علم المسيح

الفصل الخامس



الفصل الخامس

الفصل
الخامس

جثسيماني

+”
الذي حمل هو نفسه خطايانا في جسده على الخشبة، لكي نموت عن الخطايا فنحيا
للبر” (1بط 24: 2)

+
هكذا المسيح أيضاً، بعد ما قُدِّم (للموت) مرَّة لكي يحمل خطايا كثيرين.”
(عب 28: 9)

 

147- المسيح
يصلِّي ليعد نفسه للتسليم

إن
أعنف صلاة سُمع بها لدى كل البشر لا تبلغ عنف صلاة جثسيماني.

والكل
يندهش ويتعجَّب، والبعض يشك ويسأل ويتعثَّر: هل من هدوء العشاء الأخير تخرج هذه
الصلاة التي تبعتها فوراً؟ هل تعبيرات المحبة والسلام: “إذ كان قد أحبَّ
خاصته الذين في العالم، أحبَّهم إلى المنتهى” (يو 1: 13) التي قالها المسيح
وهو جالس على العشاء، أو هل تعبيرات الألفة والحب المنقطع النظير لتلاميذه في جلسة
العشاء الحبي: “شهوة اشتهيت أن آكل هذا الفصح معكم قبل أن أتألَّم” (لو
15: 22)؛ تأتي بعدها صلاة جثسيماني بدموع وعرق يتقطَّر كالدم، ووجه مسبَّخ على
التراب “بصراخ شديد ودموع” (عب 7: 5)؟ كيف ولماذا؟ هل هو خوف من الموت؟
وهل كان المسيح لاهياً عنه كل أيام حياته السابقة مع أنه ذكره مراراً وتكراراً؟ ثم
فجأة لمَّا قربت ساعة الموت ارتعب، أهذا يكون المخلِّص؟ إنه حتماً إذا لم يكن لهذا
الفزع المرعب- “نفسي حزينة جداً حتى الموت” (مت 38: 26)- مبرِّر،
فجثسيماني كلها ليس لها مبرِّر!!

إذن،
فعلينا مراجعة أوراقنا وكلماتنا، فمحور الصلاة الحزينة الكئيبة الضاغطة على النفس
في جثسيماني كان شيئاً واحداً وهو الكأس؟ هذا هو الذي أفزعه وأحسَّ أنه غير قادر
على شربه حتى ولو كان بيد الآب!! طلب ثلاث مرات أن يجوز عنه هذا الكأس وكان طلبه
مشفوعاً بدموع وتوسلات ونفس حزينة حتى الموت. هل كان هذا خوفاً من الموت؟ فلماذا
أخلى ذاته وأخذ شكل العبد؟ ولماذا أطاع حتى الصليب إن كان يفزع من الموت، ويقدِّم
دموعاً كالدم ليُعفى منه؟ ولماذا وهو يكرِّر في كل المناسبات أن ابن الإنسان سوف
يُقتل، فإن كان والأمر كذلك- أي أنه يخاف من الموت- فلماذا لم يستعفِ من البدء
وكفانا هذه الفضيحة!؟

أمَّا
سر فزعه فرهيب! وهو كفيل أن يزلزل، لا الأرض كلها، بل والسماء! ففي الكأس مذاب سم
زعاف، كل خطايا الناس من: زنا وقتل وتجديف وعهارة ونجاسة وفجور وفحشاء، أشياء
تُكتب وأشياء لا تُكتب محفوظة في سجلات جهنم. هذه كلها ظهرت مرَّة واحدة أنه
يتحتَّم أن يقبلها المسيح الابن ويشربها حتى الثمالة ويقف أمام الله أبيه مفضوحاً،
ليس مَنْ يستر عورته أو يرد عنه خجله كمجدِّف على مجد الله الآب، كيف؟ ومَنْ
يستطيع؟ أن يموت، نعم وألف نعم، ولكن أن يموت على هذه الحال مرفوعاً على خشبة
العار كمجدِّف على الآب؟ كيف وهو الطاهر القدوس الذي لم يوجد في فمه غش ولم تُمسك
عليه خطية قط. أين توضع عليه هذه؟ وإن حملها في جسده ليقف بها أمام محكمة
الأرض وأمام الديان ليُعطي جواباً عنها، فلا إجابة! وأن يُحكم عليه بمقتضاها فلا
يستعفي ولا يبرِّئ نفسه ولا يحتج على محكمة ولا على قاضٍ، ويقف صامتاً تماماً لا
يجيب حتى تخرج عليه القضية كما خُطِّط فيها من خطايا وتعديات، ويُجرّ إلى الصليب
كنعجة تحت يد الذي يجزّها ليتحمَّل الضربات القاسية كمَنْ يستحقها، لا يقول كفى
ولا يستعفي من آلامها!! ويُسحب إلى الصليب ويُصلب، وهو لا يفتح فاه إلاَّ بقوله قد
أُكمل!!

هذا هو الكأس، ليس هو موت بعد بل عار فوق عار، كل خطايا
البشرية وفضائح بني الإنسان التي سُجِّلت والتي لم تُسجَّل، حملها كلها ليموت بها
كلها موت الخطاة. هذه هي التي كسرت نفسه قبل أن ينكسر الجسد على الصليب، وأحزنته
حزن الموت أعمق من الموت الذي ماته على الصليب ألف مرَّة!

أمَّا
السؤال: لماذا تستقر في جسده كل هذه الخطايا؟ فالجواب: لأنه جاء خصيصاً ليرفعها عن
الإنسان، فأخذها في جسده البشري ليموت بها مع الإنسان ليلغيها بقوة قيامته
وقدوسيته.

أمَّا
السؤال: ما العلاقة بين هذه الخطايا وموت المسيح؟ الإجابة: لولا أنه ثبت عليه أنه
خاطئ ما كان قد صدر ضدَّه حكم الرومان بناءً على طلب اليهود. ثم لولا أنه معتبر
أنه خاطئ ما أمكن أن يجوز فيه روحياً حكم الموت! فهو حمل الخطايا ليستطيع أن
يموت،
وهذا حكم أزلي من أحكام الله: “مَنْ أخطأ إليَّ أمحوه من
كتابي” (خر 33: 32). ولو لم يحمل المسيح خطايا البشرية ما أمكن أن يجوز فيه
حكم الموت أو يسلِّم روحه بأي حال من الأحوال. وبآن واحد، لولا أنه الابن الوحيد
ما قام من مثل هذا الموت أبداً.

لذلك
كان جزعه من هذه الساعة مريعاً: “ولكن لأجل هذا أتيت إلى هذه الساعة”
(يو 27: 12)، “وكان يصلِّي قائلاً: يا أبتاه إن أمكن فلتعبر عني هذه الكأس.
ولكن ليس كما أريد أنا بل كما تريد أنت” (مت 39: 26)، وإلى ثلاث مرَّات كما
في إنجيل ق. مرقس (41: 14).

وهكذا
مات المسيح كخاطئ ومتعدٍّ! واحتجب وجه الآب عنه، لأنه حمل خطايا الإنسان كلها
باستحقاق، فصرخ بفم كل إنسان خاطئ: “إلهي إلهي لماذا تركتني” لأن الآب
يتحتَّم أن يتركه- يتركه ليموت بخطايا البشرية كخاطئ متغرِّب عن الآب- فهذا هو
الفداء، ليعود إليه ثانية حاملاً البشرية المعذَّبة المطهَّرة من خطاياها
ليقدِّمها إليه للمصالحة والتبنِّي.

فجثسيماني
تحمل سر كل رعبة موت الخطاة! احتملها المسيح وحده.

 

148- القبض
على المسيح: ” هذه ساعتكم وسلطان الظلمة”

حينما
كان المسيح في جثسيماني يصلِّي كانت العيون تترصَّده من بعيد، وكان يهوذا قد أرشد
عن المكان والزمان، فاجتمعت جنود الهيكل مع ضبَّاطه، وفِرقة من جنود الرومان ليكون
القبض من قِبَلِ الحكومة الرومانية ولحفظ النظام، وجماعة من الرعاع يقودهم رؤساء
من السنهدرين ليعطوا الصفة اليهودية الرسمية للقبض، وكان يسير في المقدِّمة يهوذا
متخفِّياً، خرج في الظلام وجاء في الظلام لأنه فقد النور. كان المسيح يُعِدُّ نفسه
للتسليم، كان دائماً يقف موقف الناهر للشيطان، ولكن كان لابد الآن أن يمد يده
ليُقبض عليه، فهي ساعة الظلمة، حيث جاء السنهدرين مُمثَّلاً برؤسائه، والشيطان
مُمثَّلاً بيهوذا. لم ينتظر المسيح ليأتوه حيث وقف، بل سار إليهم يتبعه تلاميذه من
بعيد. وفي هدوء الملوك سألهم: مَنْ تطلبون، لكي يريح يهوذا ويزيحه من مهمته ويُسقط
قبلته. فلمَّا قالوا: يسوع الناصري، عرَّفهم بنفسه “أنه هو”، فتراجعوا
لمهابته إلى الوراء وزحموا بعضهم بعضاً، فسقطوا على الأرض، ثم أسرعوا بالوقوف.
فبادرهم مرَّة أخرى: مَنْ تطلبون؟ فقالوا: يسوع الناصري. فقال لهم: “فإن كنتم
تطلبونني فدعوا هؤلاء يذهبون” (يو 8: 18). ولكن سمعان بحركة تمثيلية فاقداً
شجاعة الجندي استل سيفه كأنه يدافع عن سيده، وبيد مرتعشة ضرب عبد رئيس الكهنة
ملخس، فقطع أذنه. لاحظه المسيح فأمره أن يضع
السيف في غمده قائلاً: “كل الذين يأخذون
السيف بالسيف يهلكون”
(مت 52: 26)، ولمس أذن ملخس فشُفيت في الحال. وبعدها “قال يسوع لرؤساء الكهنة وقوَّاد جند الهيكل والشيوخ المقبلين عليه:
كأنه على لصٍّ خرجتم بسيوفٍ وعِصيِّ! إذ كنت معكم كل يوم في الهيكل لم تمدُّوا
عليَّ الأيادي. ولكن هذه ساعتكم وسلطان الظلمة.” (لو 22:
52و53)

وبعد
أن قبضوا عليه أخذوه إلى بيت حنَّان وهو حمو قيافا رئيس الكهنة في هذه السنة. أمَّا
التلاميذ فتركوه كُلُّهم وهربوا،
ما عدا بطرس الذي تبعه من بعيد، ويوحنا الذي
دخل معه دار رئيس الكهنة لأنه كان معروفاً عندهم، فيوحنا كان من عائلة كهنوتية.

ولكن
لا يفوتنا هنا قصة الشاب الذي كان يتبع المسيح الذي لمَّا حاولوا أن يقبضوا عليه
ترك لهم الإزار الذي كان مُتَّزراً بها وهرب؛ إذ تتركَّز عليه الأنظار أنه هو
يوحنا مرقس صاحب العليَّة وصاحب بستان جثسيماني وصاحب الإنجيل، وهو الذي ذكر هذه
الحادثة مشيراً إلى نفسه بطرف أصبعه. ويُظن أنه هو الذي دخل مع المسيح إلى دار
الولاية، وكان هو المترجم من اللغة اللاتينية التي أتقنها من دراساته في القيروان
بليبيا قبل أن يهاجر مع الأسرة إلى فلسطين. وبهذه المناسبة، فالقديس مرقس هو أول مَنْ ذكر الآلام والمحاكمة بالتفصيل، لأنه أول مَنْ كتب من الإنجيليين، وأخذ عنه الجميع.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى