علم الله

الفصل العشرون



الفصل العشرون

الفصل
العشرون

الملائكة

 

ذكر
الكتاب المقدس درجةً من المخلوقات العاقلة أعلى من الإنسان في الطبيعة والقوة،
ولهم علاقات مختلفة بالإنسان في تاريخ الخليقة وأعمال العناية الإلهية ونظام
الفداء، يسمّيهم “أرواحاً” و”ملائكة” ويصفهم بسموّ القوة
واختلاف الدرجات، ويقول إنهم امتُحِنوا وسقط بعضهم، فانقسموا قسمين: أخيار وأشرار.
فالأخيار يخدمون العزَّة الإلهية ويقومون بأعمال العناية، خاصةً ما يتعلق منها
بالمقاصد الأزلية في عمل الفداء منذ بدايته على الأرض وحتى نهايته في الدينونة.

مقالات ذات صلة

1 – ما معنى كلمة “ملائكة” في الكتاب المقدس؟

*
معناها الأول واحدٌ في اللغات العبرية واليونانية والعربية وهو “رسول”.
واستُعملت في الكتاب المقدس لكل ما يستخدمه الله لإجراء مقاصده وإعلان ذاته وقوته،
فجاءت فيه بمعنى “رسول عادي” (أي 1: 4 و1صم 11: 3 ولو 7: 24 و9: 52).
وجاءت بمعنى “نبي” (إش 42: 19 وحج 1: 13 وملا 3: 1) وبمعنى “كاهن”
(ملا 2: 7) وبمعنى “خادم العهد الجديد” (رؤ 1: 20). واستُعملت أيضاً
لغير العاقل كعمود السحاب (خر 14: 19) والرياح (مز 104: 4). وسُمّي الأقنوم الثاني
من الثالوث الأقدس “ملاك حضرته” و”ملاك العهد” (إش 63: 9 وملا
3: 1). وسُمّيت الأوبئة “ملائكة أشرار” (مز 78: 49) ودعا بولس الشوكة في
جسده “ملاك الشيطان” (2كو 12: 7). ولكن كلمة “ملاك” اشتهرت
باستعمالها للأرواح السماوية الذين يستخدمهم الله ليُجروا إرادته (مت 25: 31)
فعُرفوا باسم “ملائكة الله”.

2 – ما هي الأدلة على وجود الملائكة؟

*
الاعتقاد بوجود الملائكة مؤيَّد بالدلائل العقلية، ولا يناقض العقل. وقد اعتقد
فلاسفة اليونان القدماء كفيثاغورس وسقراط وأفلاطون وأرسطو بوجود درجة أو درجات من
الخلائق متوسطة بين البشر والله. ورأى بعض المسيحيين عدم محدودية الله، واتساع
الكون بما فيه الكائنات الكثيرة العدد، متدرّجة كدرجات سُلّم، تبدأ من العدم (أي
عدم وجود كائن) إلى كائن غير محدود، ولاحظوا أن المسافة بين الإنسان وأدنى
المخلوقات مشغولة بدرجات مختلفة من الخلائق، فاستنتجوا من ذلك أن المسافة بين
الإنسان والله لا بد تكون غير محدودة، ولا تكون خالية من الخلائق. فإذا ثبت وجود
خلائق على درجات مختلفة في هذه المسافة القصيرة بين أدنى المخلوقات والإنسان، فلا
بد أن الخالق لم يترك المسافة بينه وبين الإنسان بدون مخلوق. وهذا القول ترجيحي
فقط، لأنه لا بد يبقى بين أعلى المخلوقات والله غير المحدود مسافة غير محدودة.
ولذلك لابد من إيراد أدلة أقوى من الأدلة العقلية، وهي:

(1)
ورود ذكر الملائكة وخدمتهم في العهد القديم وفي عصر المسيح. صحيح أن الصدوقيين
أنكروا وجود الملائكة كما أنكروا وجود الأرواح، ولكنهم كانوا مخطئين، فقد ذكرت
التوراة الملاكين اللذين زارا سدوم (تك 19: 1) والملائكة الذين لاقوا يعقوب (تك
32: 1) والملاك الذي ضرب أورشليم (2صم 24: 17) والذي مسَّ إيليا (1مل 19: 5) والذي
ضرب جيش الأشوريين وأباد جبابرتهم (2مل 19: 35 و2أي 32: 21) والذي أُرسل إلى
دانيال وهو يصلي (دا 9: 21). وقيل “إلى ملائكته نسب حماقةً” (أي 4: 18).
“لأنه يوصي ملائكته بك” (مز 91: 11) “باركوا الرب يا ملائكته
المقتدرين قوةً” (مز 103: 20) “سبحوه يا جميع ملائكته” (مز 148:
2).

(2)
ذكر العهد الجديد وجود ملائكة، فعلّم المسيح أن الملائكة يفرحون بالخطاة متى تابوا
(لو 15: 10) وأنه متى أتى ثانية تصحبه كل الملائكة (مت 25: 31) وأن من أنكره على
الأرض قدام الناس ينكره هو في السماء قدام ملائكة الله (لو 12: 9). وفي أقوال
الرسل عبارات كثيرة تدل على وجود هذه الطبقة السامية من الكائنات، وتشرح عملها في
إجراء العناية الإلهية وفي سر الفداء.

3 – ما هو تعليم الكتاب المقدس في طبيعة الملائكة وصفاتهم؟

*
هم أرواح (عب 1: 14) غير ماديين، لا ندركهم بالحواس، ولا خبرة شخصية لنا بوجودهم،
لا بحواسنا ولا بمشاعرنا. ولكن ذلك ليس دليلاً على عدم إمكان ذلك. ولم ينكره غير
الملحدين، لأنه إذا انتفى وجود الأرواح المجردة المحدودة انتفى أيضاً خلود
الإنسان، فيكون موت جسده زوال وجوده نفساً وجسداً. ومن صفات الملائكة:

(1)
إنهم أشخاص، لأنهم خلائق متوسطة بين الإنسان والله، أعلى من الإنسان ودون الله،
ولهم صفات وقوى شخصية كالعقل والإرادة والعواطف ونحوها.

(2)
إنهم أصحاب قوة وعظمة، يقول عنهم الكتاب “باركوا الرب يا ملائكته المقتدرين
قوةً” (مز 103: 20). “مع ملائكة قوته” (2تس 1: 7). “حيث
ملائكة وهم أعظم قوةً وقدرةً” أي أعظم قوةً وقدرةً من الإنسان (2بط 2: 11). “ورأيت
ملاكاً قوياً” (رؤ 5: 2) “ورفع ملاك واحد قوي” (رؤ 18: 21). غير أن
قوة الملائكة ليست إلهية بل هي قوة مخلوقة محدودة مستمدة من الله، وغير مستقلة عنه
وخاضعة لإرادته.

(3)
إنهم يفوقون البشر في القوى العقلية والمعرفة، لقرب مقامهم من الله وخدمتهم له على
الدوام وما يفعلونه من الأعمال الرفيعة، وهذا واضح من قول المسيح: “وأما ذلك
اليوم وتلك الساعة فلا يعلم بها أحدٌ، ولا ملائكة السماوات إلا أبي وحده” (مت
24: 36). وقول بولس “إن كنت أتكلم بألسنة الناس والملائكة” (1كو 13: 1)
ومعناه: إن كنت أتكلم بأبلغ حكمة أو أبلغ فصاحة. ومع ذلك فإن معرفتهم محدودة
كقوتهم لأنهم مخلوقون، والمعرفة غير المحدودة خاصة بالله وحده.

هناك
تعاليم خاطئة بخصوص الملائكة:

(1)
إنهم انبثاقات من اللاهوت، ولو أنها زائلة.

(2)
إنهم انبثاقات من اللاهوت باقية، وهو مذهب الغناطسة.

(3)
إنهم غير موجودين حقيقة، وإن ما جاء في الكتاب المقدس عنهم هو مجرد تخيّلات شعرية
أو من خرافات العامة، نقله الكتبة القديسون مجاراةً لأهل عصرهم. وهذا هو مذهب
العقليين وهو باطل، أولاً: لأن المراجع التي يستندون عليها ضعيفة. وثانياً: لأنه
يلزم عنه رفض سلطان الكتاب كله، أو اتخاذ مبادئ تفسير تنقض قوته وتنفي أنه قانون
الإيمان الوحيد.

ولما
لم يكن في الكتاب المقدس نص على أن للملائكة أجساداً كانت أقوال العلماء في هذه
المسألة مبنية على الترجيح العقلي، فقال بعضهم إن لهم أجساداً، ونفى غيرهم ذلك.
والأرجح أن لهم أجساداً لطيفة جداً مثل النور والهواء لا نقدر أن نراها. فإذا أمكن
وجود مادة كالهواء الذي نتنفَّسه ولا نقدر أن نراه، فلماذا لا يكون للخلائق
العاقلة السامية أجسادٌ روحية غير منظورة تعمل بها كما يعمل الإنسان بجسده
الحيواني الكثيف؟ وقال بولس إنه “يوجد جسمٌ حيواني وجسمٌ روحاني” وأوضح
الفرق بينهما (1كو 15: 40-50). فالاعتقاد أن للملائكة أجساداً روحية أفضل من
الاعتقاد أنهم جوهر بسيط أو أرواح بالمعنى المفهوم في شأن الله.

وقد
اعتقد كثيرون من الآباء أن للملائكة أجساداً روحانية كيوستينوس الشهيد وأثيناغورس
وإيريناوس وأكليمندس الإسكندري وترتليان وأغسطينوس. وفي سنة 787م حكم مجمع نيقية
الثاني أن للملائكة أجساداً لطيفة من النار أو الهواء استناداً على بعض آيات
الكتاب المقدس (مثل: أي 1: 6، 7 و38: 8 ودا 10: 6 ومت 28: 3 ومر 16: 5 ولو 24: 4
وأع 1: 10 و12: 7 و2كو 11: 14 ورؤ 10: 1). وفي سنة 1215م نقض المجمع اللاتراني هذا
الحكم ونادى بأن الملائكة بدون أجساد. ووافقه في ذلك بطرس اللمبردي وكثيرون من
علماء اللاهوت، وقالوا إن الأجساد التي ظهروا فيها أحياناً غير حقيقية. ولا يزال
الاعتقاد أن للملائكة أجساداً روحانية هو الاعتقاد المرجح عند كثيرين.

4 – استنتاجاً من الكتاب المقدس، متى خلق الله الملائكة؟

*
ليس في الكتاب المقدس كلام صريح في ذلك، فقال البعض إنهم خُلقوا بعد الإنسان،
بدليل أن الله لما أبدع الكائنات الأرضية ابتدأ من الأدنى إلى الأعلى إلى أن خلق
الإنسان، ثم تقدم بعد ذلك إلى ما هو أعلى منه فخلق الملائكة. وهذا يخالف نص الكتاب
على وجود ملائكة في السماء قبل وجود البشر على الأرض بدليل ما يأتي:

(1)
حين خلق الله الإنسان حاول كائنٌ خبيث كان قبله أن يخربه ويبيده (تك 3: 1-7). وكان
هذا المخرِّب ملاكاً ساقطاً.

(2)
لما أجاب الرب أيوب من العاصفة قال له “أين كنت حين أسستُ الأرض.. عندما
ترنّمت كواكب الصبح معاً، وهتف جميع بني الله” (أي 38: 4-7) والتفسير المشهور
أن “بني الله” هم الملائكة. فالملائكة كانوا موجودين حين وُضعت أسس
الأرض. وأما الإنسان فهو تاج المخلوقات ليس لأنه آخرها!

5 – بحسب الكتاب المقدس، ما هو عدد الملائكة، وماذا عن أمانتهم
ودرجاتهم؟

*
(1) إذا استنتجنا وجود الملائكة من عدم محدودية الله، ومن اتساع الكون، نستنتج
أيضاً أنهم كثيرون. وقد أكد لنا الكتاب ذلك، من قول ميخا بن يملة النبي “رأيت
الرب جالساً على كرسيه وكل جند السماء وقوفٌ لديه، عن يمينه وعن يساره” (1مل
22: 19). ولما نزل الله على جبل سيناء ليعطي الشريعة لبني إسرائيل قيل “أتى
من ربوات القدس (أي الملائكة)” (تث 33: 2). وفي جثسيماني قال المسيح لبطرس “أتظن
أني لا أستطيع الآن أن أطلب إلى أبي فيقدم لي أكثر من اثني عشر جيشاً من الملائكة؟”
(مت 26: 53). وكلمة “جيش” في اليونانية (على رأي المؤرخ جيبون) تعني
اثني عشر ألفاً وخمس مئة. وقال دانيال “ألوف ألوف تخدمه، وربوات ربوات وقوف
قدامه” (دا 7: 10). وقيل أيضاً “وظهر بغتةً مع الملاك جمهور من الجند
السماوي” (لو 2: 13) “بل قد أتيتم إلى جبل صهيون.. وإلى ربوات هم محفل
ملائكة” (عب 12: 22). “ونظرتُ وسمعت صوت ملائكة كثيرين حول العرش
والحيوانات والشيوخ، وكان عددهم ربوات ربوات وألوف ألوف” (رؤ 5: 11). فالقول “ألوف
ألوف” و”ربوات ربوات” يدل على أعداد لا تُحصى.

(2)
أما عن أمانتهم، فقد غزت الخطية عالم الملائكة كما غزت عالم البشر، فانقسموا إلى
قسمين: (أ) الذين ثبتوا على أمانتهم لله وللحق، ولذلك دُعوا “المختارين
والمقدسين” (1تي 5: 1 ومت 25: 31). “مختارون” لأن الله اختارهم منذ
الأزل وحفظهم من السقوط. و”مقدسون” لأنهم في آدابهم وسيرتهم يشابهون
طبيعة الله، ويطيعون إرادته. ولما كان العدد الذي لا يُحصى هم القسم الأعظم من
الملائكة، يكون عدد الساقطين قليلاً. (ب) الذين سقطوا ولم يثبتوا على أمانتهم لله
وللحق. وفي العهد القديم إشارات جلية إليهم، منها ظهور الشيطان بهيئة حية في عدن
ليجرب أبوينا الأوَّلين (تك 3: 1 ورؤ 12: 9) وظهوره ليجرب أيوب (أي 1: 12) ولما
قام يهوشع الكاهن العظيم أمام ملاك الرب قام الشيطان عن يمينه ليقاومه (زك 3: 1).
وذُكر أنه كان في أفواه الأنبياء الكذَبة أرواح كذب (2أي 18: 21). ويقول العهد
الجديد إن إبليس جرَّب المسيح، آدم الثاني (مت 4: 1) وقال بطرس إن الله لم يشفق
على ملائكة قد أخطأوا (2بط 2: 4). وتحدث يهوذا عن الملائكة الذين لم يحفظوا
رياستهم بل تركوا مسكنهم (يه 6). وفي اليوم الأخير يقول المسيح للذين عن اليسار “اذهبوا
عنّي يا ملاعين إلى النار الأبدية المعدَّة لإبليس وملائكته” (مت 25: 41).
ونستنتج من الكتاب المقدس أن عدد هؤلاء الأشقياء قليل بالنسبة إلى عدد الملائكة
الأبرار.

(3)
درجاتهم: هم متفاوتون في الرتب (أ) فقد قيل عن جبرائيل إنه ميَّز نفسه عن غيره من
الملائكة بأنه هو “الواقف أمام الله” (لو 1: 19) مشيراً بذلك لرتبته.
وقيل في ميخائيل إنه واحدٌ من الرؤساء الأوَّلين (دا 10: 13) ويؤيد ذلك أيضاً
الألقاب المنسوبة إليهم مثل “رئيس الملائكة” و”رؤساء” و”سلاطين”
و”قوات” و”سيادات” (أف 1: 21 وكو 1: 6 ويه 6). (ب) ونستدل على
ذلك من التفاوت في الدرجات بين الملائكة الساقطين الذين ذُكر أن بينهم رؤساء (مت
9: 34 وأف 2: 2). (ج) نستدل على ذلك أيضاً من وجود التفاوت بين البشر وكل الخلائق،
فإنه في كل أعمال الله يتغلب وجود الرتب بالتدريج.

6 – ماذا ورد في الكتاب المقدس في شأن وجود رئيس للملائكة؟

*
رأينا الملائكة متفاوتين في الرتب والدرجات، وقد وصفهم بولس بقوله “سواء كان
عروشاً أم سيادات أم رياسات أم سلاطين” (كو 1: 16) وقال إنه يوجد رئيس ملائكة
(1تس 4: 16) وقال يهوذا “ميخائيل رئيس الملائكة” (يه 9). وخلاصة ذلك
نقول:

(1)
لم يأتِ لقب “رئيس الملائكة” في العهد القديم إلا في الكلام على ميخائيل
أنه واحدٌ من الرؤساء الأولين و”ميخائيل رئيسكم” (دا 10: 13، 21) وقيل
أيضاً “ميخائيل الرئيس العظيم القائم لبني شعبك” (دا 12: 1).

(2)
ورد لقب “رئيس” في العهد الجديد مرتين، في القول “لأن الرب نفسه
بهتافٍ، بصوت رئيس ملائكة” (1تس 4: 16) وقال يهوذا “ميخائيل رئيس
الملائكة” (يه 9). ففي هاتين الآيتين جاء بصيغة المفرد، في أولهما بالنكرة
وفي الثانية معرّفاً. وقال سفر الرؤيا “وحدثت حرب في السماء: ميخائيل
وملائكته حاربوا التنين وملائكته” (رؤ 12: 7). فذُكر هنا ميخائيل كقائد للجنود
المقدسين، كما ذكر التنين قائداً للجنود الأشرار. ولكن لا يُستفاد من هذا أن
ميخائيل هو الرئيس الوحيد للملائكة، لأن جبرائيل أيضاً ذُكر أنه في مقام عال جداً
(دا 8: 16 و9: 21 ولو 1: 19، 26) وقيل أيضاً في دانيال إن “ميخائيل واحد من
الرؤساء الأولين” وذلك دليل على وجود رؤساء بينهم.

7 – ماذا قال الكتاب المقدس في الكروبيم والسرافيم؟

*
(1) الكروبيم جمع كروب في اللغة العبرية، وكلاهما مستعملان في الكتاب (تك 3: 24
وخر 25: 19، 22 و1صم 4: 4 ومز 18: 10 و80: 1 و99: 1 وحز 10: 2، 14) وفي حزقيال
سُمّوا حيوانات (حز 1: 5 و13: 15، 20) أي خلائق حية. ونعرف صفات الكروبيم وأعمالهم
من الأحوال التي ظهروا فيها والأسباب التي ظهروا لأجلها. واستُخدمت كلمة “كروب”
للصورة المؤلفة من الإنسان والأسد والثور والنسر معاً. ولما كان كل كائن من هذه
مشهوراً، رجح المفسرون أن مجموعها كناية عن أسمى صور المخلوقات الحية في الكون
طبيعة وعملاً، وأن الإشارة فيها إلى أن أسمى قوات الخليقة موضوعة لخدمة الله على
الدوام. واشتهر الرأي بين علماء اللاهوت القدماء أن لتلك الخلائق الرفيعة الشأن
وجوداً حقيقياً لا وهمياً، غير أنهم أخذوا أشكالاً متنوعة بحسب الحاجة، لأهداف خاصة،
كما في خيمة الاجتماع في رؤيا حزقيال (1: 10) ورؤيا يوحنا (رؤ 4) وأن لتلك الأشكال
معاني رمزية تشير إلى أن الخليقة مستعدة على الدوام لتتمم إرادة الله بعقل
الإنسان، وشجاعة الأسد، وصبر الثور، وسرعة النسر. وقد تساءل المفسرون إن كان
وجودهم وقتياً أو دائماً؟ ورجح البعض أنهم من الخلائق السماويين الدائمي الوجود
كالملائكة، غير أنهم يمتازون عنهم في المقام والخدمة لأنهم قريبون جداً من عرش
الله. وقيل في سفر الرؤيا ما يدل على أنهم أحياء عاقلون، لأنهم يسجدون لله ولا
يزالون نهاراً وليلاً قائلين “قدوس قدوس الرب الإله القادر على كل شيء، الذي
كان والكائن والذي يأتي” (رؤ 4: 6-8). ويؤيد ذلك ذكرهم أول مرة في الكتاب على
أنهم فعلة عاقلون مقدسون ذوو رتب عالية من الملائكة، وربما من أرفعهم (تك 3: 24).

(2)
السرافيم. لم يرد هذا الاسم في الكتاب المقدس سوى مرتين في إش 6: 2-6. ويظن البعض
أن الكروبيم والسرافيم اسمان لدرجة واحدة من الملائكة. ويؤيد هذا الرأي ما قاله
الكتاب عن الفئتين، وأن الفرق بين أوصاف الكروبيم والسرافيم غير جوهري، كما أن
المشابهة بينهما جوهرية، فالذين دعاهم إشعياء “سرافيم” دعاهم حزقيال “كروبيم”
ودعاهم يوحنا “حيوانات” وأشاروا جميعاً إلى أنهم فعلة أحياء عاقلون،
وإلى أنهم خلائق لأنهم يسجدون لله بدون انقطاع. والأرجح أن لهم أعلى رتب الملائكة
التي ذكرها بولس في رسائله (أف 1: 21 وكو 1: 16). وعلى ما نستنتج من الكتاب المقدس
أن الفرق بينهم وبين الذين يُسمون ملائكة هو في المقام والعمل لا في الطبيعة.
فالملائكة يُرسَلون لخدمة ورثة الخلاص، بينما الكروبيم والسرافيم يخدمون يهوه
العظيم، ولذلك يلبثون في مجد حضرته وحول عرشه.

8 – ماذا يقول الكتاب المقدس عن عمل الملائكة؟

*
يعلّمنا الكتاب أن عملهم هو:

(1)
السجود لله.

(2)
تنفيذ إرادته.

(3)
خدمة ورثة الخلاص.

وقيل
أيضاً إنهم يحيطون بالمسيح، وإنهم مستعدون على الدوام ليتمموا كل خدمة تُطلب منهم
في تقدم ملكوته. وفي زمن العهد القديم ظهروا تكراراً لخدام الله ليُعلنوا لهم
إرادته، وضربوا المصريين، وحضروا مع الله لما أعطى الناموس على جبل سيناء، ولازموا
بني إسرائيل مدة سفرهم وأبادوا أعداءهم وعسكروا حولهم، سوراً لهم في وقت الخطر،
وأنبأوا بولادة المسيح واحتفلوا بها (مت 1: 20 ولو 1: 31 و2: 13). وخدموه في وقت
تجربته وآلامه (مت 4: 11 ولو 22: 43) وبشَّروا بقيامته وأنبأوا بصعوده (مت 28: 5،
6 ويو 20: 12 وأع 1: 10، 11) وخلّصوا بطرس من السجن (أع 5: 19 و12: 7) وهم على
الدوام يخدمون المؤمنين (عب 1: 14) ويحرسون الأولاد (مت 18: 10) ويحملون نفوس
الموتى إلى حضن إبراهيم (لو 16: 22) وسيرافقون المسيح في مجيئه ثانيةً، ويجمعون
شعبه إلى ملكوته (مت 13: 39 و16: 27 و24: 31).

وبالإضافة
إلى ما سبق نستنتج من الكتاب المقدس أنهم:

(1)
يقدرون أن يُجروا أعمالاً في العالم الطبيعي وخارجاً عنه حسب إرادة الله. ولما
كانت طبيعتهم أسمى من طبيعتنا، فإنهم يقدرون أن يجروا أعمالاً تفوق إدراكنا، فقد
قتل ملاك واحد منهم كل أبكار المصريين في ليلة واحدة.

وقال
قدماء اللاهوتيين إنهم يقومون بأعمالٍ عظيمة جداً في العالم الخارجي، وإن كل
التأثيرات الطبيعية ناتجة من خدمتهم، حتى أن النجوم تدور في مداراتها بقوتهم. وهذا
قول ينقصه الدليل، ولا يحقّ لنا أن ننسب للملائكة عملاً بدون برهان من الكتاب
المقدس.

(2)
يقدرون أن يعملوا أيضاً في عقول البشر، فيحركونها لعمل الخير بحسب نواميس طبيعتنا
باستعمال الوسائط المناسبة. ويختلف تأثيرهم هذا عن تأثير الله والروح القدس فينا
في أنهم يعرضون الحق علينا ويرشدون فكرنا كما يؤثر إنسان في آخر. ويقول الكتاب
المقدس إن الله فوّض إليهم أحياناً الإرشاد العام والحماية والتقوية الداخلية
والتعزية، فقام ملاك بتقوية المسيح في جثسيماني وهو في كآبته، وهو قادر أن يقوي
المؤمنين به أيضاً. وإن كان الملائكة الأشرار يقدرون أن يجربوا الإنسان للخطية،
فبالأولى أن الملائكة الأخيار يقدرون أن يستميلوه إلى القداسة. وهم يحفظون
المؤمنين من أعدائهم، ويحرسون الأطفال (مت 18: 10) ويساعدون الكبار (مز 34: 7)
وينقلون المؤمنين إلى دار الخلود (لو 16: 22). ووعدنا الله بالحماية بواسطتهم “لأنه
يوصي ملائكته بك لكي يحفظوك في كل طرقك. على الأيدي يحملونك لئلا تصدم بحجر رجلك”
(مز 91: 11، 12) وهو كلام حقيقي لا مجازي بدليل استناد المسيح عليه (مت 26: 53).

(3)
يخدمون في تقدم الكنيسة. ففي العهد القديم أُعطيت الشريعة بخدمتهم (أع 7: 53 وعب
2: 2) وأوصاهم الله بشعبه (مز 91: 11، 12) وفي العهد الجديد قيل إنهم يحضرون
اجتماعات القديسين (1كو 11: 10) وإنهم يحاربون التنين وملائكته (رؤ 12: 7).

وتعليم
الكتاب عن خدمة الملائكة يعزي المؤمنين ويفرحهم، لأنه يؤكد لهم أن الملائكة
يعسكرون حولهم كجنود العلي نهاراً وليلاً، ويحمونهم من الأعداء غير المنظورين
والأخطاء المحيطة بهم على الدوام. غير أننا يجب أن نحترس من الاتكال عليهم ولا يجب
أن نطلب منهم المعونة، لأنهم في يدي الله القدير، وهو يستخدمهم لينفذوا إرادته كما
يستخدم الرياح والبروق (عب 1: 7) فهم مجرد أدوات في يد الصانع، وليس من الناس من
يتكل على الأداة دون الذي يستعملها.

9 – ما هو الرأي الأقرب للصواب في شأن “الملاك الحارس”؟

*
قال البعض إن لكل مؤمن ملاكاً حارساً خاصاً، اعتماداً على قول المسيح إن للصغار “ملائكتهم
في السماوات كل حين ينظرون وجه أبي الذي في السماوات” (مت 18: 10) وأيضاً على
قول المجتمعين في بيت مريم عن بطرس “إنه ملاكه” (أع 12: 7، 15). فنقول
إن الآية الثانية لا تثبت أن لبطرس ملاكاً حارساً خاصاً، لأن ما قيل عن “ملاك
بطرس” لم يُنطق به بالوحي (ولو أن ذِكْره في الكتاب كان بالوحي). فلا يصح أن
نسند إليها تعليماً ما. كل ما هناك أن هذا كان الاعتقاد العام بين المجتمعين في
بيت مريم. وأما الآية الأولى فيظهر منها أن للأولاد ملائكة يحرسونهم ويسهرون على
مصالحهم وخيرهم، ولكنها لا تُثبت أن لكل ولدٍ أو مؤمنٍ ملاكاً حارساً خاصاً. وقال
معظم المفسرين إن الله كلف ملائكة مخصوصين أن يعتنوا بممالك خاصة بناءً على ما جاء
في دانيال من ذكر رئيس مملكة فارس ورئيس مملكة اليونان والقول لدانيال: “ميخائيل
رئيسكم” (دا 10) وقالوا: بما أن ميخائيل الذي دُعي رئيس العبرانيين لم يكن
ملاك العهد غير المخلوق، ولا رئيساً بشرياً بل رئيس ملائكة، لزم أن رئيس مملكة
فارس ورئيس مملكة اليونان هما أيضاً ملاكان. وهذا موضع شك بدليل ما يأتي:

(1)
لم ترد في العهدين القديم والجديد إشارة في غير هذا المكان إلى أن لكل أمة وثنية
في القديم أو الآن ملاكاً حارساً أو روحاً شريراً موكلاً بها.

(2)
سُمّيت القوات القائمة قُبالة الملاك الذي ظهر للنبي أيضاً ملوك فارس (دا 10: 13).

(3)
جاء في دانيال 11 ذكر ملوك أرضيين بطريقة يُستنتج منها أنهم هم القوات المضادة
المشار إليها، وليس الملائكة الأخيار ولا الأشرار.

10- هل تجوز عبادة الملائكة؟

*
ظهر اتجاه في الكنيسة لإكرام الملائكة أكثر مما يليق، حتى أن المجمع السابع
المسكوني (النيقوي) سنة 787 م حكم بتقديم نوع من العبادة لهم، تكون أدنى من
العبادة التي تُقدم لله العظيم، مع أن المجمع النيقوي الأول، وهو من أقدم المجامع
وأفضلها قال إنهم مخلوقون. وينهى الكتاب المقدس عن عبادة الملائكة بأمرٍ جاء مرتين
ليوحنا: “انظر! لا تفعل. أنا عبدٌ معك ومع إخوتك الذين عندهم شهادة يسوع.
اسجد لله” (رؤ 19: 10 و22: 9).

11- ما هي أسماء رئيس الملائكة الأشرار في الكتاب المقدس؟

*
الشيطان، ومعناه خصم (أي 1: 6 و1أي 21: 1 ومت 4: 10 ولو10: 18). وإبليس، ولم يرد
إلا بصيغة المفرد، ومعناه قاذف ومجرِّب والمشتكي (مت 4: 1). والشرير (مت 6: 13)
وأبوليون، ومعناه هلاك أي المهلك، وأبدون بنفس المعنى (رؤ 9: 11) وبعلزبول وهو في
الأصل اسم إله عقرون أعظم آلهة الفلسطينيين (2مل 1: 2 ومت 12: 24) وبليعال (2كو 6:
15) و ملاك الهاوية (رؤ 9: 11) ورئيس هذا العالم (يو 12: 31) ورئيس سلطان الهواء
(أف 2: 2) وأسد زائر (1بط 5: 8) والذي من البدء يخطئ (1يو 3: 8) والمشتكي (رؤ 12:
10) وقتّال الناس، وكذاب (يو 8: 44) والحية (2كو 11: 3) والحية القديمة (رؤ 12: 9)
والتنين العظيم (رؤ 12: 3، 9) وإله هذا العالم (2كو 4: 4) والذي له سلطان الموت
(عب 2: 14). غير أن الشيطان وإبليس أشهرها جميعاً، وقد دُعي بهما في الكتاب نحو تسعين
مرة.

أما
كلمة شيطان فهي عبرية بصيغة اسم الفاعل، مشتقة من الفعل شطن بمعنى كَمَنَ أو ناقض
أو خاصم أو قاوم، فيكون معناها خصماً أو مضاداً. وقد جاءت بالنكرة بهذا المعنى في
القول “أقام الرب لسليمان خصماً” (وفي العبرية شيطاناً) (1مل 11: 14)
وقد ورد الفعل في الكتاب المقدس بلفظه فقيل “أراني يهوشع الكاهن العظيم
قائماً قدام ملاك الرب، والشيطان (الخصم) قائم عن يمينه ليقاومه” (وفي
العبرية: ليشطنه) (زك 3: ا، 3). ودعا المسيح مرة بطرس “شيطاناً” لأنه
وافق مشورة الشيطان وقدمها للمسيح لصالح أهداف الشيطان. وهذا هو المثال الوحيد
لاستعمال هذه الكلمة في العهد الجديد لغير رئيس الملائكة الساقطين. وأما كلمة
“إبليس” فهي يونانية معربة أصلها “ديابولوس” ومعناها قاذفٌ أو
مشتكٍ، وهي أكثر استعمالاً من كلمة شيطان في العهد الجديد. وقد استُعلمتا معاً في
جملة واحدة، فقيل “طُرح التنين، الحية القديمة، المدعو إبليس والشيطان”
(رؤ 12: 9). ويراد بها في العهد الجديد العدو الكبير لله وللمسيح ولملكوته وشعبه
ولكل الحق، المملوء من الكذب والخبث، الطاغي إلى الشر (مت 4: 1-11 ولو 4: 1 ويو 8:
44 وأع 13: 10 وأف 6: 11 و1بط 5: 8 و1يو 3: 8 ورؤ 12: 9).

12- ماذا يقول الكتاب المقدس في أصل الملائكة الأشرار وسبب سقوطهم؟

*
جاء فيه أن بعض الملائكة لم يحفظوا رئاستهم الأولى، وهؤلاء هم الذين أخطأوا،
فلُقّبوا “أشرار” و”أرواح نجسة” و”رؤساء”
و”سلاطين” و”ولاة العالم.. على ظلمة هذا الدهر” و”أجناد
الشر الروحية (الأرواح الشريرة) في السماويات” (لأنهم كانوا من سكان السماء
أصلاً. وقيل عن إبليس إنه رئيس سلطان الهواء أف 2: 2، لأن قوتهم ليست محدودة بحدود
قوة أهل الأرض، وهجومهم غير قاصر على أجساد البشر، بل على نفوسهم الخالدة أيضاً).
وجميع هذه الألقاب مع ما تقدم ذكره من أسمائهم وألقابهم تدل على طبيعتهم وقوتهم
وصفاتهم. ونرى في الكتاب أنهم خُلقوا أولاً في حالة القداسة ثم سقطوا منها، ولكن
لم يعلن لنا فيه شيء عن الوقت الذين سقطوا فيه، ولا المعصية التي سقطوا بها. غير
أن علماء الكنيسة قالوا إن خطيتهم الأولى كانت الكبرياء مستندين في ذلك على قول
الرسول إن الأسقف يجب أن يكون غير حديث الإيمان “لئلا يتصلَّف فيسقط في
دينونة إبليس” (1تي 3: 6). وتفسير هذه الآية أن الدينونة التي استحقها إبليس
كانت بسبب خطية الكبرياء كما يُستفاد من القرينة، لأن معنى الفعل تصلف هو
“ادَّعى فوق ما عنده إعجاباً وتكبُّراً”. وقال البعض إن ما حمل الشيطان
على العصيان على الله وإغواء أبوينا الأولين هو الطمع في التسلط على أرضنا وجنسنا.
ولكن ليس في الكتاب المقدس ما يؤيد هذا الزعم، لأن الكتاب يذكره أول ما يذكره بصفة
ملاك مرتد ساقط، ثم جاء كلام صريح على أنه ملاك ساقط أرفع من رفقائه قدراً وقدرة،
وأنه عدو لدود لله وللإنسان، ومضاد لكل خير، ومجتهد في انتشار الشر. أما قول
العقليين إن الشيطان كناية عن الشر، فيكون الشيطان أمراً معنوياً، لا شخصاً عاقلاً
حقيقياً فيخالف الكتاب المقدس وإيمان الكنيسة، بدليل ما يأتي:

(1)
ينسب الكتاب المقدس إليه صريحاً الصفات والأعمال الشخصية، فقد جرَّب آدم الأول
وألقاه في الخطية (تك 3: 13، 14) وهجم بكل قواه وخداعه وحيله بهذا القصد الخبيث
على آدم الثاني (مت 4: 1-11) وحاول أن يغربل التلاميذ مثل الحنطة (لو 22: 31)
ويجول كأسد زائر ملتمساً من يبتلعه (1بط 5: 8) ويشتكي على إخوتنا، ويضل العالم كله
(رؤ 12: 9، 10) وأنه منذ البدء كذاب وقتال للناس (يو 8: 44) وله مملكه مؤلفة من
فعلة عاقلين يقاومون ملكوت الله (مت 12: 25، 26) وأنه سيُدان في اليوم الأخير
ويُعاقب مع البشر الخطاة الهالكين (2 بط 2: 4 ويه 6 ومت 25: 41).

(2)
ما جاء في التاريخ يدل على أنه شخص عاقل وله رفقاء ساقطون مثله. ومن ذلك الكلام
على قيام حرب هائلة منذ السقوط بين الخير والشر، نشأت عنها طوائف وثنية وأديان
خرافية وفلسفات كاذبة ملأت العالم والزمان، وكلها تدل على قوة عقل إبليس الطاغي،
سبب الخطية ومصدرها. وخلاصة ما جاء في أسفار الكتاب المقدس التعليمية والتاريخية
أن الشيطان شخص عاقل ذو قوة وسلطان ورُسل وأتباع، وأنه يجرب ويقاوم، وسوف يُحاسَب
ويُعاقَب. وفي الكتاب المقدس أدلة كافية على شخصية الملائكة والبشر.

وقال
البعض إن اعتقاد وجود الشيطان اشتهر بين العبرانيين بعد السبي من مصدر وثني. ولكن
هذا يخالف الكتاب الذي يقول إنه هو الذي جرب أبوينا الأوَّلين، وحاول أن يرد أيوب
عن الله. وقد جرت هاتان الحادثتان قبل سبي بابل بزمان طويل. وجاء صريحاً في الكتاب
أن الشيطان عدو الله، ورئيس ملكوت الظلمة الذي يشمل كل الخلائق الأشرار، وأن الإنسان
بارتداده عن الله سقط تحت سلطانه، وأن خلاص الإنسان يقوم بنقله من ملكوت إبليس إلى
ملكوت ابن محبة الله.

وقال
آخرون إن الذين قيل عنهم إنهم خاضعون للشيطان هم أرواح البشر الساقطون الذين خرجوا
من هذا العالم، لا الملائكة الأشرار. وهذا يتضح بطله:

(1)
من التمييز بينهم وبين الملائكة المختارين.

(2)
من قول يهوذا إنهم لم يحفظوا رياستهم أو حالتهم الأولى.

(3)
من قول بطرس “لأنه إن كان الله لم يشفق على ملائكةٍ قد أخطأوا” (2بط 2:
4).

(4)
من تلقيبهم بسلاطين وقوات ورؤساء ونحوها من الألقاب التي تدل على أنهم أسمى من
الإنسان أصلاً وأشد منه قوة.

13- ماذا ورد في الكتاب المقدس في قوة الملائكة الأشرار وسطوتهم؟

ورد
أنهم كثيرو العدد وأقوياء جداً، وأن لهم سلطاناً في عالمنا، ويقدرون أن يؤثروا في
أجساد البشر وعقولهم. ومن أمثلة تأثيرهم في الجسد ما جاء من ذكر عملهم مع أيوب (أي
2: 4-7) ومع بعض المجانين والمصروعين (مر 9: 17-26). ومن أمثلة تأثيرهم في العقل
ما فعلوه مع حواء (تك 3: 1-6) وأخآب لما أراد أن يصعد على راموت جلعاد (1مل 22:
20-22) وحنانيا وامرأته (أع 5: 3) والجارية التي كان فيها روح عرافة (أع 16: 16)
وكل المجانين المذكورين في العهد الجديد لأنهم كانوا مصابين في العقل والجسد. غير
أن قوتهم محددة من الله، لا يقدرون أن يغتصبوا أحداً. وينجح كل من يحاول أن يخلع
نيرهم ويهزمهم بسلاح الله (أف 6: 13 ويع 4: 7). أما الحدود التي تحصرهم فهي:

(1)
إنهم تحت سلطان الله، فلا يقدرون أن يعملوا إلا بإذنه.

(2)
ينفذون أعمالهم بموجب نواميس طبيعية.

(3)
لا يقدرون أن يُبطلوا حرية الإنسان ومسؤوليته. ومع ذلك فقوتهم عظيمة جداً لأنهم
يقدرون أن يستأسروا من يريد من الناس أن يسلم نفسه إليهم، وأن يعملوا في أبناء
المعصية. ويحذر الكتاب المسيحيين من خداعهم، ويحثُّهم على مقاومتهم بقوة الرب
متسلحين بسلاح الله الكامل.

وبالغ
البعض في سلطان الأرواح الشريرة، فنشأت عن ذلك شرور كثيرة، إذ نسبوا إليهم كل
الكوارث الطبيعية، كالعواصف والحرائق والأوبئة ونحوها، بل اعتقدوا ما هو أفظع من
ذلك، وهو أنهم يقطعون عهوداً مع البشر، وأن الإنسان يقدر أن يعقد اتفاقاً مع
الشيطان وينال منه قوة فائقة العادة لأجلٍ مسمّى على شرط أن يسلم الإنسان نفسه
للهلاك. وفي القرنين 17، 18 حُكم ظلماً على كثيرين ممن اتُّهموا بالسحر والشعوذة
والعرافة والكهانة ونحوها مما نُسب إلى عمل الشيطان. وخُدع كثيرون من أهل أوربا
بهذه الضلالات واشتركوا في إبادة الذين اتُّهموا بالسحر، وآل ذلك إلى هلاك ألوف لا
تُحصى منهم. غير أنه لا يجوز أن نتطرف في إنكار سلطان الأرواح الشريرة في الطبيعة
أو في أجساد البشر وعقولهم لنتخلص من الشرور التي تنشأ عن التطرف من الجهة الأخرى.
بل يكفي أن نتمسك بتعليم كتاب الله الصريح أن هذه الأرواح لا تقدر أن تعمل إلا
بموجب قوانين الطبيعة وحرية الإنسان، وأنه لا يمكن اكتشاف أعمالهم وبيانها بالدليل
القاطع أكثر مما يمكن اكتشاف أعمال الملائكة وبيانها. فنحن لا نقدر أن ننسب
بالتأكيد إلى فئة منهما تأثيراً خاصاً. فيجب أن نشكر الله لأجل خدمة ملائكة النور
غير المنظورة وغير المدركة، وأن نحترس من حيل أرواح الشر ونطلب إلى الله أن يحمينا
منها.

14- ماذا يُقال في تجربة الشيطان للمسيح في البرية؟

قال
البشيرون إن المسيح بعد معموديته أُصعد إلى البرية من الروح ليُجرَّب من إبليس (مت
4: 1-11). وهناك آراء في كيفية حدوث هذه التجربة:

(1)
إنها خواطر جرت على بال المسيح، نشأت في عقله، لكنه لم يخضع لها. وهذا الرأي مرفوض
لما يأتي: (أ) لا يمكن أن تنشأ هذه الخواطر من عقل المسيح. (ب) لا يمكن أن هواجس
الشيطان تدخل العقل القدوس البريء من الخطأ.

(2)
إنها قد جرت في رؤيا. وهذا الرأي مرفوض لما يأتي: (أ) إن خبر الكتاب المقدس لا يدل
على شيء من الرؤيا. (ب) إن تفصيل الخبر أكثر مما يلزم للرؤيا. (ج) تم ذلك في مدة
أربعين نهاراً وأربعين ليلة، وهي أكثر جداً مما يلزم للرؤيا.

(3)
إنها جرت بالفعل، فخرج المسيح إلى البرية بقوة الروح القدس وتكلم الشيطان معه،
وهاجم لاهوته مرتين في تجربتين، وحدد له البرهان الذي يثبت به لاهوته. ولما أفحمه
المسيح بالدليل الكتابي هاجم إبليس ناسوت المسيح، وحاول أن يحرك فيه الطمع في
الشهرة والمجد والقدرة، فأفحمه المسيح أيضا بقوله “مكتوب”. نعم جاء الشيطان
ليجرب المسيح ولو أن “ليس له فيه شيء” (يو 14: 30).

15- ما معنى سكن الأرواح النجسة في البشر، وماذا يقول الكتاب المقدس
في ذلك؟

*
معناه حلول روح شرير في الإنسان يُحدث فيه تأثيرات واضطرابات وآلاماً جسدية
وعقلية. وكان فعل تلك الأرواح يقتصر أحياناً على العقل كما في أمر الجارية التي
كان فيها روح عرافة (أع 16: 16). وربما كان من هذا النوع بعض الأنبياء الكذبة
والسحرة. وأحياناً يقتصر فعل الروح الشرير على الجسد فقط. وغالباً يعم الجسد
والعقل معاً. ولم يكن جنون المجانين المذكورين في العهد الجديد ناشئاً عن مرضٍ، بل
من سكن الشياطين فيهم. ويبرهن ذلك:

(1)
إن ذلك كان اعتقاد اليهود جميعاً في ذلك العصر.

(2)
صدق المسيح وتلاميذه هذا الاعتقاد بدليل قولهم عن هؤلاء المجانين إن فيهم أرواحاً
نجسة، وخاطبوا تلك الأرواح كما يخاطبون الأشخاص، فأمروهم بالخروج من الناس. ولا شك
أن جميع الذين سمعوا هذا الكلام من المسيح والرسل فهموا هذا المعنى، ولم ينفِ
المسيح ذلك، بل أثبته بأن وعد تلاميذه أن يعطيهم سلطاناً أن يُخرجوا الأرواح
النجسة، لأن له هذا السلطان، وقد فوَّضه إليهم. وبما أنه قال إنه أتى لينقض أعمال
إبليس كانت غلبته عليه وعلى ملائكته تبرهن صدق قوله، وأنه الملك الموعود به
والغالب الذي جاء للعالم ليؤسس ملكوت الله الذي لا انقضاء له.

وقال
مفسرو الأناجيل عن الذين دخلتهم الأرواح النجسة آراء مختلفة. والأرجح أن أرواحاً
نجسة حقيقية سكنت أولئك الناس وفعلت فيهم بقواها كما شاءت لتتمم مقاصدها الشريرة.
وقد شاعت في ذلك آراء باطلة منها:

(1)
مذهب المجاز، وهو أن أولئك المجانين كانوا مصابين بأمراض مختلفة جسدية وعقلية، وقد
قيل مجازاً إنهم مسكونون.

فنجيب:
(أ) يميز الكتاب بين الأمراض وسكن الشياطين، فجاء فيه “فأحضروا إليه جميع
السقماء المصابين بأمراض وأوجاع مختلفة والمجانين والمصروعين والمفلوجين فشفاهم”
(مت 4: 24). و”لما صار المساء قدموا إليه مجانين كثيرين، فأخرج الأرواح
بكلمة، وجميع المرضى شفاهم” (مت 8: 16). ولما أرسل تلاميذه قال لهم “اشفوا
مرضى. طهِّروا بُرصاً. أقيموا موتى. أخرِجوا شياطين” (مت 10: 8) فأعطاهم سلطاناً
على عمل أربعة أشياء مختلفة يتميز كل منها عن الآخر. (ب) عرفت الأرواح أن المسيح
إله حق، فقال واحدٌ منهم “أنا أعرفك من أنت: قدوس الله” (مر 1: 24)
والأمراض الجسدية لا تجعل صاحبها يقول هذا للمسيح. (ج) عاتبت الأرواح يسوع قائلة “ما
لنا ولك يا يسوع ابن الله! أجئت إلى هنا قبل الوقت لتعذبنا؟” (مت 8: 29). (د)
اختار الأرواح لأنفسهم معاملة خاصة من المسيح، وألحوا عليه أن يفعلها لهم، فطلبوا
منه “إن كنت تخرجنا فائذن لنا أن نذهب إلى قطيع الخنازير” (مت8: 31).
(ه) كانت الأرواح تتكلم مع المسيح، وكان ينتهرها “وكانت شياطين أيضا تخرج من
كثيرين وهي تصرخ وتقول: أنت المسيح ابن الله! فانتهرهم ولم يدعهم يتكلمون لأنهم
عرفوه أنه المسيح” (لو 4: 41). وكل هذا يدل على أن المعنى المقصود حقيقي لا
مجازي.

(2)
مذهب المجاراة، وهو أن يهود ذلك العصر اعتقدوا بسكن الأرواح النجسة في البشر. ولم
يصدق المسيح ذلك، غير أنه جارى أهل عصره على اعتقادهم، فتكلم وتصرف بطريقة تُثبت
تلك الخرافة، فصدق الشعب ما يعرف المسيح أنه باطل.

والرد
على هذا المذهب الباطل أنه يعني أن المسيح قاد الشعب ليصدقوا ما يعلم هو أنه خطأ،
مع أنه البريء من الخطأ وأنه نور العالم! وكل ما سبق من الأدلة على خطأ مذهب
المجاز يصدق على بطل هذا المذهب أيضاً.

ولم
يُذكر في العهد القديم سوى قليلين من الذين يُظن أنهم كانوا مسكونين. ومنذ نهاية
القرن المسيحي الأول إلى الآن انحسرت هذه الظاهرة، فقام السؤال: لماذا حصر الله
تأثير الأرواح النجسة بهذه الكيفية في أول مدة العهد الجديد، خاصة في عصر المسيح،
لأنه حيثما ذهب كان يصادفهم؟ وربما كان الجواب الصحيح لذلك هو أن “نسل المرأة”
وتلك “الحية القديمة” كانا في حرب شديدة منذ سقوط الإنسان. وبسماح من
الله اشتدت الحرب في زمان المسيح، وربح الشيطان سلطاناً واسعاً مخيفاً على البشر،
وكانت المظاهر المنظورة لأعمال الشياطين في المجانين وسائل خاصة لإظهار قوة
المسيح، وفرصة لبيان طبيعته الإلهية ورسالته وحقيقة نصرته الأخيرة الأبدية، وأن
المسيح هو أقوى من الرجل القوي المتسلح، فقد أُظهر لينقض أعمال إبليس (لو 11: 22)
ووعد أن يعطي جميع المتكلين عليه هذه النصرة على ذلك العدو.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى