علم الانسان

تقديس الحاضر



تقديس الحاضر

تقديس
الحاضر

الأنبا
مكاريوس – الأسقف العام وأسقف المنيا

الفهرس

1 ما بين الماضي والمستقبل، قد يضيع الحاضر

مقالات ذات صلة

2 ما هو المستقبل بالنسبة لنا؟

3 تقديس الحاضر

4 الأبيقورية

5 مذاقة الأبدية على الأرض

6 خلاص الحاضر

7 مفتدين الوقت

8 ليكن يومك أفضل من الأمس، وغدك أفضل من اليوم

 

1- ما بين الماضي والمستقبل، قد يضيع الحاضر

ما
بين التفكير فى الماضى، والأرق بسبب ما فيه من مريره، وما يصحبه من ندم، وما يترتب
عليه من صغر نفس وشك فى المصداقية.

 

وبين
القلق على الغد، وعدم التأكد من النجاح فيه، والاستمتاع به، وإصابة الاهداف وتحقيق
الامال، وادراك الطموحات:

يضيع
الحاضر

يضيع
الحاضر وهو الاهم.. إذ نملكه، فالأمس مرَّ وافلت منّا بكل ما فيه، وتحوَّل الى
ذكرى.

والغد
كذلك.. لا نملكه.. ولا نعرفه، إذ هو فى فكر الله.

فليتحول
الأمس الى خبرة تفيدنا فى الحاضر.

وليصبح
الغد أملاً مشرقاً وامنيه جميله، وثقه فى ان الله يرتب لنا فيه الخير.

والحدث
هنا عن الحاضر.. إنه اليقين، إن كان هناك يقين غير الله!

فالامس
قد مرّ بكل ما فيه، إن كان خيرا وان كان شرا.. ان كان كسبا وكان خساره، لم يعد سوى
ذكرى.. إن كنا أخطأنا فيه، فقد غفر الله لنا الماضي، ابتلعه لكل ما فيه من شر.. من
خيانة.. من ضعف.. اسدل عليه ستاراً فصار وكأنه لم يكن.. ألم نتب عنه؟! أم نعترف
به؟! إذاً فهو غير باق.. غير قائم ولا سلطان له.. ألم يقل القديس يوحنا سابا
المعروف بالشيخ الروحاني: “إن التوبة تحوِّل الزناة إلى بتوليين”؟! أي
كأنهم لم يخطئوا أصلاً.. “هَلُمَّ نَتَحَاجَجْ، يَقُولُ الرَّبُّ. إِنْ
كَانَتْ خَطَايَاكُمْ كَالْقِرْمِزِ تَبْيَضُّ كَالثَّلْجِ. إِنْ كَانَتْ
حَمْرَاءَ كَالدُّودِيِّ تَصِيرُ كَالصُّوفِ” (سفر إشعياء 1: 18).

 

إننا
لا نستطيع ان نسترجع الماضى، وبالتالى فنحن لا نقدر أن نصلحه، ونعدله. لقد خرج من
ايدينا وصار فى ضمير الزمن..! ولكننا نستطيع ان نجعل اليوم أفضل منه..

 

وفى
محاسبه النفس والتى اعتدنا فيها ان نُقَيِّم الماضى ونستخْلِص منه الخبرة، ونندم
على ما صدر عنا فيه، انما نبغى من وراء ذلك ان نجعل الحاضر افضل من الماضى، ومن
هنا فإن محاسبه النفس متى كانت ايجابيه، فهى لا تقتصر على الندم، وانما هى مزيج
بين الملامه والرجاء.. الملامة على جهلنا وضعفنا وهفواتنا، والرجاء فى تحسين
الحاضر.

 

المهم
انك حتى اليوم نفسك حيه.. سليمة، أشرق عليك صباح جديد.. وُهِبت يوماً جديداً
وأملاً جديداً..

 

تخيَّل
أنك استيقظت في الصباح لتجد الله مثل أب حنون يضع في يدك (مصروف اليوم) ونفقة
اليوم، لتستطيع المواصلة، ولكنه هنا بضع ليس بعض الجنيهات وبعض الجنيه! وإنما وحدة
زمنية كاملة؛ أربع وعشرين ساعة كاملة، لتحقق فيها ما لم تستطيع أن تُحَقِّقهُ في
الأمس، لأن مراحم الرب جديدة في كل صباح.. “إِنَّهُ مِنْ إِحْسَانَاتِ
الرَّبِّ أَنَّنَا لَمْ نَفْنَ، لأَنَّ مَرَاحِمَهُ لاَ تَزُولُ. هِيَ جَدِيدَةٌ
فِي كُلِّ صَبَاحٍ. كَثِيرَةٌ أَمَانَتُكَ.” (سفر مراثي إرميا 3: 22، 23).
وكأنها إعادة خلق يومية!!

 

وفي
أمثالهم يقول اليهود: “ثلاثة لا يمكن استعادتها: سهم انطلق، كلمة خرجت، وفرصة
ضاعَت”.

 

غير
أنه من الرائع ان نكون راضيين عن الامس، غير نادمين.. فإن كنا قد اخفقنا، فإن الله
يحول النتائج الى خيرنا دائماً، مهما كانت الاسباب، ومهما كانت الاعراض.

 

في
الأمس أنجزنا خيراً.. واليوم يتضاعَف الخير..

 

كما
يجب ان لا يفصل الإنسان نفسه عن ماضيه، فإننا نتعلَّم من الماضي؛ بل من الضرورى ان
تكون هناك خطوط عريضة تربط بين الماضى والحاضر والمستقبل، مثل الايمان والقومية
والمبادئ الانسانية، فإننا نتحدث هنا عن تنقيه الحاضر والامانه فيه والاستمتاع به.

 

2- المستقبل بالنسبة لنا

وماذا
يعنى المستقبل بالنسبه لنا؟

هل
هو مصدر قلق؟ ينتزعنا من بهجة الحاضر ويؤرقنا؟!

إننا
لا نملك تحديد شكل المستقبل وحجمه، بقدر ما نملك تنقية الحاضر، وجعله اكثر ملائمه
واكثر نفعاً وبهجه.

 

هناك
مَثَل يهودي يقول: “لا تقلق على شرور الغد، لأنك لا تعلم ما يلده لك اليوم.
فقد لا تكون غداً على قيد الحياة، وبذلك تكون قد أقلقت نفسك على عالم ليس
لك”!

 

فعندما
يؤرقك التفكير فى المستقبل، وكيف تضمن فيه النجاح والراحه، اهتف فى اعماقك على
الفور “ضامني هو الرب”. فإن كثره الاموال ووفره القوه الجسدية لا تضمن
لنا سعادة الغد.. وكذلك وعود الرؤساء، وعهود الأقوياء، لا تضمن لنا خيراً نبتغيه،
واستقراراً ننشده: “لاَ تَتَّكِلُوا عَلَى الرُّؤَسَاءِ، وَلاَ عَلَى ابْنِ
آدَمَ حَيْثُ لاَ خَلاَصَ عِنْدَهُ. تَخْرُجُ رُوحُهُ فَيَعُودُ إِلَى
تُرَابِهِ.” (سفر المزامير 146: 3).

 

ومَنْ
يشقى اليوم فى سبيل اكتناز المال، لينعم به فى الغد، فمن المنطقى انه سيشقى فى
الغد بذات الدافع! ويظل يلهث بلا حدود، وكأنه يسعى فى إثر سراب مُغري.

 

الله..
هُوَ هُوَ.. أَمْسًا وَالْيَوْمَ وَإِلَى الأَبَدِ (رسالة بولس الرسول إلى
العبرانيين 13: 8). لا يتغيَّر.. ومَنْ يضع على الله رجاؤه ويجعل فيه ثقته، فان
الله فى المقابل يهتم به، ويقيم من ذاته ضامنا وكفيلا له، وهكذا يُصَرِّح الله
بفمه الطاهر: “لأَنَّهُ تَعَلَّقَ بِي أُنَجِّيهِ” (سفر المزامير 91:
14).

 

وهكذا
نؤمن بأن الله قادر ان يجعل من المستقبل حياه مشرقه بَهِجه مثمره. أشياء كثيرة تخص
الغد، ربما لو عرفناها اليوم لفقدنا سلامنا واغتممنا، ولكن لنحيا كل يوم بيومه:
“أَمْرَ الْيَوْمِ بِيَوْمِهِ” (سفر عزرا 3: 4).

 

فليس
من المناسب ان توزع طاقاتنا، ما بين الندم على الأمس والقلق على الغد، بل ليمضى
الامس حلما وذِكرى، وليصبح الغد أملاً مشرقاً، لئلا نُبَدِّد القدره على الإبداع
فى الحاضر.

 

يقول
بعض الحكماء: “لا تندم على الامس، ولا تقلق على الغد، لئلا يضيع من بين يديك
جمال الحاضر”. أما في الفكِر المسيحي: “لا تندم على الأمس، ولا تقلق على
الغد؛ بل اهتم بساعتك لخلاصك”.

 

3- تقديس الحاضر

إننا
نملك اليوم.. ونملك ان نعمل فيه.. ان نقدسه.. فاليوم هو مسؤليتنا.. ونحن سنُدان عن
اليوم.. فإذا عشنا اليوم كما يليق، فإن ذلك يضمن لنا تقديس العمر كله.

 

فالحياة
كلها عبارة عن وحدات
units، والوحدة الواحدة هى اليوم، فهل يمكن أن نفصل اليوم عن الأمس؟ وعن
الغد أيضا؟ ثم نحياه كوحدة مستقلة.. نحياه كله -ملء اليوم- فى قداسة وفرح؟!

هل
يمكن أن نستخلص اليوم من الماضى ومن المستقبل، ونحوِّله إلى وحدة فعالة؟!

نفرح
فيه بكل خبرة نأكلها..

وبكل
كوب ماء نشربه..

بكل
شخص طيِّب نتقابل معه..

بكل
عمل رائع ننجزه..

بكل
معلومة مفيدة نُحَصِّلها..

بكل
ليلة هادئة ننامها..

 

يقول
السائح الروسى “كانت الأشجار والأعشاب والطيور والأرض والهواء والنور.. كانت
كلها تقول لى أنها وُجِدَت من أجل الإنسان، وأنها تشهد بمحبة الله للإنسان.. كل
شىء كان يص ويرنِّم لله مجداً” (عن كتاب سائح روسي على دروب الرب).

 

وكما
ان للحياه نفسها هدف اسمى، فإن لها ايضا أهداف مرحلية، ومع مراعاة الهدف الاسمى فى
جميع المراحل، فإننا يجب ان نحيا كل مرحله.. حاضرها.. مِلء حاضرها..

 

فنحن
نَستَمتِع بالدراسة فى الوقت الذى تعتبر الدراسه فيه هدفاً مرحلياً فى حياتنا،
وذلك دون أن نحزن ونكتئب ونحن ندرِس أملاً فى راحة ننتظرها بعد الدراسة. أي في
مرحلة العمل، وهكذا يجب أن نفرح ونُسَرّ ونستمتِع ونحن في العمل، ثم ونحن في
الخدمة.. إلخ.

 

ومما
هو جدير بالملاحظة، أن الاستمتاع بالعمل له دور كبير فى نجاح ذلك العمل، إذ أن
الاستمتاع يعنى الاقتناع بالعمل والرِّضى عنه ومحبته، مما يؤدى إلى ثمر مُتكاثِر
ونجاح اكيد.. فان محبه الماده العلميه والمعلومات عموما تجعل من الدراسة عملاً
سهلاً ومتعه كبيره..

وهكذا
العمل.. وهكذا الخدمة.. وهكذا جميع نواحى الحياة المختلفة.

 

4- الأبيقورية

إنها
ليست فكرة أبيقورية:

فالأبيقورية
Epicureanism تعتمد فلسفتها على رفض فكرة الخلود ونبذ التعليم عن الحياة
الأخرى، ومن هنا فهى تدعو إلى ملء الكأس من اللذّة قدر المستطاع فى الوقت الراهن،
ولكن الفكرة هنا -فى هذا الكتاب قائمة على أساس تقديس الحاضر.. تقديس اليوم- كل
يوم..

كل
اليوم.. يوما بيوم.

كذلك
فإن الأبيقورية متشائمة، تتوقع فى الغد شراً وفقراً وحرباً، ولكننا هنا نُقَدِّس
الغد عن طريق تقديس الحاضر، لتصبح حصيلة الأيام التى قدَّسناها وكرَّسناها (أى
عِشناها فى قداسةٍ وبر) حياة مقدسة مثمرة.. فالسعادة تكمن لا في تعاطي اللذات ولكن
فى قمع الشهوات.

(تنتمى
الفلسفة الأبيقورية إلى الفيلسوف أبيقورس
Epicurus، الذى ولد فى
ساموس سنة 340 ق. م. وتوفى سنة 270 ق. م.، وقد علَّم أولا فى أسيا الصغرى ثم
أثينا، وجاءت فلسفته فى ظروف اجتماعية وسياسية غير مستقره، تدعو إلى القلق وتنبىء
بعدم الإستقرار، ومن ثم فقد نادى بالإستمتاع باليوم. وتكمن خطوره هذه الفلسفة
والتى قاومها بولس الرسول، فى أن المتعة التى سعى إليها الإبيقوريون كانت متعة
أنانية، وكذلك رفضت فكره الخلود والحياه الأبدية).

 

5- مذاقة الأبدية على الأرض

ولكننا
نحن نرغب فى مذاقة الأبدية.

فإنه
وحتى الحياة الأبدية التى نرجوها، ونحيا هنا مستعدين لها ومتشوقين إليها، ليست
حياة مستقبلية بعيدة فحسب، وإنما هى حياة نحياها هنا، وهكذا يجب أن يكون، فإنها
حاضر ملموس ومستقبل أكيد.

 

فمذاقتها
تبدأ هنا، ولن نبدأ فى التعرف عليها، فالله هو القاسِم المشترك هنا وهناك، حيث أن
تعبيريّ “لِيَأْتِ مَلَكُوتُكَ” (إنجيل متى 6: 10؛ إنجيل لوقا 11: 2)
و”ها ملكوت الله داخلكم” (لوقا 17: 21)، (والتعبيرين تصريح شخصي من الله
نفسه) يؤكدان أن معنى الحياة الأبدية، هو أن يكون لله مركز حياتنا، ومحور
اهتمامنا، فيه تجتمع كافة اشتياقاتنا.

 

إن
هناك خيطا قرمزيا يربط جميع سُنى الخليقة، كما ربط بين جميع مراحل الخلاص فى العهد
القديم.. وإلى الأبد، وهو الخلاص والمكافأة والحياة مع الله.

 

فإنه
ليس من اللائق فى شىء، أن نقضى الوقت فى كآبة وحزن، وأرق، فهل نكتئب اليوم فى
انتظار الخير غدا؟!

كلا،
فاليوم أجمل وأفضل.. والذي لا يستطيع الإستمتاع باليوم، قد لا يستطيع الإستمتاع
بالغد، فإن روعة الحياة وجمالها وإبداعها، يكمن في الساعات القليلة التي نحياها
الآن، فإن ضاعت، فقد ضاع العمر كله..

اقرأ
أما كتبه أحد الفضلاء:

انظر
إلى هذا اليوم..

إنه
الحياة.. جوهر الحياة..

فى
ساعاته القليلة تكمن حقيقة وجودك..

معجزة
النمو..

ومجد
العمل..

وروعة
الانتاج..

فالأمس
ليس إلا حلماً..

والغد
ليس إلا خيالاً..

أما
اليوم إذا عشناه كما ينبغي،

فإنه
يجعل من الأمس حلماً سعيداً..

ومن
الغد خيالاً حافلاً بالأمل..

 

6- خلاص الحاضر

هل
يمكن أن نقتطع اليوم من كلّ من الأمس ومن الغد؟! وكأن الحياة تتركز فى هكذا اليوم،
وكأنك تعيش يوما واحداً، وليكن يوما مثاليا إذن، فلا تجعل اليوم تذييلاً للأمس،
ولا مقدمة للغد..! بل اسع بكل قوتك لتخلص اليوم.. اسعى لِتُخَلِّص الآن..

 

إنك
مُطالَب باليوم، مسئول عن هذا اليوم.. سَتُدان عنه، كما ستدان عن كل يوم.

 

فالذي
يؤخَذ فيه الإنسان، ففيه يؤخَذ وبه يُدان، وإن حدثتك أفكارك بأن تستريح اليوم على
أن تصلي فى الغد، فلا تطعها.. بل صلِّ الآن، لأن مَنْ لا يصلي اليوم -فى القليل
المُتاح- فكيف يضمن أن يصلي فى الغد.. فى الكثير غير المضمون؟!

 

“شيخ
حَدَّثته أفكاره من جهة الصوم قائلة: كُل اليوم وتَنَسَّك غداً. فأجابها قائلاً:
كلا. إن هذا لن يحدث.. بل أتنسَّك اليوم، ولتكن مشيئة الله غداً” (عن بستان
الرهبان).

 

وتقول
الأم سارة “الذي لا يعطى صدقة من فلس واحد، لا يقدر أن يعطي من المائة
دينار”.

 

هكذا
عندما تُوعِز إليك الأفكار، بأنه من الممكن أن تكون فى الغد أفضل حالا من اليوم،
فلا تصدقها ولا تطعها، فقد زيَّنَت لك ذلك بالأمس، ولم يتحقَّق الادعاء!!

 

وفى
كثير من الأحيان تكون المسافة بين شدة الاشتياق (إلى أي عمل روحي) وضياع نفس
الاشتياق، مجرد فى ثوان!! شعرة.. خط رفيع.. بحيث إذا مَرَّت بِضع دقائق أو بعض
الوقت، وعاد الإنسان للإمساك بالاشتياق والدخول به إلى حَيِّز العمل، ليصبح فِعلا
قائماً وثمراً وتعزية، فلا يجده.. بل قد يدفع نفسه دفعاً فلا يجد الرغبة – مجرد
الرغبة.. نسبة من الرغبة!

 

إعمل
اليوم.. بقدر قوتك إعمل.. ما دامت لك القدرة على العمل، يأتي وقت حين لا تقدر أن
تعمل، وبينما لديك اليوم القدرة على العطاء والجهاد، فى حين تفتقر إلى الرغبة، فقد
ينقلب الوضع فى الغد، بحيث تصبح لك الرغبة فى العمل بينما تكون قد فقدت القدرة على
العمل!! فانتبه.. “يَنْبَغِي أَنْ أَعْمَلَ.. مَا دَامَ نَهَارٌ. يَأْتِي
لَيْلٌ حِينَ لاَ يَسْتَطِيعُ أَحَدٌ أَنْ يَعْمَلَ” (إنجيل يوحنا 9: 4).

 

أراد
إنسان موسر، أن يُعَلِّم أولاده النشاط، فقال لهم “هل تعلمون كيف صِرت غنياً؟
إن سمعتم مشورتى استغنيتم مثلى”، فسألوه عنها، فقال لهم: “فى كل سنة
يوجد يوم من أيامها، كل مَنْ عمل فيه باجتهاد استغنى، إلا أني لشيخوختي قد نسيت أى
يوم هو، فلا تتوانوا أنتم فى العمل كل يوم، لئلا يفوتكم العمل فى ذلك اليوم
المبارك، فيضيع تعبكم فى السنة كلها”.

 

وهكذا
نحن أيضاً لسنا نعرف يوم وفاتنا، فان توانينا فاتنا مقصدنا وضاع كل تعبنا، وإن
اجتهدنا الى الآخر وجدنا ملكوت السموات.

 

7- مفتدين الوقت

ومن
هنا أيضا تأتى النصيحة الغالية لمعلمنا بولس الرسول “مُفْتَدِينَ
الْوَقْتَ” (رسالة بولس الرسول إلى أهل أفسس 5: 16؛ رسالة بولس الرسول إلى
أهل كولوسي 4: 5)، حيث يعنى إفتداء الوقت: استبداله، أن نستبدله بشيء من الصلاة،
بخدمة.. بعمل محبة.. بالمطالعة فى الكتب الإلهية.. وبذلك تقدسه، فيصبح للوقت قيمة،
وبهذا يمكن أن يُحسَب العمر، بما نقضيه من وقت جميل، مثمر وفعّال ومؤثِّر، وكما أن
هناك شخصاً عاش فى الأرض ومات دون أن يترك أية آثار أو بصمات، فإننا نجد فى
المقابل شخصا مثل يوحنا المعمدان، خدم لمدة ستة شهور فقط، ولكن انظر كَمْ تساوى من
سنوات. وبنفس القياس يمكن أن تحسب لشخص آخر 50 سنة × صفر، فتصبح المُحَصِّلة
صفراً!!

 

إنه
خداع شياطين.. الذين يدفعونك إلى التفكير فى الماضي والندم عليه وتبديد الوقت
والجهد فى ملامة كاذبة، وعندما تستريح من التفكير قليلا فى الماضى يستدرجك للتفكير
فى المستقبل، ولكن بكثير من القلق.

 

إن
هناك الكثير لنعمله اليوم.. هناك الكثير لنستمتع به اليوم، إن الحياة أجمل وأروع
من أن نفقدها فى الملامة الباطِلة والقلق المُدَمِّر، حتى الآباء شيوخ الرهبنة
وكبار النُسّاك، إتسمت حياتهم بالبهجة والفرح، ولم يكونوا فريسة الاكتئاب أو الحزن
المريض اليائس.. على الرغم من السجود المتواتر فى مئات الميطانيات، وساعات الصلاة
والتسبيح، والصوم الطويل وضبط النفس والحواس، يقول القديس الأنبا أبوللو:
“لماذا نجاهد ووجوهنا عابِسة؟! ألسنا ورثة الحياة الأبدية؟ اتركوا العبوس
والوجوم للوثنيين والعويل للخطاة، أما الأبرار والقديسون فحريٌ بهم أن يمرحوا
ويبتسموا لأنهم يستمتعون بالروحيات”.

 

وقد
كان هذا القديس دائم البشاشة، حيث اجتذب كثيرين إلى الحياة النسكية كحياة مُفرِحة
في الداخل، ومُشبِعة للقلب بالرب نفسه.

 

8- ليكن يومك أفضل من الأمس، وغدك أفضل من اليوم

وختام
الأمر كله: ليكن يومك أفضل من الأمس، وغدك أفضل من اليوم.

فنحن
فى يد الله يسير بجانبنا، وليس علينا سوى أن نواكبه، دون تطلع للوراء أو نظر إلى
المستقبل.. مثل الطفل الذي لا يعنيه المستقبل فى شئ، ولا يفكر فى الماضي، ولكن
حسبه فقط انه مع امه.. يستمتع بحنانها ويرعى فى حمايتها.

 

فاللحظة
الحاضرة فقط، تستحق الاهتمام، إذ تحوي كنوزاً ثمينة، وكما أن الخيال قد يسلبك
سعادتك ويُسِمِّم سلامك، ويحرك آلام الماضى فيحييها فيك ويضاعف من مرارتها، كذلك
فان المستقبل هو في يد الله، وليس من الإنصاف أن نجمع كل الاحتمالات السيئة في سلة
واحدة، ونتخيل كل حجارة الطريق قد جمعت فى كومة كبيره لتسده، فتصيب الناظر والسائر
بالعجز والقنوط، إن قليل من الجهد اليومي يمنع ذلك ويمكننا من المرور يوماً بيوم.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى