علم الله

الفصل الرابع والأربعون



الفصل الرابع والأربعون

الفصل
الرابع والأربعون

قانون
الحياة الصالحة

 

1 – ما هو أساس المسؤولية الأخلاقية؟

مقالات ذات صلة

*
في هذا الموضوع أقوال مختلفة، منها أن أساس المسؤولية الأخلاقية أن يكون المطلوب
حقّاً، ومنها أن يكون المطلوب موافقاً للعقل، ومنها أن يكون موافقاً للصواب، ومنها
أن يكون مناسباً ولائقاً، ومنها أن يكون نافعاً للجميع، ومنها أن يكون مصدر فائدة
عامة. ولكن هذه الأقوال كلها قاصرة.

والجواب
الصحيح هو أن أساس المسؤولية الأخلاقية هو إرادة الله المعلَنة في كتابه، والتي
توافق طبيعته الكاملة. فلا يوجد أساس للواجبات الأخلاقية أعظم من الله ذاته، الذي
يطلب منا ما يوافق إرادته.

2 – ما هي الشريعة، وكيف تُعلَن الشرائع للبشر؟

*
الشريعة قانون موضوع لا بد له من واضع. وهي تُظهِر إرادة واضعها وتكليفه للذين
وضعها عليهم. فجوهر الشريعة الأخلاقية هو إعلان الله في ما يتعلق بسيرة خلائقه.
والتكليف الأخلاقي هو إلزامنا أن نتوافق مع إرادة الله في كل الواجبات. ولا بد في
هذا البحث أن نسلّم بمبدأين: (1) الصلاح الأخلاقي صلاح في نفسه، ليس فقط بسبب ما
يؤدي إليه، ولا بسبب موافقته للعقل. (2) كل ناموس مبني على إرادة الله هو مطالب
طبيعة الله. وهذا هو اصطلاح الكتاب المقدس في كلامه عن الشريعة، لأنه يقصد دائماً
بها إعلان إرادة الله. وقد أعلن الله شريعته في: (أ) الطبيعة المادية، وفي (ب)
طبيعة الإنسان العقلية والأخلاقية، و(ج) لا سيما في المسيح والأسفار المقدسة.

3 – ما هي أنواع الشرائع الإلهية؟

*
إذا درسنا الكتاب باعتبار أنه إعلان إرادة الله، رأينا شرائع الله معلَنةً فيه
بأنواع مختلفة وبوصايا متنوعة، وقد حُصرت أنواع الشرائع في ما يأتي:

(1)
الشرائع المبنية على طبيعة الله، كالأمر بالمحبة الكاملة له، والعدل والرحمة
واللطف. فالمحبة واجبة في كل مكان وزمان، كما أن الكبرياء والحسد والخبث شر في كل
مكان وزمان.

(2)
الشرائع المبنيّة على العلاقات الدائمة بين الناس، كشرائع الممتلكات والزيجة
وواجبات الوالدين والأولاد أو كبار القوم وصغارهم. وهذه تتعلق بالبشر ما داموا في
هذه الحياة فقط.

(3)
الشرائع الوقتية التي تنظم العلاقات الاجتماعية، ومنها الأحكام المدنية التي كانت
عند بني إسرائيل، والتي تتعلق بتقسيم الممتلكات، وواجبات الزواج، وقصاص المذنبين.

(4)
الشرائع “المقررة” التي لا تختص بالأخلاق، ويُعمل بها لأنها أوامر
إلهية، ومنها الطقوس والرسوم الخارجية كالختان، والذبائح، والتمييز بين الأطعمة
الطاهرة والنجسة، وبين الشهور والأيام والسنين.

ويظهر
من تقسيم الشرائع الإلهية أنها تختلف في المقام والاعتبار، فإذا حدث بينها تناقض
في التطبيق أُعطيت الأولوية للأهم. فلشريعة الختان مقام أعلى من وصية السبت، فإذا
كان اليوم الثامن لميلاد الطفل هو يوم السبت تم الختان في يوم السبت. وقال المسيح “أريد
رحمة لا ذبيحة” وقال “جُعل السبت للإنسان لا الإنسان للسبت”. فقد
فضَّل المسيح شريعة محبة الله من كل القلب ومحبة القريب كالنفس على كل المحرقات
والذبائح.

4 – لماذا نعتبر ناموس الله كاملاً؟

*
لأن الناموس الأخلاقي كما يعلنه لنا الكتاب المقدس يتضمَّن القضايا الآتية:

(1)
كل ما حرَّمه الكتاب هو حرام، وكل ما حلله فهو حلال.

(2)
لا يُعتبر شيء شراً إن لم ينْهَ عنه الكتاب المقدس، ولا نلتزم بعمل شيء إن لم يأمر
الله به أمراً مباشراً أو بالاستنتاج الصحيح.

(3)
الكتاب المقدس هو القانون الأكمل والأعلى في الواجبات الأخلاقية، وهو كافٍ ليرشدنا
في الإيمان والعمل، فإن ناموس الله كامل كل الكمال.

5 – ما هو مقام وصايا الله العشر؟

*
وصايا الله العشر قانون تام لواجبات الإنسان إذا فُسرت تفسيراً روحياً. وتُضاف
إليها أمور واجبة على المسيحيين في زمن العهد الجديد لم تُعلن إلا في الإنجيل،
تتعلق بأحوال المسيحيين دون بني إسرائيل. وما جاء بالوصايا العشر أساس واسع
للواجبات الأخلاقية، يشمل كل ما هو جوهري في حياة التقوى. وقد استحسن لاهوتيو
العهد الجديد أن يؤسسوا التعاليم الأخلاقية المسيحية على الكتاب كله، وليس على
الوصايا العشر وحدها، لأن المسيح جاء ليكمل الوصايا العشر بتعاليم الموعظة على
الجبل (متى أصحاحات 5-7. انظر مت 5: 17).

6 – ما هي القواعد المشهورة لتفسير الوصايا العشر؟

*
وضع اللاهوتيون قواعد كثيرة لتفسير الناموس الإلهي تفسيراً صحيحاً، منها أنه إذا
مُنع عملٌ مُنع أيضاً كل ما يسوق إليه، وإذا رُفض عمل رُفض أيضاً كل ما كان من
نوعه. وتعود كل القواعد إلى قاعدة واحدة هي أنه لا يصح تفسير الوصايا العشر
كالشرائع البشرية التي تكتفي بالتنبير على الأعمال الظاهرة، بل يجب تفسيرها
باعتبارها شريعة الله التي تمتد إلى أفكار القلب ونياته. ومن التأمل فيها نرى أن
كل وصية منها تتضمن مبدأ عاماً يشمل واجبات كثيرة خاصة.

7 – ما هي الوصية الأولى، وبِم تأمر، وعمَّ تنهَى؟

*
هي “لا يكن لك آلهة أخرى أمامي” (خر 20: 3). وهي تأمر بوجوب الاعتقاد
بوجود الله الإله الواحد الحي الحقيقي، وبوجوب إكرامه كما يجب، وبقبول إعلاناته
بكل خضوع، وبالاتكال على مواعيده والتسليم لإرادته. وهي توجب أن نفضل الله على
جميع مخلوقاته، ونطلب الاقتراب إليه مؤمنين أنه أفضل خيرٍ لنا، وأن ننظر إليه بروح
العبادة الحقيقية بالمحبة والمخافة والإكرام والشكر والتسليم والخدمة، وأن نشعر
دائماً بحضوره وجلاله وصلاحه وعنايته، وباحتياجنا إليه، ومسؤوليتنا أمامه، ووجوب
طاعته. وهذه الوصية (بهذا المعنى) تحتل المقام الأول بين الوصايا، كما قال المسيح “تحب
الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك. هذه هي الوصية الأولى والعظمى”
(مت 22: 37، 38). وهي تنهى عن التهاون في طاعة سلطان الله، وتطلب الاعتراف به أمام
الناس، وتطالب بإكرامه الإكرام الواجب، وتنهى عن الشِرك والعبادة الصنمية وتقديم
العبادة التي يستحقها الله وحده للمخلوق، مهما كان مقام ذلك المخلوق.

8 – ما هي الوصية الثانية، وبم تأمر، وعمَّ تنهى؟

*
الوصية الثانية هي “لا تصنع لك تمثالاً منحوتاً، ولا صورة ما مما في السماء
من فوق وما في الأرض من تحت وما في الماء من تحت الأرض. لا تسجد لهن ولا تعبدهن،
لأني أنا الرب إلهك، إلهٌ غيور، أفتقد ذنوب الآباء في الأبناء في الجيل الثالث
والرابع من مبغضيَّ، وأصنع إحساناً إلى ألوف من محبيَّ وحافظي وصاياي” (خر
20: 4-6).

ولما
كان الله روحاً مجرداً لا يجوز أن يُمثَّل بشيء تصنعه أيدينا أو تتصوره أفكارنا.
وعلينا أن نكرمه بعبادةٍ روحية تليق به، وأن نقيم عبادته بالطريقة التي عيَّنها
فنرفض كل الاختراعات البشرية. وتنهى هذه الوصية عن استعمال الرسوم والتماثيل
والصور. فالعبادة الصنمية لا تقوم بعبادة الآلهة الكاذبة فقط، بل بعبادة الإله
الحقيقي بواسطة تماثيل منحوتة أو صور منظورة. ويدخل تحت هذا أيضاً عبادة المواد
التي تُحسب مقدسة. ولا يمكن تصوير الله ولا يجوز تصويره بأي وجهٍ. ومع أن تصوير
المخلوقات جائز، إلا أن الله حرم عبادتها وعبادته تعالى بواسطتها، ولا يصح أن نجعل
أنفسنا أحكم من الله الذي شاء أن تتعلم كنيسته بواسطة إعلان كلمته لا بواسطة الصور
الصُم.

9 – ما هي الوصية الثالثة، وبم تأمر، وعمَّ تنهى؟

*
هي “لا تنطق باسم الرب إلهك باطلاً، لأن الرب لا يبرئ من نطق باسمه باطلاً”
(خر 20: 7). و”اسم الرب” في هذه الوصية كناية عن الله ذاته، وعن كل ما
يختص به وبإعلانه نفسه للبشر، كأسمائه المختلفة وألقابه وصفاته وفرائضه وكتابه
وأعماله.

وتأمر
هذه الوصية باستعمال اسم الرب بغاية الوقار، لفظاً وكتابةً وفكراً، وبالإكرام
القلبي لإعلاناته وفرائضه، وبالاعتناء التَّقَوي في تقديم الصلاة واستعمال الأقسام
والنذور، لئلا نهينه بتدنيس ما يختص به.

وهي
تنهى عن النطق باسمٍ من الأسماء الإلهية أو بصفة من صفاته بعدم الوقار، ولا سيما
التجديف، وتنهى عن الإشارة إليه أو إلى فرائضه أو إلى أعماله بأي إهانة أو عدم
احترام، وتنهى عن التذمر والضجر من طرقه وأعماله معنا، والشكوى بروح العصيان على
إرادته، وتنهى عن التجديف واللعنات والشتائم والاستخفاف بنعمته وحقه، والتظاهر
بالتقوى على سبيل الرياء، والخجل من الاعتراف باسمه جهاراً، كما تنهى عن الأقسام
الباطلة والنذور الممنوعة، وعن تقديم تضرعاتنا إليه بلا انتباه على سبيل العادة
بدون إكرام قلبي واشتراك الشعور الباطني فيها، وتنهى عن العوائد الشائعة في ذكر
اسم الرب كثيراً على سبيل العادة بدون روح العبادة، وعن كل ما فيه عدم احترام
لاسمه العظيم الفريد، وعن دعائه ليشهد تأييداً للكذب، وعن عدم الاحترام في عبادته.
والخلاصة إنها تنهى عن كل ما يشير إلى عدم الخشية والهيبة اللائقة بالله غير
المحدود في كماله.

صحيح
أنه يحقّ لنا في بعض الأحوال أن نُقسِم وننذر للرب، إلا أن ذلك يجب أن يكون لغايةٍ
لائقة وبروح الوقار، لأن هذه الوصية تنهى عن الخبث والخداع في اليمين والقسَم
الباطل غير الضروري، وعن كل استشهادٍ بالله بغير انتباه بالعبارات الكثيرة الجارية
بين الناس كقولهم “الله يعلم” و”بحياة المسيح” وما إلى ذلك.
فإنه ربما كان لها أصل تقَويّ، ولكنها تُستعمل الآن كثيراً من غير التفات إلى
مدلولها الحقيقي.

10 – ما هي الوصية الرابعة، وبم تأمر، وعمَّ تنهى؟

*
هي “اذكر يوم السبت لتقدسه. ستة أيام تعمل وتصنع جميع عملك، وأما اليوم
السابع ففيه سبتٌ للرب إلهك. لا تصنع عملاً ما أنت وابنك وابنتك وعبدك وأمتك
وبهيمتك ونزيلك الذي داخل أبوابك، لأن في ستة أيام صنع الرب السماء والأرض والبحر
وكل ما فيها، واستراح في اليوم السابع. لذلك بارك الرب يوم السبت وقدَّسه”
(خر 20: 8-11).

وقد
أُعطيت هذه الوصية في الأصل في جنة عدن، وهي فرض دائم عام على البشر مدة الدهور
فقد أفرز الله بها سُبع الوقت لنفسه، لأهداف روحية خيرية خاصة بعبادته وبواجباتنا
الدينية. وبقيت هذه الوصية في العهد الجديد واجبة على الناس، إلا أن يوم الأحد
تعيّن لتلك الغاية بدل السبت. وقد تحرر المسيحي من مطالب الشريعة اليهودية الحرفية
الوقتية الخاصة بعبادة العهد القديم، ولكن وجوب احترام يوم الأحد باقٍ في قوته في
العهد الجديد، يوماً مفرزاً لعبادة الله وخدمته. أما أهداف الوصية الرابعة فهي:

(1)
لنذكر يوم الخليقة، فقد أمر الله الشعب أن يذكروا يوم السبت ويقدسوه، لأن في ستة
أيام خلق الرب السماء والأرض.

(2)
لنُبقي معرفة الإله الواحد الحي الحقيقي، لأنه إن كانت السماوات والأرض قد خُلقت
فلا بد لها من خالق، ولا بد من أن هذا الخالق غير ما خلَق، وهو كائن قبل كون
العالم، ولا بد أنه ضابط الكل، غير محدود في علمه وحكمته وصلاحه، لأن جميع هذه
الصفات ضرورية في تعليل عجائب السموات والأرض. وما دام البشر يعتقدون بالخليقة فلا
بد من إيمانهم بالله الخالق. وهذا هو سبب التشديد في حفظ السبت، حتى لم يكن لشيءٍ
من الفرائض الطقسية ما لهذه الوصية من الأهمية العظيمة.

(3)
لنتوقّف عن العالميات ونحوّل أفكارنا إلى الروحيات، فلما كان البشر ميّالين
للانشغال بالمصالح الدنيوية، وجب أن يكون لهم يوم يتكرر كثيراً، فيه يحرم عليهم
الاهتمام بأمور الدنيا ويُؤمرون فيه بالاهتمام بأمور الدين.

(4)
أن يكون هناك وقت محدد لتعليم الشعب، ولعبادة الله الجهارية والفردية.

(5)
لنتوقف وحيواناتنا عن الأعمال الشاقة في السبت لنستريح ونسترجع القوة بعد أن وقعت
علينا عقوبة “بعرق وجهك تأكل خبزك”.

(6)
لما كان السبت يوم راحةٍ مفرزاً لمناجاة الله، قُصد به أن يكون رمزاً للراحة
الباقية لشعب الله،كما جاء في مزمور 95: 11 وفسره الرسول في عب 4: 1-10.

(7)
لما انقطع حفظ يوم الراحة بين الشعوب جدَّد الله الوصية به في النظام الموسوي
ليكون علامة عهدٍ بين الله وبني إسرائيل، فيتميَّزون بحفظ يوم السبت عن جميع شعوب
الأرض، وينالون بذلك بركات الله الخاصة، حسب قوله “سبوتي تحفظونها، لأنه
علامة بيني وبينكم في أجيالكم، لتعلموا أني أنا الرب الذي يقدسكم. فيحفظ بنو
إسرائيل السبت ليصنعوا السبت في أجيالهم عهداً أبدياً. هو بيني وبين بني إسرائيل
علامةٌ إلى الأبد” (خر 31: 13، 16، 17). وقوله “وأعطيتهم أيضاً سبوتي
لتكون علامة بيني وبينهم ليعلموا أني أنا الرب مقدِّسهم” (حز 20: 12).

وقد
استُبدل السبت بالأحد في العهد الجديد، لأن الرسل الذين أقاموا الكنيسة بالإلهام
الإلهي أدخلوا فيها جميع النواميس الموسوية المبنية على ما يجب أن يبقى من علاقات
الإنسان بالله وبالقريب. غير أن ما اتّخذوه من ذلك هو الأصول الجوهرية فقط، وأما
ما كان طقسياً أو رمزياً أو مختصاً باليهود فتركوه. فالبشر اليوم ملتزمون بعبادة
الله، ولكنهم غير ملتزمين بالعبادة في أورشليم خاصة، أو بواسطة الذبائح، أو بخدمة
اللاويين. وكذلك الزواج لا يزال مقدساً ولكن شرائعه اختلفت عن شريعة موسى. ولا زال
القتل من الجرائم الكبيرة الآن كما كان في زمن موسى، لكن الشرائع القديمة المتعلقة
بولي الدم ومدن الملجأ قد زالت. ومثل ذلك أمر السبت لأنه من الواجب علينا أن نقدس
يوماً واحداً من الأيام السبعة للرب كما كان واجباً على رؤساء الآباء وبني
إسرائيل، لأن هذه الوصية أُعطيت لكل البشر، والجوهري فيها أمران: (أ) أن يكون
السبت يوم راحة وانقطاع عن أمور الدنيا وملاهيها. و(ب) أن يُصرف في عبادة الله
والخدمة الدينية. وأما ما بقي من هذه الوصية فعرضيٌّ قابل للتغيير، فليس من
الضروري أن تكون علّة حفظه نجاة بني إسرائيل من مصر، ولا يجب علينا القيام بتفاصيل
الأمور التي يجوز عملها والتي لا يجوز، أو عقاب المخالفين بذات العقوبات. فنحن غير
مكلّفين مثلاً بالامتناع عن إشعال النار في السبت. وإن كان بنو إسرائيل قد احتفلوا
به تذكاراً لنجاتهم من عبودية مصر، فمن باب أولى يجب أن نذكر فداء العالم بواسطة
المسيح. وإذا كان من الواجب أن نذكر خلق العالم المادي على الدوام، فكم يجب أن
نذكر الخليقة الجديدة بقيامة المسيح من الموت. والعبادة في اليوم الأول من الأسبوع
(الأحد) هي الطريقة التي اختارها الله لدوام ذكر قيامة المسيح، التي يتوقف خلاصنا
عليها.

ولم
يحدث هذا التغيير في السبت من اليوم السابع إلى اليوم الأول لمجرد وجود السبب الذي
ذكرناه، لكنه حدث بسلطان كافٍ أيضاً، فإن المسيحيين (بإرشادٍ رسولي) كفّوا عن حفظ
اليوم السابع وحفظوا اليوم الأول للعبادة. وهذا برهان قوي على أن السبت فرض إلهي
دائم، وسبب دوام حفظه مقدساً منذ الخليقة إلى الآن هو سلطان الله وإرشاده الخاص.

أما
كيفية تقديس يوم السبت المسيحي، فقد اتفقت الكنيستان اليهودية والمسيحية على أن
تقديسه حسب الوصية لا يقوم بمجرد الانقطاع عن الأعمال العالمية، بل يشمل أيضاً
تخصيصه للخدمة الدينية. وصحة هذا القول ظاهرة من البراهين الآتية:

(1)
يدل الاتفاق العام بين شعب الله في العهدين القديم والجديد في تقديس السبت على
إفرازه من دائرة الأعمال العالمية إلى الأعمال المقدسة.

(2)
أمر الله بزيادة عدد الذبائح في خدمة الهيكل في السبت، مما يدل على وجوب حفظه
حفظاً دينياً.

(3)
كان الغرض من وصية السبت دينياً، وهو تذكار عمل الخليقة أولاً ثم قيامة المسيح.

(4)
ورد في اللاويين 23 جدول الأيام التي فيها يُدعى الشعب إلى المحافل المقدسة
والعبادة الجمهورية، وكان السبت أولها.

(5)
صدر أمر الله مكرراً بتعليم الشعب الناموس وقراءته في كل الأوقات المناسبة، وكان
هذا التعليم من أهم الأغراض المقصودة من تلك المحافل المقدسة التي منها محفل السبت
(تث 6: 6، 7، 17-19 ويش 1: 8). وكان ذلك من أهم واجبات اللاويين (تث 33: 10)
والكهنة (لا 10: 11 قارن ملا 2: 7). وكانت قراءة الناموس جزءاً مفروضاً من خدمة
جميع الأيام التي يجتمع الشعب فيها للعبادة، كما يظهر من قوله “حينما يجيء
جميع إسرائيل لكي يظهَروا أمام الرب إلهك في المكان الذي يختاره، تقرأ هذه التوراة
أمام كل إسرائيل في مسامعهم. اِجمَع الشعب، الرجال والنساء والأطفال والغريب الذي
في أبوابك، ليسمعوا ويتعلموا أن يتّقوا الرب إلهكم، ويحرصوا أن يعملوا بجميع كلمات
هذه التوراة” (تث 31: 11، 12). فكان هذا هدف جمع الشعب. ويتضح من العهد
الجديد أن الأسفار المقدسة كانت تُقرأ كل سبت في المجامع.

(6)
يظهر من وضع الوصية الرابعة في الوصايا العشر، والتنبير عليها في العهد القديم،
وطريقة ذكرها في كتب الأنبياء، وتعيين المزامير التي تُقرأ في ذلك اليوم عند
اليهود (لاسيما مز 92) أن السبت أُفرز منذ القديم للواجبات الدينية.

(7)
يظهر هذا أيضاً من كل العهد القديم، فكل طقوسه كانت دينية قُصد بها إبقاء معرفة
الإله الحقيقي وتهيئة الطريق لمجيء المسيح. فالقول إن أعظم أيامه المقدسة كان
للراحة من التعب الجسدي فقط يخالف هدف الديانة التي أعلنها الله بواسطة موسى.

ثم
أن الجميع يسلّمون بأن الوصايا العشر واجبة على الكنيسة في جميع القرون، ولو أن
التفاصيل في طريق حفظ الوصايا قد زالت. فالوصية الخامسة لا تزال توجب على الأولاد
طاعة والديهم، وأما الناموس اليهودي الذي يعطي الآباء سلطان الحياة والموت على
أولادهم فقد بطل. والوصية السابعة لا تزال تنهى عن الزنا، وأما امتحان المرأة
المتَّهمة بذلك بماء اللعنة (عدد ص 5) فقد مضى. وينطبق هذا المبدأ على تفسير
الوصية الرابعة، فإن الأمر نفسه لا يزال باقياً، وأما النواميس التي تتعلق بطريقة
حفظه فقد زالت بزوال النظام القديم الذي كانت هذه النواميس جزءاً منه.

ولنا
أمران نعرف منهما كيف يجب أن نحفظ السبت، وكيف نعرف ما يجوز وما لا يجوز فيه:

(1)
هدف الوصية: فما كان موافقاً له كان جائزاً، وما كان مخالفاً فممنوع. ونعرف هدف
الوصية من كلماتها، وهو أمران: (أ) الراحة من الهموم والأعمال العالمية، فتتوقف
المسؤوليات الدنيوية برهة من الزمان حتى لا تُنهَك عقول الناس وأجسادهم من التعب،
ويتيسر لهم الاهتمام بمصالحهم الروحية. و(ب) عبادة الله كما يجب ودرس كلمته
والتأمل في الأمور الأبدية التي لا تُرى.

ولا
شك أن مِن أهم أهداف السبت المسيحي تذكار قيامة المسيح من الموت، فوجب أن ننظر
بإمعان في هذا اليوم للمسيح، وإلى عمل فدائه، فنصرف اليوم في عبادته وشكره وحمده،
ودعوة الناس إلى قبول ما يعرضه عليهم من النعمة والفرح برجاء خلاصه. فهو يوم فرح،
ولذلك نهت الكنيسة الأولى عن الصلاة فيه بالركوع، وأمرت بالصلاة وقوفاً منتصبين متهللين
بكمال ما عمله الله لأجل فداء العالم.

(2)
ما نراه في وصايا المسيح ورسله وسيرتهم: فقد قال المسيح إن السبت جُعل للإنسان، لا
الإنسان للسبت. السبت “للإنسان” لا لليهود أو لأهل عصرٍ واحد أو لأمة
واحدة، بل “للإنسان” من حيث هو “إنسان” أي لكل البشر.

ونجد
أحياناً أن بعض الواجبات الدينية تتعارض مع بعضها. عند هذا يجب تفضيل الأهم على
المهم، فإن حياة الإنسان وصحته وخيره أفضل من التمسك الشديد بالخدمة الخارجية.
وهذا ما قصده النبي بقوله “إني أريد رحمة لا ذبيحة، ومعرفة الله أكثر من
محرقات” (هو 6: 6). واقتبس المسيح هذه العبارة مرتين تفسيراً لشريعة السبت،
فوضع لنا قاعدة أنه يجوز في السبت عمل كل ما تتطلّبه الرحمة، والاعتناء الواجب
بخيرنا أو خير القريب وبراحتنا وراحته، فصرّح بفعل الخير في السبوت (مت 12: 12 ومر
3: 4). وقال إن الكهنة في الهيكل يدنسون السبت وهم أبرياء (مت 12: 5) وأراد بذلك
أن خدمة الهيكل كانت جائزة في السبت مع أنها تكلف الكاهن عملاً متعِباً. وقال مرة
أخرى للمشتكين عليه “إن كان الإنسان يقبل الختان في السبت لئلا يُنقض ناموس
موسى، أفتسخطون عليَّ لأني شفيتُ إنساناً كله في السبت! لا تحكموا حسب الظاهر بل
احكموا حكماً عادلاً” (يو 7: 23، 24). فكل ما هو ضروري للعبادة الدينية أو
الحضور إليها جائز في السبت.

فهذه
الوصية تأمر بحفظ يوم الرب وتخصيصه للهدف منه، في عبادة الله الجمهورية والفردية
والصلاة ومطالعة كتابه والتأمل في حقه، والقيام بأعمال الرحمة للبشر والبهائم،
وتعزية الحزانى وزيارة المرضى وافتقاد المتغافلين عن واجباتهم الدينية لإيقاظهم،
والمتخاصمين لمصالحتهم، والمؤمنين لدراسة واجباتهم وخير كنيستهم. كما أن الوصية
تأمر بالانقطاع عن الأعمال المعتادة والانشغال بالمصالح العالمية والتنزهات للحصول
على المسرة الدنيوية التي تفرغ القلب من التفكير في الله وفي ما يجب علينا له.

وهذه
الوصية تنهى عن إهمال راحة يوم الرب بالأعمال غير الضرورية والتفكير والحديث في
الأمور العالمية التي لا علاقة لها بالروحيات، وعن السفر لغاية دنيوية، أو فتح
المخازن والبيع والشراء فيها، وفلاحة الحقول، والاشتغال بالزرع أو الحصاد
والتنزهات والزيارات الدنيوية والألعاب الجائزة في بقية الأيام.

11 – ما هي الوصية الخامسة، وبم تأمر، وعمَّ تنهى؟

*
الوصية الخامسة هي “أكرم أباك وأمك لكي تطول أيامك على الأرض التي يعطيك الرب
إلهك” (خر 20: 12). والمبدأ العام الذي تعلّمه هو أن نكرم من هم أرفع منا
مقاماً بما يليق بمقامهم وما يحق علينا لهم، كالإكرام والطاعة والشكر، حسب العلاقة
بيننا وبينهم. والآباء هم الأول في الرتبة والأهمية عند الأبناء. وقد كان حكم
الوالد عظيم الشأن في العصور القديمة، وهو أصل الأحكام المدنية في العالم. وفي
العهد القديم أقوال كثيرة تُثبت هذه الوصية (خر 21: 17 وتث 21: 18-21 و27: 16 وأم
20: 20). وكذلك في العهد الجديد، فإن المسيح كان خاضعاً لوالديه (لو 2: 51). وأمر
الرسول الأولاد أن يطيعوا والديهم في الرب (أف 6: 1) وأن يطيعوهم في كل شيء، لأن
هذا مرضيٌ في الرب (كو 3: 20) لأن هذه الطاعة أمر ديني وجزء من طاعة الله،
ويطيعوهم في كل ما يقع في دائرة السلطان الأبوي. ويتضح السلطان الأبوي من حقيقة
علاقة الوالد والولد، ومن الكتاب المقدس. وطاعة الوالدين شكر ومحبة قبل أن تكون
طاعةً لمَن لهم سلطان وضع الشرائع المدنية وإجراءها، ولا لأنهم أنبياء أو كهنة أو
أرباب ضمير يضبطون إيمان الأولاد ويحكمون لهم في مسائل الواجبات ويعفونهم مما
يتوجب عليهم للغير. ولما كانت هذه الطاعة خدمة محبة فليس لها حدود واضحة، فغاية
الأمر أنه يجب على الأولاد الخضوع لإرادة والديهم في كل شيء لا يناقض وصايا الله، فإنه
ينبغي أن يُطاع الله أكثر من الناس.

وكما
أن على الأولاد واجبات لوالديهم وطاعتهم، كذلك على الوالدين واجبات لأولادهم. وقد
ذكر الرسول خلاصة هذه الواجبات سلباً وإيجاباً فقال “أيها الآباء لا تغيظوا
أولادكم” (أف 6: 4). فلا يجوز أن يغيظوا أولادهم بالغضب أو القسوة أو الظلم،
أو التفريق في معاملتهم، أو في مطالبتهم بما لا يستطيعونه، أو الإفراط في استعمال
السلطان. ثم يقول “بل ربّوهم بتأديب الرب وإنذاره”. والتأديب يعني
التعليم، والإنذار للإصلاح. ولا بد أن يكون التأديب والإنذار مبنيّين على وصايا
المسيح، ليجريهما بكلمته وروحه، مستعملاً الوالد وسيلةً لذلك. فالمسيح يُجري هذا
التأديب والإنذار بأن يسوق الوالد إلى ذلك بواسطة روحه. وهذا المبدأ المسيحي في
تهذيب الصغار أمر جوهري حسب قول الرسول، فإن للإنسان طبيعةً دينية كما أن له طبيعة
عقلية، وإهمال الأولى يناقض تعليم الكتاب وحكم العقل، وإهمال الثانية يجعل كل
التهذيب تربية جسدية فقط. فإذا استنارت قوى الأولاد الأخلاقية والدينية ونمت كما
ينبغي، صاروا مستقيمين مفيدين سعداء. وتحتاج الأخلاقيات إلى التهذيب الواجب، كما
تحتاجها العقول والأجساد. ولا يتم التهذيب الديني إلا إذا دخل الحق في العقل وعمل
في الضمير. ويعلمنا الكتاب أن ابن الله الأزلي هو مخلِّص البشر الوحيد، وأن الناس
لا يخلُصون من سلطان الخطية إلا بالإيمان به وطاعته. فإذا لم يُربَّ الأولاد
بتأديب الرب وإنذاره ذهبوا مع الجماعة التي يألفونها، وانقادوا معها إلى الهلاك.

وتتضمن
هذه الوصية أيضاً الواجبات التي على الرعية للحكام المدنيين، حسب القول “اخضعوا
لكل ترتيب بشري من أجل الرب. إن كان للملك فكمن هو فوق الكل، أو للولاة فكمرسَلين
منه للانتقام من فاعلي الشر وللمدح لفاعلي الخير، لأن هكذا هي مشيئة الله”
(1بط 2: 13-15). وقد لخَّص بولس القول في الحكم السياسي وواجبات الرعية نحو الحكام
في أربعة أمور (رو 13: 1-5): (أ) أن كل سلطان هو من الله. (ب) أقام الله الحكام
السياسيين. (ج) مقاومة الحكام مقاومة لله، لأنهم خدّامه، يُجرون سلطانه بين الناس.
(د) طاعة الحكام أمر واجب على الضمير وجزء من طاعة الله.

ويظهر
مما تقدم ستة أمور:

(1)
الحكم السياسي فرضٌ إلهي، لا مجرد ترتيب بشري اختياري يُقام أو لا يُقام كما يشاء
الناس، ولا هو مبنيٌ على اتفاقية بين البشر، بل هو أمرٌ من الله. ولم يحدد الكتاب
للحكم السياسي صورة واحدة لا بد منها في كل زمان ومكان، بل ترك ذلك لعناية الله
واختيار الأمة. ولم يعيّن الله أسلوب الحكم، ولا عيّن الأشخاص الذين يمارسون
أموره، ولا فرض طريق تعيينهم، ولا حدد ما لهم من سلطان.

(2)
سلطان الحكام من الله، فهم خدّامه ونوابه. نعم إنهم ينوبون عن الملك أو الرئيس
الذي عيّنهم، أو عن الأمة التي اختارتهم ليُؤتَمنوا على هذا السلطان الذي فوَّضه
الله للبشر. ولكن ما يصدرونه من قوانين هو من الترتيب الإلهي، لأن الله شاء أن
تكون لهم تلك الوكالة.

(3)
طاعة الحكام وشرائع البلاد من الواجبات الدينية، فإننا مأمورون بالخضوع لكل ترتيب
بشري “من أجل الرب” أي احتراماً له (1بط 2: 13)، و”بسبب الضمير”
(رو 13: 5).

(4)
وجوب الطاعة لكل حاكم بغضّ النظر عن أصله وصفاته. وقد كُتبت وصايا الرسولين بطرس
وبولس أثناء حكم نيرون الذي أحرق المسيحيين. فيجب أن يُطاع الحاكم لأن سلطانه
مبنيٌ على إرادة الله المعلنة صريحاً في وقائع الأمور وفي كلمته، كما قال الكتاب “به
تملك وتقضي العظماء عدلاً” (أم 8: 15).

(5)
السلطان البشري مقيَّد، وهذا التقييد مقدَّر دائماً إذا لم يكن ظاهراً. فمثلاً
وصية “لا تقتل” مطلقة حسب ظاهرها تمنع القتل، على أن الكتاب المقدس يبيح
القتل أحياناً أو يجعله واجباً. وبنفس المنطق نقول إن هناك مبادئ تقيّد سلطان
الحاكم، منها أنه محصور في الدائرة الشرعية المختصة به، لأنه لما كان مُقاماً
لحماية الحياة والمال وحفظ النظام ومعاقبة فاعلي الشر ومدح فاعلي الخير، كان
سلطانه مقيَّداً بأعمال الناس الظاهرة، فليس له أن يتعرض لأفكار الناس الباطنة.
ومنها أيضاً أن ليس في سلطته أن يأمر بما فيه عصيان الله، لأن سلطانه من عند الله،
فلا يجوز استعماله ضد الله.

(6)
من المبادئ العامة في هذه المسألة أن كل إنسان يحكم لنفسه في الأحوال التي تجيز أو
توجب العصيان على الحكم المدني، فهذه مسألة متروكة للشخص، لأنه لما كان كل إنسان
مسؤولاً عن نفسه لله، وجب عليه دون غيره أن يحكم في أمرٍ مفروض: هل هو إثم أو لا؟
وعلى هذا حكم دانيال لنفسه، وكذلك شدرخ وميشخ وعبدنغو والرسل والشهداء. غير أن بين
العصيان والمقاومة فرقاً ظاهراً، لأنه قد يجب على الإنسان أن يعصى ناموساً أو
أمراً يدعوه إلى ارتكاب الخطأ، بدون أن يقاوم إجراءه. فقد أبى الرسل طاعة الرؤساء
والولاة، ولكنهم خضعوا للعقاب الذي وقّعوه عليهم. وكذلك عصى الشهداء المسيحيون
الشرائع التي أمرتهم بعبادة الأصنام، ولكنهم لم يقاوموا إجراء الشريعة.

وتشتمل
هذه الوصية أيضاً وجوب طاعة الكنيسة بحسب القول “أطيعوا مرشديكم واخضعوا لهم،
لأنهم يسهرون لأجل نفوسكم. اذكروا مرشديكم الذين كلّموكم بكلمة الله” (عب 13:
7، 17). وقال المسيح لتلاميذه إنه إذا كان الأخ المذنب يقاوم الوسائط المستعملة
للإتيان به إلى التوبة، فيجب أن يُشتكى إلى الكنيسة. فإن لم يسمع من الكنيسة فليكن
كالوثني والعشار (مت 18: 17). أما المبادئ التي تضبط طاعتنا للكنيسة فتشبه ما يضبط
طاعتنا للحاكم السياسي وهي:

(1)
الكنيسة المنظورة ترتيب إلهي، يجب على كل من يسمع الإنجيل أن يصير عضواً فيها
ويخضع لسلطانها.

(2)
كل سلطان كنسي من الله، وكل أصحاب الرتب الكنسية خدامه يعملون باسمه وسلطانه،
فتكون مقاومتهم مقاومةً للترتيب الإلهي.

(3)
كل حقوق الكنيسة الخاصة بها، وسلطان أصحاب الرتب فيها مذكورة في كلمة الله.

(4)
للكنيسة ثلاثة حقوق: (أ) تعليم جميع الأمم ما أعلنه الله في كلمته من واجبات الناس
في الإيمان والعمل. ولكن ليس لها سلطان يتجاوز حدود الإعلان الإلهي في الأسفار
المقدسة. (ب) ترتيب العبادة الجمهورية وإجراء وخدمة سرَّي المعمودية والعشاء
الرباني، وانتخاب أصحاب الرتب فيها، ومباشرة كل ما يلزم لأجل دوامها وامتدادها.
(ج) قبول الأعضاء وإجراء تأديب من يجب تأديبه منهم، ورفضهم حسب مقتضى الحال.

(5)
لما كانت الكنيسة قد انتظمت لهدفٍ معلوم، وكان سلطانها ناشئاً من الله، وجميع
حقوقها الخاصة مذكورة في الكتاب المقدس، وجب أن ينحصر سلطانها ضمن حدود مبادئ
الكتاب المقدس.

12 – ما هي الوصية السادسة، وبم تأمر، وعمَّ تنهى؟

*
الوصية السادسة هي “لا تقتل” (خر 20: 13) وقد فسّرها المسيح بمعنى أنها
تنهى عن البغض والمعاداة والضرر والخبث على أنواعه (مت 5: 21، 22) وعن كل ما يؤدي
إلى ما تنهى عنه صريحاً، فكما أنها تنهى عن القتل تنهى أيضاً عن كل الانفعالات
المُضرّة. وقد أعطى الكتاب مقاماً معتبراً لحياة الإنسان لأمرين: (أ) لأن الله خلق
الإنسان على صورته، فإنه يشبهه في جوهر طبيعته، وينوب عنه في الأرض. فإذا أهانه
أحد أو أضرَّه كان ذلك احتقاراً لله. (ب) إن جميع الناس إخوة من دم واحد وأولاد أب
واحد، فعلينا أن نحب جميع الناس، ونبذل كل جهدنا في وقاية حياتهم والسعي في نفعهم.
ولهذا يكون القتل أعظم كل الجرائم التي يرتكبها الإنسان انتقاماً من أخيه. ولما
كانت الوصية السادسة تنهى عن القتل بغضاً ومعاداة، كان من الواضح أن القصاص بالقتل
الذي أمر الله به (تك 9: 6) لا يدخل في النهي المذكور، لأنه لا يُقصد به الانتقام،
بل إرساء قواعد العدل وحماية أرواح الناس. وبما أن هاتين الغايتين جائزتان كان
قصاص القتل بالقتل جائزاً أيضاً، بل واجباً.

ومن
الواضح أن الوصية السادسة لا تنهى عن الدفاع عن النفس، لأربعة أمور:

(1)
ليس هذا القتل من باب البُغض، فلا يدخل في معنى النهي المذكور.

(2)
المحاماة عن النفس من الأمور الغريزية في طبيعتنا، فهي إعلان إرادة الله.

(3)
من أحكام العقل والعدل أنه إذا كان لا بد من موت واحد من اثنين، وجب أن يكون
للمعتدي لا للمعتدَى عليه.

(4)
الإنسان في حكم البشر العام وحكم كلمة الله بريءٌ إذا قتل آخر في المحاماة عن
حياته وعن حياة قريبه.

أما
الحرب فهي من أفظع الشرور، وأغلب الحروب في تاريخ البشر إثم محض. لكن لا نقدر أن
نقول على الإطلاق إن الحرب ممنوعة، لأن حقوق الدفاع تستلزم الحرب أحياناً. ويجب
على كل دولة وكل شعب أن يستعمل جميع الوسائط الممكنة والمناسبة لاجتناب الحرب.

ويدخل
في هذه الوصية النهي عن الانتحار أي قتل النفس وهو ذنب فظيع، لأن حياتنا ليست لنا،
فليس لنا الحق في إعدامها أكثر من إعدام حياة الغير. وكذلك يندرج في نهيها
المبارزة للقتل.

وتأمر
هذه الوصية بالانتباه لحفظ حياة أنفسنا وحياة غيرنا. وهذا يمنع الميل إلى التعدي
على الناس، ويوجب الاعتناء بصحتنا وصحة غيرنا، وبالمعاملة اللطيفة، وباحتمال
الإنسان اعتداء غيره عليه بالصبر والاجتهاد في رفع أسباب ذلك، دون استعمال العنف،
مع الاستعداد الدائم لإعانة كل من هو في خطر الموت.

13 – ما هي الوصية السابعة، وبِمَ تأمر، وعمَّ تنهى؟

*
الوصية السابعة هي “لا تزن” (خر 20: 14) وقد فسّرها المسيح بأنها تنهى
عن كل ما هو نجس بالفكر والقول والفعل (مت 5: 27-32). ولما كان صلاح المجتمع في
الطهارة يتوقف على اللياقة في علاقة الذكور والإناث، ولما كان خير الجميع الناس
ونقاوة الكنيسة ونجاح الديانة يتوقف على احترام العائلة، كانت المحافظة على سلامة
العلاقة التي وضعها الله بين الجنسين في غاية الأهمية. ولا يُفهم من هذه الوصية أن
لحياة العزوبة فضلاً خاصاً، لأنه لو صحّ ذلك لكان خلْق الإنسان ذكراً وأنثى خطأً
من الله! والكتاب في كلا العهدين يكرم الزواج غاية الإكرام ويعتبره نظاماً إلهياً
وضعته الحكمة الإلهية لغاية حسنة، وهو بركة فائقة لجنسنا. والقانون الأصلي الدائم
فيه أن يكون بين رجلٍ واحد وامرأة واحدة. وهو اقتران لا يجوز انفكاكه إلا بالموت
أو لسبب آخر ذكره المسيح. وما يظهر في الكتاب أنه عدولٌ عن هذا القانون كاتّخاذ
نساءٍ كثيرة في العهد القديم هو بسماحٍ من الله لأسباب وقتية، ولكن القانون
السماوي والأمر الإلهي واضحٌ من البدء. وقد ثبَّت المسيح القانون الأصلي (مت 19:
3-9 ومر 10: 4-9 ولو 16: 18 ومت 5: 32). ولا يجوز لطرفٍ أن يتزوَّج بعد الطلاق إلا
إن كان طلاقه لعلة الزنا (مت 5: 31، 32 و19: 3-9 ومر 10: 2-12 ولو 16: 18). لكن
يستنتج من تعليم بولس جواز الانفصال بدون حرية الزواج لأسباب أخرى (1كو 7: 10-15).

وهذه
الوصية تأمر بتمام الاحترام لعهود الزواج، والعدول عن كل مخالفة لها بالفكر والقول
والفعل، وأن نحفظ قلوبنا وأجسادنا من كل نجاسة، وأن نجتنب كل ما يُفضي إلى ذلك من
أحاديث الخلاعة أو المعاشرة المجونية ومطالعة الروايات العشقية والأغاني السفيهة
والصور النجسة، وأن نختار عِشرة أصحاب العفة والحشمة، ونفضل الطاهرين على غيرهم.

وتنهى
هذه الوصية عن الزنا والفسق والفحش الطبيعي وغير الطبيعي على جميع أنواعه.

14 – ما هي الوصية الثامنة، وبم تأمر، وعمَّ تنهى؟

*
الوصية الثامنة هي “لا تسرق” (خر 20: 15) وهي عماد المحافظة على حقوق
الممتلكات، وحق تصرف الإنسان بماله وليس لآخر حق في ذلك. وأساس هذا الحق إرادة
الخالق، وهي الضمانة الوحيدة للفرد وللجمهور، لأنه لو بُني على أساس آخر لكان
متزعزعاً.

وأنواع
التعدي على الوصية الثامنة كثيرة، وقد اكتنف الخطر العظيم مجتمعنا بسبب انتشار
الخداع والسرقة على أنواعها بين الجمهور. لأنه إذا كانت الوصية تنهى عن تخصيص مال
الغير لخدمتنا أو فائدتنا بطريقة تخالف الاستقامة أو العدل، وكان ذلك التخصيص سرقة
في عيني الله، كانت السرقة أخطر تعدٍ على الوصايا العشر. وهذا التعدي لا ينحصر في
السرقة المعروفة التي يستطيع الحاكم إظهارها والمعاقبة عليها، بل يشمل أموراً أخرى
نذكرها الآن بالتفصيل وهي:

(1)
جميع أنواع الخداع في المعاملات، مثل وصف شيء معروض للبيع بغير ما هو في الواقع.
والأقبح من ذلك بيع شيء على أنه سليم صحيح وهو سقيم أو مزوّر.

(2)
الاحتيال على الإنسان بناءً على جهله أو احتياجه، فإذا باع رجلٌ شيئاً يعلم أن
قيمته أقل مما يحسبها المشتري، فذلك سرقة. وإذا عرف إنسان خسارة شركة مصرفية أو
إفلاس جمعية تجارية، واغتنم هذه المعرفة فباع أسهمها لمن يجهلون حقيقة الأمر، فقد
ارتكب السرقة، لأن “لا تسرق” نهيٌ عام عن أخذ مال الغير بطرق ملتوية.
وكذلك كل أنواع الاحتيال لرفع أسعار بضائع التجارة أو خفضها، كإشاعة الأخبار
الكاذبة التي من شأنها رفع السعر أو خفضه، وكشراء كل الإنتاج لرفع الثمن كما يقول
سفر الأمثال “محتكر الحنطة يلعنه الشعب، والبركة على رأس البائع” (أم
11: 26). ومن هذا أيضاً انتهاز الفرصة عند احتياج الغير وطلب ثمن فاحش لما يكون
مضطراً إليه.

(3)
سلب أملاك الناس بناءً على مجرد خطأ شرعي فيما يثبت ملكيتهم لها، وقد ينشأ هذا
الخطأ عن جهل، أو عن فقد الصك الشاهد على حقهم، بالغرق أو النار أو السرقة أو لسبب
آخر. ومن يغتنم حدوث خطأ كهذا ليحرز مال الغير يخالف وصية “لا تسرق” أي
لا تأخذ ما ليس لك في عيني الله. ومن هذا القبيل أيضاً المضاربة حيث ينتهز الذكي
عدم انتباه الغافل ويسلب ماله بلا عوض. ولا نهاية لأنواع الحيل والمكر.

وهذه
الوصية تأمر بالأمانة والاستقامة والعدل في كل الأعمال التجارية، فالواجب علينا أن
نعطي كل ذي حقٍّ حقه في كل حين، وأن نجتهد في عملنا الخاص لنقوم بحاجاتنا وحاجات
من لنا، بدون أن نثقل على غيرنا بسبب الكسل (2تس 3: 6-10). وأن نحافظ على حقوق
غيرنا في ما يختص بالممتلكات، وأن نعتزل اختلاس شيء ليس لنا، وأن نسلك بالأمانة
التامة في كل ما وُكل إلينا، وأن نعدل عن الربح بوسائط اغتصابية أو خداعية أو
خارجة عن المألوف الجائز ومقتضى الإنسانية.

وهذه
الوصية تنهى عن الربا الفاحش، وعن الشراء والبيع بالغش أو بموازين الغش ومكاييله،
وعن إفساد الطعام بخلطه بمواد رخيصة أو ضارة، أو مساعدة الآخرين على السرقة أو
قبول أموال مسروقة وتخبئتها، أو التجارة بالعبيد، أو اختلاس أملاك غيرنا أو
أموالهم بالتحايل على القانون، أو رشوة القضاة وأرباب الحكم، أو تغيير حدود
الممتلكات، أو الظلم أو الاختلاس في جمع الضرائب أو التهرُّب من دفعها، وكل تزوير
في الحسابات المالية، وخيانة في مسؤولية الوكالة، وتحويل أملاكنا إلى يد الغير
لنتخلّص من تأدية ديوننا، والتأخر عن رد ما قد أخذناه من غير حق، وعن عدم رد
المستعار، والسرقة الأدبية، أي نشر ما لغيرنا من المؤلفات كأنها تأليفنا.

15 – ما هي الوصية التاسعة، وبم تأمر، وعمَّ تنهى؟

*
الوصية التاسعة هي “لا تشهد على قريبك شهادة زور” (خر 20: 16). وهي تنهى
عن كل ما يخالف الصدق. وأقبح أنواع هذا الخطأ شهادة الزور على القريب. والوصية
تشمل كل أنواع الغش والخداع والكذب.

والصدق
من الأمور الواجبة في كل زمان، لأنه من صفات الله الصادق الأمين، وكل ما يخالفه أو
يناقضه يناقض الطبيعة الإلهية نفسها. فالصدق أساس جميع الكمالات الإلهية.

وأما
أنواع الخطأ التي تحرمها الوصية التاسعة فاثنان:

(1)
الكذب على جميع أنواعه، وهو كل ما يخالف العدل والحق بهدف إفساد صيت القريب الحسن.
وأقبح مثال للكذب شهادة الزور في المحاكم، وهو يتضمن الخبث والكذب والاستهزاء
بالله. ولما كان هذا الذنب ينتهك حرمة الصيت والمال والحياة نفسها، وجب ألا نسكت
عنه. ومن هذا النوع ذكر عيوب الناس في غيابهم، وهم لا يقدرون أن يدافعوا عن أنفسهم
(وهي النميمة). ومن هذا النوع أيضاً الوشاية (لا 19: 16).

(2)
كل ما يخالف نواميس الصدق. ويشمل الكذب على أنواعه، وهو الإخبار بغير الصحيح. وقد
تقوم فيه الإشارة مقام الكلمة، مثلاً إذا سُئل شخص عن الطريق إلى مكان معلوم وأشار
بيده إلى غيرها، فهذا كذب، كما لو أنه أضلَّ السائل بصريح اللفظ. ولكن قد يكون
الإخبار بغير الصحيح عن جهل أو خطأ غير متعمَّد، وفي هذه الحالة لا يكون كذباً.
ولذلك عرَّف بعضهم الكذب بأنه “الإخبار بالشيء على خلاف ما هو في الواقع، مع
العلم به، وبقصد ونيَّة الخداع”. وقيل إن الكذب لا يجوز أبداً حتى أن تضحية
الإنسان بحياته هو أو غيره لأجل الحق أفضل جداً من شهادة الزور على الله. ولذلك لم
ينكر الشهداء المسيح، ولم يتظاهروا بالإيمان بآلهة كاذبة ليخلّصوا حياتهم أو حياة
إخوانهم، لأن وجوب كلام الصدق كان واضحاً في نظرهم.

وقد
قسم القديس أغسطينوس الكذب إلى ثمانية أنواع، لكن أكثرها لا يختلف عما سواه إلا من
حيث الموضوع أو النتيجة. وقسم توما الأكويني الكذب إلى ثلاثة أنواع: الخبيث
والخيري والهزلي:

(1)
فالكذب الخبيث يشمل جميع أنواع الكذب التي تصدر من قلب رديء بغاية رديئة. ويدخل في
هذا القسم “الحجز العقلي” وهو قول اشتهر به الآباء اليسوعيون الذين
وضعوا ثلاث قواعد هي: (أ) تعود صفة العمل الأخلاقية إلى النيَّة فقط، فإذا كانت
النية صالحة كان العمل صالحاً، ولو كان من الجرائم. ولكن نقول: لو أخذ العمل صفته
الأخلاقية من النية لجاز القتل لأجل خير الكنيسة! (ب) “الأرجحية” بمعنى
أنه إذا ترجح أن العمل حلال لا يكون هناك خطأٌ في ارتكابه، حتى لو اعتقد الفاعل
أنه حرام. وعندهم أن العمل يكون حلالاً بالترجيح إذا وقع خلاف فيه بين رجال علم
الأخلاق. (ج) يجوز أن يُقسِم الإنسان أنه لم يعمل ما قد عمله، بشرط الإضمار في
نفسه (مع الإخفاء عن السامع) أنه مثلاً لم يعمله عشر سنين قبل الوقت الحاضر! وقِس
على ذلك. ولكن واضح أن هذه القواعد الثلاث باطلة، لأنها تبيح الكذب الذي ينهى عنه
ناموس الله.

(2)
والقسم الثاني الكذب الخيري، وهو ما يُرتكب لأجل غاية صالحة، وأمثلته ما يُقال
للمرضى تعزية أو تشجيعاً، وما يُقال في فحص الجنايات لكشف المجرم، وما يُقصَد به
دفع الشر أو نوال الخير لأنفسنا أو لغيرنا. ولكن الكذب الحقيقي هو الإخبار بما هو
غير صحيح بنية الخداع. فالمسيحي مثلاً الذي يسأله الحاكم الوثني إن كان مسيحياً،
ملتزم أخلاقياً بالجواب الصادق أو بالسكوت. أما القول إن الكذب النافع خطأ عرضي
فمبني على أن العمل بالنية. على أن الكتاب المقدس وضع القانون النهائي، وهو أن
الدينونة عادلة على كل من “يفعل السيئات لكي تأتي الخيرات” (رو 3: 8).

16 – ما هي الوصية العاشرة، وبم تأمر، وعمَّ تنهى؟

*
هي “لا تشته بيت قريبك. لا تشته امرأة قريبك ولا عبده ولا أَمَته ولا ثوره
ولا حماره، ولا شيئاً مما لقريبك” (خر 20: 17).

(1)
النوع الأول من الشر الذي تنهى عنه هذه الوصية هو اشتهاء ما ليس لنا، خصوصاً ما
للقريب. وهذا يعني القناعة والرضى بما أعطانا الله. وتنهانا الوصية عن التذمر
والشكوى، وعن حسد الغير على حُسن أحوالهم أو كثرة أموالهم. غير أن الأمر بالقناعة
لا يوجب الكسل، لأن الاجتهاد واجب في تحصيل خيرات هذه الدنيا واستعمال الوسائط
الحلال لتحسين الأحوال.

وليس
للقناعة أساس راسخ في العقل إلا التقوى، لأن التسليم للقضاء المحتوم ليس من باب
الرضى، بل هو عدم مبالاة ويأس. ونحن نؤمن بإله حقيقي غير محدود في القدرة والحكمة
والمحبة، وبأنه يعتني بكل المخلوقات وكل الحوادث، وبأنه يقضي بأعظم خير لكل شخص
بمفرده ممن يتكلون عليه ويخضعون لإرادته. وهذا يرضينا بما أعطانا. وإذا تأملنا
تعاليم المسيحية في هذه المسألة وعرفنا إن الذي يُجري هذا الحكم العام هو المسيح
الذي دُفع إليه كل سلطان في السماء والأرض، عرفنا أن الذي يقسم نصيبنا هو الذي
أحبنا وبذل نفسه عنا، وهو الذي يسهر على شعبه كما يسهر الراعي على قطيعه، حتى أنه
لا تسقط شعرة من رؤوسنا بدون إذنه. وإذا نظرنا للمستقبل الأبدي الذي أعدَّه لنا
عرفنا أن أحزان هذه الحياة لا تُقاس بالمجد الذي سوف يُستعلن فينا، وأن خفّة
ضيقتنا الوقتية تنشئ لنا ثقل مجد أبدياً، فترتفع قناعتنا إلى سلام يفوق كل عقل، بل
إلى فرح مملوء بالمجد. وكل ذلك ظاهر في تاريخ شعب الله. قال بولس الرسول “تعلّمتُ
أن أكون مكتفياً بما أنا فيه” (في 4: 11). وقال أيضاً “أُسرّ بالضعفات
والشتائم والضرورات والاضطهادات والضيقات لأجل المسيح” (2كو 12: 10). وهذا هو
اختبار آلاف المؤمنين في كل العصور. فخيرٌ للإنسان أن يكون مثل لعازر من أن يكون
كالرجل الغني (لو 16: 19-31).

(2)
النوع الثاني من الشر الذي تنهى عنه هذه الوصية هو الحسد، وهو اشتهاء ما ليس
عندنا، كما أنه يتضمن الأسف على تمتع الغير بما حُرمنا نحن منه، والشعور بالبغض
لمن هم أفضل منّا حالاً، واشتهاء نزع ما يتميّزون به عنا. وهذا يسبب عذاب النفس
وضياع كل ما فيها من السلام. ولهذه الخطية درجات كثيرة، تبدأ من السرور عند وقوع
المصائب بالغير، أو اشتهاء حلول الشر بهم، أو نزولهم إلى حالة مساويةٍ لحالنا،
وتنتهي إلى بُغض السعداء بسبب سعادتهم، والعزم على أذاهم إذا أمكن. قال أحد
الفلاسفة “يسرُّ كل إنسان باطناً بمصائب الناس ولو كانوا من أعز أصدقائه!”.
ولما كان الحسد منافياً للمحبة، كان أكثر الخطايا مخالفة لطبيعة الله.

(3)
النوع الثالث الذي تنهى عنه هذه الوصية هو شدة محبة المال. والشخص الذي يجعل حب
المال هدفه الأول يصير طماعاً، قال فيه الرسول إن الاشتهاء أصل كل الشرور، لأن
الطمع يؤدي للدناءة والغش والخداع، حتى القتل! ويتعرض المشتهي لخطرٍ دائم. قال
الكتاب في محب المال: (أ) إنه لا يقدر أن يدخل السماء (1كو 6: 10). (ب) إنه عابد
الأوثان (أف 5: 5) فالمال إلهه. (ج) إن الله يكرهه (مز 10: 30).

ومن
فوائد هذه الوصية أنها كانت الواسطة التي ساقت بولس الرسول إلى معرفة الخطية، فقال
“لم أعرف الشهوة لو لم يقل الناموس: لا تشته” (رو 7: 7) فإن أكثر
الوصايا الأخرى تنهى عن أعمال ظاهرة، وأما هذه فتحرم حالةً داخليةً قلبية. ويتضح
منها أن الطاعة الخارجية لا تقوم بما يطلبه الناموس، وأن الله ينظر إلى القلب،
ويمدح أو يذم ما انطوت عليه النفس من المشاعر والأهداف، وأن الإنسان قد يكون
فريسياً نقياً في الظاهر، ولكنه كالقبر المبيَّض المملوء عظام أموات وكل نجاسة.

ويواجهنا
سؤال: هل الشهوة خطية؟ ونعني بالشهوة ميل الإنسان بطبعه إلى الخطية، حتى إن كان
متجدِّداً. قال بولس “لم أعرف الخطية إلا بالناموس، فإني لم أعرف الشهوة لو
لم يقُل الناموس لا تشته” (رو 7: 7) وهذا يعني أن الشهوة تقود إلى الخطية.
والوصية تنهى عن الشهوة، وهي ممنوعة في القلب وإن لم تتحول عملاً. وعلى ذلك يكون
نهي هذه الوصية يشمل أشواق القلب السرية التي تسبق أعمال الإرادة وتستقل عنها.
فالخطية التي كشفها بولس في قلبه بواسطة هذه الوصية لم تكن خطية ظاهرة مرتكبَة، بل
خطية الاشتهاء لما هو محرَّم.

وهذه
الوصية تأمر بالاقتناع بحالنا بدون التعدي على حقوق القريب ومقتنياته، وبدون حسد،
بل بأن نعزز شرفه وسعادته وسلامته وجميع أحواله الحسنة وأملاكه الشرعية.

17 – ماذا يجب أن يكون شعورنا عند مطالعة شريعة الله الأخلاقية؟

*
يجب أن يكون شعور التواضع، لأننا نسمع مجد الله الأخلاقي وقداسته واتساع سلطان
شريعته التي تكشف أعماق القلب، وتحكم على كل الخطايا السرية كما تحكم على الظاهرة،
وتطلب الخضوع الكامل لإرادته، وكل الاجتهاد في القيام بمطالبه. ولا يمكن أن نقوم
بمطالب الشريعة كما ينبغي في هذه الحياة، فإن رجاء التبرير بالناموس متعذرٌ بل
مستحيل. فيجب أن نشكر الله على نيابة المسيح عنا في إتمام تلك الشريعة، واحتماله
القصاص الذي أوجبته علينا، فإنه بذلك أعدَّ لنا براً كاملاً نتبرر به مجاناً “لأن
غاية الناموس هي المسيح للبر لكل من يؤمن” (رو 10: 4) “لأنه كما بمعصية
الإنسان الواحد جُعل الكثيرون خطاةً، هكذا أيضاً بإطاعة الواحد سيُجعَل الكثيرون
أبراراً” (رو 5: 19).

18 – ما هي علاقة المسيحي المؤمن بشريعة الله؟

*
هي أن تلك الشريعة لم تزل قانون حياته الصالحة. على أن تبريره وخلاصه ليسا بها، بل
بالنعمة. وعلاقة المؤمن في العهد المسيحي بتلك الشريعة قائمة بصفتين مهمتين، وهما
الحرية وطاعة المحبة. فكل مسيحي بالحق تحرّر بناموس روح الحياة في المسيح يسوع من
ناموس الخطية والموت (رو 8: 2). وهو يقدر بقوة روح الحياة أن يطيع، لأنه يساعده
ليصير (وهو تحت الناموس الأخلاقي) تحت ناموس الحرية (يع 1: 25). فهو يجتهد أن يعمل
مطالب الله من تلقاء نفسه وبحريته، لمجد الله، حتى يكون روح طاعته هذه بالمحبة
والرغبة القلبية إكراماً للرب وحباً له ولشريعته. وتلك المحبة هي غاية ما يقصده
الناموس في الإنسان “تحب الرب إلهك من كل قلبك ومن كل نفسك ومن كل فكرك، وتحب
قريبك كنفسك. بهاتين الوصيتين يتعلق الناموس كله والأنبياء” (مت 22: 37-40) “فالمحبة
هي تكميل الناموس” (رو 13: 10). فإذا وُجدت المحبة في قلب الإنسان، تعمل
باجتهاد وغيرة لتكميل الشريعة الإلهية، ولا تكتفي بالطاعة الخارجية بل تطلب الطاعة
القلبية الخالصة.

19 – ماذا قال المسيح ورسله في أحكام الوصايا العشر الأخلاقية؟

*
أثبت المسيح والرسل تلك الأحكام ووسعوا دائرتها لتشمل كل الواجبات التي يلتزم بها
الإنسان في العهد المسيحي، ولاسيما الواجبات للمسيح باعتباره نبياً وكاهناً
وملكاً. وإذا أردنا تكميل شريعة الواجبات الأخلاقية للمؤمن من بعد تجسد المسيح
وكفارته وإقامة الكنيسة المسيحية وإرسال الروح القدس، فعلينا أن ننظر إلى أقوال
المسيح ورسله في تلك الواجبات، فلا نرى فيها اختلافاً مع المعاني الروحية للوصايا
العشر. بل نراها توسّع دائرة الوصايا العشر لتشمل الواجبات الأخلاقية الناشئة عن
عمل الفداء وإقامة الديانة المسيحية والكنيسة المنظورة. وتنحصر هذه الواجبات في
قسمين:

(1)
ما يختص بالمسيحي باعتباره مؤمناً، بغضّ النظر عن علاقته بالكنيسة وبالعالم: أي
الواجبات الشخصية، فيشمل أموراً مختلفة نذكر منها: (أ) الواجبات المتعلقة بالرجوع
إلى الله، كالتوبة والإيمان والتسليم لسلطان المسيح واحترام تعاليمه وطاعة أوامره،
وقبوله معلماً وفادياً وملكاً (مت 3: 8 وغل 5: 22). (ب) الواجبات المتعلقة بأهداف
القلب المتجدِّد، كطلب مجد الله في كل أعمالنا، والاجتهاد في إرضائه، والحياة
المخصَّصة لخدمة المسيح، كما قال الرسول “لأن لي الحياة هي المسيح” (في
1: 21) وإنكار الذات في سبيل إتمام ذلك (لو 9: 23) والاقتداء بالمسيح “اتبعني
أنت” (يو 21: 22). وطلب كمال أفكارنا وأقوالنا وأعمالنا (مت 5: 48 و1يو 2: 1
و3: 7 ورو 8: 4 و2كو 7: 1 وفي 2: 15 و3: 12، 13). (ج) الواجبات المتعلقة بمحاربة
الشيطان وتجاربه، ومن ذلك الاجتهاد في خلع الإنسان العتيق ولبس الجديد (كو 3: 9،
10) وإبادة أعمال الجسد وإحياء ثمار الروح (غل 5: 17-23) والسلوك بالروح لئلا نكمل
شهوة الجسد، وبذل الجهد في مقاومة التجارب المتنوعة داخلية أو خارجية، ورفض غرور
العالم وسلطان رئيسه. وتتم هذه المحاربة بالمقاومة الشديدة للشيطان وجميع جنوده (أف
6: 12) وبصلب أنفسنا مع المسيح وإماتة شهواتنا الجسدية (كو 3: 5 وتي 2: 11، 12)
وضبط أنفسنا فكراً وفعلاً لئلا نُحزن الروح القدس (أف 4: 30 و1تس 5: 19) والسهر
الدائم بالصلاة لنكون مستعدين دائماً (مت 26: 40، 41 و1بط 4: 7) وأن نداوم على كل
ذلك بجراءة وصبر ووداعة ورجاء إلى النهاية (1كو 16: 13 وأف 6: 10 ويع 1: 4 ورو 12:
12 وفي 4: 8). (د) الواجبات المتعلقة بخدمة المسيح ومنها إكرامه باعتبار أنه
سيدنا، وعمل كل شيء باسمه (يو 13: 13 وكو 3: 17) والشعور باحتياجات إخوتنا الذين
مات المسيح لأجلهم وأمرنا أن نهتم بمصالحهم الروحية والجسدية بكل أمانة ومحبة
وإنكار ذات وتواضع وغيرة (يو 12: 26 و13: 15 ورو 12: 3 وفي 12: 20، 21 وتي 2: 10
و1كو 9: 17 و6: 20 و2تي 2: 21 ولو 19: 13). (ه) الواجبات المتعلقة بالعبادة
الدينية والتسبيح والصلاة، وهي تتضمن تقديم أنفسنا وأجسادنا ذبيحة حية للرب، وتقديم
العبادة له بكل وقار قلبي بالتسابيح والتشكرات والتضرعات الجمهورية والعائلية
والفردية، لخلاص أنفسنا وخلاص غيرنا، والتأمل في حقه وطلب الاقتراب إليه والاتحاد
به (رو 12: 1 ومز 150: 1، 2 و2كو 9: 15 و1تس 5: 18 ولو 18: 1 وأف 6: 18 وفي 4: 6
ومت 6: ، 9 ومز 19: 14).

(2)
أما القسم الثاني فهو الواجبات التي تختص بالمسيحي في علاقته بالكنيسة والعالم:
ويشمل: (أ) الواجبات المتعلقة بالعضوية الكنسيَّة، بالانضمام إلى شركة الكنيسة
وطاعتها في كل ما يوافق نصوص الكتاب، وحضور اجتماعاتها الأخوية، ومعاشرة الإخوة في
الرب باللطف الأخوي، ومساعدتهم في ضيقاتهم وتعزيتهم في أحزانهم ومساعدتهم على
أثقالهم (لو 22: 19 و1كو 11: 25 وعب 10: 25 و13: 17 وكو 3: 16 وغل 6: 2 و2كو 6:
14-18) وأن يكون الإنسان خادماً غيوراً للمسيح في نشر بشرى الخلاص وإتمام واجباته
في الأعمال الخيرية ومساعدة جميع المشروعات الكنسية لعمل الخير وبنيان النفوس في
التقوى (1كو 13 ورو 14: 7 وفي 2: 5، 13، 21 وأف 4: 15، 16). (ب) الواجبات المتعلقة
بالزيجة والعائلة، فتكون الزيجة بين رجل واحد وامرأة واحدة بكل طهارة ومحبة (مت
19: 6 ومر 10: 6-8 وأف 5: 22، 25) وأن تكون تربية الأولاد بمخافة الرب، في تعليمهم
واجباتهم الدينية وإرشادهم باللطف والمحبة وتربيتهم لخدمة الرب بكل أمانة (1تي 5:
8 وأف 6: 1، 4) وأن يكون التعامل في البيت بلياقة متبادلة بين السادة والخدام (كو
4: 1 وتي 2: 9، 10). (ج) الواجبات المتعلقة بالأعمال التجارية، ومنها أن نحفظ الوصية
الثامنة “لا تسرق” بكمال معناها، وأن نجتهد في كل عمل نقوم به، غير
متكاسلين (خر 20: 15 ورو 12: 11 وأف 4: 28 و2تس 3: 10). (د) الواجبات الإنسانية من
السعي في نفع الجميع، ومعاشرتهم باللطف واللياقة والصبر وطول الأناة، والشفقة على
الفقراء والمساكين والإحسان إليهم، والتصرف دائماً مع الكل بالعدل والإنصاف والصدق
والإخلاص والاستقامة والصفح (رو 13: 8 و1بط 2: 17 و3: 8 ومت 5: 43، 48 و1يو 3: 16
ومت 7: 12). وخلاصة كل ذلك في ما يُسمى بالقانون الذهبي “كل ما تريدون أن
يفعل الناس بكم افعلوا هكذا أنتم أيضاً بهم” (مت 7: 12). (ه) الواجبات
المتعلقة بعلاقتنا بالحاكم المدني، ومن ذلك أن نكرمه ونطيعه ونعطي ما لقيصر لقيصر
(مت 22: 21) وأن نطلب خير الوطن وارتقاءه في كل الروحيات والماديات.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى