علم المسيح

الجلجثة



الجلجثة

الجلجثة

. لقد
ورد في الأناجيل الأربعة اسم الموضع الذي اقتادوا إليه يسوع لتنفيذ العقوبة، فهو
موضع “الجمجمة”، وقد جاء في ثلاثة منها (إلا لوقا)، ترجمة اللفظة باللغة
العبرية: ” الجلجثة” وهي تشير إلي مرتفع أجرد، شبيه بالجمجمة الصلعاء.
ونفهم أنهم إنما اختاروا أكمة عند باب المدينة، تقيداً بالشريعة الموسوية القديمة
القاضية بتنفيذ أحكام الإعدام في منتهى العلن “فيسمع كل إسرائيل ويخافون ولا
يعودون يعملون مثل هذا الأمر الشرير..” (تثنية 13: 11)، وكانت الأكمة من
الارتفاع بحيث يبرز فيها المعاقبون لأعين النظارة، ولكن لا بحيث تتعسر عليهم مهمة
الصلب

 

وكانت
العادة، عهد ذاك، ما هي اليوم في كثير من البلاد، ولا سيما في الشرق، أن تقام
مدافن عند أبواب المدن، فكانت أحكام الإعدام، في معظم الأحيان، تنفذ ما بين
الرموس. أو لم تكن الجلجثة علي بعد خمسة وعشرين متراً تقريباً من الموضع الذي كان
فيه مدفن ليوسف الرامي؟ يجب أن تتمثل الجلجثة واحداً من تلك المواقع المشؤومة التي
يحوم فوقها شبح الموت، وتستطع فيها روائح الجثث، وتحلق فوقها العقبان، مترصدة من
فرائسها آخر نسمة من الحياة..

 

يقع
المقام الذي نجل فيه اليوم ذكري وفاة المسيح، في الركن الشمالي من أورشليم، خارج
منطقة الأسوار القديمة، ولكن داخل تلك التي رفعها هيرودس أغريبا الأول، بعد ثلاثين
سنة. وقد جاء في تقليد أن هدريان، عندما جدد – سنة 105 م – بناء المدينة التي
دمرها تيطس، جعل من الجلجثة مقاماً لعبادة الزهرة، وغرس فيها أجمة مقدسة لعبادة الأوثان..
هل لبثت ذكري الموضع الصحيح محفوظة عند أحفاد قتلة المسيح؟ في الجيل الرابع، عندما
قرر قسطنطين (2) وهيلانة إكرام الأماكن المقدسة، شيدا كنيستين: إحداهما فوق القبر
المقدس، والأخرى عند الموضع الذي وجد فيه الصليب، وبقيت، إذ ذاك، الجلجثة في
العراء. وبعد مدة طويلة، بنى الصليبيون الكنيسة الحالية، شاملة المقامات الثلاثة،
وهي بناء مختلط الهندسة، روماني مشرب بعناصر الفن العربي. وقد أثبت تاريخية الموضع
رجال ثقات من الأثريين. وإلي يسار الكنيسة يقوم ركن صغير عابق بروائح الشموع: هو
اليوم ما صارت إليه الجلجثة..

 

. لابد
من الإقرار بأن حجاج الأماكن المقدسة قد اعتادوا أن يتصوروا الجلجثة شبه أكمة،
وذلك بسبب تراث فني أثبته مئات الرسامين، فلابد أن يفاجئوا إزاء تلك الكتلة
الصخرية، تحضنها جنية منخفضة، يصار إليها بدرج بدائي، تحت صفوف من القناديل الفضية
والسرج الحمراء، ويزين فسحتها رخام فاخر، ويتلاصق عند جدارها الخلفي ثلاثة هياكل
مرصعة بالحجارة الكريمة، ويشير إلي الموضع الذي انتصب فيه الصليب، مجنب كبير مغشي
بالذهب، يتألق فيه ألف شعلة، ويعلوه مصلوب فخم، تتلألأ فوقه، بسني الألماس، اللوحة
المشينة التي كتب عليها بيلاطس “ملك اليهود!”.. إن المرء ليحتاج إلي جهد
عظيم لكي تقع في نفسه تلك الأبهات المستهجنة. ففي الجلجثة، كما في موضع قريب من
تلك المدينة الحافلة بالذكريات التاريخية، باتت التقوى المسيحية، بغلوائها، عائقاً
دون رؤية المسيح. ولكانت أمست عقبة عصية، لولا ما يصادف، في تلك الجموع الزاحفة
علي ركبها فوق المعارج الرخامية، من وجوه مشرقة بضياء راهن من الإيمان والمحبة

 

سلام
أيها الصليب

. لقد
استنبطت الإنسانية، لتنفيذ ما تدعوه بقرارات العدالة، أصنافاً كثيرة من الأعذبة
الهائلة، حيث لا تراعي رغبة الاسترداع والتمثيل المروع، ولا ضرورة التكفير العادل
عن الذنوب المرتكبة، بقدر ما تراعي سادية الجماهير ومخيلة الحكام المنفلتة. إن
قافلة المحكوم عليهم، عبر التاريخ، طويلة جداً، وليس فيها ما يشرف الإنسان: فهناك
الذين عذبوا بالدولاب فأوثقت أطرافهم إلي قضبان الحديد، والذين تفصلت أعضاؤهم بشد
الجياد، وهناك الذين بقروا بموجب شرع كلوفيس، والذين ألقوا في حفر مملوءة بالأفاعي
والحشرات القاتلة، بموجب القانون الجرماني، والذين أوغروا في الماء الساخن،
وأغرقوا في الوحل، ووئدوا.. إنهم أكثر من أن يحصوا!. ولقد يتخيل المجتمع المعاصر
أنه، بمقاصله ومقاعده الكهربائية، قد أحرز تقدماً حيث أنه لم يضيف، ربما، إلا
وحشية آلية. أما اليهود فكان من أهم أعذبتهم الرجم، ينهالون فيه علي المذنب
بالحجارة، إما قذفاً عنيفاً وإما دحرجة، والنار يذخرونها لفئة معينة من الآثمين
كالذي ثبت عليه ذنب الزنى مع حماته، والبغي إذا كانت من سبط كهنوتي، وأخيراً قطع
الرأس، يعاقبون به عباد الوثن والمارقين. وكانوا يضيفون إلي ذلك أحياناً بعض
التنويعات الهائلة، كالرصاص المذوب في الحلق، وقد جاء عنه في التلمود أنه
“يحفظ الجثة من العطب”

 

!
وأما الصلب فلم يكن عقوبة يهودية بل رومانية. بل يذهب إلي أنه قد استنبط في الشرق
– ربما في بلاد فارس – وشاع عند الفينيقيين والقراطجة قبل أن ينتقل. في عهد غابر،
إلي العالم اليوناني. وأما في اليهودية فقد أخذ به الأشمونيون أخذاً واسعاً. ويعرف
عن إسكندر جانيسيس (103 – 76). أحد أبناء يوحنا هيرقان، أنه عمد إلي هذه العقوبة،
لقمع فتنة قام بها الفريسيون. ولقد حفظ التاريخ صورة ذاك المليك العاتي، وهو يولم
ما بين سراريه، وحيال عينيه، عند شرفة القصر، ست مائة صليب بضحاياها. وقد عمد
الموفد الروماني فاروس، هو أيضاً. بعد وفاة هيرودس الكبير، إلي صلب ألفي يهودي.
وكانوا ينفذون عقوبة الصلب في النساء أيضاً، ولكنهن، بعكس الرجال، كن يصلبن ووجوهن
إلي الخشبة، احتشاماً.. لقد كان الصلب إذن عقوبة جارية، ولم يكن لأحد أن يستغرب
تنفيذها في أحد العصاة المجدفين

 

. لا
سيما أنهم كانوا يتبينون فيها غاية إذلالية صريحة. وقد ذهب “رينان” إلي
أن الغرض الأول من الصلب لم يكن القتل، بل عرض العبد المذنب، معلقاً بيديه ورجليه،
لأنه لم يحسن استعمالها. وقد عرف الإسرائيليون، منذ زمن بعيد، تعليق أجساد
المذنبين علي الأعواد. (سفر العدد 25: 4، تثنية 21، يشوع 10: 26). وعلي كل فقد كان
الصلب، في روما، ميتة محفوظة للأرقاء ورعاع اللصوص وأهل الريف. ومن اجترأ من
الحكام علي صلب مواطن روماني، عد مجرماً.. وذلك ما كان “شيشرون” قد قرف
به “فريس” تقريفاً غير يسير

 

.
وكان الصلب، بإجماع الرأي، يعد ميتة مرعبة. ” عقوبة غاية في القسوة
والهول”. علي حد قول “شيشرون”. فالجسد المعلق علي الخشبة كان ينقبض
في توتر شامل، وتلتهب الجراح، وتحتقن الرئتان والقلب والرأس، ويستولي علي المصلوب
أزم شديد، ويجتاحه أوار لاهب، ويمسي الجسم كله كتلة موجعة. وأهول من ذلك كله أن
العذاب ربما استمر طويلاً إذا كان المصلوب قوي البنية. وقد روي
“هيرودوتس” و”يوسيفوس” أن بعض المصلوبين قد استعادوا الحياة
بعد أن قضوا علي العود بضع ساعات. وذكر “بترون” أن الموت قد يمهل
المصلوب، في عذابه، ثلاثة أيام.. ومن ثم فقد بات مفهوماً أن يرتعد المرء لمجرد
فكرة الصليب. وجاء في تاريخ “إفلافيس يوسيفوس” أن الخوف من تلك العقوبة
المقيتة هو الذي أدي إلي استسلام قلعة ماخيرونتس، إبان الحرب اليهودية: وكان
الرومان قد اعتقلوا “اليعازر”، زعيم المقاومة، وتظاهروا بصلبه علي مشهد
من الأسوار، فسارع رفاقه إلي تسليم الحصن، إشفاقاً علي زعيمهم من ذاك الهول

 

. إن
لفظة “
Crux
في اللاتينية، كانت تشير إلي خشبة أو شبه عامود، وتشمل بمعناها مدلولاً أوسع من
مدلول الصليب المألوف بخشبتيه المتعارضتين، وربما كان مجرد وتد تشد إليه الضحية،
ويداها موثقتان من وراء الخشبة، فهو، إذ ذاك، “الصليب” البسيط الذي عمد
إليه جملة من الرسامين في تصوير المجرمين اللذين صلبا مع المسيح. إلا أن تلك
الآلة، في معظم الأحيان، كانت تجهز بعارضة أخري مثبتة إما في قمة العامود (بشكل
T) وإما بعد القمة مسافة يسيرة، وهو الصليب المتداخل المعروف، وهناك
أخيراً الصليب الأزور، ذو العارضتين المتساويتين المتواربتين (في شكل
X): ويعرف “بصليب القديس أندراوس” إذ يقال أن شقيق الرسول
بطرس قد لقي حتفه عليه. وتذهب أوثق التقاليد إلي أن صليب المسيح هو الصليب
“المتداخل” المعهود. وقد أشار القديس إيراناوس، إلي أطرافه الأربعة.
وإنما يبدو – خلافاً لما تصوره كثير من الفنانين – أن الصليب لم يكن علي ارتفاع
كبير (مقدار قامة الإنسان مرة ونصفاً) وإلا لأمست مهمة الصلب علي جانب كبير من
الوعورة. وأما مرتكز القدمين (وقد جاء به تقليد فني قديم لأسباب تيسيرية جمالية)
فليس له أي نصيب من التاريخية، بل ولا من الاحتمال. ولكنهم، عوضاً عن ذلك، كانوا
ينفذون شبه ركيزة (أو مقعد) ما بين فخذي المصلوب، لئلا تتمزق اليدان تحت وقر
الجسد. فكانت مبعث ألم شديد وقد وصف “ترتليانس” ذاك المتكأ مشبهاً إياه
بقرن الكركدن

 

. من
العبث أن نتساءل من أي خشب اتخذ الصليب الذي هلك عليه المسيح، فإن ما نملك من
بقاياه، هو أبعد من أن تثبت له صحة لا تنازع. وقد قال “كلفينس”:
“لقد أمست أخشاب الصليب من الكثرة بحيث لو جمعت كل “الذخائر”
المكرمة في أنحاء الدنيا، لاجتمع منها حموله سفينة كبيرة”. وإنما ذلك ضرب من
التفخيم! وقد ذكر “دي فلوري “في كتابه “مذكرة في آلات استشهاد
المسيح”. أن مجموع بقايا الصليب المعروفة تعادل 4 ملايين مليمتر مكعب. بينما
يساوي حجم الصليب الواحد، بطول ثلاثة أمتار 178 مليون مليمتر مكعب!.. وقد أدي
الفحص المجهري الذي عولجت به البقايا المحفوظة في كاتدرائية بيزا، وكنيسة فلورنسا،
وكاتدرائية باريس. وكنيسة الصليب المقدس في أورشليم، إلي أن الصليب قد اتخذ من خشب
الصنوبر. وأما المسامير التي ثقبوا بها “يديه ورجليه” علي حد ما جاء في
المزمور النبوي (22: 17)، فليس من شك أنها من تلك الأسنة الطويلة التي كان
النجارون يستصنعونها لتثبيت العضائد

 

. ذاك
كان الصليب، وتلك كانت العقوبة التي هموا بها علي ذاك الذي، سحابة الحياة، ما نطق
إلا بكلمات الرحمة والمحبة. ولا يستطيع العقل، حيال هذا الجور، إلا أن يستحوذ عليه
هول مقدس. ونفهم لماذا أبي المسيحيون، مدة طويلة، أن يمثلوا يسوع في ذاك الوضع
المنكر، وكانوا قد رأوا بأم العين جثث المصلوبين وقد تدلت علي الأعواد موترة مشوهة!
وقد ألغي “قسطنطين” عقوبة الصلب، تورعاً، فجاء بذلك مأثرة ذات وقع جميل

 

!
وأما المسيحية فقد اتخذت من آلة الخزي شعار عز وفخار. وقد أضحي هذا الانقلاب
العجيب في مدلول الرمز، إشارة بليغة إلي ذاك الانقلاب المسلكي الذي نادي به
المسيح. فالظافر إنما هو ذاك الذي يبدو، في الدنيا، محكوماً عليه بالفشل. والسعيد
إنما هو المسكين والمخذول. فالمساكين في الروح، والذين غصت حياتهم بالدموع، هم
الفائزون بالسعادة المقيمة. وهكذا أضحي الصليب – أحقر آلات العذاب – عربوناً
لمواعيد الخلود! خشبتان مضمومتان فوق جدران غرفة، أو خطان مرميان علي عجل، بين
رسوم الدياميس، وإذا الحقيقة المسيحية كلها ماثلة! أجل لقد أصبحت تلك العلامة
الحقيرة واحداً من أعظم أحداث الحضارة

: قال
شاعر قديم، منشداً

“سلام،
أيها الصليب،

الأمل
الأوحد،

!
الشجرة الكريمة العجيبة التي تزين أرجوان الملوك

. أنت
يا من حظي عوده بأن يلمس تلك الجوارح المقدسة”

.
“إن سر الصليب يتألق حيث ماتت الحياة ويموتها استعيدت الحياة!”

..
“طوباك أيها الصليب: فإن فدية القرون منوطة بذراعيك!

أنت
الميزان الذي زين به الجسد! أنت غلاب الجحيم!..”

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى