاء هو مردود لحساب التأسيس وليس محاولة لتجاوز أهميته.

لذلك
اهتم الطقس القبطي بجعل الاستدعاء يأتي أحياناً قبل التأسيس، هذا إمعاناً في
الاهتمام بالتأسيس وضمان وصله بالعشاء الأخير.

ولكن
لم يبدأ الرسل في ليتورجيتهم الأُولى في أُورشليم باستخدام طقس صلاة الاستدعاء
Epiclesis إلاَّ بعد مدَّة طويلة، لأن الرب كان يحضر ويتراءى لهم من نفسه في
الأيام الأُولى. ولمَّا بدأ الاستدعاء بدأ وكأنه نقطة ضعف، لأن الرب وعد أنه سيحضر
من تلقاء نفسه كلَّما اجتمعوا، حتى إلى اثنين أو ثلاثة باسمه! … فلما تعوَّق
سألوه المجيء فكان طقس الاستدعاء.

لذلك
فإن التركيز على التأسيس دون الاستدعاء هو من جهة اللاهوت الليتورجي أعلى إيماناً
وأكثر توافقاً مع وعد الرب، كما أنه أكثر أصالة وقدماً.

ومن
هنا يتلاقى طقس روما مع طقس مصر مع تقليد أُورشليم البدائي. وما ظنَّه علماء
الليتورجيا حتى اليوم أنه نقطة ضعف في طقس روما هو أجلّ وأجمل ما فيه.

ويستطرد
ريتشاردسن مكمِّلاً كلامه:

[على
أنه هناك احتمالان بهذا الخصوص:

الاحتمال
الأول:
أن
التأثير الشديد الذي خلفه العشاء الأخير على المسيحيين ترك انطباعه كتذكار حيّ
دائم سيطر على كل ولائمهم الرسمية التي كانوا يكسرون فيها الخبز، فتكوَّنت عن ذلك
ومنذ البدء وحدة عامة وأساسية لجميع طقوس العشاء بدأوا يلتزمون بممارستها منذ أول
لحظة.

والاحتمال
الثاني:
هو
أن هذه الوحدة (وحدة طقس العشاء) تَحتَّم أن يُنظر إليها من الناحية الروحية
والمضمون، أكثر جدًّا من الشكل أو من التزاماتها المحدَّدة، وهذا يعطي التفسير
المقنع الوحيد لهذه الأصناف المبكِّرة العديدة من الأشكال في الليتورجيا والتي
استقرت أخيراً إلى التفرعين المعروفين جيداً بين ليتورجيات الشرق والغرب.]
([14])

هنا
يقترب ريتشاردسن من الحقيقة ببراعة، فقد وضع يده تقريباً على أصل الليتورجيتين،
فالطقس الأول يتبع تقليد العشاء بالفعل بصورته القديمة المبسَّطة، والطقس الثاني
انبثق من الطقس الأول على أساس مفهومات روحية وجرياً وراء إبراز المضمون، ولكن ليس
كما يظن ريتشاردسن أن الطقس الثاني تحلَّل منذ البدء من الالتزام الشكلي وتجاوز
الالتزامات الطقسية المحدَّدة، بل كان أميناً في البداية لكلا الاتجاهين الروحي
والشكلي، ولكن تعدُّد الليتورجيات في ما بعد جاء نتيجة لعدة أسباب سيأتي عنها
الكلام في ما بعد.

 

ريتشاردسن
يشرح تصوراته من جهة انتقال الليتورجيا

من
طقسها الأُورشليمي القديم إلى الليتورجيا التذكارية:

[لم
يعثر ليتزمان على الجسر الذي يعبر بالطقس الأورشليمي (القديم المحفوظ في مصر) إلى
الطقس التذكاري لموت المسيح الذي دخل الممارسة الفعلية …]

ويستطرد
ريتشاردسن قائلاً:

[ولكن
الجسر بين الطقسين موجود وهو تحت أيدينا في وثائق القرن الثاني (إفخارستية
الديداخي، ومقولات يوستين وكليمندس الإسكندري … إلخ) التي تحمل بداية حركة النمو
في كلمات وتعبيرات التأسيس
Institution، وحيث لم يكن قد تركَّز بعد مفهوم الطقس على أساس ذبيحة الصليب.
وهذا التدرُّج واضح من التعبيرات التي جاءت بخصوص أكل الخبز هكذا:

(أ)
“نأكل خبز المسيح” (في البدء جداً)

(ب)
“نأكل جسد المسيح” (يوستين)

(ج)
“نقدِّم جسد المسيح” (كبريانوس)

وفي
يوستين ينكشف التدرُّج في مراحل العبور من الطقس الأول الأورشليمي.

أمَّا
الفكرة التي بدأت تعبر بها الليتورجية من الطقس الأول للثاني، فهي تقوم على
التحوُّل من مجرَّد تكرار اعتيادي لعشاء الرب إلى عشاء أكثر انتظاماً يقوم على بث
الذكريات الحية والرجاء الكبير الذي كان يتحرَّك في قلوب التلاميذ، حيث كانت أفكار
التلاميذ الأوائل التقوية مشحونة بتطلُّعات عن استعلان الرب، وليمة المسيَّا،
أكل الخبز في ملكوت الله،
وقد انطبع في ذهنهم منظر المسيح وهو جالس على رأس
المائدة ليلة العشاء،
وغير ذلك (مما يخص الإفخارستيا).

ثمَّ
بعد انتقال التلاميذ الأوائل، تبلورت هذه الأفكار في ثلاثة أمور أساسية قيادية “الموت”
و“القيامة”
و“استعلان ظهوره”. أمَّا الغرب فالتصق “بالموت والقيامة”،
وأمَّا الشرق فتركِّز على استعلان ظهوره.]
([15])

لقد
تعذر على ليتزمان العثور على الجسر الذي يمثل انتقال ليتورجية أُورشليم البدائية
والتي كان
يعتقد خطأ أنها بخبز فقط وبدون كأس، وقد خلط في ذلك جميع العلماء قبله وبعده بين
كسر الخبز اليومي الذي كان بمثابة “وليمة محبة فقط” وبين وليمة مساء السبت أي
“عشاء الرب” الذي كانوا يجتمعون فيه معاً لغرض كسر الخبز والشكر على
الكأس في احتفال مساء السبت
(أي يوم الرب). ويكفينا برهاناً على ذلك استخدام
الديداخي لاصطلاح “كسر الخبز” على إفخارستية يوم الرب الرسمية. تقول الديداخي هكذا:
[أمَّا يوم الرب (كرياكين) فهو لما للرب خاصة (كيريو) اجتمعوا فيه لتكسروا
الخبز
ولتصلّوا الإفخارستيا بعد ما تعترفون بخطاياكم، لتكون ذبيحتكم
طاهرة]([16]) نقول إنه تعذَّر على ليتزمان العثور على الجسر الذي يمثل انتقال
ليتورجية أُورشليم البدائية إلى ليتورجية “التذكار” كما يسميها.

وهنا
يبتدئ ريتشاردسن يصف تصوره أنه عثر بالفعل على مرحلة الانتقال هذه في تسجيلات
الديداخي ويوستين ومقولات من كليمندس الإسكندري، وكل تصور ريتشاردسن يتركَّز في أن
الليتورجيا الأُولى لأُورشليم كانت بدون كأس (أي إفخارستيا بدون الدم) وأنها كانت
عبارة عن “كسر الخبز” فقط، وأنها كانت تخلو من عقيدة جسد المسيح ودمه أو حتى موت
الرب، وأن هذه كلها استحدثها بولس الرسول ومن بعده يوحنا الرسول … إلخ
([17]).

وقد
تباعد ريتشاردسن
وغيره إلى أقصى
حد عن حقيقة كنيسة الرسل الأُولى التي كانت تعيش في ملء هذه الحقائق، ولكن لم
تسجلها الإفخارستية الأُولى، أمَّا كل ما طرأ على الليتورجيا في الفترة الأُولى
فهو نمو في الشجاعة على تسجيل هذه الحقائق داخل الليتورجيا، وليس نمواً في العقيدة،
من جهة ماهية الخبز الإفخارستي والخمر الإفخارستي.

نقول:
نمو في الشجاعة والإلهام على قدرة إدخال تعبيرات جديدة على الليتورجيا الموروثة،
لأن الاستحداث على الطقس والتقليد أمر من أخطر ما يكون على المسئولين.

لقد
“ولد” العشاء الأخير كاملاً في مساء الخميس أقصى ما يكون الكمال من جهة المفهوم
اللاهوتي لسرّ الإفخارستيا “هذا الخبز هو “جسدي” وهذه الكأس هي
“دمي الذي للعهد الجديد” اصنعوا هذا لذكري”.

فمَنْ
ذا الرسول الذي لا يفهم من هذا وبعد أن ذُبح المسيح أمام أعينهم على الصليب في
اليوم الثاني أن المسيح سبق واستودع الخبز والكأس سر موته عنهم، بل ذبيحة خلاصهم،
بل سر حياتهم وفرحهم وتسبيحهم ورجائهم، بل سرّ وجوده الدائم معهم ورجائهم الحي
باستعلان مجيئه؟ وسلوك التلاميذ والمؤمنين الأوائل أثناء تناول سرّ العشاء يشهد
أنهم كانوا يعيشون هذه الحقائق؟

ولكن
ينبغي أن نفهم أن الرسل استلموا ليتورجية طقسية بحسب تقليد آبائهم، وحدث في مساء
الخميس أن المسيح سجَّلها لتكون ليتورجية العهد الجديد [اصنعوا هذا لذكري]. فصارت
بكل دقائقها القديمة وليمة العهد الجديد وصارت عندهم مقدَّسة أكثر من مقدَّساتهم
الأُولى. ولكن حدث أيضاً مساء الخميس أنه استودع الطقس معاني جديدة لم تكن موجودة
ولم تكن تخطر لهم على بال، هذه بدأوا
يتفهَّمونها ويسترجعونها في أذهانهم منذ صعوده ومنذ حلول الروح القدس عليهم شيئاً

فشيئاً.

ولكن
كان عليهم أن يمارسوا الطقس في البداية دون أي تغيير، ولكن ماذا عن المعاني
والمفهومات الجديدة؟

هنا
بدأت الليتورجية القديمة أمام أعينهم تحتاج إلى كثير من التوضيح والشرح والتعليق
بكلمات واصطلاحات وصلوات وحركات حتى تستكمل في أعين وأذهان المؤمنين الجدد من
الأُمم ماذا كان العشاء الأخير وماذا يُفهم منه.

هنا
التزم الرسل التزاماً ببدء التغيير، وما أشق التغيير والإضافة على التقليد:

1
حسب
التقليد اليهودي القديم كان خبز البركة وكأس البركة عبارة عن أكل في حضرة الله
لتذكار عهود الله في القديم والشكر عليها وطلب دوامها وتحقيق ما بقي منها.

2
ثمَّ تقليد
المسيح في عشاء الخميس كان هو نفس التقليد القديم. ولكن أصبح خبز البركة جسد
المسيح وكأس البركة دم المسيح، والأكل منهما هو اعتراف دائم وبشارة مستمرة بموت
الرب إلى أن يجيء. لم يَرَ التلاميذ أن هذا التقليد الجديد يتنافى أو يلغي التقليد
القديم، ففي البدء جدًّا أقاموا التقليد القديم كما هو، ولكن تولوا شرح معناه
الجديد وما تمَّ فيه ليلة العشاء الأخير، ولكن خارجاً عن الطقس.

3
ثمَّ
تشجَّع التلاميذ بإلهام الروح القدس وبدأوا يضعون على أساس التقليد القديم تقليداً
جديداً يشرح كل ما قاله المسيح، بل كل ما أكمله على الصليب وفي القبر والقيامة
والصعود وكل مواعيده، من داخل الليتورجية ذاتها. فبقي التقليد القديم الذي مارسوه
في بداية حياتهم المسيحية جنباً إلى جنب مع التقليد الجديد الذي صبغوه بالعقيدة
المسيحية.

والآن
إذا تجاهلنا وجود التلاميذ وتجاهلنا قدراتهم اللاهوتية وتجاهلنا أمانتهم للتقليد
القديم ومعرفتهم بالأناجيل التي كتبوها، التي تُبرز أمام أعيننا مقدار الإلهام
الذي أدركوا به كل المعاني الإلهية التي وراء العشاء الأخير، ثمَّ بدأنا بدونهم
ندرس النصوص الليتورجية التي وصلتنا من الديداخي ويوستين الشهيد وإيرينيئوس
وكليمندس الإسكندري وغيرهم، فماذا سنجد؟ سنجد النصوص الأُولى خالية من أي ذكر
للجسد والدم أو موت الرب، وبعدها نجد نصوصاً بدأ فيها الإعلان بوضوح عن الجسد
والدم، ثمَّ بدأ التعبير عن موت الرب، ثمَّ التلميح على أن الخبز والخمر يمثلان
الذبيحة على الصليب، ثمَّ بشجاعة أكثر أن الخبز والخمر هما ذبيحة الصليب.

هذا
التدرُّج في التسجيل الليتورجي عن الحقائق اللاهوتية لا يمثل بأي حال من الأحوال
تدرجاً في عقيدة الرسل بخصوص الإفخارستيا، وإنما يمثل تدرُّجهم في القدرة على
اقتحام الطقس القديم وتدرُّجهم في الشجاعة على استحداث تقليد آخر مسيحي غير
التقليد اليهودي الذي استلموه وعاشوا فيه!!

ويقيناً
إن ما سجَّله الرجال الكنسيون والأساقفة المتأخِّرون من بعد الرسل لم يكن سوى
تقليد شفاهي رسولي استلموه بالتعليم أولاً، ثمَّ تشجَّعوا هم بدورهم واستودعوه
داخل الليتورجيا، أي أنه رسولي أيضاً.

وهكذا
نضع أساس دراستنا لليتورجيا في ما يختص بنموها وتطورها لا على أنه نمو وتطوُّر في
العقيدة والإيمان في ما يختص بالإفخارستيا، وإنما نمو في التسجيل ونمو في القدرة
والإلهام الكنسي على استكمال التقليد الموروث كتابة، وما أصعب ذلك!

والآن
نعود إلى ريتشاردسن في القول السابق:

فقد
أصاب الحقيقة بصورة رائعة عندما قال: [أمَّا الفكرة التي بدأت تعبُر بها
الليتورجيا من الطقس الأول (الأورشليمي) إلى الطقس الثاني (التذكاري)، فهي تقوم
على التحوُّل من مجرَّد تكرار اعتيادي لعشاء الرب إلى عشاء أكثر انتظاماً يقوم على
بث الذكريات الحية والرجاء الكبير الذي كان يحرِّك قلوب التلاميذ، حيث كانت أفكار
التلاميذ التقوية مشحونة بمواضيع استعلان الرب، ووليمة المسيَّا، وأكل الخبز في
ملكوت الله، ومنظر المسيح على رأس المائدة ليلة العشاء.
إلخ …]

هنا
في الواقع يعطي ريتشاردسن تصوُّراً صادقاً لليتورجيا الأُولى، ليتورجية أُورشليم
البدائية حسب النص التقليدي القديم الذي مارسه الرسل مع المسيح في العشاء الأخير. إنها
عشاء تقليدي يتكرَّر ولا يحمل تعاليم الرب الإفخارستية. ثمَّ يعود ويتصوَّر أن
الذي دفع التلاميذ إلى بدء وضع ليتورجية متطورة عن الأُولى هو المفهومات اللاهوتية
التي ملأت قلبهم وذهنهم والتي استوحوها من العشاء الأخير وكلمات الرب معهم على
العشاء
والنبوات السابقة المنطبقة على ما قاله وما عمله المسيح في العشاء
الأخير. وهذا حق تماماً.

ثمَّ
يعود ريتشاردسن ويلقي بالضوء على عملية النمو بعد رحيل الرسل، إذ يتصوَّر أن بعدما
استودع الرسل مفهوماتهم في الليتورجيا
بقدر ما
أسعفتهم تقاليدهم
جاء جيل لاحق الأساقفة
الأوائل
وبدأ يبلور
تعاليم الرسل، حيث استقروا في جعلها تتركَّز في ثلاث حقائق أساسية: “الموت
والقيامة واستعلان ظهوره”.

ولكن
الحقيقة أن التطوُّر في الإفخارستيا لم يكن في المعاني اللاهوتية التي تتضمَّنها
الإفخارستيا ولكن في الجرأة والقدرة على التعبير عن هذه المعاني، كما يقول العالِم
جريجوري دكس:

[مع
دخول القرن الرابع لم يعد طقس الإفخارستيا محصوراً في صلاة واحدة فقط
صلاة الشكر
بل بدأت
تضاف إليها صلوات أخرى لم تدخل بالضرورة ضمن صلب “صلاة الشكر”، ومن هذه الإضافات
صلاة “التقديم
offertory”. فهذه صارت تعبِّر بالكلمات عن المعاني التي كانت الكنيسة
الأُولى في ما قبل نيقية تكتفي بممارستها عملياً بدون كلمات. كذلك في زمن سابق
أُضيفت صلوات القسمة والتناول لتعبِّر عمَّا كانت الكنيسة تعيشه في ما قبل
عملياً
حيث كانت الأفعال تنطق من ذاتها بدون كلمات.]
([18])



اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى