علم الكتاب المقدس

الفصل العاشر



الفصل العاشر

الفصل
العاشر

قراءة
العهد القديم على ضوء العهد الجديد

في
صباح يوم القيامة انطلق مسافران من أورشليم إلى عماوس، وكانا يتكلّمان عمّا حدث
ليسوع الناصري الذي حُكم عليه بالموت وصُلب، مع أنّ الناس ترجّوا أن يكون هو الذي
يخلّص إسرائيل: وما عتّم أن انضمّ يسوع إلى هذين المسافرين اللذين كانا من
تلاميذه، وأفهمهما أنّه كان يجب على المسيح أن يعاني هذه الآلام قبل أن يدخل مجده.
وشرح لهما ما جاء عنه في جميع الكتب المقدّسة، من موسى إلى سائر الأنبياء (لو 13:
24 ي). لقد انطلق يسوع من أسفار العهد القديم ليبيّن لتلاميذه الحدث الفريد في
تاريخ البشرية، عنيت به قيامته من بين الأموات.

في
صباح يوم العنصرة اهتزّت أورشليم لمّا حلّ الروح القدس على التلاميذ ودفعهم إلى
التكلّم بلغات الأمم العديدة واعلان أعمال الله العظيمة (رج أع 2: 1 ي). ولكي
يُفهم بطرسُ شعبَ اورشليم ما حدث، أورد قول النبي يوئيل (3: 1- 5): “في
الأيّام الاخيرة أفيض من روحي على جَميع البشر.. وعلى عبيدي رجالاً ونساء، أفيض من
روحي في تلك الأيّام فيتنبأون كلّهم” (أع 2: 17- 18). ثمّ أورد قول المزمور
(18: 16): “رأيت الرب معي في كل حين فهو عن يميني لئلاّ اضطرب، لذلك فرح قلبي
وهلَّل لساني، وجسدي يرقد على رجاء، لأنّك لا تتركني ي عالم الأموات ولا تدع
قدّوسك ينال منه الفساد” (أع 2: 25- 27).

مقالات ذات صلة

ويحدّثنا
القدّيس بولس في رسالته الأولى إلى أهل كورنتوس (15: 25- 55) عن قيامة يسوع وعن
قيامتنا معه فيورد نصًّا من المزمور (110: 1) ويقول عن يسوع إنّه سيضع جميع أعدائه
تحت قدميه، والموت آخر عدو يبيده، ثمّ يورد نصًّا من سفر التكوين (2: 7): كان آدم
الأوّل نفسًا حية، وآدم الآخر روحًا محييًا، ثمّ نصًّا من أشعيا (25: 8) وأخيرًا
من هوشع (13: 14): قد ابتلع الظفر الموت. فأين يا موت ظفرك؟ وأين يا موت شوكتك؟ إنّ
شوكة الموت هي الخطيئة.

أمّا
كاتب الرسالة إلى العبرانيين (1: 1- 14) فيخبرنا عن ابن الله الذي جعله الآب
وارثًا لكل شيء وبه أنشأ العالمين، والذي هو شعاع مجد الله وصورة جوهره. هذا الابن
هو أرفع من كلّ الخلائق، وأرفع من موسى وهارون، وأرفع من الملائكة. ولكي يبرهن على
عظمة الله يرجع الكاتب إلى نصوص العهد القديم. فمَن مِن الملائكة قال الله له
يومًا: “أنت ابني وأنا اليوم ولدتك ” (مز 7: 2)؟ وقال أيضاً: ”
سَأكون له أبًا ويكون لي ابنًا” (2 صم 7: 14). ويقول أيضاً عند ادخاله البكر
الى العالم: “ولتسجد له جميع ملائكة الله” (مز 7: 97). وقد قال في
الملائكة: “جعل من ملائكته رياحًا ومن خَدَمه لهيب نور” (مز 104: 4)،
وقال لابنه: “إنّ عرشك ثابت أبد الدهور، وصولجان الاستقامة صولجان ملكك”
(مز 7: 45).

إذا
كان يسوع ذكر ما جاء عنه في أسفار التوراة ليدخل تلاميذه في سرّ موته وقيامته، وإذا
كان الرسل وتلاميذهم قد أوردوا نصوص العهد القديم ليُخبروا عن سرّ الله المعطى في
يسوع المسيح، لماذا لا نحذو نحن المسيحيين اليوم حذوهم؟ إذا كان يسوع قد قرأ هذه
الأسفار المقدّسة وغذّى منها فكره وتعليمه، فلماذا لا نفعل نحن مثله؟ وإذا كان بسط
شروحه عن ملكوت الله، عن ابن الإنسان، عن نهاية العالم، بلغة أسفار العهد القديم،
فنحن سنقرأ العهد القديم كمقدمة للعهد الجديد، وسنكتشف على خطى المسيح ورسله، كيف
نقرأ العهد القديم، نحن أبناء العهد الجديد، بعد أن زال القديم وبدت الخليقة
الجديدة (2 كور 5: 17).

نقسم
فصلنا إلى قسمين: في قسم أوّل نتعلّم طريقة يسوع والرسل في قراءة العهد القديم،
وفي قسم ثانٍ نطبّق هذه الطريقة على مطالعتنا لأسفار التوراة فيكون لنا منه ثمر
القداسة والحياة الأبدية (روم 6: 12).

 

I – طريقة يسوع والرسل في قراءة العهد القديم

نبدأ
فنقول إنّ العهد الجديد هو الأساس لكلّ تعليم مسيحي، وإنّ قيمة العهد القديم
بكماله في العهد الجديد، وإنّ أسفار التوراة تدلّنا في النهاية على المسيح وعلى
عمله في الكون. قلنا في مقال سابق إنّ الكتاب المقدّس، والعهد القديم منه، هو وحي
الله، هو كلام الله، ونحن نقرأه بروح الإيمان ونفهمه على ضوء نظرتنا إلى المسيح.
إذا كان العهد القديم وعدًا، فيسوع هو تحقيق هذا الوعد، وإذا كان نبوءة فالمسيح
يتمّمها. وإذا كان استعدادًا وتهيئة، فيسوع هو الشخص الذي استعدّ شعب إسرائيل
لمجيئه، وإذا كان صورة ورمزًا، فيسوع هو الحقيقة التي تغنينا عن رموز الكلام وتدخلنا
في سرّ الله. كل هذا سيفرض علينا أن نميّز بين قراءة اليهود اليوم لأسفارهم
المقدّسة وقراءة المسيحيين لهذه الأسفار عينها لنرى أي جديد حمله إلينا يسوع في
كلمات قيلت قبل مجيئه، ولكنّه جاء يتمّمها فيجعل حياته بحسب ما جاء في الكتب (1
كور 3: 15).

 

أ-
كيف يقرأ اليهود أسفارهم المقدّسة؟

ليس
العهد القديم كتابًا مسيحيًّا وقد دوّن قبل مجيء المسيح، ونحن المسيحيين نعتبره
دون الوحي الكامل الذي حمله إلينا المسيح والذي نقلته إلينا الكنيسة صريحًا
واضحًا، دون الإيمان الذي يفترضه هذا الوحي، دون الحياة الجديدة التي يعيشها المعمّد
في المسيح. مّا اليهودية فتعتبر العهد الجديد وكأنّه لم يكن. فكيف ستقرأ أسفارها
المقدّسة بعد أن هُدم الهيكل وألغيت الذبائح ولم يعد لها إلاّ الشريعة كوسيط بين
المؤمنين وبين الله؟

إنّ
الديانة اليهودية لا تزال تتغذّى من أسفارها القديمة وهي لا تزال تعتبرها ملكًا
لها. وإنّ الشعب اليهودي لا يزال يعدّ نفسه شعب الله بفضل تواصل تاريخي متجانس.
لقد كلّم الرب آباءهم ولهم أعطى شريعته وإليهم أرسل أنبياءه، وايّاهم وعد بمواعيده
لأنّه شعبه المختار من يستطيع أن ينسخ كلمة الله؟

 

1-
ما يرفضه اليود

من
أجل هذا الموقف المبدئي لا يقبل الشعب اليهودي بمَا تسمّيه المسيحية تبدّلاً في
مخططات الله، كما لا يقرّ بمَا يقوله القدِّيس بولس عن شعب إسرائيل الذي هو عبد
للشريعة. لا، لم تكن اليهودية يومًا ديانة الشريعة. والشريعة بالنسبة إلى بني
إسرائيل هي مجموعة قوانين كيَّفها المعلّمون على مرّ العصور فمنعوا الحرف من أن
يقتل الروح (2 كور 3: 6). والروح هذا لم يترك بني إسرائيل، بل ما زال ينيرهم
بأضوائه، كما في الماضي، فيساعدهم على إبراز الحقائق الدينية والاخلاقية المهمّة
التي نادت بها أسفار التوراة. والوصية الأساسية التي تبقى نبراسًا لهم هي التي يقرأونها
في سفر اللاويين (18: 19): “أحبب قريبك كما تحبّ نفسك “. والعقيدة
الأساسية التي يستند إليها إيمانهم هي عقيدة الله الواحد، إله السماء والأرض، وإله
البشر أجمعين. هذه العقيدة نادوا بها منذ القديم وما زالوا يردّدونها اليوم في
صلاتهم اليومية. “اسمع يا إسرائيل، إنّ الرب إلهنا رب واحد” (تث 4: 6).

إنتظر
الشعب اليهودي مسيحًا يحمل الخلاص إليه، إلى البشرية جمعاء، وهذا الانتظار يبقى في
قلب الرجاء اليهودي. كل فرد من شعب الله ينقطع عن هذا الإيمان اليهودي يكون وكأنّه
قد أنكر إرثه الروحي. وتعتبر اليهودية أن المسيح حاضر في بني إسرائيل وأنّ شخصيته
تتعدّى المسيح حسب داود الملك، لتتجسّد في الشعب كلّه، وهذا الإسرائيل له رسالة
إلى جميع الشعوب بفضل دعوته. فإذا قرأنا مثلاً في سفر أشعيا (53: 1ي) نرى أنّ
“عبد يهوه” هو شخص فرد سيموت عن الشعب فيبرّرهم حاملاً آثامهم، ونرى
أيضاً أنّه الشعب كلّه بحسب ما ورد في السفر عينه (3: 49): “أنت عبدي، يا
إسرائيل، فانّي بك أتمجّد”. واليهود يأخذون بالمعنى الثاني دون الأوّل،
لأنّهم لا يقبلون بأن يتحقّق ما قاله أشعيا في شخص المسيح الذي هو يسوع والذي وُلد
في زمن هيرودس ومات على عهد بيلاطس البنطي.

وهكذا
تعتقد اليهودية أنّها لم تزل على اتّصال مستمرّ بوحي العهد القديم، وتظنّ أنّها
تفهم نصوصه من الداخل أفضل من المسيحية، وتتساءل: بأي حقّ تضع المسيحية يدها على
كتب ليست ملكًا لها؟ أمّا المسيحية فتعتبر أنّ أسفار العهد القديم انتقلت إليها
لأنّها هي التي صارت شعب الله في العهد الجديد الذي قطعه يسوع بدمه (مت 26: 28)،
وأنّ ما ورد فيها كُتب لتعليمنا (روم 4: 15). هذا لا يعني أنّه لم يعد لليهود حقّ
في التوراة، ولكنّ هذا يمنع اليهود من حصر هذا الحقّ فيهم.

في
هذا يقول القدّيس بولس: إنّ اليهود، من حيث اختيار الله لهم، هم أحبّاؤه إكرامًا
للآباء لأن لا ندامة في هبات الله ودعوته (روم 28: 11- 29). وهذا الكلام الذي أوحى
الله به إلى الآباء سيبقى للشعب نداء يقودهم إلى نور المسيح، إذا شاؤوا. لأنّه،
إلى اليوم، لا يزال القناع على قلوبهم عند قراءة شريعة موسى (2 كور 3: 15)، وهذا
القناع لا ينزعه إلاّ المسيح، لا يُنزع إلاّ إذا اهتدوا إلى الرب وقرأوا بطريقة
جديدة الكلام الذي تسلّمه آباؤهم.

وإنّ
اليهود لا يقرّون بأنّ العهد القديم قد تنبّأ عن المسيح وهيّأ الدرب للمسيح.
والسبب في ذلك يعود إلى جهلهم الحقيقي للنبوءات المسيحانية (رج روم 9- 11) وإلى
عدم إيمانهم بالمسيح وبأعماله (رج يو 3: 12؛ 4: 48؛ 5: 44). وهذا الإيمان موضوعه
عمل إلهي جديد وخلق جديد. وإذا كان أحد في المسيح فهو خليقة جديدة، لأنّه لا
الختان ولا عدم الختان ينفع الإنسان، بل الذي ينفعه أن يكون خليقة جديدة (غل 6:
15؛ رج أف 2: 10- 15). أجل، هناك جديد، هناك تبديل في وجهات النظر إنّ رجاء
إسرائيل المسيحاني يجد تحقيقه غير المنتظر في يسوع الناصري، الذي يحقّقه في وجهته
الروحية الشاملة، تاركًا جانبًا وجهته المادّية والزمنية والقومية. إنّ اليهود
ينظرون إلى هذا الرجاء المسيحاني ويرون أنّه تحقّق، أقلّه جزئيًّا، في الرجوع إلى
أرض الميعاد. مثل هذا الموقف جعل بعض المسيحيين يميّزون بين مسيحانية يقول بها
يسوع ومسيحانية ملأت قلب اليهود في القرن الأوّل المسيحي، فيقولون: إنّ النُظُم
الدينية، كالاختيار والعهد والملكوت والكهنوت والعبادة والشريعة، تبقى مغلقة
كالزهرة، وهي لا تتفتح إلاّ في العهد الجديد. حينئذ تتحوّل جذريّا، أو تتبدّل
ملامحها وتضيع معالمها، فلا يعود المؤمن العادي يعرفها.

لا،
لا يرضى اليهود بقول المسيحيين إنّ نبوءات العهد القديم تحقّقت في المسيح
والكنيسة، فهم ما زالوا شعب الله وملكه القائم على عهده معه.

 

2-
العهد، الملكوت، الشعب

نودّ
هنا أن ننطلق من ثلاثة مفاهيم رئيسية في التوراة، لا تزال تكوّن زخم شعب إسرائيل،
عنيت بها العهد والملكوت والشعب.

العهد
مفهوم رئيسي في التوراة، وهو يسم بسمة خاصة العلاقة بين الله وشعبه. هذا العهد ليس
رمزًا بحتًا. بل يحمل مضمونًا واقعيًّا ملموسًا. لا شكَ في أنّ الله والشعب ليسا
متعاقدين متساويين، ولكن يبقى العهد علاقة تلزم الاثنين وتدعوهما إلى الأمانة
المتبادلة: الرب يطلب من شعبه أن يكون له أمينًا فلا يخونه بعبادة آلهة غريبة،
والشعب يستطيع أن يعتمد على الله الأمين الذي لا يمكنه أن يخون نفسه. وهذا الشعب
قد اختاره الرب في واقع تاريخه الملموس، ودخل معه في عهد عبر ذبيحة (خر 24: 1 ي)
ستتجدّد فتجعل العهد ثابتًا لا يتزعزع.

ولكنّ
هذا المنطق سيرفضه الأنبياء فيقولون إنّ الله لا يرتبط بأرض يقيم عليها قوم، ولا
يرتبط بشعب مهما كان تاريخه، ولا يرضى بشعائر عبادة لا ترافقها طاعة لمتطلّبات
الربّ في مجالات الحقّ والعدل. وهكذا سينتقل الأنبياء إلى نظرة جديدة للعهد الذي
يجعلونه في آخر الأيّام (إر 31: 33- 34؛ حز 37: 26- 28). ولكنّ الجماعة المسيحية
الأولى ستنطلق من هذا الكلام لتعلن أنّ العهد الجديد (عب 8: 8- 12) ليس عهدًا مع
شعب تاريخي، بل عهد قطعه يسوع مع جميع الشعوب بموته على الصليب.

أمّا
فكرة الملكوت فتعني أنّ الرب يملك على شعب إسرائيل، وأنّه يفرض عليه سننه وأحكامه،
وأنّه لا يقبل بملك أرضي يزاحمه في المُلْك على إسرائيل. نقرأ مثلاً في سفر المزامير
(47: 2- 5): “صفّقوا بالاكفّ، يا جميع الشعوب، اهتفوا لله بصوت الترنيم، لأنّ
الرب عليّ رهيب، ملك عظيم على كل الأرض. اخضع الشعوب تحتنا، والأم تحت أقدامنا.
اختار لنا ميراثًا، فخرًا ليعقوب الذي أحبّه” (رج مز 93: 96- 97). وإذا كان
الشعب لم يتخلّ عن ملكه، فكيف يتخلّى الملك عن شعبه؟

غير
أنّ ما حدث في الجلاء جعل الشعب يعتبر أنّ الرب، وقد أسلم شعبه إلى الأمم الوثنية،
سوف يؤسّس ملكه في المستقبل، فيبدأ حينئذ بإقامة عهد خلاص (أش 7: 52). ثمّ لاحظوا
أنّ ملك الله هذا لم يتحقّق، مع أنّ الجماعة اليهودية المجتمعة حول الشريعة سعت
إلى جعله أمرًا واقعًا. فالملوك الوثنيون (الفرس، اليونانيون، السلوقيون) لا
يزالون يسيطرون على شعب الله. بموازاة هذا الواقع اخذ كتّاب الرؤى يعلنون أنّ
ابليس هو ملك العالم الحاضر (راجع صدى لهذه الفكرة في لو 4: 6)، وأنّ الرب الملك
سيقتحم هذا العالم، فينهي مملكة ابليس ويبدأ مملكة جديدة تكون منفصلة عن هذا
العالم فتهيّئ الطريق لقيامة الموقى.

ولكن
عندما يكرز يسوع بملكوت السماوات، فهولا يتطرّق إلى فكرة سلطان الله على بلد سيعود
إليه ازدهاره، ولا إلى شعب سيعيش مع جيرانه بسلام. إنّ الملكوت يأتي من العلاء
ويرتبط بجماعة تتعدّى الأعراق والإثنيات، جماعة هي من واقع هذا العالم ومن واقع
العالم الآخر وقد اجتمعت باسم يسوع وحول يسوع الذي به حلّ ملكوت الله على الأرض.

وفكرة
الشعب ترتبط بفكرة الملكوت، لأنّ شعبًا يقرّ بالله ملكًا عليه لا يمكن أن يرضى أن
يكون له ملك كسائر الملوك على الأرض. قال جدعون للشعب: “لا أنا أتسلّط عليكم
“ولا ابني يتسلّط عليكم، بل الرب هو يتسلّط عليكم ” (قض 23: 8)، ويكون
عليكم ملكًا. ولكنّ الشعب أراد أن يكون له ملك كما لسائر الشعوب (1 صم 8: 19- 25)،
فكانت تلك الإرادة بداية الشرّ في شعب الله. وبرز التعارض العميق بين فكرة شعب
الله وفكرة مملكة تضاهي سائر ممالك الأرض. فمملكة الأرض تريد تنظيمًا خاصا بها.
وهي تستند إلى معاهدات واتفاقيات مع الممالك المجاورة، وهذا ما يتنافى ومثال شعب
الله، ويعرّض إيمانه للخطر، ويدفع الملك إلى نسيان قدرة الله وعمله في شعبه.

أمّا
الأنبياء فلم يتصوّروا إمكان تحقيق فكرة شعب الله في إطار مملكة أرضية. لهذا
طالبوا بالحقّ والعدل داخل التنظيم القبلي فلم ينجحوا. حينئذ تعلّموا من خبرة
المنفى أنّه إذا أراد الشعب أن يكون جماعة الله فعليه أن يتخلّى عن وجوده كجماعة
سياسية فينتظر المسيح، لا على مثال داود الملك، بل على مثال ابن الإنسان الآتي من
عند الله والمالك باسم الله على شعب الله.

في
أسفار العهد الجديد ستُعلن الكنيسة عن نفسها أنّها شعب الله، أنّها في العالم وإن
لم تكن من العالم (يو 18: 15- 19)، وأنّها لا تهتمّ بأشكال الحكم ما دامت عادلة
(روم 13: 1 ي). يدخل الإنسان في شعب الله الجديد، لا بالولادة، أو بنتيجة علاقات
سياسية، بل بالعماد الذي يخلق هذا الشعب من المختارين والمدعوّين والقدّيسين الذين
يكوّنون “إسرائيل الله ” (غل 6: 16) الجديد.

 

ب-
كيف قرأ يسوع أسفار العهد القديم؟

1-
التوراة كتاب يسوع

كانت
التوراة كتاب يسوع وقد قرأها وردّد نصوصها منذ حداثته وتعمّق فيها طوال حياته.
تعلّم التوراة في المجمع، وتلا صلواته اليومية المأخوذة منها، وعيّد مع المؤمنين
أعياد السنة الثلاثة الكبرى فشاركهم في سماع النصوص الخاصة بكلّ من هذه الاعياد
وأنشد الأناشيد المعروفة وسار في الطواف معهم.

أجل،
لقد قرأ يسوع التوراة كما قرأها معاصروه، ولكنّه لم يفهمها كما فهمها معاصروه من
كتبة وعلماء الشريعة. هو لم يكتفِ بترداد النصوص والدفاع عن تعليم هذا المعلّم أو
ذاك، بل توخّى أن يقدّم تعليمًا شخصيًّا مبتكرًا، تعليم من له سلطان (مت 29: 7 ؛
مر 1: 22). ولا ينحصر عمله في تفسير الكتاب تفسيرًا حرفيًّا، بل يتعدّى التفسير
إلى إعلان وحي الله النهائي إلى معاصريه وإلى جميع البشر في هذا الإطار نراه
أمينًا للتوراة يقترب أسلوبه من أسلوبها، ومستقلاًّ عن التوراة عندما يحمّلها
معاني جديدة.

قرأ
يسوع التوراة كما قرأها معاصروه، ولكنّه قرأها على ضوء الوحي التامّ النهائي. لذلك
ترك جانبًا كلّ ما علق بها من ضعف أرضي على مر العصور، وزاد ما لم يجسر على إعلانه
المتكلّمون باسم الله، أو ما لم يعرفه الأنبياء والحكماء. سأله مرّة يعقوب
ويوحنّا: “يا سيّد، أتريد أن نأمر النار فتنزل من السماء ويهلهم كما فعل
إيليا” (1 مل 1: 1- 12)؟ فالتفت يسوع وانتهرهما: “إنّ ابن الإنسان أتى،
لا ليهلك نفوس الناس، بل ليخلّصنا” (لو 9: 54 – 56). وإذا كان قد ذكر العقاب
الذي أصاب الخاطئين الرافضين للتوبة، إلاّ أنّه لم يردّد كلام الأنبياء في الحكم
على الأمم الوثنية (رج عا 1: 3 ي؛ أش 17: 1 ي؛ إر 46 – 49)، بل بالحريّ شدّد على
شخص يونان وندائه إلى التوبة (مت 12: 39- 41؛ لو 11: 29- 31). وقال له الفرّيسيون
يومًا: “أوصى موسى بأن يعطي الرجل امرأته كتاب طلاق فتطلق “. أجاب يسوع:
“لقساوة قلوبكم أجاز لكم موسى أن تطلّقوا نساءكم. أمّا أنا فأقول لكم..
” (مت 7: 19- 9).

التوراة
هي كتاب الله وسلطتها سلطة إلهية. استعملها يسوع مرّات كسلاح بوجه خصومه. قال
لإبليس يوم جرّبه: “كُتب: لا يحيا الإنسان بالخبز وحده. لا تجرّب الرب إلهك..
الرب إلهك تعبد” (مت 4: 1- 11 ؛ لو 4: 1- 11). وقال للكتبة مدافعًا عن
تلاميذه: “أما قرأتم ما فعله داود لمّا جاع” (مر 12: 36)؟ ومدافعًا عن
نفسه: “أما قرأتم في الكتب المقدّسة: الحجر الذي رذله البنّاؤون صار رأس
الزاوية” (مت 21: 42)؟ وهو يستعمل نصوص التوراة فيجعلها تطابق حالته. يعتبر
نفسه صاحب المزامير فيقول لتلاميذه (13: 91): “وها أنا اعطيكم سلطانًا تدوسون
به الأفاعي والعقارب كلّ قوّة للعدو” (لو 19: 10). ويقول للذين يقولون ولا
يفعلون (مز 9: 6): “لا أعرف من أين أنتم. ابتعدوا عني كلّكم يا أشرار”
(لو 27: 13)، ويقول للآب (مز 22: 2): “إلهي إلهي، لماذا تركتني ” (تث
27: 46)؟ أو (مز 31: 6): “يا أبت، في يديك استودع روحي” (لو 46: 23).

 

2-
إله العهد القديم هو أبوه والكتب تتحدّث عنه

أعطانا
يسوع تعليمًا جديدًا، ولكنّه لم يعرّفنا إلى إله جديد. فالله الآب هو إله العهد
القديم، وما عرفناه عن ذلك الإله في التوراة يبقى الأساس في تعليم يسوع. الله هو
الخالق الذي يعمل في الكون وفي التاريخ، هو صانع السماء والأرض وسيّد الأفراد
والشعوب. أمّا التوراة فتشدّد على قدرة الله وقداسته ورحمته وسرّه السامي،
وتنبّهنا إلى عمله مع البشر هو يمسك بيد أبنائه، ينير خطاهم، يؤدّبهم عبر ظروف حياتهم
اليومية بأناة وصبر فلا ييأس منهم.

بالنسبة
إلى يسوع، الآب هو الخالق (مت 19: 4 ؛ مر 10: 6؛ يو 17: 5، 24)، هو رب السماء
والأرض (مت 11: 25؛ لو 10: 21)، هو الإله الواحد (مر 29: 12- 33؛ رج تث 6: 4- 5)،
هو السامي والسماء عرشه والأرض موطئ قدميه (مت 5: 34 – 35)، هو القدير الذي كل شيء
ممكن عنده (مر 27: 10) والذي يهتمّ بخلائقه فيرسل عليها غيثه (مت 45: 5) ويطعم
عصافيرها طعامًا ويلبس أزهارها أجمل الثياب (مت 6: 25- 35). غير أنّ ما قالته
التوراة بطريقة حيّة عن محبّة الله للناس ومحبّة الناس لله، سوف يقوله يسوع بصريح العبارة
ويردّده فيبني كل تعليمه على المحبّة معلنًا “الله محبة” (1 يو 8: 4).

تحدّثت
أسفار العهد القديم عن الإله الذي حدّثنا به يسوع، وتحدّثت أيضاً عن ذلك الآتي
باسم الرب ليحمل خلاص الله إلى الإنسان. لقد اعتبر يسوع نفسه أنّه جاء ليتمّم ما
بدأ به العهد القديم، فجعل نفسه محور العهد القديم وأعلن أنّ الكتب تخبر عنه،
تبشّر به، تشهد له، وبيّن أنّ اقوال الأنبياء تحقّقت في شخصه. قرأ سفر أشعيا (61:
1- 2) في المجمع، وبعد ذلك، قال للحاضرين: “اليوم تمّت هذه الآية التي تُليت
على مسامعكم ” (لو 4: 21). وقال مرّة لليهود: “أنتم تتفحّصون الكتب
وتحسبون أنّ لكم فيها الحياة الأبديّة. هذه الكتب عينها تشهد لي ” (يو 5:
39). وقال لهم مرّة أخرى: “إبتهج أبوكم إبراهيم على رجاء أن يرى يومي فرآه
وفرح” (يو 59: 8).

وسيكشف
يسوع عن نفسه بعبارات مأخوذة من العهد القديم، معتبرًا نفسه حاملاً كلام الله (لو
5: 1؛ 8: 21؛ 11: 28) الأخير إلى البشر فهو كلمة الله الأزلية الذي كان عند الآب
(يو 1: 1ي)، والحكمة الإلهية التي أنشدتها الأسفار الحكمية مقيمة عند الله قبل أن
تجد لذتها مع بني البشر (مت 19: 11- 30)، وهو يهوه بالذات الذي أوحى بشخصه إلى
موسى في مشهد العلّيقة (خر 14: 3). ويقول يسوع: “أنا هو نور العالم” (يو
8: 12)، “أنا هو خبز الحياة” (يو 6: 35)، “أنا هو الراعي
الصالح” (يو 10: 11)، “أنا هو الطريق والحق والحياة” (يو 14: 6)،
“أنا هو القيامة والحياة” (11: 25). أنا هو يعني أنا يهوه أي الرب
الإله. ولقد قال أيضاً في إنجيل يوحنا (8: 24): “ستموتون بخطاياكم، لأنّكم لم
تؤمنوا بأنّي أنا هو” (أي يهوه). وقال أيضاً (28: 4): “وعندما ترفعون
ابن الإنسان تعرفون أنّي أنا هو” (أي يهوه).

 

3-
يسوع والشريعة

يمكننا
أن نطيل الحديث عن استعمال يسوع للعهد القديم في حياته وكرازته، إنّما سنكتفي
بموضوعين اثنين يعطياننا نظرة شاملة إلى الطريقة التي بها قرأ يسوع العهد القديم.
الموضوع الأوّل: يسوع والشريعة، والموضوع الثاني: يسوع والانتظار المسيحاني.

مرّت
أجيال بعد موسى، ففرضت الشريعة نفسها كجزء رئيسي بين أجزاء التوراة، لا بل سيطرت
على سائر الأجزاء في أذهان الناس فكانوا يذكرون الأسفار المقدّسة عامة فيعنون
بصورة حصرية أسفار الشريعة الخمسة. ولنا دليل على ذلك في العربية حيث تعني التوراة
(أو التورية) أسفار موسى الخمسة كما تعني أسفار العهد القديم كلّه.

كيف
بدت الشريعة أيّام اليهود العائشين في زمن المسيح؟ بدت كمجموعة متشعّبة ومعقّدة،
وكان لكلّ فريضة من فرائضها السلطان ذاته، ولكل آية من آياتها الإلزام نفسه. لهذا
نتج بعض الضياع والبلبلة عند الناس في مجال ممارسة هذه الفرائض، فطالب تيّار أوّل،
هو تيّار الممارسة الحرفية، بالأمانة التامّة لكلّ فرائض الشريعة، واعتبر الشريعة
كتلة واحدة بحيث إنّ من أهمل وصية من وصاياها، لم يعد بريئًا أمام الله. ولكنّ هذه
الممارسة الكاملة للشريعة تفوّض المعرفة بكل دقائقها، وهذا أمر لا تتمتعّ به إلاّ
فئة صغيرة، هي فئة الكتبة والفرّيسيين، التي ستجعل كل اهتمامها في المحافظة على هذه
الشريعة. وطالب تيّار آخر، هو التيّار الروحاني، بأن يركّز المؤمن على أهمّ ما في
الشريعة، فرغبوا إلى الكهنة أن يحافظوا على شعائر العبادة، وإلى الشعب أن يمارس
الصوم والصدقة، ووصيّة المحبّة الكبرى.

ولكنّ
تيّار الكتبة والفريسيين سيسيطر على التيّار الآخر زارعًا في قلوب الناس الشعور
بالذنب والخطأ. تعلّقت هذه الفئة المتزمّتة بعناصر من الشريعة بدت مرتبطة بعالم ما
بعد الجلاء الضيق، فكوّمت التحديدات والإيضاحات والتفاصيل فصارت وصايا الله حملاً
ثقيلاً تنوء أقوى الأكتاف بحمله. فكان لا بدّ، والحالة هذه، من موسى جديد يتمتعّ
بسلطة الرب فيتمّم الشريعة، أي يوجّهها في المنحى الصحيح الذي يقود الإنسان إلى
الحرية التي في الله.

ونتساءل:
كيف تصرّف يسوع إزاء الشريعة؟ نلاحظ أنّ يسوع تقيّد بالشريعة ساعة بدا له التقليّد
بها واجبًا عليه، وتحرّر من الشريعة ساعة بدا له التحرّر منها انطلاقًا إلى تعليم
جديد. قبل يسوع العماد ليتمّ كل برّ (مت 3: 5)، ذهب يوم السبت إلى المجمع (مر 1:
21؛ لو 16: 4)، صعد إلى اورشليم ليحتفل مع المؤمنين بالفصح (يو 13: 2؛ 11: 55؛ 12:
1). طلب إلى الفريسيين (لو 11: 22 ؛ مت 23: 23) أن يفعلوا هذه (أي أن يدفعوا عشر
النعنع والسذاب كل البقول) دون أن يتركوا تلك (أي ممارسة العدالة والمحبّة التي هي
محور الشريعة). ونبّه تلاميذه إلى واجب فعل كل ما يقوله لهم معلّمو الشريعة
والفريسيّون الجالسون على كرسي موسى (مت 23: 2- 3). قال: “ما جئت لأحلّ
الناموس، بل لأكمّل ” (مت 5: 17)، وطلب إلى الأبرص أن يذهب إلى الكاهن ويقدّم
ما أمر به موسى (مر 1: 44؛ رج لا 14: 1- 32)، وأجاب الشاب الغني الذي جاء يسأله عن
الطريق التي توصله إلى الحياة الأبدية: “أنت تعرف الوصايا: لا تقتل، لا تزنِ،
لا تسرق ” (مر 19: 10 ؛ رج خر 12: 20-16؛ تث 16: 5- 20).

هذا
من جهة، ومن جهة ثانية عرف يسوع أن يتحرّر من ممارسة الشريعة، فشفى المرضى يوم
السبت (مر 3: 1- 16) ودافع عن تلاميذه الذين تجاوزوا شريعة السبت حين فركوا بعض
السنابل وأكلوها (مر 23: 2- 28)، وذكَّر الفرّيسيين بواجب الرحمة على حساب شريعة
السبت (مت 7: 12). لم يتقيّد يسوع بفرائض الطهارة والنجاسة بحسب الشريعة، فلمس
الشاب الميت والمرأة المصابة بنزف دم، وجلس مع الخطأة وأكل مع العشّارين. وقال
يومًا: “ليس ما يدخل الفم ينجّس الإنسان، بل ما يفرج من الفم هو الذي ينجّس
الإنسان ” (مت 15: 11). فاستنتج القدّيس مرقس (7: 19): “وفي قوله هذا
جعل يسوع الأطعمة كلّها طاهرةً” فألغى كل الشرائع التي نقرأها في سفر
اللاويين (11: 1 ي؛ رج أع 10: 10- 16) وغيره من الأسفار الخمسة عن الطهارة
والنجاسة.

يمكننا
القول إذن، إنّ موقف يسوع حيال التوراة ليس موقف التلميذ أمام الكتاب المكتوب، ولا
موقف النبي الذي ينتظر نورًا من الرب في ظرف من ظروف الحياة. فيسوع يتكلّم بسلطة
الله بالذات، ولهذا يمكنه أن يقول عن نفسه إنّه رب السبت (مر 28: 2). وعندما يقول:
“قيل لآبائكم، أي قالت الشريعة، وأمّا أنا فأقول لكم.. ” (مت 5: 21 –
27)، فهو يبيّن من جهة أنّ الكتاب هو حقا كلام الله، ومن عمل بوصاياه عُدّ كبيرًا
في ملكوت السماوات (مت 5: 19). ويبيّن من جهة ثانية أنّ هذه الشريعة التي لا تُنسخ
(يو 10: 35) ليست الشريعة النهائية، ولهذا يقدّم لنا يسوع الشريعة الجديدة الآتية
من عند الآب (يو 17: 7) والتي يعلّمنا إيّاها يسوع باسم الآب (يو 18: 8؛ 12: 55).

 

4-
يسوغ والانتظار المسيحاني

الرجاء
المسيحاني يرفع عيوننا إلى شخص مُقبل يمسحه الرب بنوع خاص ويرسله ليحقّق مخطّط
الله بصورة نهائية. في هذا الرجاء ترتسم أمامنا صورة الملك المثالي الذي سيكون
مخلّص شعبه.

لقد
نادى الشعب بيسوع ملكًا على مثال داود (مر 11: 10). ناداه أعمى أريحا: “يا
ابن داود ارحمني” (مز 47: 10- 48)، وتوسّلت اليه المرأة الكنعانية:
“رحماك يا سيّدي، يا ابن داود” (مت 15: 22)، وتساءلت الجموع عنه بدهشة:
“أليس هذا ابن داود” (مت 12: 32)؟ كيف كانت ردّة الفعل عند يسوع أمام
هذه المناداة؟ تحنّن على المرضى الملتجئين اليه وفرض الصمت عليهم لئلاّ يأخذ
اعتراف الناس بالمسيح منحى لا يريده.

بعد
تكثير الخبز يقول القدّيس يوحنّا (6: 15): “وشعر يسوع أنّهم يهمّون باختطافه
ليقيموه ملكًا، فابتعد عنهم وعاد وحده إلى الجبل “. ولمّا قال له نتنائيل:
“رابي، أنت ابن الله، أنت ملك إسرائيل “، غيّر يسوع الموضوع وحدّثه عن
ابن الإنسان (يو 1: 49- 51) الذي سيعاني آلامًا شديدة ويُقتل قبل أن يقوم (مر 8:
31) من بين الأموات.

أمّا
كلمة “المسيح ” أو “الممسوح” فقد كانت كلمة شعبية في عهد
يسوع، وكانت تدلّ على الملك الذي سيحرّر شعبه ويُخضع لهم الأمم الوثنية. الرب
يختار من يشاء فيضع يده عليه ويمسحه بالزيت فيُصبح مكرّسًا له. لقد قبل يسوع لقب
“المسيح” كشف عن ذاته للمرأة السامرية التي قالت له: “أنا أعلم أن
المسيح آتٍ، ومتى أتى أنبأنا بكل شيء”. فقال لها: “أنا هو، أنا الذي
يكلّمك ” (يو 25: 4- 26). ولكنّ يسوع يبدو متحفّظًا بالنسبة إلى هذا اللقب،
وهو لا يرضى بأي حال أن يعلن عنه أمام الشعب. أمَا أوصى تلاميذه بألاّ يخبروا
أحدًا بأنّه المسيح (مت 16: 20)؟ وعندما يعلن بطرس باسم الرسل أنّه المسيح، يعلن
يسوع أمامهم أنّ على “ابن الإنسان” أن يمرّ عبر الآلام قبل أن يدخل مجده
الإلهي. يسوع هو المسيح بحسب النظرة اليهودية، وهو أكثر من ذلك. فدوره السياسي
سيرتبط بدوره الروحي. وعندما تلقّبه الجماعة المسيحية الأولى “المسيح”
(كرستوس في اليونانية) أو السيّد “كيريوس” فهي تعلن أن انتصاره على
الموت كرّس مكانته الجديدة. بعد القيامة تبدّل معنى النصوص فلم يَعُد يسوع ملك
اليهود (يو 29: 19) وحسب، بل ملك البشرية كلّها، ولم يعد موته فدى الأمة فحسب، بل
ليجمع أبناء الله المشتّتين (يو 53: 11).

وترتبط
بالنظرة المسيحانية فكرةُ “عبد يهوه” المتألّم (أش 42: 1- 9؛ 49: 1- 6؛
4: 50- 11؛ 53: 1- 12). هذه الفكرة ستبقى غريبة عن الشعب ككلّ، ولهذا سيرفض
التفكير بها بطرسُ وسائر الرسل. قال يسوع إنّ عليه أن يذهب إلى أورشليم ويلقى أشدّ
الآلام. عاتبه بطرس على انفراد: “حاشى لك يا رب من هذا المصير” (مت 16:
21 – 22). وهنا نفهم كيف انطلق يسوع من مفهوم التوراة للناس فبدّل مركز الثقل
فيها. شدّد الشعب على المسيح المنتصر، فشدّد هو على المسيح المتألّم. اعتبرت
الكنيسة الأولى أنّ يسوع حقّق في حياته وموته رسالة عبد يهوه. قال فيه سفر الاعمال
إنّه البار (3: 14؛ 7: 52) والقدّوس (3: 14 ؛ 27: 4- 30) وعبد الرب أو فتاه (13:
3، 26 ؛ 27: 4 -30). وبشّر به فيلبّس منطلقًا من نشيد أشعيا (7: 53-8) عن عبد يهوه
(أع 26: 8 – 53). ولمّح القدّيس بولس إلى عبد يهوه فقال عن يسوع: “أسلم إلى
الموت من جرَّاء زلاّتنا” (روم 4: 25؛ رج أش 53: 4- 5). “هو الذي لم
يعرف الخطيئة، جُعل خطيئة من أجلنا كيما نصير به برّ الله ” (2 كور 5: 21؛ رج
أش 53: 9- 12). وقدّم القدّيس بطرس في رسالته الأولى (2: 21- 25) قراءة جديدة عن
عبد يهوه على ضوء موت يسوع وقيامته. قال: “فالمسيح تألّم من أجلكم وجعل لكم
قدوة لتسيروا على خطاه. هو ما ارتكب خطيئة ولا عرف فمه المكر” (أش 9: 53)، ما
ردّ على الشتيمة بمثلها (أش 50: 6). تألّم وما هدّد أحدًا بل أسلم أمره إلى
الديّان العادل (أش 7: 50- 9؛ 53: 7) وهو الذي حمل خطايانا (أش 53: 11- 12) في
جسده على الخشبة حتّى نموت عن الخطيئة فنحيا للحق. وهو الذي بجراحه شفيتم (أش 53:
5). كنتم خرافًا ضالّين (أش 53: 6) فاهتديتم الآن إلى راعي نفوسكم وحارسها.

يسوع
هو عبد يهوه وهو أيضاً ابن الإنسان. هذه العبارة تعني “الإنسان”
و”ابن آدم ” وتشدّد على ضعف الإنسان وحقارته (مز 11: 2 ؛ 51: 12؛ أي 25:
6) أمام الله، وتدلّ عليه كخاطئ (مز 24: 1 ي ؛ 31: 0 2) آخرته إلى الموت (مز 48:
89؛ 90: 3). ولكنّ هذا الإنسان سيكون بفضل الله ملك الخليقة كلّها. “ما
الإنسان حتّى تذكره، والكائن البشري حتّى تهتمّ به؟ نقصته عن الملائكة قليلاً،
وكلّلته بالمجد والكرامة. سلّطته على أعمال يديك وأخضعت كلّ شيء تحت قدميه ”
(مز 8: 5- 7).

يستفيد
دانيال من عبارة ابن الإنسان (ابن آدم) ليدلّ على ذلك الآتي على سحاب السماء:
“أعطي سلطانًا ومجدًا وملكًا فعبده جميع الشعوب، وكان سلطانه سلطانًا أبديًّا
لا يزول وملكه لا ينقرض ” (دا 13: 7- 14). وستأخذ الأسفار الجليانية لقب
“ابن الإنسان” فتجعله شخصًا سريًّا محفوظًا إلى نهاية الأزمنة، جالسًا
على عرش مجيد، ديّانًا للأرض ومخلّصًا للبشر.

لقد
أخذ يسوع بلقب “ابن الإنسان”، وفي هذا اللقب ما فيه من إشكال والتباس إذ
يعني إنسانًا عاديًا، ويعني أيضاً ذلك الملك المجيد الذي تحدّثت عنه أسفار
الجليان. قال: “للثعالب أوجرة ولطير السماء أوكار، وأمّا ابن الإنسان فليس له
موضع يسند إليه رأسه ” (مت 8: 20). وقال أيضاً عن نفسه: “جاء ابن
الإنسان يأكل ويشرب فقالوا: هوذا رجل أكول سكّير صديق للعشارين والخاطئين”
(مت 18: 11). وقال أيضاً: “لم يصعد أحد إلى السماء إلاّ الذي نزل من السماء،
أعني ابن الإنسان. وكما رفع موسى الحيّة في البرّية، فكذلك يجب أن يُرفع ابنُ
الإنسان لينال كل من يؤمن به الحياة الأبدية” (يو 13: 3-15).

وكما
ترك يسوع فكرة المسيح الملك ليأخذ بفكره عبد يهوه، كذلك سيأخذ بفكرة ابن الإنسان
الآتي على سحاب السماء (مت 24: 30). فيجلس على عرش أبيه (مت 28: 19) ويجازي كلّ
واحد حسب أعماله (مت 27: 16). سأله رئيس الكهنة: “هل أنت المسيح ابن الله (مت
26: 64)، ابن المبارك” (مر 4: 61)؟ فأجابه بطريقة غير مباشرة معلنًا عن نفسه
أنّه ابن الإنسان الجالس على يمين الله القدير الآتي على سحاب السماء. لقد أبعد
يسوع كل فكرة أرضية عن المسيح وأبرز سموّ شخصه الإلهي. سيختفي وراء ستار الذلّ
والألم، ولكنّه يبدأ منذ حياته الخفية (مت 8: 20 ؛ 11: 19) بممارسة بعض سلطان ابن
الإنسان فيغفر الخطايا (مت 9: 6) ويعلن نفسه سيّد السبت (مت 8: 12) ويبشّر بكلام
الله بانتظار أن يدين أيضاً لأنّه ابن الإنسان (يو 27: 5).

 

ج-
كيف قرأ الرسل العهد القديم؟

لم
تكفَّ الكنيسة الأولى يومًا عن الاستشهاد بسلطان أسفار العهد القديم، وبذلك سارت
على خطى معلّمها دالّةً على طريقة مبتكرة في الإفادة ممّا ورثته من كتب مقدّسة،
مشدّدة على سلطة هذه الكتب التي ما زالت تحتفظ بقيمتها للمؤمنين بالمسيح لأنّ
الروح قد أوحى بها إلينا. يقول القدّيس بولس (1 كور 10: 11): “وقد حدث ذلك
كلّه (لليهود) ليكون لنا (نحن المسيحيين) مثلاً، كتب لنا نحن الذين بلغوا نهاية
الأزمنة”. وقال أيضاً (روم 23: 4- 24): “وليس من أجله وحده (إبراهيم)
كُتب بل من أجلنا أيضاً نحن الذين يعدّ لنا الايمان برًّا”. وقال (روم 15:
4): “فان ما كُتب قبلاً إنما كتب لتعليمنا حتى نحصل على الرجاء، إذا ما حصلنا
على ما أتت به الكتب من الصبر والعزاء”. سنتوقّف إذًا، انطلاقًا من هذه
الآيات الكتابية، على الرسالة إلى أهل رومة والى أهل غلاطية فندرس نظرة القدّيس
بولس إلى الشريعة، وعلى الرسالة إلى العبرانيين فنتعرّف إلى نظرة كاتبها إلى
الكهنوت والعبادة في العهد القديم.

 

1-
نظرة القدّيس بولس إلى الشريعة

تحدّثنا
في ما سبق عن نظرة يسوع إلى الشريعة كيف أتمّها في شخصه وتعليمه بعد أن أوصلها إلى
كمالها. أما القدّيس بولس فسوف يبيّن عجز الشريعة وضعفها، ويندّد بتواطئها مع
الخطيئة. الشريعة دخلت من دون استئذان إلى مخططات الله الجديدة وجعلت الوعد يحيد
عن طريقه، فلم تعد تتوافق وحرية الروح (غل 5: 1 ي) الذي يعطي الحياة في المسيح
يسوع (روم 8: 12). أمّا المسيح فقد أتمّ الوعد وخلّص بصليبه الذين كانوا تحت لعنة
الشريعة (غل 10: 3).

الشريعة
بالنسبة إلى القدّيس بولس هي الشريعة الموسوية. وهي تبدو بأحكامها وفرائضها وسننها
كقاعدة حياة تفرض نفسها بسلطان، وهي تتضمّن أيضاً العهد ونظمه. وهذه الشريعة تسود
جماعة منغلقة على ذاتها. وتكوّن بني إسرائيل كشعب منفصل عن الآخرين، وتمارس عمل
وساطة بين الله وشعب العهد. هذه الشريعة كانت قانون حياة روحية ودافعًا لهذه
الحياة، وهي تعد أن تعطي البرّ لكل فرد من أفراد الشعب. قال الرب: “أحفظوا
سنني وأحكامي، فمن عمل بها يحيا” (لا 18: 5). وهكذا دُفع الشعب اليهودي إلى
الاتّكال على وساطة الشريعة واعتبر أنّه يكفي إتمام اعمال الشريعة لكي يتبرّر
الإنسان.

غذّى
القدّيس بولس إيمانه بهذه الشريعة التي تلقّاها على قدمي جملائيل (أع 3: 22)، ولكن
لمّا التقى يسوعَ على طريق دمشق (أع 3: 9 ي) فهم أنّ الخلاص يأتي بالمسيح المصلوب،
لا بالشريعة، فهم أنّ الخلاص هو أوّلاً عمل الله، لا عمل الإنسان، ووعى على ضوء
الصليب خطورة تمرّدنا على الله بالخطيئة. أدرك القدّيس بولس فكرة خلاص البشر كلّهم
بنعمة المسيح التي تشفيهم وتعطيهم الروح، مبدأ الحياة الجديدة فيهم. وعندما أراد
المتهوّدون، أي المسيحيون من أصل يهودي، أن يساوموا فيقابلوا بين الشريعة والمسيح،
أن يجعلوا نعمة المسيح خاضعة لممارسة الشرائع اليهودية وأعمال الناموس (رج أع 15:
1، 5)، رفض أن يلزم المسيحيين الآتين من العالم الوثني العمل بالشريعة، وأعلن أنّ
كل انسان، يهوديًّا كان أو غير يهودي، يتبرّر بالإيمان لا بأعمال الشريعة اليهودية
التي لا قيمة لها في عالم الخلاص المسيحي.

في
هذا الإطار تبدو الشريعة إزاء الخطيئة، وتبدو أضعف من أن تبرّر الإنسان. المسيح
وحده يبرّرنا من الخطيئة، ولولاه لبقينا في عبودية الشريعة. “إنّ المسيح قد
حرّرنا لنكون أحرارًا، فاثبتوا إذًا، ولا تعودوا إلى نير العبودية” (غل 5:
1). وأمّا وقد لعبت الشريعة دورًا في كشف الخطيئة دون أن تخلّصنا منها، لا يبقى
علينا إلاّ أن نُلغي الشريعة. لقد كانت الشريعة أداة موت يسوع (روم 3: 8- 4)، فلم
يبقَ لها إلاّ أن تزول بعد أن أدّت مهمّتها. لم نعد بحاجة إليها بعد أن نسخها
المسيح: “ولكنّنا الآن تحرّرنا من أعمال الشريعة، لأننا متنا عمّا كان
يقيّدنا (أي الشريعة)، حتّى نعبد الله في نظام الروح الجديد، لا في نظام الحرف
القديم” (روم 7: 6). ولكنّ التنديد بالشريعة القديمة وممارستها الموسوية لا
يعني رفض كل ما فيها من نداء لممارسة المحبّة. في هذا السبيل يقول القدّيس بولس:
“فمن أحبّ القريب أتمّ العمل بالشريعة. فالوصايا التي تقول: لا تزنِ، لا
تقتل، لا تسرق، لا تشهد بالزور، لا تشتهِ، وسواها من الوصايا تتلخّص في هذه الوصية:
أحبَّ قريبك مثلما تحبّ نفسك ” (روم 8: 12-9).

وانطلاقًا
من كل هذا نسوق الملاحظات التالية:

الملاحظة
الأولى: هناك فرق بين فرائض الشرائع المتعدّدة، ولهذا لا نستطيع أن نجعل شريعة
الختان، ذلك الواقع اللحمي الذي لا قيمة له في عهد الروح، على مستوى شريعة المحبّة
التي تحوي الناموس كلّه. لقد حرّرنا المسيح، فلماذا نستعبد أنفسنا لعناصر الكون.
إنّ الشريعة بممارستها الدقيقة المعقّدة وضعت حاجزًا بين المؤمنين، بين اليهودي
وغير اليهودي. “أمّا المسيح فجعل اليهودي وغير اليهودي شعبًا واحدًا وهدم
الحاجز الذي يفصل بينهمَا، أي العداوة وألغى بجسده شريعة موسى بأحكامها ووصاياها
ليخلق في شخصه من هاتين الجماعتين، بعد أن أحلّ السلام بينهمَا، إنسانًا
جديدًا” (أف 2: 14- 16). رفض القدّيس بولس الممارسات اليهودية التي تعدّاها
الزمن وأبقى على الواجبات المتعلّقة بجوهر الدين: أهربوا يا أحبائي من عبادة
الأوثان (1 كور 10: 14)، لأن لا صلة بين الخير والشر، ولا علاقة للنور بالظلمة (2
كور 6: 14- 16). وأبقى أيضاً على الواجبات الأخلاقية كما نقرأها في الشريعة، كما
دخل بعضها في الشريعة الجديدة. يكفينا لذلك أن نذكر التمييز بين أعمال الروح من
محبّة وفرح وسلام ووداعة وعفاف، وأعمال الجسد من زنى ودعارة وعبادة الأوثان والسحر
(غل 5: 19- 23).

الملاحظة
الثانية: ولكن القدّيس بولس يشدّد بالأحرى على نقص الشريعة القديمة ويقول إنّها لم
تعد على المستوى الذي تقدّمه المسيحية. إنّها جزء لا يتجزّأ من نظام تعدّاه الزمن.
فالعهد القديم قد صار جديدًا، وشعب الله لم يعد ذلك المرتبط بنسل وأرض وممارسات.
والذبائح المتعدّدة أفسحت في المجال للذبيحة الوحيدة، ولم يعد من عبادة إلاّ
العبادة الروحية، والباعث على عمل الفضيلة قد تبدّل واغتنى. لستم ملك أنفسكم، أنتم
ملك المسيح. أنتم أعضاء جسد واحد، أنتم هيكل الروح القدس. “إنّ الذين يلتمسون
البرّ من الشريعة يقطعون كلّ صلة لهم بالمسيح ويرفضون نعمة المسيح ” (غل 5:
4). وإذا كان القدّيس بولس قد عاد فأخذ بعض الشرائع التي قال بها موسى، فلأنّها
توافق الديانة المسيحية وأخلاقياتها (كالوصايا العشر وملخصاتها)، فلأنّها تأيدت
بسلطة المسيح والرسل والكنيسة.

الملاحظة
الثالثة: إذا كانت فرائض الشريعة القديمة قد فقدت إلزامها، إلاّ أنّه يبقى لها
قوّة تعليم إلهي يذكره القدّيس بولس عندما يتحدّث عن سموّ الشريعة وقوّة سلطانها.
إنّ الشريعة تعطينا أمثولة أولى: تذكّرنا بأنّ الله هو الكائن المطلق الذي يحقّ له
كل سجود وعبادة، وبأنّ الإنسان خليقة يجدر بها أن تخضع للخالق خضوعًا غير مشروط.
وتعطينا أمثولة ثانية: لعب زمن الشريعة دوره التاريخي كما أراده الله، فكان سندًا
للوعد ساعده على الوصول إلى هدفه. زمن الشريعة هو زمن العهد، والعهد مرتبط باختيار
الله لشعب أرسله إلى البشرية كلّها. فالعهد لم تكن غايته بذاته، وكذلك الشريعة.
فالشريعة كانت طريقًا أخذها الرب فحقّق بها مخطّطه على البشرية كلّها. وتعطينا
أمثولة ثالثة: إنّ الشريعة عملت على تربية ضمير شعب إسرائيل بفرائضها ونظمها،
فقادته إلى حالة النُضج وجعلته تجاه مسؤولياته أمام الله. لا شكّ في أنّها لم
تجعله يشعر بحاجة الضعف التي حدّثنا عنها القدّيس بولس، ولكنّها أعطته معرفة أعمق
للخطيئة على ضوء متطّلبات الله. لقد كانت الشريعة مؤدّبًا لنا إلى أن جاء المسيح
حتّى نتبرّر بالإيمان (غل 3: 24).

الملاحظة
الرابعة: إنّ الشريعة هي كتاب مقدّس مثل سائر أسفار العهد القديم. هُيِّئت ودوّنت
على ضوء تعليم الله، فتوجّهت مباشرة إلى الشعب اليهودي، وبقي لنا منها، نحن
المسيحيين، مضمون ديني وقيمة تعليمية. إنّها تجعلنا نشعر مسبّقًا بعمل الله
النهائي، وتدلّنا على بعض وجهات سر المسيح، كما أنّها تبرز لنا أمورًا ما كنّا
لنلاحظها في العهد الجديد لأنّها عديدة ومكثّفة. إنّ الشريعة تشبه قوس قزح والمسيح
شمسه. أمّا الحاجة اليها فنسبية، وهي تنتج عن عمى الكائن البشري الذي أفسدته
الخطيئة، وعن الفائدة منها لتهيّئ الإنسان لتفهّم سرّ الوحي الذي يحمله إلينا سرّ
التجسّد.

 

2-
الكهنوت والعبادة في الرسالة إلى العبرانيين

إنّ
نصوص العهد الجديد ترجع إلى أسفار العهد القديم فتورد نصوصها وتؤكّد أبعادها
النبوية، وتبيّن أنّها تحدّثنا مسبّقًا عن المسيح. ولقد أورد القدّيس لوقا (24:
44- 47) هذه الكلمات على فم يسوع: “لا بدّ أن يتمّ لي كلّ ما جاء عنّي في
شريعة موسى وكتب الأنبياء والمزامير. ثمّ فتح أذهانهم ليفهموا الكتب
المقدّسة”. ثمّ قال: “هذا ما كُتب فيها وهو أنّ المسيح يتألّم ويقوم من
بين الأموات في اليوم الثالث وتعلن باسمه بشارة التوبة لغفران الخطايا إلى جميع
الشعوب”. وأعلن القدِّيس بطرس في أولى خطبه: “أتمّ الله ما أوحى إلى
جميع أنبيائه، وهو أنّ المسيح سيتألّم ” (أع 3: 18). واستعرض القدّيس بولس
الخطوط الكبرى للكرازة المسيحية فقال: “سلّمت إليكم قبل كل شيء ما تلقّيته،
وهو أنّ المسيح مات من أجل خطايانا كما جاء في الكتب، وأنّه دفن وقام في اليوم
الثالث كما جاء في الكتب ” (1 كور 3: 15- 4). وقال أيضاً: “المجد لله
القادر أن يثبّتكم في الإنجيل الذي أُعلنه مناديًا بيسوع المسيح وفقًا للسرّ
المعلَن الذي بقي مكتومًا منذ الأزل وظهر الآن بمَا كتبه الأنبياء” (روم 25:
16- 26؛ رج 1 بط 1: 10- 12). هذا هو اعتقاد الكنيسة الأولى: إنّ الكتب قد بشّرت
سابقًا به، وتنبّأت عن موته وقيامته، عن غفران الخطايا وخلاص الوثنيين.. وفي هذا
الخط تقف الرسالة إلى العبرانيين.

هذه
الرسالة كتبها يهودي (يمكن ان يكون أبلوس أو غيره. رج أع 18: 24- 28)، تثقف
بالثقافة اليونانية قبل أن يرتدَّ إلى الإيمان المسيحي. انطلق من نصوص العهد
القديم كما ردّدتها الكرازة المسيحية الأولى، وأدلى بها كشهادات عن المسيح.
وتتميّز هذه الرسالة بأنّها تورد نصوصًا عديدة وطويلة، وتتوقّف عند تفاصيلها
وتعلّق عليها تبعًا لتحقيقها في المسيحية. إنّ هم الكاتب في هذه الرسالة هو أن يجد
في كل الكتاب المقدّس وفي كل نصّ يورده وجهَ يسوع المسيح الكاهن العظيم للعهد
الجديد.

يبدأ
الكاتب رسالته فيبيّن سموّ يسوع على الملائكة (عب 1: 5 ي): إنّه الوسيط، ذلك
الكائن السامي الإلهي، وهو أيضاً كائن بشري. كان للملائكة دور في وساطة العهد
القديم (غل 3: 20)، أمّا الوسيط في العهد الجديد فهو الابن الذي تشبّه بأخوته
ليخلّصهم. يورد الكاتب نصوصًا عديدة (2 صم 7: 14؛ مز 2: 5) يدلّ فيها على بنوّة
يسوع، على ألوهيته، على تفوّقه على الملائكة بالمجد والكرامة. وبعد ذلك ينطلق من
المزمور الثامن فيبيّن أنّ يسوع جُعل أقلّ من الملائكة بصورة مؤقّتة في تجسّده
وآلامه، ولكنّه كُلّل لأنّه احتمل الآلام، ثمّ أعطي السلطان على كل الخليقة (عب 2:
5 ي).

وعندما
يتطرّق الكاتب إلى كهنوت المسيح (5: 5) يورد نص مز 2: 7 (أنت ابني. أنا اليوم ولدتك)
ليثبت أنّ المسيح تقبّل الكهنوت الأعظم من الرب، ثمّ يورد مز 110: 4 (أنت كاهن إلى
الأبد على رتبة ملكيصادق) ليعلن أنّ يسوع كاهن إلى الأبد (عب 5: 4) ويؤكّد الوجهة
الكهنوتية للمسيح الملك. ثمّ يتوقّف (عب 7: 1ي) على نصّ سفر التكوين (18: 14 ي)
الذي يحدّثنا عن ملكيصادق فيلحظ كل السمات التي تشير إليه ويطبّقها على المسيح،
لأنّ ملكيصادق هو صورة المسيح. ويبرهن الكاتب أنّ حقيقة هذا الكهنوت الكامل
والأبدي تتطّلب معبدًا جديدًا وشعائر عبادة جديدة. حينئذ يورد نصّ إرميا النبي
(31: 31- 36) عن الشريعة الجديدة (عب 10: 16- 17) ليدلّ على أنّ ذبيحة المسيح تقدر
أن تغفر الخطايا، بينما لا تقدر سائر الذبائح أن تمحو الخطايا (عب 10: 11).

ما
يمكن أن نقوله بعد هذه العجالة هو أنّ صاحب الرسالة إلى العبرانيين قرأ العهد
القديم بعينين مسيحيّتين، فلم تعد التوراة بالنسبة إليه كتابًا يهوديًّا، بل
كتابًا مسيحيًّا. قرأ النصوص على ضوء الواقع المسيحي فوصل إلى المعنى الأعمق.
انطلق من المعنى الحرفي فوصل إلى المعنى الكامل، وهذا المعنى يستند إلى التناغم
بين العهدين القديم والجديد. ما يلفت نظرنا في هذا النهِج هو التشديد على طابع
الكتاب النبوي بحيث تصبح التوراة كلّها وكأنّها قول يعلن مسبّقا عن المسيح وعمله.

في
هذا الإطار سننتقل إلى القسم الثاني من هذا الفصل فنحدّد ما نعني بالمعنى الحرفي
والمعنى الكامل، ثم نبيّن العلاقة بين العهد القديم والعهد الجديد، بين الناقص
والكامل.

 

II– كيف نطالع أسفار العهد القديم؟

في
هذا القسم الثاني نبدأ فنورد نصّ المجمع المسكوني الذي يعطينا نظرة الكنيسة إلى
العهد القديم وطريقة قراءتها له، ثمّ نتطرّق إلى الوجوه المتعدّدة التي تساعدنا
على الدخول في معاني الكتاب المقدّس، ونُنهي بالمبادئ الأساسية التي تقودنا إلى
قراءة العهد القديم على ضوء العهد الجديد، وإلى تفهّم وحدة العهدين اللذين يشكّلان
مرحلتين متكاملتين في مخطّط الله الخلاصي.

 

أ-
الكنيسة تقرأ العهد القديم

1-
مقدّمة

كرّس
المجمع المسكوني الفاتيكاني الثاني في دستور الوحي الإلهي فصلاً خاصًّا بالعهد
القديم، هو الفصل الرابع، فأقرّ آباؤه في مقاطع ثلاثة (14- 16) رأي الكنيسة اليوم
في أهمية أسفار العهد القديم وكيفيّة قراءتها.

في
المقطع الأوّل (عدد 14) يبحث الآباء في العهد القديم بحدّ ذاته فيقدّمونه للمؤمنين
ككتاب وكتدبير خلاصي، ويسردون مراحل هذا التدبير الخلاصي، وينتهوِن بالتشديد على
قيمة الكتاب الذي أوحي به إلينا. في المقطع الثاني (عدد 15) نجد عرضَا عن علاقة
العهد القديم، كتدبير خلاصي، بالمسيح وملكوته، فنطّلع على الأسباب التي توجب على
المسيحيين اعتبار العهد القديم كتابًا مقدّسًا يجدون فيه كلام الله وقاعدة
إيمانهم. وفي المقطع الثالث (عدد 16) نطلّع على العلاقة بين كتب العهد القديم كتب
العهد الجديد، وعلى طريقة فهم العهد القديم على ضوء العهد الجديد. أجل، إنّ أسفار
العهد القديم تجد كامل معناها في العهد الجديد.

يتطرّق
المقطع الأوّل إلى تاريخ الخلاص في أسفار العهد القديم فيبحث في الوحي والخلاص والعهد.
ويتطرّق المقطع الثاني إلى أهميّة العهد القديم للمسيحيين فيبحث في العلاقة بين
العهد القديم والعهد الجديد، ثمّ في طبيعة أسفار العهد القديم وحقيقتها، وأخيرًا
في أهميّة العهد القديم. ويتطرّق المقطع الثالث إلى وحدة العهدين القديم والجديد
فيبحث في ما يربط العهد القديم بالعهد الجديد. يقول القدّيس أغوسطينس: “كان
العهد الجديد مستترًا في العهد القديم، فجاء العهد الجديد فرفع عن العهد القديم ما
كان يستره “. ويردف قائلاً: “إنّه وإن كان العهد الجديد مستترًا في
العهد القديم، وإن تجلّى العهد القديم عبر العهد الجديد، إلاّ أنّ العهد القديم
يبعث في أعماقنا خوفًا ورهبة، والعهد الجديد يبعث المحبّة في أعماقنا”. أمّا
عن الحاجة إلى قراءة حاليّة للعهد القديم فلقد قال آباء المجمع: “إنّ العهد
القديم قد اندرج كلّه في الكرازة الإنجيلية فصار جزءًا من الوحي الواحد. وإذا كان
العهد الجديد يكمِّل العهد القديم، فالعهد القديم يوضح نصوص العهد الجديد ويفسّرها
لنا. وإذا كان العهد الجديد يساعدنا على فهم العهد القديم، فالعهد القديم يساعدنا
على التعمّق في العهد الجديد. إنّ العهد القديم يتقبّل نوره من العهد الجديد،
فينعكس هذا النور على العهد الجديد ويضيء على عقولنا وأذهاننا لنفهم كلام الله
“.

 

2-
نصّ المجمع المسكوني (الوحي الإلهي، عدد 14- 16)

“لقد
أراد الله، وأعدّ في محبته الفائقة وعنايته السامية، خلاص الجنس البشري. فاختار
لنفسه، بتصرّف فريد، شعبًا يوكل إليه المواعيد. قطع عهدًا مع إبراهيم، ومع شعب
إسرائيل بواسطة موسى. وأظهر نفسه للشعب الذي اقتناه، إلهًا واحدًا حقيقيًّا
وحيًّا، بالأقوال والأعمال ليختبر إسرائيل طرق الرب مع البشر، وليفهمها يومًا بعد
يوم بصورة أعمق وأوضح، ويعلنها على الأمم إطلاقًا مستندًا إلى الكلام الذي فاه به
الله بالأنبياء. أمّا تدبير الخلاص الذي سبق فأعلن عنه الكتّاب القدّيسون وأخبروا
به وفسّروه، فإنّنا نجده في أسفار العهد القديم ككلمة الله الحقيقية ولذلك تحتفظ
هذه الكتب الموحى بها من لدن الله بقيمة ثابتة: لأنّ كل ما كُتب من قبل إنّما كُتب
لتعليمنا ليكون لنا الرجاء بالصبر وبتعزية الكتب (روم 15: 4).

“لقد
كان تدبير العهد القديم يهدف بنوع خاص إلى تهيئة مجيء المسيح، مخلّص الكل، وإلى
الإعداد للملك المسيحاني، فأعلن ذلك على لسان الأنبياء ورمز إليه بصور مختلفة.
أمّا أسفار العهد القديم فإنّها تظهر للجميع معرفة الله للإنسان، والطرق التي يتبعها
الله الرحيم والعادل ليتعامل مع البشر، وذلك حسب أوضاع الجنس البشري قبل أزمنة
الخلاص التي دشّنها المسيح. وهذه الأسفار، وإن احتوت امورًا غير كاملة وزمنية، فهي
تكلّمنا على طريقة تربوية إلهية حقيقية. ولهذا فعلى المسيحيين أن يتقبّلوها بورع،
لأنّها تعبّر عن المعنى الحي لله، ولأنّ فيها تعاليم سامية عنه، ولأنّها تحوي حكمة
خلاصية عن حياة البشر كنوزًا رائعة من الصلوات، وفيها أخيرًا يحتجب سبّر خلاصنا.

“فالله
إذًا الذي ألهم أسفار العهدين وألّفها، قد رتّب الأمور بحكمته كي يحتجب الجديد في
القديم ويتوضّح القديم في الجديد. فمع أنّ المسيح أمّسى في دمه الميثاق الجديد،
غير أنّ أسفار العهد القديم كلّه، وقد تناولتها البشارة الإنجيلية، تكسب كامل
معناها وتظهره في العهد الجديد، وبدورها تنير العهد الجديد وتشرحه”.

هذا
النصّ المجمعي واضح وهو يغنينا عن كلّ شرح، وإذ يمثّل تعليم الكنيسة بفم آباء
المجمع، فهو يدعو المؤمنين إلى الأخذ به والعمل بموجبه فيعودون إلى أسفار العهد
القديم ينهلون من ينابيعها كما تعوّد أن يفعل الرسل القدّيسون والآباء في عصور
المسيحية الأولى.

 

ب-
معاني الكتاب المقدّس

ولكن
إذا أردنا ان نتذوّق كلام الله كما ورد في العهد القديم فلا بدّ من قراءته لا
كأنّه كتاب قديم فحسب، بل كأنّه كلام جديد يصل إلينا نحن الذين نعرف العهد الجديد.
لا نكتفي بالقراءة الحرفية للأحداث، بل نصل إلى القراءة الروحية. وكما انّ الرسل
قرأوا حياة يسوع وموته على ضوء قيامته، كذلك نقرأ نحن كل أسفار التوراة على ضوء
حياة يسوع وتعليمه وموته وقيامته كما نكتشفها في أسفار العهد الجديد.

 

1-
المعنى الحرفي والمعنى الروحي

يتكلّم
القدّيس بولس عن الله الذي مكّننا من خدمة العهد الجديد، عهد الروح، لا عهد الحرف،
لأنّ الحرف يميت والروح يحيي (2 كور 3: 6)، فنفهم من كلامه انّ المعنى الحرفي هو
تفسير الكتاب على طريقة اليهود، لا على ضوء حياة يسوع وتعليمه، وأنّ المعنى الروحي
هو ذلك الذي وصلنا إليه بعد التعرّف إلى وحي سرّ المسيح. إذًا، إن أردنا أن نقرأ
العهد القديم نميّز فيه مستويين، يبدو الواحد امتدادًا للآخر وأعمق منه. المستوى الأوّل
هو مستوى الحرف والكلمة، مستوى النقد الأدبي؛ والمستوى الثاني هو مستوى الروح الذي
يصل إليه المسيحي بعد أن يتجاوز حدود النقد الأدبي ويبلغ إلى ملء معرفة المسيح.

 

2-
المعنى الظاهري والمعنى الباطني

المعنى
الظاهري هو الذي يبرز حالاً بعد قراءة النص، أمّا المعنى الباطني فهو داخل المعنى
الظاهري وهو خفي على من لا يعرف سر المسيح. فضّلنا تعبير “الظاهري” على
“الحرفي” أو “اللفظي” لأنّ الكلام ليس حرفًا نتلفّظ به وحسب،
بل كلام يحتوي معنى على مستوى يظهر للقارئ الذي كتب له. وفضّلنا تعبير “الباطني”
على الكامل، لأنّ المعنى الباطني يحتوي معنى كاملاً على مستوى الكاتب الذي كتبه.

المعنى
الظاهري هو الذي يعبّر عنه الكاتب، فنكتشفه نحن بعد تحليل عناصر النص. مثلاً: تجاه
الحالة اليائسة التي تعيشها مملكة يهوذا، تدخّل أشعيا النبي (7: 14) فقال:
“ها إنّ العذراء (“علمة” في العبرانية مؤنث “غلام” في
العربية وهو الذي نبتت شواربه) تحبل وتلد ابنًا وتدعو اسمه عمّانوئيل “. فهم
معاصرو أشعيا أنّ الملكة الصبيّة التي لم تزل بكرًا سيكون لها ولد في شخص الملك
حزقيا ابن احاز فتستمرّ سلالة داود على عرش أورشليم. بهذه الطريقة يتدخّل الله من
أجل شعبه. هذا هو المعنى الظاهري لهذه الآية التي نقرأها في أشعيا. ولكنّ العهد
الجديد سيكتشف المعنى الباطني لهذه الآية على ضوء الترجمة اليونانية للنصّ العبري
فيحدّثنا عن يسوع المسيح الذي هو حقًّا “إلهنا معنا” وعن مريم أمّه الذي
حبلت به حبلاً بتوليُّا (مت 1: 23).

المعنى
الظاهري يتضمّن دومًا بُعدًا لاهوتيًّا لأنّ أسفار التوراة تحوي كلام الله،
ويمكننا من خلال قراءتنا للنصّ الواحد على مدى العصور أن نكتشف تدريجيًّا سرّ
الخلاص الواحد الذي يتمّ في المسيح. بالنسبة إلى الشعب اليهودي، المعنى الظاهري هو
المعنى التامّ للنص ولا حاجة إلى البحث عن معنى آخر، والتوراة كتاب مغلق على ذاته.
أمّا بالنسبة إلينا فالمعنى لا يكتمل إلا بالمسيح، والتوراة كتاب مفتوح على المسيح
وإلاّ صار حرفًا جامدًا لا روح فيه، حرفًا يُميت ولا يُحيي.

الكتاب
المقدّس في عهده القديم قد هيّأ لنا الطريق عبر الأحداث التي ذكرها والأقوال التي
وردت على لسان الأنبياء، لننتقل من المعنى الظاهري إلى المعنى الباطني، لنصل إلى
سرّ المسيح الذي أوحي إلينا في تمام الأزمنة. يختبر شعب الله سرّ الخلاص في حدث من
أحداث حياته، بعبور البحر الأحمر مثلاً، فيتغذّى إيمانه بهذا الحدث الذي يتدخّل
الله فيه، ويعبّر بصلاته وحياته عن علاقة الله بشعبه. التعبير صحيح ولكنّه ناقص
وسوف يتمّ في شخص المسيح، ونحن ننطلق من هذا التعبير البشري الغامض، نحن البشر،
فنرتفع به إلى مستوى سرّ الخلاص الكامل. وكذا نقول عن كلام الأنبياء الذين يجعلون
سرّ الخلاص في إطار نهاية الأزمنة، ويعتبرون أنّ كمال حدث الخلاص سيتوّج تاريخ
مخطّط الخلاص. لا شكّ في أنّ الأنبياء ينطلقون من ماضي إسرائيل وحاضره ليرفعوا
أنظار الشعب إلى نهاية الأزمنة، ولا شكّ في أنّ ما يعرضوه يبقى عرضًا ناقصًا،
ولكنّنا نستطيع القول إنّ النصوص التي تركوها تدلّنا بطريقة مباشرة على سرّ المسيح
مكمّل الخلاص ومتمّمه. ذكرنا نصّ أشعيا (7: 14) عن الحبل الإلهي، ويمكننا أن نذكر
النصوص التي تتعلّق بحياة يسوع وموته وآلامه. ولكنّنا سنعود إلى ذلك في حديث آخر.

المعنى
الباطني ليس مغايرًا للمعنى الظاهري. فالكلام عينه نقرأه مرّة أولى فنصل إلى معناه
الظاهري وعندما نتعمّق في سرّ الخلاص نصل إلى المعنى الباطني. قلنا إنّ التعبير عن
سرّ الخلاص يبقى محدودًا في نصوص العهد القديم، ولكنّ المتأمّل في أسرار الله
يكتشف في هذا التعبير الناقص سرّ الخلاص بكليّته بعد أن عرف تمام هذا السرّ في
العهد الجديد.

عندما
نقرأ مع سفر الأعمال (4: 25- 28) سرّ صليب المسيح من خلال المزمور الثاني الذي
يعني ظاهريًّا حروب الملك المسيح (أي الذي اختاره الرب ومسحه) ومن خلال نشيد عبد
يهوه الرابع (أش 13: 52- 53: 12) الذي يعني ظاهريًا شخصًا بارًّا، سنتجاوز المعنى
الظاهري لكلام الأنبياء، لنكتشف على ضوء الوحي الكامل المعنى الباطني. اجل، لقد
دلّت الأحداث أنّ يسوع هو المسيح المنتظر الذي لم يكن ملكه من هذا العالم، وأنّه
البار الذي يكفّر عن الخطأة. إن مز 22 هو صلاة يرفعها مؤمن سحقته المصيبة، ولكن
لمّا ردّده يسوع على صليبه حمّله معنى جديدًا يرتبط بسرّ آلامه وموته. أنشد موسى
نشيد الخروج (خر 15: 1 ي) فغنّى به ظاهريًّا خروج الشعب من مصر، وردّد الشعب هذا
النشيد في عيد الفصح من كلّ سنة. ولكن بعد ان ذُبح المسيح فصحنا (1 كور 5: 7) ألقى
سرّ الخلاص الذي تمّ في المسيح في نهاية الأزمنة بضوئه على هذا النصّ فأعطاه كمال
معناه كما تستغلّه الليتورجيا المسيحية ليلة عيد الفصح.

اختبر
المؤمن في العهد القديم حضور الرب قرب المؤمن، فعبّر عن هذا الحضور بصورة الرب
الراعي الذي يجعل المؤمن يتأكّد أنّه لا يحتاج إلى شيء (مز 23: 1 ي) أو بعبارة
الرب الذي هو نور في الليل وخلاص في الضيق فلا يخاف المؤمن ولا يفزع (مز 27: 1 ي).
وعندما يأتي يسوع يسمّي نفسه الراعي الصالح (يو 10: 11) ونور العالم (يو 9: 5). ما
تأمل فيه شعب الله تحقّق في شخص المسيح، ولهذا نقرأ المزامير على ضوء حياة المسيح
وتعليمه.

واختبر
المؤمن حالة البرارة وما ينتج عنها من فرح: هنيئًا لمن نُسيت معصيته وسُترت له
خطيئته. هنيئًا لمن لا يحسب الرب عليه إثمًا (مز 32: 1- 2). فأخذ القدّيس بولس
بهذا النص من العهد القديم فدلّ على أنّ المؤمن يتبرّر مجّانًا (روم 4: 5- 8).
وأعلن مز 143: 2: لا تحاكمني أنا عبدك، فما من حيّ يتبرّر أمامك، فقال القدّيس
بولس (روم 3: 20): لا يتبرّر بشر أمام الله إذا عمل بأحكام الشريعة. واختبر شعب
العهد القديم بنوّة الله بطريقة مغلفة فأعلن عنها العهد الجديد بطريقة واضحة. قال
الرب: إسرائيل ابني البكر (خر 23: 4)، أحببته في مصر ومن هناك دعوته (هو 11: 1)،
وقال أيضاً: أنتم أولاد للرب إلهكم (تث 14: 1)، والرب أبوكم (تث 6: 32). ولكنّنا
نبقى هنا في المعنى الظاهري إن لم نسمع القدّيس بولس يقول لنا: أرسل الله ابنه..
لنحظى بالتبنّي.. فلست بعد عبدًا بل ابن (غل 4: 4- 7). ما قالته أسفار العهد
القديم نقرأه على ضوء العهد الجديد فنصل إلى المعنى الباطني الذي أراده الروح
عندما أوحى إلى البشر بطريقة تدريجية مخطّط الآب الخلاصي الواحد.

 

ج-
المبادئ الأساسية لقراءة العهد القديم

إذا
انطلقنا من أسفار العهد الجديد، يمكننا أن ندلّ على المبادئ الأساسية التي تساعدنا
على فهم العهد القديم. العهد الجديد كمال العهد القديم وتمامه. العهد الجديد
يتجاوز العهد القديم ويتخطّاه. العهد القديم يصوّر العهد الجديد ويمثّله فيبدو
وكأنّنا ننظر إليه.

1-
العهد الجديد كمال العهد القديم وتمامه

أوّلاً:
تمَام الأزمنة

تمّ
الزمان واقترب ملكوت الله، فتوبوا وآمنوا بالبشارة (مر 1: 15). بهذه الكلمات
استعمل يسوع رسالته فاستعرض الأوقات والأزمنة التي حدّدها الله بسلطانه (أع 1: 7)
ليحقق مخطّطه على الأرض. إلى المسيح كان زمن التهيئة، الزمن الذي فيه تغاضى الله
بصبره عن الخطايا الماضية (روم 3: 25) والذي سيبلغ نهايته. أمّا بعد المسيح فقد
تمّ الزمان واكتمل (غل 4: 4 ؛ أف 1: 10)، وجاءت نهاية الأزمنة (1 بط 1: 20) التي
سيتجلّى الرب فيها. لمّا كان يسوع على الأرض وسط شعبه حضر به الزمن الذي وعد به
الله الآب وأعطيت علامات الملكوت لمن له أذنان سامعتان (مت 13: 9)، لمن عرف زمن
مجيء الرب (لو 44: 19 ؛ مت 3: 16).

ولاهوت
الزمان هذا لا يجعل المسيح حاضرًا في التاريخ البشري فحسب، بل يحدّد موقع التاريخ
بالنسبة إلى المسيح. هذا اللاهوت يدلّ على وجود وقت تهيئة قد انقضى في الزمان الذي
سبقه، ويدعونا إلى أن نميّز في الأقوال النبوية المتعلّقة بالأزمنة الأخيرة
مرحلتين: مرحلة التدشين والبداية وفيها كلام الأنبياء، ومرحلة الكمال والانقضاء
وفيها تتحقّق ذبيحة الخلاص ودخول المسيح في المجد وإعطاء الروح القدس للبشرية
المفتداة. إنّ مخطط الله يتحقّق على مراحل، كل مرحلة ترتبط بسابقتها، كل مرحلة
تهيّئ الطريق للاحقتها. وكما أنّ ما قام به يسوع خلال حياته على الأرض سيتمّ في
نهاية الأزمنة عندما تنضمّ اليه البشرية المفتداة في مجده، كذلك ما قالته أسفار
العهد القديم تمّ في ما عمله يسوع وقاله خلال حياته على الأرض.

 

ثانيًا:
تمام الشريعة

ما
جئت لأحلّ الشريعة والأنبياء، بل جثت لأكمّل (مت 17: 5). هكذا بدأ يسوع عظته على
الجبل، هكذا بدأ اعلانه للشريعة الجديدة. لقد انطلق من حرف الشريعة فوصل إلى
روحها. البرّ في التقليد اليهودي ناقص، فعلى بر الملكوت أن يتفوّق على بر الكتبة
والفرّيسيين (مت 5: 20)، لأنّ الشريعة الجديدة التي أعطاها الله للبشر تدعوهم إلى
الكمال على مثال الآب السماوي (مت 48: 5). فمن عمل بهذه الشريعة لا يكتفي بالوصايا
والأحكام القديمة، بل يدفع الشريعة الى كمال كانت تجهله فيمَا مضى. ويحدّد يسوع
فكرته عن الشريعة عندما يربطها بمحبة الله ومحبّة القريب (مت 22: 40). إذًا في
المحبّة كمال الناموس، في العهد الجديد ستأخذ المحبّة أبعادها الكاملة في قلب
الشريعة، كل الوصايا ستنتظم في الشريعة بالنسبة إلى المحبّة.

هذا
من الوجهة الأخلاقية والدينية للشريعة. ولكنّ الشريعة تحوي أيضاً سلسلة من الأحكام
تحدّد النظم التي تصبو لتجعل من إسرائيل شعبًا بارًّا مقدّسًا ولكنّ هذه الشريعة
كانت أعجز من أن تمنح الناس البرّ (روم 8: 3- 4). أمّا تدبير الخلاص الجديد
المؤسّس على ذبيحة المسيح فهو سيمنح البرّ للبشرية بالإيمَان. حينئذ تتحقّق أمنية
الشريعة في السالكين في سبيل الروح لا سبيل الجسد.

وإذا
نظرنا إلى الأمور من زاوية أخرى، رأينا أن شعائر العبادة كانت تهدف إلى جعل الذين
يتقرّبون بها إلى الله كاملين (عب 10: 1)، ولكنّها لم تقدر. أمّا المسيح، فبقربان
واحد جعل الذين قدّسهم كاملين إلى الأبد (عب 10: 14). وهكذا أتمّ العهد الجديد ما
نزع إليه التدبير القديم، وما هيّأ له العهد القديم كمّله العهد الجديد.

 

ثالثًا:
تمام الكتب

“كيف
تتمّ الكتب التي تقول إنّ هذا ما يجب أن يحدث ” (مت 26: 54)؟ لقد انطلق يسوع
من الكتب ليشرح لتلاميذه معنى آلامه (مت 26: 31؛ لو 37: 22؛ يو 18: 13) وقيامته،
وسار الرسل على خطاه فأعلنوا أنّ الكتب تمّت في حياته وموته وقيامته وفي عطية
الروح لشعب الله وفي بنيان الكنيسة (أع 16: 2- 21؛ 23: 13- 27).

تمام
الكتب يتعدّى تحقيق ما تنبّأ به الأنبياء، وأسفار التوراة تحوي مع النبوءات نصوصًا
تشريعية وحكمية أوردها كتّاب العهد الجديد (يو 36: 19؛ مت 15: 2).

أجل،
إنّ الزمان والتاريخ والشريعة بكلّ أحكامها القانونية وشعائر العبادة فيها، توجّه
أنظارنا إلى المسيح وإلى التدبير الخلاصي الذي جاء به إلى الأرض. انّ مخطّط الله
كما نعرفه اليوم كان ناقصًا في العهد القديم فصار كاملاً في العهد الجديد. ومبدأ
التمام يعلّمنا أن نكتشف هذا المخطط عبر الأسفار المقدّسة، وقد أوحاه الرب إلى
البشر بطريقة تدريجية تربوية.

 

2-
العهد الجديد تجاور العهد القديم وتخطّاه

إنّ
مبدأ العهد القديم قي العهد الجديد يفترض أنّ العهد الجديد تخطّى وتجاوز كلّ ما
حواه العهد القديم من نقص. فحقيقة الخلاص وشخص المسيح يتجاوزان الآفاق التي فتحتها
أمامنا مواعيد الأنبياء المحدودة النظر، وهي لم تكلّمنا عن ابن الله الوحيد الذي
صار أيضاً إنسانًا. أجل، لقد تخطّى العهد الجديد العهد القديم في ما قالته الكتب،
وتخطّاه بالأخصّ في ما هو ترتيب ديني بحيث إنّ بعض تنظيماته تجاوزها الزمن فألغيت.
إنّ يسوع جعل سلطته الخاصة تحلّ محلّ سلطنة القدماء. لقد نبّه الكتبة والفرّيسيين
إلى واجب ممارسة شريعة موسى ممارسة صريحة وخالصة (مر 7: 1- 13 ؛ مت 15: 1- 5)،
ولكنّه أفهم تلاميذه في عظة الجبل أنّ سلطة موسى والسنن التي أعلنها لم تعد تشكّل
قاعدة حياة لهم. “قالوا لكم، أمّا أنا فأقول لكم “.

 

أوّلاً:
نهاية زمن تربية الله لشعبه

“كانت
الشريعة مؤدّبًا لنا إلى مجيء المسيح، فلمّا جاء الإيمان تحرّرنا من حراسة المؤدّب
” (غل 3: 24- 25). هذا الكلام للقدّيس بولس يفهمنا دور الشريعة الإيجابي وقد
قادتنا إلى المسيح وأهّلتنا لسماع الإنجيل. ويُفهمنا أيضاً دورها السلبي وعملها
المؤقّت والذي لا يدوم على مثال دور المؤدّب الذي يدوم ما دام الابن قاصرًا. لقد
حرّرنا يسوع فلم نعد عائشين بحراسة المربّي. بالإنجيل دخلنا نظام الحرّية الذي
يليق وحده بأبناء الله. أجل، لم نعُد في حكم الشريعة، بل في حكم نعمة الله (روم
14: 6)، لقد تحرّرنا من عبودية الشريعة وممارساتها فلا يليق بنا بعد أن نعود إلى
نير العبودية (غل 5: 1).

والشريعة
التي يتحدّث عنها القدّيس بولس ليست الوصايا التي تتلخّص في المحبّة، بل شعائر
العبادة التي كانت الديانة اليهودية ترى فيها ينبوع كل برّ وقداسة. إنّ الخلاص لا
يؤسّس على ممارسات، بل على الإيمان بيسوع المسيح (غل 3: 10- 14). والتدبير الذي
عرفه شعب العهد القديم سيدخل في تاريخ الخلاص العامّ. والشريعة التي عمل بها الشعب
اليهودي أضيفت من أجل المعاصي إلى أن يجيء النسل الذي جعل الله له الوعد (غل 3:
19). والعهد المبني على وعد الله المجاني لإبراهيم والذي تمّ في يسوع المسيح (غل
3: 15- 18) لم يعد له ما يبرّره بعد أن تجاوز نظامُ الإيمَان نظامَ الشريعة
وتخطّاه في نعمة الرب يسوع.

 

ثانيًا:
عبور من الحرف إلى الروح

ليس
نظام الشريعة نظامًا نهائيًّا، لأنّه يطلب من الناس أن يمارسوا سُنَنًا وأحكامًا،
ولا يعطيهم إمكان ممارستها، فيظهر عجزه عن تبريرهم. كانت الشريعة
“حرفًا” كتبه الله على الواقع من حجر فظّلت خارجة عن قلب الإنسان. وبمَا
أنّ القلب لم يتغيّر فالشريعة لم تثمر ثمار الحياة بل ثمار الموت (2 كور 3: 3- 7؛
روم 7: 5- 6). أمّا المسيح فقد أعطَى لنا روح الرب الذي يقودنا (روم 8: 14- 16)
ويوجّهنا إلى شريعة يكتبها الله ويحفرها في قلوبنا فتحمل إلينا الحياة التي يعطيها
الروح القدس.

إنّ
الرباط بين نظام ونظام، بين عهد قديم وعهد جديد، نعبّر عنه بالشريعة والنعمة، بالعبودية
والحرّية، ونعبّر عنه بالحرف والروح، وبالموت والحياة. لقد تحرّرنا بالمسيح من
الشريعة حتّى نعبد الله في نظام الروح الجديد، لا في نظام الحرف القديم (روم 7:
6). بعد أن تكوّنت علاقات جديدة بين الله والإنسان فالزمن قد تجاوز العهد القديم
وألغاه، والعهد الجديد يدخل محلّه بصورة نهائية (عب 8: 6- 13).

ثالثًا:
عبادة لا تقدر أن تقدّسنا

إذا
تطّلعنا إلى الأمور من زاوية العبادة، رأينا أنّ هذه العبادة تعبّر عن علاقة الناس
بالله، وأنّها تقدّسهم وتصِلهم بالله الحي. هذا ما هدفت إليه العبادة في العهد
القديم، ولكنّ الناس لم يحصلوا على ما وعدت به هذه العبادة: لم يكن الله ليرضى
عنها (عب 10: 5؛ مز 7: 40- 9) لأنّها أعجز من أن تطهّر الناس من خطاياهم (عب 10:
1- 4).

أمّا
ذبيحة يسوع، كاهننا العظيم، فقد رضي الله بها يوم دخل قدس الأقداس (عب 9: 11- 12)،
وكان الذبيحة وكان الكاهن، وصار لنا مصدر خلاص أبدي (عب 5: 9؛ 9: 12)، وقدّسنا
بجسده الذي قدّمه قربانًا (عب 10: 10). فعلَ يسوع هذا فأبطل نظام العبادة القديم
(عب 10: 9) وأبان أنّ العبادة الحقّة هي التي يقول بها هو، لا تلك التي يقول بها
كهنوت اللاويين الذي هو ظلّ كهنوته (عب 8: 5 ؛ 10: 1).

 

3-
العهد القديم صوّر العهد الجديد ومثّله

كيف
نوفّق بين مبدأين يبدوان وكأنّهما يتعارضان: مبدأ الوحدة والتخطّي، مبدأ
الاستمرارية والانقطاع؟ نقول إنّ الوحي في العهدين واحد، ومع ذلك فالعهد الجديد
يتعدّى العهد القديم. نقول إنّ مخطط الله يستمرّ من عهد إلى عهد ولكن بحضور المسيح
يبدو العهد الجديد وكأنّه منقطع عن العهد القديم. الجواب على سؤالنا نجده في هذا
المبدأ الثالث الذي يتضمّن المبدأين الأوّلين، وهو مبدأ التصوير والتمثيل. فالعهد
القديم يحتوي سننًا أخلاقية حافظ عليها العهد الجديد بعد أن أتمّها، وقد كان لها دورّ
إيجابي بالنسبة إلى النظمِ الجديدة. ويتضمّن عناصر عفا عنها الزمن كان لها دور
تربوي وقد انتهى الآن. يورد أحداثَا تاريخيّةً أعلنت بطريقة خفيّة تحقيقَ الخلاص
في الأزمنة الأخيرة.

 

أوّلاً:
التوازي بين العهدين

هناك
نصوص عديدة في العهد الجديد تشدّد على التوازي بين العهدين. فيسوع نفسه فسّر معنى
موته انطلاقًا من عهد سيناء (لو 22: 20) وأعلن أنّ الفصح القديم سيتمّ في ملكوت
الله (لو 18: 22)، فأفهمنا أنّ الخلاص الذي تمّ لبني إسرائيل فاحتفلوا به، والعهد
الذي يتبع هذا الخلاص، يرسمان لنا مسبقًا ملامح ذبيحة الملكوت.

وتبع
الرسل طريق المعلّم، فماثل بطرس بين يسوع وحمل الفصح (1 بط 1: 19؛ رج 1 كور 5: 7)
وبين الكنيسة وشعب الله في سيناء (1 بط 9: 2). ولمّح متّى إلى أنّ يسوع هرب من غضب
هيرودس كما هرب موسى من غضب الفرعون (3: 2، 19- 20)، وأنّ الرب دعا ابنه يسوع من
مصر كما دعا ابنه البكر، أي شعبه، في القديم (2: 15). وكتب لوقا عن ولادة يوحنّا
المعمدان التي تشبه ولادة شمشون (1: 13- 15) أو إيليا (1: 17)، وعن قوّة الله التي
تنزل على مريم فتظلّلها كما كانت تظّل خيمة الاجتماع (37: 1). ذهبت مريم لزيارة
نسيبتها أليصابات فبدت وكأنّها تحمل تابوت عهد جديد (لو 1: 43؛ 2 صم 9: 6). انتصر
يسوع في البرّية على التجربة. أمّا الشعب فسقط فيها (4: 1 ي). وعلى الصليب صوّر
لنا المزمور (22: 1 ي) عبد يهوه المتألّم (مت 27: 41- 43). وخطب اسطفانس في
المجمع، فوازى بين يوسف بن يعقوب ويسوع المسيح وكلاهما اضطهده إخوته (أع 7: 9-
13)، وبين موسى ويسوع (أع 7: 25، 35- 39). أمّا في إنجيل يوحنّا فنجد موازاة بين
يسوع وسلّم يعقوب (1: 5)، بين يسوع والهيكل (2: 21)، وحيّة النحاس (3: 14) والمنّ
(6: 32- 33) والصخرة في البرية (37: 7- 39) وحمل الفصح (1: 29، 19: 36). وقصارى
الكلام أنّنا نقرأ في العهد القديم صورًا رُسمت قبل الوقت لتعبّر عن أحداث وقعت في
العهد الجديد.

 

ثانيًا:
صور العهد الجديد في العهد القديم

“حدث
لهم ذلك ليكون لنا مثلاً وهو مكتوب ليكون لنا عبرة نحن الذين انتهت إليهم أواخر
الأزمنة” (1 كور 10: 11). أعلن القدّيس بولس هذا المبدأ واستنتج منه تطبيقات
أخلاقية نجدها في تاريخ شعب الله. إنّ خلاص العبرانيين عبر البحر الأحمر كان
معمودية، والمنّ طعامًا روحيًّا، ومياه الصخرة شرابًا روحيًّا، وهذه الصخرة هي
المسيح. أجل، إنّ لأشخاص الماضي وأحداثه مدلولاً بالنسبة إلى المستقبل المتعلّق
بنهاية الأزمنة التي دخلنا فيها مع المسيح. إنّ هذه الصور المرسومة كانت تتضمّن
السرّ الآتي وتحمل جزءًا من الحقيقة التامّة.

وهذا
المبدأ الذي قال به القدّيس بولس لا يقتصر على صورة آدم الذي هو رمز المزمع أن
يأتي (روم 5: 14؛ 1 كور 1: 45- 49) وعلى الرمز المؤسّس على امرأتي إبراهيم وولديه
اللذين يمثّلان عهدين ومدينتين وشعبين: مدينتنا هي أورشليم العليا، وإسحق، ابن
الوعد، هو الذي يمثّلنا نحن المؤمنين. كل هذه الرموز نقرأها بين سطور التوراة
فتعلن لنا مسبّقًا الحقيقة الآتية في ملء الزمان.

يمكننا
أن ننطلق من الصورة فنصل إلى الحقيقة، ويمكننا أن ننطلق من الحقيقة، لنصل إلى
الصورة. اخذ القدّيس بولس بالطريقة الأولى، أمّا القدّيس بطرس فأخذ بالطريقة
الثانية إذ انطلق من المعمودية فصوّرها بألوان السفينة التي بناها نوح لينجو فيها
من الطوفان (1 بط 3: 20-21). وكذلك فعل صاحب الرسالة إلى العبرانيين الذي انطلق من
ذبيحة المسيح ودخوله “قدس الأقداس” فرسمها على ما رأى في الهيكل وعند
الكهنة في العهد القديم. إنّ العبادة المسيحية تتضمّن الصورة لتلك الحقيقة
السماوية والآتية في آخر الأزمنة (عب 9: 11، 10: 1)، أمّا العبادة القديمة فليست
إلاّ نسخة وصورة عن العهد الجديد، ورمزًا إليه. هذا الإعلان المخفي عن المستقبل
كان ولا شكّ ناقصًا، لم يكن إلاّ ظلّ الحقيقة، ولكنّه، رغم كل شيء، كان يحمل
مدلولاً إيجابيًّا وقد شدّد بطريقة إيجابية على حضور خفيّ للعهد الجديد ضمن العهد
القديم، وعلى وحدة مخطط الله الذي تحقّق على مرحلتين.

تلك
هي المبادئ الثلاثة التي وضعها كاتبو العهد الجديد فاستند إليها الآباء ليبنوا
لاهوتًا ويقدّموا تعليمًا. أما يجدر بنا، نحن المسيحيين اليوم، أن نأخذ بهذه
المبادئ فتكون الأسفار المقدّسة لتعليمنا نحن الذين بلغنا تمام الأزمنة!

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى