علم الكتاب المقدس

الفصل الحادي عشر



الفصل الحادي عشر

الفصل
الحادي عشر

المؤرّخون
ووثائقهم

يُعتبَر
هذا الفصل مدخلاً إلى تاريخ شعب إسرائيل السياسي، وهو يقدّم لنا الإطار العام
والمنهج، كما يفتح أمامنا باب المراجع القديمة.

 

مقالات ذات صلة

أ-
المؤرّخون

هناك
طريقة لتدوين التاريخ وتصوّر أحداثه. وللتوراة طريقتها الخاصّة. فهي تقدّم لنا
تسلسل الأحداث وأخبارًا متّصلة وشميلات تاريخية كما في أسفار الملوك والأخبار.
ولكنّ التوراة انتقلت إلى المجمع والكنيسة بشكل شريعة ونبوءة، ولم تهتمّ بالفضولية
التاريخية. لقد عالجت تاريخ شعب إسرائيل بأفكار مسّبقة، وأرادت أن تقدّم الأحداث
في إطار لاهوتي.

 

1-
في العصور القديمة

كان
اليونانيون أصحاب فضول تاريخي، ولكنّهم لم يهتمّوا بيهوذا الصغيرة إلاّ بصورة
هامشية وعابرة. هذا ما حدث لهيرودوتُس (القرن الخامس ق. م.) وأرسطو، وتيوفرستيس
وكليارك السولوي. حوالي السنة 300 ق. م. خصّص هيكاتيس الأبديري صفحة طويلة لليهود
في كتاب سمّاه “مصريّات”. ضاع الكتاب، ولكنّ ديودورس الصقلّي (مؤرّخ في
القرن الأوّل ب. م.) احتفظ بهذه الصفحة. عاد هيكاتيس إلى مراجع لا توراتية، وأظهر
اعتباره لموسى ولتشريعه، غير أنّه انتقد طريقة حياة اليهود الانطوائية والمتعصّبة.
وزاد معطية مفيدة: تبلبلت ممارساتهم التقليدية وتشوّهت في أيّام الفرس والمكدونيين
أي بين القرن السادس والقرن الثالث ق. م.

ودُوِّنت
“مصريّات” أخرى على يد المصري مانيتون في القرن الثالث ق. م.، بناء على
طلب الملوك البطالسة. وكان ذلك يوم كان بيروسيويس، ابن بلاد الرافدين، يدوّن
للسلوقيين “البابليات”. تحدّث مانيتون عن الخروج وماثله مع طرد الهكسوس
(أو الملوك الرعاة) الذين تسلّطوا على مصر في القرن السابع عشر ق. م. سار على خطى
هيكاتيس، فنسب هذا الطرد إلى نجاسة حلّت باليهود الذين اصيبوا بالبرص. مزج مانيتون
أحداث السلالة المصرية الثامنة عشرة (أمينوفيس، تحوتمس) والسلالة التاسعة عشرة
(سيتي، رعمسيس). نشير إلى أنّ كتابه لم يصل إلينا إلاّ عبر ملخصّات نقلها المؤرّخ
اليهودي يوسيفوس في القرن الأوّل ب. م.

وتألّفت
كُتُب خلال القرن الثالث ق. م.، محورها التاريخ اليهودي البيبلي، وتواجه هذا
التاريخ مع ما كتبه اليونانيون والمصريون والبابليون. كان ديمتريوس (نعرفه بواسطة
أوسابيوس القيصري) يهوديًا مثقّفًا بالثقافة اليونانية ومهتما بتسلسل الأحداث. ففي
كتابه “عن ملوك يهوذا”، حَسب تواريخَ الخلق والخروج، فجاءت أرقامه كما
في التوراة السبعينيّة. وهو يجعل سقوط السامرة (721 ق. م.) في زمن الملك الأشوري
سنحاريب، فيما هو قبله بعشرين سنة. وفي القرن الثاني ق. م. كتب أوبوليمس عن
“ملوك يهوذا”. كان يهوذا المكابي قد أرسله سفيرًا إلى رومة حوالي سنة
160 ق. م. (1 مك 17: 8 ي ؛ 2 مك 4: 11). دوّن أوبوليمس تاريخًا ينطلق من آدم ويصل
إلى ديمتريوس (الملك السلوقي 161- 150) معاصره.

ويذكر
اوسابيوس القيصري (القرن الرابع ب. م.) كتابًا مغفلاً “حول نبوءة إيليا”
يبدأ بموسى وينتهي بسليمان. يخلط بين فرعون الذي عاصر سليمان (القرن العاشر) وخفرع
الذي عاش في القرن السادس وعاصر دمار الهيكل لا بناءه. وهناك مقطوعة سامرية نُسبت
إلى أوبوس فواجهت المعطيات البيبلية بتقاليد العالم الوثني. واعتبرت أنّ أطلس هو
أخنوخ الذي اهتمّ بعلم الفلك، كما تقول الكتب المنحولة، وأنّ إبراهيم أدخل علم
الفلك لدى الفينيقيين. ولكنّ أرطبان (مؤرّخ يهودي سابق للمسيحية) يعتبر أنّ
إبراهيم أدخل علم الفلك إلى مصر، ويوسف الزراعة، وموسى عبادة الله. ويماثل بين
موسى وربَّة الفن، ويُعطي أسماء مطبوعة بالطابع اليوناني للفراعنة الذين عاصروا
هؤلاء الأشخاص.

 

2-
تاريخ اليهود وتاريخ الكون

إذن
نلاحظ اهتمامين اثنين: الأوّل تسلسل الأحداث والثاني إقحام التقاليد البيبلية في
نموّ الحضارات. فنتج عن هذا في القرن الأوّل ق. م. مؤلّفات وثنية هامّة لا نعرف
منها إلاّ مقاطع وصلت إلينا عند كتَّاب يهود أو وثنيين. وُلد أبولونيوس المولوني
في كارية (آسية الصغرى). دوَّن كتابًا “عن الجهود” امتدحه بلوتارخس،
ولكن يوسيفوس اعتبره معاديًا لليهود. كان مع بوسيدونيوس الأفامي أوّل من اتّهم
اليهود بالقتل الطقسي لإنسان: يذبح اليهود كلّ سنة رجلاً ويأكلون لحمه فيعبّرون عن
بغضهم للجنس البشري. ودهش أبولونيوس مثل هيكاتيس من اليهود، لأنّهم يرفضون أن
يندمجوا مع الآخرين. يقول أبولونيوس: جاء جد إبراهيم من أرمينيا. من إبراهيم وُلد
اسحق الذي منه الأسباط الاثنا عشر وبينهم يوسف. لقد خلط بين إسحق وبين يعقوب-
اسرائيل، ونسي أنّ إسحق يتوسّط إبراهيم ويعقوب.

وكان
الاسكندر بوليهستور، من ميلتيس، من آسية الصغرى. ألفَ بين سنة 85 وسنة 35 ق. م.
كتابًا “عن اليهود”. عاد إلى سابقيه واستعمل اقوالهم بحرية فانطلق من
البدايات. فماثل بين نوح وكسيسوتروس (أتراحاسيس) البابلي. عرف برج بابل وطوفان
أوجيجيس أوّل ملك في أتيكس (حيث توجد أثينة)، وهو الذي سترتبط أسطورته بسنديانة
ممرا حيث ينصب إبراهيم خيامه (تك 18: 1 ي، يوسيفوس). عاش إبراهيم سنة 1020 وقبل
الألعاب الأولميية الأولى (776 ق. م.). وكان الخروج بعد ذلك الوقت بقليل. ويتابع
الكتاب خبره حتّى يصل إلى سقوط أورشليم.

كتب
أبيون (خصم فيلون أمام كاليغولا سنة 40 ب. م. كتب يوسيفوس ضدّه كتاب: ضدّ أبيون)
“مصريّات” فاتبع مانيتون حين تحدّث عن سفر الخروج، وهزئ بعوائد الهيكل،
وتهجّم على يهود الاسكندرية. أمّا في “القديميات البيبلية”، فنجد
تاريخًا دوّنه فيلون المزعوم، وهو يهودي مجهول عاش في القرن الأوّل ب. م.. إعتمد
على نصّ التوراة من آدم إلى موت شاول، وكملّه بتوسيعات مدراشية ذات هدف ليتورجي.

ودوّن
نقولاوس الدمشقي، مستشار هيردوس، “التاريخ العام” في 144 كتابًا مع
لمحات عن الطوفان وعبور إبراهيم في دمشق. ولكنّنا لا نعرف من هذا المؤلّف الضخم
إلاّ مقاطع استعملها يوسيفوس في “القديميات اليهودية”.

بعد
حرب السنوات 66- 70 ب. م. التي انتهت بدمار الهيكل، أحسّ اليهود بالحاجة إلى إعادة
كتابة تاريخهم. هذا ما فعله يوستوس من طبريا الذي عاد إليه فوتيوس بطرك
القسطنطينية في القرن التاسع. ولكن لا نعرف ما كتبه يوستوس إلاّ من خلال انتقاد
يوسيفوس له.

بعد
أن كتب يوسيفوس “الحرب اليهودية”، كتب “القديميّات اليهودية”
بالطريقة التي فيها كتب ديونيسيوس الهاليكرناسي “القديميات الرومانية”.
أمّا هدفه فإدخال الشعب الروماني في التقاليد اليهودية. أراد أن يعمل عمل المؤرّخ،
فتجنّب الأسلوب الأستعاري الذي أخذ به فيلون الاسكندراني. إلتصق بمراجعه ولاسيّمَا
بالتوراة، وعاد إلى ارطبان وتوسيعاته المدراشية. كان إبراهيم عالمًا فلكيًا، وموسى
ضابطاً في الجيش المصري حارب ضدّ الأحباش. ويأخذ يوسيفوس بالمعجزة لاسيّمَا وأن
قرّاءه لا يعارضونها، ولكنّه يبرز متطّلبات فلسفية وعقلانية. ويقبل بالقول إنّ
موسى كتب عن موته الخاص، ولكنّه يتوقّف عند الاختلافات البيبلية حول احتلال
أورشليم بيد بني إسرائيل أو حول العلاقات بين شاول وداود. نستطيع أن نأخذ الشيء
الكثير من “القديميات اليهودية” ولكن بحذر لاسيّمَا حين نكون أمام
الأرقام والأعداد. إنّ المسيحيين نسخوا مرارًا نصوص يوسيفوس وأوصلوها الينا من دون
نقد ولا تمحيص.

وبنى
يوليوس الأفريقاني (170- 245 ب. م.) تاريخًا موزَّعًا على 6000 سنة. لم ينطلق من
إبراهيم أو داود، بل من كورش الفارسي مستفيدًا ممّا تركه له ديودورس الصقلّي.
واتّبع بوليهستور فجعل الطوفان في أيّام أوجيجيس (سنة 2262 من خلق العالم) والخروج
في سنة 3707. إستعمله أوسابيوس (+ 340) وانتقده، وجعل الطوفان في سنة 2242، كما
تقول السبعينية لا في سنة 2262 كما يقول يوليوس. ويناقش أوسابيوس في
“كرونيكون” (أحداث دوّنت حسب تسلسلها) النظمَ الكرونولوجية لدى الأمم
المختلفة (الأشوريون، العبرانيون، المصرين، اليونانيون، الرومانيون)، ويقدّم مراجعه
دون أن يرتبط بفلسفة التاريخ. وهذا ما سيقوم به اغوسطينس الذي ألفّ “مدينة
الله” لمسيحيين زعزعهم سقوط رومة على يد ألاريك سنة 410. وسيُعطينا تلميذه
أوروسيوس معلومات هامة في كتبه السبعة ضد الوثنيين. أمّا أيرونيموس فقد قدّم لنا
ترجمة “كرونيكون” أوسابيوس إلى اللاتينية.

 

3-
القرون الوسطى

لم
يكن للاتين في القرون الوسطى وسائل تساعدهم ليدفعوا بالبحث التاريخي إلى الامام،
فظلّوا مرتبطين بالأعمال السابقة ينسخونها ويُعيدون نسخها في الأديرة. فاليهود
كالمسيحيين يتبعون المعنى الحرفي للبيبليا وليس في أيديهم الوسائل ليبحثوا عن آثار
الماضي. تعلّق اليهود بالشريعة كشريعة، واعتبروا أنّ النصوص والنظم هي تاريخية.
أمّا المسيحيون فلهم مشاكلهم مع التوراة. إنّهم يبحثون في البنتاتوكس عن تاريخ
خلاص ورموز. كتب باديوس الموقّر (راهب ومؤرّخ إنكليزي 672- 735) “التاريخ
الكنسي للأمّة الانكليزية” وإيسيدورس أسقف إشبيلية (560- 636)
“البدايات” فقدّما لنا تاريخًا عامًا كانت البيبليا مرتكزَه، ومقدّمة
لتاريخ الكنيسة. ثمّ إنّه خلال القرن التاسع، إهتم الكتّاب لا بالتاريخ العام، ولا
بتاريخ شعب إسرائيل، بل بالتاريخ الوطني المكتوب على طريقة سلوستيوس (86- 35 ق.
م.) وسواتانيوس (القرن الأوّل القرن الثاني ب. م.) المؤرخَين الرومانَيين.

وعمل
الخطّاطون في الشرق البيزنطي، وتابع رهبان جبل آتوس عمل رهبان بيزنطية. اعتمد
الآباء على البيبليا من أجل الفكر اللاهوتي. ولم يظهر البحث التاريخي إلاّ في
مكتبة عالم من العلماء مثل البطريرك فوتيوس. لقد انتقل العلم إلى العالم الإسلامي
الذي سيُبرز انطلاقًا من القرن الثالث الهجري (العاشر المسيحي) التراث الهلّيني.

كان
العالم العربي يهتمّ بالأنساب القبلية، ويُقصر عمله على التاريخ العربي المحض.
أمّا مع اليعقوبي (+ 897، “كتاب البلدان”) والطبري (+ 923، “تاريخ
الأمم والملوك “) والرحّالة الكبير المسعودي (+ 956، “مروج الذهب ومعادن
الجوهر”)، فقد بدأ العرب يكتبون التاريخ العام. وستمتدّ هذه الدروس التاريخية
حتى القرن الثالث عشر مع سبط ابن الجوزي (1186- 1257، “مرآة الزمان في تاريخ
الأعيان”، من البدء حتى سنة 1256) وابي الحسن علي ابن الاثير (1160- 1234،
“الكامل في التاريخ”، من البدء حتى سنة 1236). يرتبط هذا التاريخ بما
يقوله القرآن، لا بما تقوله التوراة (التي تُعتبَر نصاً مزوّرًا) عن شعب إسرائيل.
ومع ابن خلدون (1332- 1406) ومقدّمته الشهيرة سيكون لنا تفسير سوسيولوجي للتاريخ.

وبرزت
الاهتمامات التاريخية من جديد في الغرب المسيحي. فتوسعّ اوتو ده فرايسنغن في فكرة
تقوله إن الحضارة انتقلت من الشرق إلى الغرب. أمّا اليهود الشرقيون أكانوا مثل
سعاده أم ابن مأمون لاهوتيين وفلاسفة أكثر منه مؤرّخين، فقد جادلوا في التاريخ لا
مع العرب وحسب، بل مع اليهود القارئين الذين يرفضون التقاليد التلمودية ويحتفظون
بالتوراة. وانتقلت الشعلة إلى العالم اليهودي الغربي فدوّن كاتب مغفل
“يوسيفون” (نسبة إلى يوسيفوس) في القرن العاشر، واستعمل بطريقته الخاصة
مؤلّفات يوسيفوس. وقدّم ابن عزرا في إسبانيا وراشي في شمبانيا (فرنسا) ملاحظات
قيّمة عن التوراة والمجتمع الذي تفترضه شرائعها.

 

4-
النهضة وبداية النقد التاريخي

وتحوّل
اهتمام المؤرّخين في القرن السادس عشر من الشميلات عن عهود العالم وعن
الاسكاتولوجيا، وتعلّقوا بالأركيولوجيا (علم الآثار) وتحليل النصوص ولاسيّمَا
النصوص اليونانية. هذا ما فعله نقولا الكوسي الذي بحث مراحل تأليف القرآن. ثمّ
هاجم آراسمس الأساطير التي تحيط بالقديسين ومؤسسي الممالك. أمّا في العالم
الكتابي، فأيدي العلماء اهتمامهم بفقه اللغات اليونانية وتحليل نصوص العهد الجديد.
منذ سنة 1477 طبعوا في بولونيا (إيطاليا) التوراة العبرانية، ثمّ في البندقية سنة
1516، ولكنهم ظلّوا يهتمّون بتاريخ الكنيسة أكثر منه بتاريخ شعب إسرائيل. ولكنّ
أساليب جديدة بدأت تتوضّح. فهل يمكن أن تصل بنا إلى شيء إيجابي؟

وأعمل
الفكر نقده في الكرونولوجيا (أو تسلسل الاحداث في التاريخ)، ولكنّ النتائج كانت
سلبية، ثمّ في النقد الأدبي فدفع ريشار سيمون الثمن بسبب تهوّره. ووضع سبينوزا
أسسًا ممتازة لدرس الشرع في شعب إسرائيل، ولكنّ تحاليله لم تساوي غراماطيقه، بل
وصلت إلى المفارقة التالية: ما إن نقل العبرانيون حقّهم إلى ملك بابل، حتّى توقّف
ملكوت الله وحق الله. وتخلّص الإنكليزي بريدو (في القرن الثامن عشر) من النظرة
القانونية واللاهوتية وانتقد مراجعه (أرستيس، يوسيفوس) في ثلاثة اجزاء تبدأ مع
تجلت فلاسر الثالث وتصل إلى المسيح، ولكنّه ظلّ مقيّدا بتتابع الأسفار البيبلية.
انصدم العقلانيون والإلهانيون ممّا يقدّمه نص التوراة من غرائب، أمّا المؤمنون
(مثل بوسويه الأسقف الفرنسي) فقد أحسّوا نفسهم مُجبرين بأن يكتبوا التاريخ العام
انطلاقا من الكتاب المقدّس.

 

5-
البيبليا والاستشراق

أراد
الشرّاح أن يكتبوا تاريخًا حقيقيًا لشعب اسرائيل، فوجب عليهم أن ينتظروا ليحدّدوا
موقع إسرائيل وتوراته في إطار الحضارات الشرقية. ومثلُ هذا العمل لا يتمّ
بإمكانيات التاريخ اليوناني (هيكاتيس، ديودورس). ولكنّه صار ممكنًا بعد أن سافر
ميشو ونيبوهر إلى الشرق، وقام استروك وايخهورن بالنقد البيبلي، وحلّ برتلامي
(اللغة الفينيقية) وشمبوليون (اللغة الهيروغليفية) وغرتفاند وسميث (مسمارية بلاد
الرافدين) رموز اللغات القديمة. ومنذ سنة 1829 فتح ميلمان الباب للسوسيولوجيا
واعتبر أنّ الأخبار الثلاثة التي فيها يعتبر إبراهيم (تك 12: 10- 20؛ 20: 1 ي)
سارة أخته، وإسحق رفقة أخته (تك 26: 6 ي)، ترتبط بتقليد واحد رُوي بطرائق مختلفة.
أخذ حذره من العالم الفائق الطبيعة ومن المعجزة، ولكنّه اعتبر أنّ شرائع
البنتاتوكس ترتبط بموسى. وحين كتب غراتز “تاريخ اليهود منذ الزمن القديم إلى
الزمن الحاضر” (1859- 1875)، لم يتوقّف عند تمر التقليد القانوني في البنتاتوكس.

ولكنّ
ايوالد أخذ بعين الاعتبار هذا التطوّر في “قدم الشعب اليهودي” (1866)،
واعتبر أنّ بين موسى وتدوين أسفار التوراة مسافة. وتبعه ولهاوزن (مع غراف كونن)
فأعطى إطارًا ثابتًا لتاريخ إسرائيل بتحليلاته للتشريعات المتعاقبة في البنتاتوكس
ومعرفته بالعالم العربي القديم. أهدى كتابه “مقدّمة إلى تاريخ إسرائيل”
(1883) إلى ايوالد، وكتب أيضاً “تاريخ إسرائيل” (1878) و”التاريخ
الإسرائيلي واليهودي” (1894). لا شكّ في أنّه لم يعرف أن يقدِّر تقاليد
الآباء، كما أنّه لم يحافظ على التوازن بين الوقائع وعرض الوقائع (فرض عليها آراءه)،
ولم يفهم قيم حياة الفترة اللاحقة للسبي فاعتبرها انحطاطاً بالنسبة إلى التيّار
النبوي. ولكنّه أبرز تطوّر الشرائع في داخل البنتاتوكس، كما بيّن العلاقات بين
تدوينات الشريعة والتيار النبوي. أقرَّ بدور موسى، وأبرز استقلالية القبائل بعضها
عن بعض قبل تأسيس الملكية.

كان
ده واتي قد بيَّن في بداية القرن التاسع عشر أنّ سفر التثنية هو كتاب الشريعة الذي
يتكلّم عنه 2 مل 22- 23، أمّا ولهاوزن فأجلى الخطوط الرئيسية لتاريخ إسرائيل
السياسي دون أن يدرك القيم الدينية. وستأتي الاكتشافات الأركيولوجية فتخفّف من حدة
تأكيداته ولاسيّمَا في ما يتعلّق بقِدم العادات والشرائع.

بين
الحربين العالميتين توضّحت الكرونولوجيا في مصر وبلاد الرافدين انطلاقًا من سنة
1500 ق. م.. وتوضّحت متتاليات الأركيولوجيا الفلسطينية من زمن البرونز القديم إلى
العهد الفارسي. وظل التردّد كامنًا في النصف الأوّل من الألف الثاني في بلاد
الرافدين (التي قد يكون عاش فيها الآباء) وفي المملكة المصرية القديمة (الألف
الثالث). وبما أنّ الأركيولوجيا الفلسطينية لا تعطي تواريخ مطلقة، وجب على العلماء
أن يحدّدوا موقع الأدب البيبلي في إطار الشرق الأوسط. فحصلنا في هذا الإطار على شميلات
ذات قيمة كبيرة: دينوايه: تاريخ الشعب العبري (1922- 1930) في ثلاثة اجزاء. كيتال:
“تاريخ شعب إسرائيل” (1925)، وندر ورست: “إسرائيل والشرق
القديم” (1929، طبعة ثانية)، ريشيوتي: “تاريخ إسرائيل”. لودس:
“إسرائيل منذ البدايات حتى القرن الثامن” (1930)، “أنبياء إسرائيل
وبدايات اليهودية” (1935).

 

6-
أين وصلت الدراسات اليوم؟

هناك
مسائل مهمّة لا تزال عالقة، فلم يتمّ الاتفاق بين العلماء حول تاريخ إسرائيل.
فالاختلافات كبيرة في ما يخصّ البدايات وفي قيمة المراجع المتعلّقة بزمن داود
وسليمان. وإليك بعض الأمور.

أوّلاً:
يعتبر البعض أنّ باستطاعته أن يتبنّى تسلسل الأحداث حسب نظام الأسفار التوراتية
(مثلاً: ناهر). وفي هذا الخط ينسب آخرون (ينتمون إلى مدرسة كوفمان) إلى الزمن
الموسوي مجمل النظم الكهنوتية (مثلاً: سفر اللاويين). ولكنّ معظم الاختصاصيين
يعتبرون هذه النظم متأخّرة الظهور.

ثانيًا:
هناك تيّار مختلف يقبل النتائج التي تبنّاها النقد البيبلي، ولكنّه يعتبر أن
الأركيولوجيا تثبت تاريخية التوراة انطلاقًا من إبراهيم. البرايت (من العصر الحجري
إلى المسيحية، 1941، “التوراة والأركيولوجيا في فلسطين”، 1951)، رايت
(“الأركيولوجيا البيبلية”، 1957، “أركيولوجية فلسطين”، 1961)،
كالر (“انتزاع التوراة من الرمال”، 1963)، مازار مع كتّاب عديدين
(“التاريخ العالمي للشعب اليهودي، الآباء”، 1971، 1981)، ميلار ووايزمان
(“محاولة في أخبار الآباء”، 1980).

ثالثًا:
وهناك تيّار آخر يرفض أي اعتبار للمعطيات الأركيولوجية ويتوقّف عند تاريخ التقليد.
غونكل (“سفر التكوين”، 1910)، ألت (“كتابات صغيرة”، 1962 في
أربعة أجزاء) نوت (“دراسات الإرث التاريخي”، 1943، “الإرث التاريخي
في البنتاتوكس “، 1948، “تاريخ إسرائيل “، 1954). فون راد
(“المسألة التكوينية في الهكساتوكس أو الأسفار الستة”، وهي تك، خر، لا،
عد، تث، يش، 1958)، ماك كان (“دراسات في أخبار الآباء”، 1979). دوِّنت
هذه التقاليد في وقت متأخّر، وراح بعض العلماء يرفض رسمة ولهاوزن فينزلون إلى
القرن السادس طبقات البنتاتوكس القديمة. تومسون (“تاريخية أخبار الآباء”،
1974، “الأخبار عن يوسف وموسى”، 1977)، شميد (“التقليد اليهوهي،
ملاحظات وأسئلة في عالم البنتاتوكس”، 1976)، رنتدورف (“مسألة الإرث
التاريخي في البنتاتوكس”، 1977)، فان ساترس (“إبراهيم في التاريخ
والتقليد”، 1975). أمّا في دورة الأباء فالأساطير تتغلّب على الوقائع.

رابعًا:
ودخلت الدراسة السوسيولوجية في التاريخ باسم فلسفات وعقليات مختلفة. وتبع التاريخ
الانشدادات الداخلية والخارجية التي تعكسها أسفار التوراة. كان كوس قد وضع المعالم
(“من المجموعة الإتنية إلى الجماعة الدينية”، 1937). أمّا وابر فأبرز
العوامل الاقتصادية (“العالم اليهودي القديم”، 1970). ونستطيع اليوم أن
نقرأ محاولات ماندنهال، كلافانو، دومورتيه، ميراندا، فيانر، غوتوالد، ليفراني وده
فو.

أراد
هيات أن يخفّف حدّة التوتّر فقابل بين الطرائق التي استعملها الكتاب. شدّد مندنهاك
على وحدة العالم السياسي الذي ظهر فيه إسرائيل، وغرنبرغ على وحدة إسرائيل في زمن
الاحتلال. وكلاهما قدّر موقف ده فو الذي اعتبره هاييس وميلرتلفيقيا. بهذه الطريقة
يحمي التقليد الكتاب ويبنيه في الوقت ذاته. ويجب أن نأخذ بعين الاعتبار العبادات
المحليّة والتقاليد التي تبرّر هذه العبادات. فالإتنوغرافيا (علم الإثنيات والشعوب)
ودراساتها على عوائد القبائل وتنقلاّتها هي عنصر هام. وأخيرًا، تعطي الأركيولوجيا
إطارًا عامًا للتوسّعات الثقافية والمدنيّة، ولكنّ لها حدودها. وهناك أقلّه حالتان
(العي، أريحا) لا نستطيع أن نفسّرهما دون الرجوع إلى التقاليد.

 

7-
شميلات حديثة

لقد
حاول ده فو أن يطبّق هذه المبادئ في كتابه “تاريخ إسرائيل القديم” الذي
توقَّف قبل تأسيس الملكية بسبب موته. لقد أخذ بعين الاعتبار البيئة، ثمّ تتبعّ
المراحل البيبلية: الآباء، الخروج، الإقامة في كنعان، زمن القضاة.

أمّا
“تاريخ إسرائيل في زمن العهد القديم ” الذي كتبه هرمان وقدّمه إلى ألت
واعتبره هاييس وميلرتلفيقيًا، و”تاريخ إسرائيل حتى ابن الكوكب ” الذي
كتبه غوناواغ، فكانا قصيرين. خصّص كلاهما الثلث الأوّل من الكتاب للفترة السابقة
للملكية، ورجعا إلى تحرّكات الشعوب في الشرق القديم.

وبعد
أن درس فوهر، تنم إسرائيل كدولة في إطار الشرق القديم، نشر”تاريخ إسرائيل
حتّى أيامنا”، وكرّس ثمانية فصول (من أصل تسعة) للتاريخ البيبلي.

كتب
هاييس وميلر “تاريخ إسرائيل ويهوذا” فجاء الكتاب موسَّعًا ومستنِدا إلى
الوثائق. وأخيرًا دوّن العلماء اليهود “تاريخ الشعب اليهودي في الزمن
القديم”، فعادوا إلى أركيولوجية البلاد وإلى معطيات الشرق القديم.

 

ب-
المراجع

في
أيدينا مراجع متنوّعة تساعدنا على الاطّلاع على التاريخ السياسي لإسرائيل القديم.
لهذه المراجع قيمتها ولكنّ النسبة التاريخية تختلف بين مرجع وآخر.

 

1-
المجموعة البيبلية

كثيرًا
ما تعود المجموعة البيبلية إلى معطيات تاريخية.

أوّلاً:
قيلت أقوال الأنبياء بالنسبة إلى ظروف يعيشها الشعب. ولكنّ هذه الظروف ليست دومًا
واضحة. وقد دوِّنت هذه الأقوال بواسطة الأنبياء. مثلاً: أش 8: 16، إحفظ الشهادة،
أي الوثيقة التي تتضمّن أقوالاً عديدة لتبرزها في الوقت المناسب. إجعل التعليم في
مكان مغلق وسلّمه إلى تلاميذي. ونقرأ في أش 8: 30، وقال الرب لأشعيا: أكتب الآن
ذلك على لوح أمام أهل أورشليم، أرسمه في وثيقة ليكون في المستقبل شهادة دائمة.
ولكن التقطها تلاميذ الأنبياء مرارًا وجمعوها. هناك أقوال تدلّ على أسلوب النبي
ونفسيته واهتمامه، وهناك أخرى دوِّنت بعد الأحداث. تلك هي حالة الأخبار التي
نقرأها في إر 44: 34.

ثانيًا:
إذاً دوِّنت أخبار متسلسلة عن حياة الأنبياء، عن حياة إرميا، عن حياة أشعيا (ف 36-
39)، كما دوِّنت نبذات قصيرة عن هذا النبي أو ذاك (عا 7: 10- 17). ونملك أيضاً
“دورات” مؤلّفة من مشاهد متلاحقة تتعلّق بالملوك (خلافة داود رج 2 صم
13- 20 ؛ 1 مل 1- 2). أو بأسلاف هؤلاء الملوك مثل الآباء (إبراهيم، رج تك 12- 24)
والقضاة (جدعون، رج قض 6- 9). فيبقى على المؤرّخ أن يحدّد بُعد وهدف هذه الدورات
التي تقدِّم لنا أخبارًا متقطّعة.

ثالثًا:
وللتشريعات أيضاً قيمة تاريخية عظيمة. فهي تتجاوب لا مع أحداث منعزلة، بل مع
البُنى الإجتماعية التي تعاقبت في حياة شعب إسرائيل. مثلاً: إنّ قانون العهد (خر
24: 20- 19: 23) لا يعرف الملك. أمّا سفر التثنية فيقدّم لنا شريعة ملكية (تث 17:
14- 20). وإنّ هذه القوانين تستعيد المسائل عينها ولكن بطرق مختلفة. مثلاً: القتل.
نقرأ في خر 21: 12- 13: “من ضرب إنسانًا فمات فليُقتل قتلاً، فإن لم يتعمّد
قتله، بل وقع صدفة في يده، فهو يستطيع أن يلتجئ إلى مكان أدلّك عليه”. ونقرأ
في تث 19: 4 ي: “من قتل صاحبه عن غير عمد وهو غير مبغض له في السابق، يستطيع
أن يلجأ إلى إحدى هذه المدن فينجو بحياته “. مثلاً: هذه حالة رجل ذهب إلى
الغابة مع صاحبه ليقطع الحطب. إن انفلت الحديد من العصا فأصاب صاحبه فمات، فهذا
يلجأ إلى إحدى هذه المدن.. فلا يجب على الإنسان الموكّل بالانتقام (أو وكيل الدم)
أن يسعى في طلب القاتل عند اضطرام غضبه ويدركه لبعد الطريق ويقتله. فلا يُقتل صاحب
الحادث لأنّه لم يكن مبغضاً لصاحبه. وقال عد 35: 9 ي: “عيّنوا لكم مدنًا تكون
مدن ملجأ، إليها يهرب القاتل الذي لم يتعمّد القتل.. إن كان ضربه بآلة حديد فمات
فهو قاتل.. وإن ضربه بحجر رماه بيده فمات فهو قاتل.. وإن قذفه بآلة من خشب.. إن
صدمه ببغض أو ألقى عليه شيئًا متعمّدًا.. إن ضربه بيده عن عداوة..”. وتتحدّث
هذه القوانين أيضاً عن وضع العبيد (خر 21: 1- 11؛ تث 15: 12- 18 ؛ لا 25: 35- 46)،
عن راحة السبت (خر 23: 12، ليستريح حمارك، وثورك، والعبد، والغريب، 34: 21، تتوقّف
عن الحرث والحصاد، لا 3: 23، في يوم السبت تجتمعون إكرامًا لي، تث 12: 5- 15،
ليستريح عبدك ولا تنسى أنّك كنت عبدًا في مصر)، وعن سائر النظم.

 

2-
وثائق من خارج التوراة

تُحيلنا
التوراة دومًا إلى معطيات جغرافية: البلدان، الجبال، الوديان، الأنهر، المدن..
ويجب أن نعتبر هذه الجغرافيا وكأنّها مرجع أوّل لتاريخ الشعب الذي أقام فيها وعاش.
ولكن قد يكون للاسم قيمة رمزية. مثلاً: مدينة نينوى التي تتطّلب ثلاثة أيّام
لاجتيازها (يون 3: 3). غير أنّه لم يكن من نينوى رمزية لو لم تُوجد نينوى حقيقية.
نحن اليوم نعرف نينوى كما نعرف معطيات الجغرافيا البيبلية: البحار (البحر المتوسط،
البحر الميت، خليج العقبة)، مجرى الأردن، تلال السامرة، وديان يزرعيل والعربة،
برية يهوذا. المناخ هو هو ونظام الأمطار لم يتبدّل كثيرًا. تعاقبت الاحتلالات من
رومانية وبيزنطية وعربية وحافظت المدن والقرى على أسمائها. ولكنّنا لا نستطيع أن
نحدّد موقع كل منها بالسهولة التي نحدّد موقع أورشليم أو السامرة أو عكّا. وهكذا
نقول أيضاً عن المناطق، مثل جلعاد في عبر الأردن، وصحراء النقب الذي في جنوبي
يهوذا.

تُذكر
هذه الأسماء في نصوص سبقت التوراة أو عاصرتها: فراجع مصر وبلاد الرافدين وأوغاريت
وجبيل.. تبدو إطارًا تاريخيًا وثقافيًا للتوراة. وها نحن نعدّد اهمها.

 

أوّلاً:
الوثائق المصرية

الوثائق
المصرية كثيرة وهي تعود إلى ما قبل اكتشاف الكتابة الهيروغليفية (حوالي 3000 ق.
م.) وهي تذكر فيما تذكر أرض كنعان وشاطئ آسية.

فالملوك
والقوّاد الذين قاموا بحملات في آسية دوّنوا ذكرياتهم. فاسم شكيم محفور على نُصب
أقامه أحد قوّاد ساسوتريس الثالث (حوالي 1800- 1750). وإلى هذا العهد ترجع
“نصوص اللعنات”: نجد على تماثيل صغيرة “اللعنة” العتيدة على
أمراء فلسطين الذين يحملون الخطر إلى السكان. وتعطي هذه التماثيل اسماءهم الساميّة
وأسماء مدنهم (مثلاً: أورشليم). كان هؤلاء الأمراء يهدّدون البلاد، وها هم
يحتلونها. فهؤلاء “الأمراء” الآتون من “بلدان غريبة” (من هنا
اسمهم “الملوك الهكسوس” في لغة مصرية مهلينة) إحتلّوا مصر من سنة 1750
إلى سنة 1580 ق. م. وبعد أن طردهم فرعون “المملكة الحديثة”، أرسل جيوشه
إلى آسية فوصلوا إلى الفرات. بعد هذا تصبح الوثائق وافرة وتتكاثر أسماء العلم.
فلسطين هي “حورو” (والحوريون هم شعب غير سام). وهناك “كنعان”
أي الأرض المنخفضة، “وأمورُ” (أمور هي المنطقة الجبلية). ومند القرن
السادس عشر ق. م.، التقى الضبّاط المصريون في وادي يزرعيل وغيرها من أماكن، ب
“عبيرو” (أو العبرانيون)، “شوشو” (بدو من بني شيت، عد 17: 24
؛ رج تك 25: 4-26). ويتحدّث رعمسيس الثاني في القرن الثالث عشر عن موآب، وخلفه
منفتاح عن أدوم وإسرائيل (حوالي سنة 1220 ق. م.). وحوالي سنة 1180 تغلّب رعمسيس
الثالث على “شعوب البحر” الذين يشكّل الفلسطيّون جزءاً منهم. أقام هؤلاء
الفلسطيون على الشاطئ فتسمّت البلاد باسمهم. حينئذ أخذت مصر تضعف بسبب الهجمات
الآتية من لبيبا وبسبب الخلافات الداخلية. وسنجد آثارًا قليلة للحضور المصري حوالي
السنة 1150. وبعد هذا ننتظر حملة شيشانق الأوّل (حوالي 925) الذي ترك لنا لائحة
بأسماء المدن التي احتلّها في شمال إسرائيل وجنوبها.

وبالإضافة
إلى النصوص المحفورة والحوليات، ترك لنا زمان رعمسيس وثائق على البرديات (كتابة
هيرية) مهمّة جدًّا. وقد استُعملت لتدريب الكهنة: لائحة باسماء علم وكلمات يجب
حفظها، نموذج لرسائل، طريقة التعامل مع الاسيويين. ثمّ هناك نصوص أدبية: مشاهد من
حياة فرعون، ملاحم تنشد انتصاراته (رعمسيس الثاني في معركة قادش على العاصي)،
تعليمات عن طريقة الحكم (قرار الوزير)، تعليم عن طرق آسية وأخطارها بشكل حوار حي.

 

ثانيًا:
الوثائق المسمارية

نجد
هذه الوثائق في بلاد الرافدين وسورية وآسية الصغرى. يُكتب النص بمسمار يدخل في
لوحة من الطين أو تُحفر حروفه على الحجر القاسي. وكما أنّ البلاد مشتّتة ومتشعّبة،
جاءت هذه الكتابة على صورتها. ولا يجب أن ننسى أنّ الثقافة المسمارية تسلّطت على
سورية ولبنان وفلسطين خلال الألف الثاني ق. م. (وقد وُجدت لوحات في الجنوب، في
جازر)، قبل أن تسيطر الأبجدية. وتتضمّن هذه اللويحات لائحة أسماء وعقودًا ومقاطع
ملحمية، فتقدّم لنا نظرة عن النشاط البشري في ذلك الزمان.

ولكنّ
أهم الوثائق المسمارية لم تُكتَشف في أرض كنعان بل في إبله وماري..

منذ
سنة 1974 بدأت البعثة الإيطالية عملها فاكتشفت 16000 لويحة من الأرشيف تعود إلى
الألف الثالث (2400- 2300)، وذلك في إبله تلك المدينة الملكية المزدهرة. قد يخبرنا
هذا الأرشيف الكثير عن هذه المدينة السورية (هي تل المرديخ وتقع جنوبي حلب)، ولكنّ
الاتفاق لم يتمّ بعد بين الاختصاصيين.

ويعلمنا
أرشيف قصر ماري على الفرات الذي دمرِّ حوالي سنة 1750 ق. م. بحضارة الأموريين
ونشاطهم. كان الأموريون ساميين من الغرب وقد وصلوا إلى كنعان قبل شعب إسرائيل (حز
16: 3؛ تك 15: 16). يتضمّن هذا الأرشيف أوراقًا إدارية ورسائل تبادلها ملك ماري مع
الأمراء الأغراب وضبّط المملكة. وهو يرينا تحركات قبائل البدو وأنصاف البدو الذين
يدورون في فلك العواصم الصغرى (الحانيين، سوتو، عبير). وسَّعت مدينة ماري تجارتها
فامتدت إلى حاصور، في الجليل، ولكنّها لم تصل إلى مصر.

وهناك
أرشيف مدينة حاتوسا، عاصمة المملكة الحثية في آسية الصغرى، وهي التي استولت على
بابل ونهبتها في القرن السادس عشر وامتدت إلى سورية مُجبرة المصريين على التراجع،
كما سيطرت على مدينة أوغاريت (راس شمرا) الغنية. دُمرت أوغاريت على يد شعوب البحر
في نهاية القرن الثالث عشر ق. م.، فاكتشف فيها العلماء الأرشيف العام والمكتبات
الخاصة والنصوص الدينية التي تُلقي ضوءاً على الديانة الكنعانية. أمّا أرشيفها
العام فيلتقي بوثائق حاتوسا ويبيّن لنا كيف كان تنظيم عاصمة سامية صغيرة. أمّا
أكثر سكّان أوغاريت فهم من الحوريين، ذلك الشعب غير السامي الذي نزل من حبال
الكوكاز (أو القفقاس). إصطدم الحثيون بهؤلاء الحوريين وبمملكة ميطاني التي تحكمها
أرستوقراطية هندو أوروبية على شاطئ الفرات. توجَّه الميطانيون إلى الهند والحوريون
إلى شرقي دجلة (ارشيف نوزو، تبعد 13 كلم إلى الجنوب الغربي من كركوك في العراق).
ولكنّ بعض هذين الشعبين سيتوجّهون إلى الجنوب على حدود مصر.

كان
تل العمارنة عاصمة مؤقتة للفرعون أمينوفيس الرابع في النصف الأوّل من القرن الرابع
عشر وقد وُجد في هذه العاصمة المصرية رسائل مسمارية. نحن أمام 380 وثيقة تشتمل
خاصة على رسائل دبلوماسية تبادلها الفرعون مع ملوك كبار (بابل، ميطاني، الحثيون،
قبرص) ومع ملوك سورية ولبنان وفلسطين التابعين له. يحمل هؤلاء الملوك أسماء سامية
وهندو أوروبية وحورية. ومنهم ملك أورشليم عبدي-هابا. وتشير الرسائل إلى عبيرو
الذين يهاجمون هؤلاء الملوك التابعين لملك مصر.

بعد
هذا، نجد حوليات ملوك أشور (الفترة الاشورية الوسطى). وصل أحد ملوك أشور إلى لبنان
قبل اندفاع الحثيين نحو المنطقة. وانطلاقًا من القرن الرابع عشر تقاتل الأشوريون
مع الحثيين كما تقاتلوا مع قبائل أحلامي في سورية الذين سيظهر بينهم في القرن
الثاني عشر الأراميون القريبون من بني إسرائيل (تث 26: 5).

وغابت
القوة الاشورية خلال قرنين من الزمن، وانحطت قوة بابل ومصر والحثيين. ولكن عاد
الأشوريون ابتداء من القرن التاسع ق. م. فقاموا بحملاتهم العسكرية. وصل أشور
بانيبال الثاني (883- 859 ق. م.) إلى سورية ولبنان. وفي سنة 853 اصطدم شلمنصر
الثالث بحلف من الأعداء (بينهم أحاب الإسرائيلي كما تقول حوليات الملك الأشوري)
عند قرقر على نهر العاصي.

وتضاعفت
التقارير. ففي سنة 840 نعرف أنّ ياهو دفع الجزية لشلمنصر أسّس ياهو سلالة جديدة
ولكن الحوليات تسمّيه “ابن عمري” (والد أحاب). كان يوآش ملك إسرائيل من
سلالة ياهو، فتحرّر حوالي سنة 800 من تسلط أراميّي دمشق عليه بمساندة هدد نيراري
الثالث، ملك أشور. ولكن منذ سنة 743 تقدّم تجلت فلاسر الثالث (745 – 727) (رج 2 مل
15: 29) تقدّمًا صاعقًا، فتحالف أرام وإسرائيل، ولكن المملكتين دُمرتّا. وبفضل
حوليات هذا الملك وبفضل اللوائح التي تعطي سنة بعد سنة اسم الموظّف الحامل اللقب
الملكي، نستطيع أن نتبع عن كثب السياسة الدولية في أيّام أشعيا. ففي أيّام هذا
النبي، احتلّ سرجون الثاني (722- 705) السامرة، وحاصر سنحاريب (705- 681) أورشليم
والملك حزقيا. وتحدّث أسرحدون (681- 669) وأشور بانييال (669- 630) عن منسّى ابن
الملك حزقيا. في ذلك الوقت هجم الأشوريون على مصر واحتلّوا ممفيس وطيبة (أي نوآمون
المذكورة في نا 8: 3).

وبعد
سنة 638- 637، صمتت حوليات الأشوريين الكبرى، ولكن بقيت لنا كتابات عن خلفاء أشور
بانيبال الضعاف، ووثائق خاصة مؤرّخة تتيح لنا أن نتتبعّ نهاية مملكة أشور. إنّها
“الكرونيكات (مجموعة أخبار) البابلية الجديدة” التي تعود إلى نبو فلاسر
(626- 605) ونبوكد نصر الثاني (605- 562) والتي تقدّم لنا أفضل الإيضاحات عن
السياسة الدولية. وإحدى هذه الكرونيكات تعطينا التاريخ المضبوط لأوّل سقوط لمدينة
أورشليم: 2 اذار من السنة السابعة لنبوكد نصر (16 او 17 اذار سنة 597 ق. م.). بعد
هذا يبدأ عهد صدقيا، آخر ملوك أورشليم.

وهناك
وثائق بابلية أخرى تخبرنا عن اسر يوياكين الملك الصغير الذي خُلع عن عرشه، وعن
خلفاء نبوكد نصّر. في أيّام اويل مردوك (562- 560) استعاد يوياكين كرامته. أمّا
نبونيد (556- 539) فسيخلفه كورش، الملك الفارسي الذي سيسمح للمنفيين سنة 539
بالعودة إلى بلادهم وتنظيم شعائر العبادة في أورشليم. وكتابات ملوك فارس هي عديدة
ولا سيّمَا كتابات داريوس (522-486) الذي سيأذن لليهود بإعادة بناء الهيكل. كان
هذا إذن إحدى وجهات السياسة الدينية لدى الاحمينيين أمثال داريوس وارتحششتا. أمّا
اللغة الإدارية فلم تكن الفارسية بل الأرامية التي فيها دوّنت الوثائق والرسائل
والفرائض التي وُجدت في مصر (الفنتيين، هرموبوليس) وفي وادي الأردن. إنّ هذه
الكتابات تعطينا بعض اللمحات عن حياة الجماعات اليهودية في العالم في القرنين
الخامس والرابع.

 

ثالثًا:
المراجع السامية الغربية

هِناك
أوّلاً الكتابات الأرامية في عهد الفرس، وقد ذكرناها. وهناك مراجع أخرى قصيرة تبدأ
في نصف الألف الثاني ق. م. وبعد اكتشافات الأبجدية. ويبدو أنّ أقدم شاهد على ذلك
هو الكتابات السينائية الأولى التي نجد بعض آثارها في كنعان. هي كتابات قليلة لم
تُحل بعد رموزُها بطريقة مرضية. وهناك لويحات أوغاريت (14000- 1200) العديدة والتي
توصّلنا إلى قراءتها والتي تكمّل الوثائق المسمارية التي ذكرناها آنفًا. إنّها تُلقي
ضوءًا على أساطير الكنعانيين وآدابهم، لا على الأحداث البيبلية. أمّا أبجدية
اوغاريت، فسيصل إشعاعها حتى أرض كنعان.

ظهرت
الأبجدية الفينيقية في القرن الثاني عشر ق. م. وسيستعملها بنو إسرائيل وجيرانهم من
أرام وعمون وموآب وادوم. كتابات قصيرة وقليلة: يهيملك، أحيرام، ابيبعل، ايليبعل من
جبيل. أمّا كتابات القرن التاسع فتهم المؤرّخ البيبلي: بن هدد من دمشق (1 مل 18:
15)، ميشع، ملك موآب (2 مل 3: 4 ي)، زكور من حماة، خصم ابن هدد بن حزائيل (2 مل 8:
8 ي)، كيلاموا من صمعل قرب كركميش على الفرات.

وفي
القرن الثامن، زمن تجلت فلاسر الثالث وأشعيا، بقيت لنا الكتابات التالية: ازيتوادا
في كيليكية، متائيل من ارفاد في سورية، فنامو وبرّكوب، وارثا كيلاموا من صمعل. وفي
القرن السابع: عميناداد من عمون، كاهن نيراب قرب حلب. وفي الكتابات الفخارية في
أشور نجد رسالة وجّهها إلى فرعون أميرٌ تهدّده انتصارات نبوكد نصر وفي كتابات
القرنين السادس والخامس، نجد لائحة ملوك صيدون والكتابة على قبر اشمونَزار. في
القرن الرابع تتضاعف الوثائق على محيط البحر المتوسط، حتّى تصل إلى الهند في القرن
الثالث.

 

3-
المدوّنات والاركيولوجيا في فلسطين

أشرنا
سابقًا إلى مدوّنات وجدت في أرض البيبليا. ولكنّنا نتوقّف الآن عند الكتابات
العبرية التي وُجدت في فلسطين. إنّها كثيرة نسبيًا، ولكنّها في حالة سيّئة. لهذا
نقرأها بصعوبة فلا تفيدنا لنكتب تاريخ شعب إسرائيل.

أوّلاً:
أهمّ هذه المدوّنات: خمسة أسطر كتبها على قناة سلوام عمّال حزقيا حين حفروا هذه
القناة قبل سنة 701 بقليل (2 مل 20: 20). ثم مدونات لاكيش الفخارية المعاصرة لاحدى
حملات نبوكد نصّر في زمن إرميا (7: 34). كتب قائد حربي إلى رئيسه يأوش خلال حصار
المدينة، وتكلّم عن “نبي”. وهناك لويحة جازر (القرن العاشر) التي تعرّفنا
بتعاقب الأعمال الزراعية خلال السنة. ووُجدت مئة رسالة ووثيقة إدارية في عراد قرب
حدود أدوم وقد دوّنت بين القرن العاشر والقرن السادس. وهي تتحدّث عن هيكل يهوه، عن
حملة أدومية (2 مل 2: 24)، عن كتيم (عد 24: 24 ؛ ار 2: 10)، عن سلسلة من المدن
نجدها في سفر يشوع (ف 15)، وعن أسماء علم تُوردها التوراة بعد الرجوع من المنفى.

ثانيا:
تعود مدونات السامرة الفخارية إلى القرن الثامن، وتعرّفنا بإدارة مملكة الشمال قبل
سقوطها (721)، وبالمدن المجاورة. في هذا الوقت تكاثرت الأختام التي نجد عليها
ألقاب الموظّفين. وهناك ختم لكاهن دور وُجد على شاطئ البحر. وفي نهاية القرن
الثامن وبداية القرن السابع، وُجدت الدمغات على الجرار وقد حُفرت حول اسطوانة
ملكية من جناحين أو أربعة. إنّها تشهد على إعادة تنظيم مملكة يهوذا انطلاقًا من
أربع نقاط توزيع: حبرون، زيف، سوكو، ممشيت (؟). وهناك دمغات خاصة وُجدت في جبعون
وأماكن أخرى. ووُجدت في اورشليم كتابة على قبر موظّف كبير (على البيت، رج 1 مل 4:
6؛ أش 22: 15: قيّم البيت)، وكتابات أخرى على جانبَيْ وادي قدرون (عوفل، سلوام)،
وعلى الساحل كتابة يطالب فيها أحد العمّال بحقّه. وفي أيّام الفرس أو بعد الرجوع
من الجلاء (538- 532)، وُجدت دمغات باسم يهوذا. وهذا ما نقوله أيضاً عن العملة
التي انتشرت بعد داريوس. كل هذا يدل على وجود مقاطعة يهوذا. وهناك ختم يحمل لقب
حاكم (فحت في العبرية، رج حج 1: 1؛ نح 14: 5 ي).

ثالثا:
وهناك ما نسمّيه الأركولوجيا الصامتة. هي لا تقدّم النصوص، ولكنّها تُبرز المدن
بأسوارها والبيوت بجدرانها مع التحوّلات المتعاقبة. وتبيّن لنا طرق الوصول إلى
الينابيع، تبيّن القبور والفخار (المستوردة أو المفبركة محليًا) والأسلحة والحلى.
تُتيح لنا هذه الأركيولوجيا أن نحدّد موقع الدولة الملكية (في إسرائيل ويهوذا) وسط
التيّارات الحضارية في ذلك الزمان. وتُعرّفنا بطريقة حياة سكّان المدن وتبادل
السلع. وإذا عدنا إلى الفخار وتطور أشكاله وحَرْقه وتزينيه، نستنتج طريقة نؤرّخ
بها الحقبات المتعاقبة. ولكن على المؤرّخ أن يبقى حذرًا، لأنّ الفخاريات السابقة
للعالم الهلّيني ليست دقيقة، وامكانيات الخطأ قرنان من الزمن. ثمّ إذا وجدنا طبقة
من الرماد، فهذا لا يشير إلى احتلال. فللحرائق أسباب أخرى. ورغم كل هذا، على
المؤرّخ أن يحاسب حسابها ليرسم الخطوط العامة في تاريخ البلاد. أمّا الحالات
الشاذّة فتساعدنا على تفسير النصوص: لا سكّان في أريحا والعيّ في القرن الثاني عشر
ق. م. (هذا يعني أنّ العبرانيين لم يحتلوهمَا). مقابل هذا، اكتشف أحد المنقّبين
جدارًا فعرف أنّه كان هناك حيّ جديد في أورشليم في القرن الثامن. وهناك أمور غير
واضحة. ثمّ إنّ الاكتشافات الأركيولوجية هي موضع جدال بين العلماء: مثلاً سور
أورشليم على أيّام اليبوسيين، اسطبلات سليمان في مجدو، أوّل دمار لمدينة لاكيش.
ولكن، مهما يكن من أمر، فالمؤرّخ يُخطئ إن لم يتتبعّ الحفريات في فلسطين ويدرس
الفخاريات وأشغال المعادن. فهي تساعده على الاطّلاع على الحياة اليوميّة الملموسة.

 

4-
بعض النصوص

أولاً:
كتابة إدريمي (حوالي 1550- 1500 ق. م.).

تسلّط
الهكسوس على مصر من سنة 1750 إلى سنة 1580 ق. م. ثمّ طردهم فراعنة المملكة
الحديثة. وسارت الجيوش المصرية على طرق آسية فوصلت إلى الفرات. وهناك وجدت
“عبيرو” (العبرانيين). حُفرت هذه الكتابة على تمثال يمثّل إدريمي، ملك
بلاد موكيش وعاصمته ألالخ (اليوم عطشانة على العاصي وهي تقع إلى الشمال الشرقي من
أنطاكية)، خلال القسم الثاني من القرن السادس عشر، يروي إدريمي ظروف اعتلائه
العرش. هرب إلى ايمار (مسكينة الحالية على الفرات في سورية الشمالية)، أقام في أرض
كنعان، في عميا (تبعد 15 كلم إلى الجنوب من طرابلس الحالية)، ثمّ عاد إلى بلاده
بعد أن حصل على أقوال قرأها له “متنبئ في طيران العصافير وأحشاء الحملان
المذبوحة، فأكّد له أنّ “تشوب” إله العاصفة في البلاد، سيكون له عونًا.

وإليك
النص:

“أنا
إدريمي، إبن ايليميليمّا، عبد الإله تشوب والإلاهة هبة والإلاهة عشارا (أو عشتار)،
سيدة ألالخ وسيدتي.

“حصل
حدث مشؤوم في حلب موضع إقامة عائلتي فهربنا. كان حكّام إيمار على علاقات مع
والدتي، فذهبنا إلى إيمار وأقمنا فيها. كان أخوتي أكبر مني. سكنوا معي ولكن لم يكن
أحد منهم يفكّر في ما أفكّر فيه من أمور. قلت: من له قصر عائلي (هو أمير). ولكن من
هو (غريب) بالنسبة إلى أهل إيمار فهو عبد. حينئذ أخذت حصاني ومركبتي وخادمي..
وعبرت الصحراء وذهبت إلى السوطيين. قضيت الليلة في مركبتي.. وفي اليوم التالي قمت
وانطلقت إلى أرض كنعان. ففي بلاد كنعان تقع مدينة عمّية. في مدينة عمّية يقيم
مواطنون من حلب، ومواطنون من أرض موكيش ومواطنون من أرض نيع ومواطنون من أرض
امائي. فحين رأوني وعرفوا أنّي ابن سيّدهم انضموا التي.. وأقمت سبع سنوات عند
عبيرو (العبرانيين). طيّرت العصافير وبحثت في أحشاء الحملان. وبعد سبع سنوات،
إلتفتَ تشوب التي. حينئذ صنعت سفنا ونقلت العساكر.. على السفن (وعبرت) البحر إلى
أرض موكيش. وصلت إلى اليابسة أمام جبل حازي (الجبل الاقرع) فنزلت هناك. سمع اهل
بلدي بخبري فجاؤوني بالغنم والبقر. وفي يوم واحد، إنضمّت إلي أرض نيع وأرض إمائي
وأرض موكيش ومدينة ألالخ عاصمتي وكأنهم شخص واحد. عرف إخوتي بالأمر فجاؤوا إلي.
وبما أنّ إخوتي تعبوا من أجلي عاملتهم كإخوتي”.

ويتحدّث
النص فيما بعد عن المعاهدة التي بموجبها صار إدريمي ملكًا تابعًا لباراطَرْنا، ملك
الحوريين، وعن أعمال إدريمي خلال الحرب وخلال السلم.

ثانيًا:
من عبدي هبة في أورشليم إلى أمينوفيس الرابع: “ليهتم الملك ببلاده”.

وُجدت
هذه الرسالة في تل العمارنة العاصمة الموقتة للفرعون أمينوفيس الرابع الذي اتّخذ
اسم أخناتون (النصف الأوّل من القرن الرابع عشر). كان أخناقون صوفيًا أكثر منه
سياسيًا، فلم يهتمّ بالقلاقل التي تحدث على الحدود وفي الممالك التابعة له. وهذا
ما يختبره ملك أورشليم عبدي هبة. طلب عبدي هبة المعونة، ولكنّه تشكّى أيضاً من سوء
تصرّف بعض الجنود الذين يُرسَلون إليه: لقد حاول النوبيون أن يدخلوا إلى القصر عبر
فجوة فتحوها في السقف.

وإليك
نص الرسالة:

“قل
للملك سيّدي: هذا ما يقوله عبدي هبة خادمك: اسقط سبع مرّات وسبع مرّات عند قدمي
سيّدي.. ليعرف الملك أنّ كلّ البلدان في سلام، أمّا عندي فالحرب. فليهتمّ الملك
بأرضه. ها إنّ بلاد جازر وبلاد أشقلون ومدينة لاكيش قد اعطت الطعام والزيت كل ما
يلزم. فليهتم الملك بالجنود. ليرسل الملك جنودًا على الرجال الذي يقترفون ذنبًا
ضدّ الملك سيدي. فإن كان هناك جنود في هذه السنة، كان بلد وكان حاكم للملك سيّدي.
ولكن إن لم يكن جنود، فليس للملك بلد ولا حكّام. ها بلاد أورشليم. لم يعطني إيّاها
أبي ولا أمّي. أعطتني إيّاها يد الملك القوية. ما يحدث هو بسبب ميلكيلي وبسبب
أبناء لبايو الذين أعطوا أرض الملك للعبيرو. فيا أيّها الملك سيّدي، الحق هو في
جانبي.

“أمّا
في ما يتعلّق بكاشي.. فليسأل الملك المفوّضين. فمع أنّ بيتي قويّ جدُّا، حاولوا أن
يقترفوا ذنبًا ثقيلاً وعظيمًا. أخذوا آلاتهم وقطعوا دعامة الخشب.. ليهتمّ سيدي
الملك بهم (أي بالجنود الذين يرسل). فالبلاد هي (غنيّة). ليُصادر الملك كثيرًا من
الطعام كثيرًا من الزيت كثيرًا من اللباس إلى أن يصعد فعورو، مفوّض الملك، إلى أرض
أورشليم.

“ذهب
عدايا مع الفرقة.. التي اعطاها الملك. ليعرف الملك أنّ عدايا قال لي: “لقد
حرّرني الملك”. فلا تتخلّ عن البلاد. أرسل التي هذه السنة فرقة، أرسل التي
مفوضاً ملكيًا. لقد أرسلت إلى سيّدي الملك.. الأسرى، وخمسة آلاف.. وثمانية يسوقون
القافلة الملكية. فأُسروا في سهل أيالون. ليعرف سيّدي الملك أنّي لا أستطيع أن
أرسل قافلة إلى سيّدي الملك. هذا من أجل العلم. ها إنّ الملك قد أقام اسمه في أرض
أورشليم إلى الأبد. إذاً، هو لا يقدر أن يتخلّى عن أرض أورشليم.

“الى
كاتب سيّدي الملك. قل: هكذا يتكلّم عبدي هبة خادمك. ارتميت على قدميك. أنا خادمك.
وجّه كلمات حلوة إلى الملك سيّدي. لست سوى ضابط وضيع لدى الملك. سأموت من أجلك.

“حمِّل
أهل لاكيش مسؤولية عملهم الرديء. كدت أُقتل بيد أهل لاكيش في بيتي. ليبحث الملك في
شأني. ليقبل سيدي الملك (سجودي) سبع مرات وسبع مرات “.

ثالثًا:
كتابة منفتاح (حوالي سنة 1220 ق. م.).

اكتُشف
نُصب الفرعون منفتاح خلَف رعمسيس الثاني في السنة الخامسة لملكه، سنة 1895 على يد
فلندرس باتري في هيكل فرعون الجنائزي غربي طيبة، وهو محفوظ إلى اليوم في متحف
القاهرة. يتضمّن كتابة مؤلّفة من 28 سطرًا. يورد القسم الرئيسي انتصارات الفرعون
على الليبيين في السنة الخامسة لملكه. أمّا السطران 26 و27 فيشيران إلى خضوع
الشعوب الآسيوية، ومنها شعب إسرائيل.

“سجد
الأمراء وقالوا: سلام. ولم يرفع أحد رأسه من بين الأقواس التسعة. تمّ اجتياح
ليبيا، وحاطي هي في سلام. وتجرّدت كنعان من كل فاعل سوء. أشقلون ذهبت إلى السبي
وتمّ احتلال جازر، ويانوام هي كما لو أنّها لم تكن. زالت إسرائيل ولم يبقَ لها
زرع. صارت حارو أرملة أمام مصر، وعمّ السلام كل البلدان”.

يتحدّث
النص هنا عن إسرائيل. ولكنّ هذا لا يعني الأسباط الاثني عشر، بل جماعة من القبائل
المتحضّرة ستنضم إليها القبائل التي شاركت في الخروج من مصر وهذا الانضمام تمّ في
شكيم كما يقول يش 24. وإنّ الأبحاث الحديثة عن دورات الآباء في سفر التكوين، قد
أظهرت أنّ دورة أبي الآباء إسرائيل قد أقُحمت في دورة يعقوب.

رابعًا:
انتصار رعمسيس الثالث على شعوب البحر (حوالي سنة 1190 ق. م.).

هذه
كتابة اكتشفت في هيكل مدينة حابو في طيبة. في السنة الثامنة لملك رعمسيس الثالث،
تمّ النصر على شعوب البحر الذين منهم الفلسطيون.

“السنة
الثامنة لملك (رعمسيس الثالث)..

“البلدان
الغريبة (شعوب البحر) تآمرت في جزرها فاضطربت البلدان حالاً وتوزّعت للقتال. لم
يقدر بلد أن يقف بوجه اسلحتهم من حاطي: كود، كركميش، ارزاوا، ألَشيا، كلّها دمِّرت
بضربة واحدة. وأقيم مخيّم في أرض أمورو. عمّ الحزن الشعب وبدت الأرض وكأنّها غير
موجودة. ثمّ توجّهوا إلى مصر حيث تهيّأت نار أمامهم. ضمّ حلفهم “فلسط”
(الفلسطيين)، شكلش، دانيين، وشاش..

“الذين
وصلوا إلى الحدود ضاع زرعهم وزال قلبهم ونفسهم إلى الأبد. والذين توجّهوا عبر
البحر وجدوا نارًا محرقة أمامهم عند مصب السواقي، كما أحاطت بهم على الشاطئ سياجات
من الحراب. اجتُذبوا بقوة وسجنوا فسقطوا على الشاطئ. قُتلوا وتكدّسوا الواحد فوق
الآخر وسقطت سفنهم وخيراتهم في المياء”.

كانت
شعوب البحر قد هاجمت مصر مرارًا في أيّام أسلاف رعمسيس الثالث (1198- 1166). ولكن
ذكر الفلسطيون مرّة أولى مع جاكر في السنة الخامسة لملك رعمسيس، وذُكروا هنا مرّة
ثانية. وبعد أن اندحر الفلسطيونَ التجأوا إلى شاطئ كنعان واحتلّوا مدن غزّة
وأشقلون واشدود في وقت أوّل. أمّا جاكر فأقاموا في دور (طنطورة).

وبعد
سنة 1100 ق. م.، صار الفلسطيون أوّل عدوّ لقبائل إسرائيل فكانوا سببًا مباشرًا
لتأسيس الملكية في أرض إسرائيل. وسيحارب الملك شاول الفلسطيين طوال حياته وسيموت
في حربه معهم في جبل الجلبوع (1 صم 31: 1 ي).

خامسًا:
شلمنصّر الثالث وأحاب في قرقر (853).

حمل
شلمنصّر الحرب مرارًا إلى الغرب في عهده. والنص الذي نقرأه هنا هو الأكثر قدمًا
وتفصيلاً للقائه الأوّل، سنة 853، بحِلف يقوده هدد عدري، ملك دمشق، ويشارك فيه
أحاب، ملك إسرائيل، ونلاحظ أنّ عدد الذين قُتلوا هنا هو 14000 وسيكون 25000 أو
29000 في نصوص شلمنصّر اللاحقة التي تتحدّث عن المعركة عينها، وسيصير 20500 في نص
المسلة السوداء التي نصبها الملك في نهاية سنة 828.

قال:

“إنطلقت
من الفرات ووصلت إلى حلمان (حلب). خافوا من هجومي وأمسكوا برجلّي. اقتبلت منهم
جزية من الفضة والذهب، وقدّمت ذبائح أمام هدد إله حلب. وانطلقت من حلمان ووصلت إلى
مدينتين من مدن ارحولاني في أرض حماة (على العاصي). أحتلت مدنها الملكية، عدنو،
فرغة، ارغانة، وانطلقت من ارغانة فوصلت إلى قرقر (على العاصي). دمّرت قرقر المدينة
الملكية، هدمتها وأحرقتها: 1200 مركبة، 1200 فرس، 20000 رجل حرب (كانوا) مع هدد
عدري من أرض إمرشو (أرام وعاصمتها دمشق)، 700 مركبة، 700 فرس، 10000 رجل حرب
(كانوا) مع ارحولاني في أرض حماة، 2000 مركبة، 10000 رجل حرب (كانوا) مع أحابوا
(أحاب) من بلاد سرئيلا (إسرائيل) 500 رجل حرب مع ملك بلاد جبيل، 1000 رجل حرب
(كانوا) مع ملك بلاد موصور (في شمال سورية)، 10 مركبات، 10000 رجل حرب (كانوا) مع
ملك أرض ارقنطا (قد تكون عرقا)، 200 رجل حرب مع متينوبعلي من مدينة ارمادا
(ارواد)، 200 رجل حرب مع ملك اوسنَتو، 30 مركبة و10000 رجل حرب مع أدونوبعلي من
أرض شيانو، 1000 جمل لجنود بوع ملك عربا (العرب)، 100 رجل حرب مع بعشا ابن روحوبو
من بلاد أمانة (جبل أمانوس، شمالي العاصي). حصل (هدد) على مساعدة هؤلاء الملوك
الاثني عشر (كذا). وقفوا في وجهي وأصلوني حربًا. حاربتهم بالقوى المتفوّقة التي
أعطانيها أشور سيّدي، وبالأسلحة القويّة التي أهداني إيّاها الإله نرجال الذي يسير
أمامي، فهزمتهم بين قرقر وجلزعو. أسقطت بالسلاح 14000 من مقاتليهم، أمطرت عليهم
طوفانًا مثل هدد. نشرت جثثهم وملأت السهل بجيوشهم الكثيرة وبالسلاح أرقت دمهم..
كانت الفيافي أصغر من (ان تحوي) جثثهم، ولم تكف البرّية لدفنهم. سددت بأجسادهم نهر
ارنتو (العاصي) مثل سد. وخلال هذه المعركة أخذت مركباتهم وأفراسهم وبغالهم”.

كان
أحاب ملك السامرة محالفًا للأراميين في حربهم ضدّ شلمنصر الثالث. ينسب النصّ
الأشوري إلى أحاب 2000 مركبة في معركة قرقر (وليس لهدد عدري سوى 1200 مركبة).
إذًا، يبدو أنّه يجب أن نقرأ 200 مركبة. ثّم إنّ النص الأشوري يفرض علينا أن نعيد
النظر في 1 مل 20 الذي يحدّثنا عن حرب أحاب مع الأراميين. قد يعني النص الكتاب
حروب يوآش (803- 787) ملك إسرائيل ضدّ الأراميين. كان الملك الأرامي قد أخذ بعض
الأراضي من إسرائيل في يوم يوآحاز، أبي يوآش، فاستعادها يوآش.

 

سادسًا:
نصب ميشع، ملك موآب (حوالي سنة 840 ق. م.).

وجد
هذا النُصبَ في بلاد موآب مرسلٌ الماني سنة 1868. سُمّي نصب ميشع، وهو من بزلت
أسود، علوه 1.10 م، حطّمه البدو فخلصه كلرمون غانو ورمّمه وهو الآن في متحف اللوفر
في باريس.

تتضمّن
الكتابة 34 سطرًا وهي تعوِد إلى نهاية سلالة عمري، وقد تكون معاصرة لسنوات ياهو
(841- 814) الأولى. إذًا نجعله حوالي السنة 842- 840 ق. م.

قال:

“أنا
ميشع، ابن كموش، ملك موآب الديبوني (من ديبون، مدينة ميشع الملكية، رج عد 21: 35).
ملَكَ إلى على موآب ثلاثين سنة وملكت أنًا بعد أبي. أقمت هذا النصب لكموش (إله
الموآبيين الرئيسي، رج عد 30: 21؛ 1 مل 7: 11) في قريحو، موضع الخلاص، لأنّه
خلصّني من كل الهجمات ونصرني على كلّ أعدائي. كان عمري ملك إسرائيل، فضايق موآب
أيّامًا كثيرة لأنّ كموش كان غاضبًا على أرضه. وخلفه ابنه فقال: سأضايق موآب. قال
هذا الكلام في أيّامي، ولكنّي انتصرت عليه وعلى بيته، فدُمِّر إسرائيل إلى الأبد.
كان عمري قد وضع يده على كل أرض ميدبا وأقام فيها كل أيّامه ونصف أيّام ابنه، أي
أربعين سنة. ولكنّ كموش ردها في أيّامي. فشيّدت بعل معون وصنعت فيها بركة وبنيت قرياتون.

“أقام
أهل جاد في أرض عطاروت منذ القديم، وقد بنى ملك إسرائيل له عطاروت. حاربت المدينة
فأخذتها وقتلت كل الشعب.. وكانت المدينة تقدمة لكموش وموآب. هناك استوليت على مذبح
حبيبه (؟) وجررته أمام كموش في قريوت. وأسكنت فيها أهل شارون وأهل محروت..

“قال
لي كموش: اذهب وخذ مدينة نابو من إسرائيل. ذهبت في الليل وحاربت من الضحى إلى
الظهر. أخذتها وقتلت كل من فيها، أي 7000 رجل مع الغرباء والنساء الغريبات
والسراري، لأنّي اعتبرتها حرامًا إكرامًا لعشتار كموش. من هناك أخذت أواني الرب
وجعلتها أمام كموش. كان ملك إسرائيل قد بنى ياهص وأقام فيها حين كان يحاربني،
فطرده كموش من أمامي. وأخذت من مدينة موآب كل نخبتها وهي 200 رجل. ودفعتها على
ياهص فأخذتها وضممتها إلى ديبون. أنا بنيت قريحو. أنا بنيت أسوارها، أنا بنيت بيت
الملك، أنا ضاعفت سعة البركة من الماء، في وسط المدينة. لم تكن بئر في وسط مدينة
قريحو، فقلت للشعب كلّه: ليحفر كل منكم بئرًا في بيته. أنا حفرت الآبار في قريحو
بواسطة الأسرى المأخوذين من إسرائيل.

“أنا
بنيت عروعير وأنا فتحت الطريق إلى أرنون. أنا بنيت بيت باموت لأنّها دمِّرت. أنا
بنيت باصر لأنّها كانت أطلالاً، وذلك مع خمسين رجلاً من ديبون، لأنّ كل أهل ديبون
هم رجالي. أنا حكمت مع القوّاد في المدن التي ضممتها إلى البلاد. أنا بنيت ميدبا،
بيت دبلاتون وبيت بعل معون، وجعلت فيها غَنَم البلاد. وحورونان حيث يسكن.. وقال لي
كموش: انزل وقاتل حورونان. نزلت.. فردّها التي كموش في أيامي.. “.

يعلمنا
نصّ التوراة (2 مل 1: 1؛ 3: 4- 5) أنّ ميشع، ملك موآب، كان يدفع الجزية لملك
إسرائيل، وأنّه ثار بعد موت الملك أحاب (875- 853). إنّ التحصينات التي قام بها
ميشع (حسب الكتابة) تُتيح لنا أن نفهم أنّ الحرب التي قام بها يورام، ملك إسرائيل،
على ميشع بمساعدة ملكَيْ يهوذا وأدوم، كانت في جنوبي مملكة موآب وحول البحر الميت
(2 مل 3: 6- 27). إذًا، تذكّرنا هذه الوثيقة الموآبية بتاريخ العلاقات بين موآب
وإسرائيل، وتشير إلى عمري، ملك إسرائيل (886- 875) وإلى أهل جاد الذين أقاموا منذ
القديم في شرقي الأردن (عد 32: 34- 36؛ قض 11: 26).

يرد
اسم ميدبا في عد 21: 30، كما ترد أسماء المدن الموآبية: عطاروت (عد 3: 32،34)،
نابو (عد 32: 3، 38)، ياهص (يش 13: 18)، عروعير (يش 13: 16)، بيت باموت (يش 13:
17)، باصر (يش 20: 8، 21: 36)، بيت بعل معون (يش 17: 13).

 

سابعًا:
تجلت فلاسر الثالث (745- 727) والسامرة.

يروي
النصان الآتيان أن تجلت فلاسر ضّم دمشق وقلب فاقح. إنّهما لا ينتميان إلى
الحوليات، ولا يأخذان بعين الاعتبار الترتيب الزمني للأحداث.

النص
الأوّل يقول:

“من
مدينة حتاريكا (حدراك رج زك 9: 1) إلى جبل صلوئي أخضعت مدن جبيل، صميرة، عرقة،
زيمارا.. اوسنو، سيانو، ريع ربة، رعسيهو.. المدن التي على شاطئ البحر العالي
(المتوسط). جعلت على رأسها ستة موظفين من عندي كحكام. فمن مدينة كشفونا التي على
شاطئ البحر المتوسط إلى مدن.. غلعازا (راموت جلعاد)، ابيلكَّا (آبل بيت معكة) إلى
حدود بيت عمريا (بيت عمري أي إسرائيل). ربطت أرض بيت حزائيل (بيت حزائيل أي أرض
دمشق) كلّه بأرض أشور وجعلت على رأسه موظفين من عندي حكّامًا عليه.

“أرض
بيت عمريا.. أخذت إلى أشور مجمل سكّانها. قلبوا فقاحا (فاقح) ملكهم، وأقمت اوشع
(هوشع) ملكًا عليهم. تقبلت منهم عشر وزنات من الذهب ومئة وزنة من الفضة كجزية
سنوية وفرضت عليهم.. “.

النص
الثاني يقول:

“من
مدينة حتاريكا إلى جبل سعوئي وإلى مدينة كشفونا التي على شاطئ البحر العالي ضمت..
إلى أرض أشور. وجعلت على رأسها اثنين من موظفيّ الكبار كحاكمين من جبل أمانة
(الجبل الشرقي في لبنان) إلى مدينتي غلفارا وابيلَّكا إلى حدود أرض بيت عمريا ربطت
أرض بيت حزائيل كلّها بأرض أشور وجعلت على رأسها موظّفًا من عندي كحاكم.

“حيريمو
(حيرام) من أرض صور الذي اتصل براعيانو (راصون).. استوليت على محلب قلعته وعلى
المدن الكبرى واقتدت الاسرى منها. جاء إلى حضرتي وقبَّل قدمي. تقبلت عشرين وزنة من
الذهب.. وزنة من الفضة.. واللباس المزركش والموظّفين الكبار والمغنّين والمغنّيات
وأفراسًا من مصر”.

يتحدّث
2 مل 15: 30 باقتضاب كيف تمّ الانقلاب على فاقح بيد هوشع، آخر ملوك إسرائيل.

ثامنًا:
شلمنصّر الخامس (726- 722) يستولي على السامرة.

هذه
نسخة عن كرونيكون بابلية تعود إلى السنة الثانية والعشرين من ملك داريوس الأوّل
(521- 686)، ومع أنّها متأخّرة فلا نستطيع أن نشكّ بدقّة معلوماتها. وهي تقول:

“في
شهر تابت (كانون الأوّل 727- كانون الثاني 726)، في اليوم الخامس والعشرين منه جلس
شلمان اشارد (شلمنصر) على عرش أشور وأكاد (بابل). دمّر شماراين (السامرة). في
السنة الخامسة ذهب شلمان اشارد إلى مصيره (مات) في شهر تابت. مارس شلمان اشارد
الملك على أكاد وأشوريا مدة خمس سنوات. وفي شهر تابت (كانون الأوّل 722- كانون
الثاني 721) في اليوم الثاني عشر منه، جلس شروكين (سرجون) على عرش أشوريا. وفي شهر
نيسان (آذار- نيسان) جلس مردوك ابلايدينا (مردوك بلادان) على عرش بابل “.
حاصر شلمنصّر السامرة (2 مل 3: 17) واحتلّها سنة 721 (2 مل 17: 5- 6؛ 9: 18- 10)،
أمّا جلاء أهل السامرة فتمّ على يد سرجون الثاني سنة 720.

تاسعًا:
نبوكد نصّر الثاني (605- 562) ويهوذا: سقوط أورشليم.

تواجه
المادايون والبابليون من جهة والمصريون من جهة ثانية. وبعد أن هزم نبوكد نصّر
المصريين في كركميش (قرب جرابلس الحالية) هزيمة نكراء قام بعدة حملات إلى حاطو ثمّ
أخضع مملكة يهوذا لسلطانه. إنّ النصوص التي تروي هذه الأحداث تورد كرونولوجيا
دقيقة تنتمي إلى الكرونيكون البابلي.

قال
الكرونيكون:

“في
السنة العشرين (لنبو فلاسر) سارت جيوش مصر إلى فيموحو (على الشاطئ الغربي للفرات،
وإلى الجنوب من كركميش) وهجمت على الحامية التي وضعها أكاد (بابل) هناك. حاربت
المدينة أربعة اشهر ثمّ أخذت المدينة وهُزمت حامية ملك أكاد. وفي شهر تشريتو (19
أيلول- 17 تشرين الأوّل سنة 616) جهّز ملك أكاد جنوده وسار بمحاذاة النهر ونصب
خيامه في قوراماطو التي هي على شاطئ الفرات. وعبّر جيوشه الفرات فاحتلّت مدن
شوناديرو وعيلامو ودهامو (وهي مدن تقع في عبر النهر) وسلَبها. وفي شهر شباطو (15
كانون الثاني- 12 شباط سنة 605) عاد ملك أكاد إلى بلاده. أما جيوش مصر التي كانت
في جلجامش (كركميش) فعبرت الفرات وسارت على جيوش أكاد المقيمة في قوراماطو. فارتدت
جيوش أكاد وتراجعت.

“وفي
السنة الحادية والعشرين، ظلّ ملك أكاد في بلاده. فجمع نبوكودوري أو صور (نبوكد
نصّر) بكرُه وأميرُ الديوان، الجنودَ وسار على رأسهم حتّى وصل إلى جلجامش التي على
شاطئ الفرات. عبرَ النهر ضدّ جيوش مصر التي كانت مخيّمة في جلجامش، وتَحارب الوحد
ضدّ الآخر هربت جيوش مصر فدحرها نبوكد نصّر وأزالها. أمّا سائر جنود مصر الذين
أفلتوا من الهزيمة وظلّوا سالمين، فقد لحقت بهم جيوش أكاد في مقاطعة حماة ودحرتهم،
فما عاد واحد منهم إلى بلاده. وفي الوقت عينه، احتلّ نبوكد نصّر أرض حماة كلّها.
كان نبو فلاسر ملكًا على بابل مدة 21 سنة، ثمّ ذهب إلى مصيره (مات) في اليوم
الثامن من شهر آبو (15 آب سنة 605). وعاد نبوكد نصّر إلى بابل في شهر أولولو
وارتقى العرش الملكي في بابل في اليوم الأوّل من شهر أولولو (7 أيلول سنة 605).

“وفي
بداية ملكه، عاد نبوكد نصر إلى حاطو وجال منتصرًا في بلاد حاطو حتى شهر شباطو (2
شباط- 2 آذار سنة 604). وفي شهر شباطو، حمل إلى بابل الجزية الكبيرة من حاطو. وفي
شهر نيسانو (2 نيسان- 30 نيسان سنة 604) أمسك بيد بال وابن بال (الإله نبو) واحتفل
بعيد اكيتو (رأس السنة).

“وفي
السنة الأولى، في شهر شيمانو (30 ايار- 28 حزيران سنة 604) جمع نبوكد نصّر جيوشه
وجال منتصرًا في بلاد حاطو حتى شهر كسليمو (24 تشرين الثاني- 23 كانون الأوّل سنة
604). فجاء كل ملوك حاطو في حضرته وقدّموا له جزية باهظة. فسار على اسقلينو
(اشقلون) واستولى عليها في شهر كسليمو: أمسك ملكها. أعمل فيها السلب والنهب،
واقتاد الأسرى، وحوّل المدينة إلى تل وكومة من الدمار. وفي شهر شباطو (23 كانون
الثاني- 20 شباط سنة 603) رجع إلى بابل “.

ويتحدّث
النصّ عن السنة الثانية والسنة الثالثة، وعن حملات نبوكد نصّر في أرض حاطو. ثمّ
يتابع:

“وفي
السنة الرابعة، جمع ملك أكاد جيشه وسار إلى حاطو، وجال في حاطو منتصرًا. وفي شهر
كسليمو (21 تشرين الثاني- 19 كانون الأوّل سنة 601) سار على رأس جنوده فتوجّه إلى
مصر فلمّا علم ملك مصر بالأمر جمع جنوده. وتقاتل الملكان في معركة مخططة وكبّد
الواحد الآخر خسارة فادحة. تراجع ملك أكاد وجيشه وعادوا إلى بابل.

“وفي
السنة الخامسة ظلّ ملك أكاد في أرضه. فجمع عددًا كبيرًا من المركبات والخيل.

“وفي
السنة السادسة، في شهر كسليمو (29 تشرين الثاني- 27 كانون الأوّل سنة 599) جمع ملك
أكاد جنوده وسار على حاطو. ومن حاطو أرسل جيشه نحو الصحراء، فاستولوا على عرابى
(اعراب) عديدين، على ممتلكاتهم وقطعانهم وآلههتم. وفي شهر أدارو (25 شباط، 26 آذار
سنة 598)، عاد الملك إلى بلاده.

“وفي
السنة السابعة، في شهر كسليمو (18 كانون الأول سنة 598- 15 كانون الثاني سنة 597)،
جمع ملك أكاد جنوده وسار على حاطو، ونصب خيامه أمام مدينة ياهودو (يهوذا). وفي
اليوم التالي من شهر أداروا (16 آذار سنة 597)، استولى على المدينة. أسر الملك،
واختار ملكا آخر جعله مكانه. وفرض جزية باهظة حملها معه إلى بابل “.

 

ج-
المنهج التاريخي

1-
من عالم الشرق القديم إلى التوراة

ليس
هناك منهج واحد نُدرك فيه وقائع الحياة التي تنبثق عنها المُعطيات المادية التي
ذكرناها في مراجعها. فهذه الجدران وهذه الأدوات وهذه النصوص لم تكن وصلت إلينا لو
لم يُنتجها أناس وأحداث. ولكنّ تحليلها أكثر تشعّبًا من الحياة البشرية. وكم يجب
أن نتردّد عندما نفسّرها. وهذا ما اكتشفناه عندما قرأنا النصوص. فالنص الذي أمامنا
هو صدى لتعامل أو تحرّك. ونتساءل: هل هو وليد المخيّلة أم وليد الدعاية؟ هل هو
حساب ووصل ولائحة أشياء، أم تذكار دوّن لتمجيد ملك سيسكت عن زلاّته؟ هل يمجّد هذا
النصّ الملك وهو حي، أو بعد مماته، بعد أن صار أسطورة في ذاكرة الشعب؟

ويسير
تاريخ شعب إسرائيل في مدى جغرافي وزمني محدّد. فعلى الإطار الجغرافي أن يبقى
ماثلاً أمام المؤرّخ. فشعب إسرائيل البيبلي هو شعب صغير يعيش في مدى ضيّق. ولكنّ
هذا المدى لا ينعزل عن تحرّكات الشعوب والحضارات التي تمرّ في الشرق الأوسط حتّى
قبل اختراع الكتابة. ظهر إسرائيل بعد موآب وادوم، في القرن الثالث عشر ق. م.. هذا
هو التاريخ الذي يقدّمه لنا نُصب منفتاح. وهو يحدّثنا عن إسرائيل كشعب غير متحضر،
يحدّثنا عن قبائل لا عن شعوب أو مدن. وقبل ذلك، لم ترَ الجيوش المصرية في كنعان
إلاّ عبيرو، حورو، شوشو. يبقى علينا أن نحدّد العلاقات بين العبرانيين وبني
إسرائيل. في مرحلة أولى من البحث، نحيط بحياة إسرائيل بواسطة المعطيات التي نجدها
عند جيرانهم (منفتاح، ميشع، سنحاريب..). ولكنّ هذه المعطيات قليلة العدد. فإذا
أراد المؤرّخ أن يتوسّع، وجب عليه أن يعود إلى التوراة، ولكن دون أن ينسى أنّ
التوراة تستعمل الفنون الأدبية التي تقدّمها الثقافات المحيطة بأرض إسرائيل.

 

2-
من التوراة إلى عمل المؤرّخ الكتابي

إذا
أراد المؤرّخ الحديث أن يقيم أُسسًا ثابتة لتاريخ إسرائيل، فقد يميل إلى اختيار
زمن الأنبياء كمرحلة ثانية لمنهجه. فأسفار الملوك وأشعيا وإرميا تقدّم لنا معلومات
أكيدة ترتبط بالتاريخ العام. لقد تلفّظ اشعيا بأقوال حين كان شعب إسرائيل يواجه
تجلت فلاسر الثالث (734- 732) وسرجون (720- 705) وسنحاريب (701). وجاهد إرميا يوم
كان يهوذا يقاسي الضغط البابلي بعد معركة كركميش (605)، ويسقط بسيف نبوكد نصّر
الثاني (597- 587). أمّا أشعيا الثاني (أش 40- 55) الذي كتب في أيّام الجلاء، فهو
يعرف كورش حوالي سنة 550 (أش 44: 28؛ 45: 1).

والمرحلة
الثالثة في البحث التاريخي تدخل في درس التشريعات. فكلّ تشريع يقابل وضعًا معطى في
تاريخ إسرائيل. هناك إصلاح يوشيا سنة 622 (2 مل 22- 23). أمّا سفر التثنية فانطبع
بطابع الأنبياء الذين نالوا منه وضعًا يجعلهم شبيهين بالملك.

وتقوم
المرحلة الرابعة بتحديد النصوص السابقة لسفر التثنية واللاحقة لسفر التثنية. فقد
بينّت مدرسة النقد الأدبي أنّ القانون الكهنوتي (رج سفر اللاويين وقانون القداسة،
لا 17- 26) جاء بعد القانون الاشتراعي. فهو لا يعرف الملك، بل ينقل إلى رئيس
الكهنة وظائف دينية كانت خاصة بالملك في الشرق القديم عامة وفي زمن ملوك إسرائيل
خاصة. وبإلاضافة إلى هذا، يتتبع الكهنوتي موقف حزقيال (ف 44) فيميّز بين الكهنة
واللاويين، وهذا ما لا يفعله سفر التثنية.

في
المرحلة الخامسة نحدّد تأليف وبُعد النصوص السابقة للتثنية. فظروف ولادة الحركة
الاشتراعية ليست واضحة. ولكنّنا متأكّدون أنّ هناك قانونين سابقين لسفر التثنية:
قانون خر 20: 24- 23: 19 الذي يُسمَّى “قانون العهد”، والقانون الصغير
في خر 34: 14- 26. ولكن، إذ يعطى القانون الكهنوتي البنتاتوكس الحالي إطاره العام
(لا ننسى أنّ شريعة يش 20 قادت بعض العلماء لكي يتكلّموا عن الهكساتوكس أي الأسفار
الستة)، يظهر القانون الاشتراعي (تث 12- 26) شريعةً مقحمة في خطب. فالقوانين
السابقة للتثنية هي أحداث مقحمة في سلسلة من المشاهد تشكل “تاريخين”
يرويان بدايات إسرائيل حتّى موسى.

فقانون
العهد ينتمي إلى “تاريخ” ألهمه الأنبياء، تاريخ قريب من سفر التثنية
ومتمايز عنه باسلوبه وتشريعه. فهذا التشريع هو قديم وهولا يتحدّث عن الملك ولا عن
الكهنة ولا عن القضاة، بل يتحدّث عن المتشفّعين (فلل في العبرية رج خر 21: 22).
وهو لا يتحدّث أيضاً عن الأنبياء. ولكنّ الأخبار تعتبر إبراهيم نبيًا (تك 20: 7)
وموسى نبيًا من الدرجة الأولى (عد 12: 6- 7 ؛ 11: 16- 17، 24- 29). وإنّ هذه
الأخبار (مثلاً تك 3: 20) وهذا التشريع (خر 8: 22) تعطي إله إسرائيل اسم الوهيم
أقلّه حتّى زمن موسى (خر 14: 3).

وتعرض
هذه الأخبارَ مرارًا التقاليدَ عينها التي نجدها في سلسلة أخرى نسميها التاريخ
اليهوهي، لأنّها تسمي إله إسرائيل منذ البداية باسم يهوه (تك 4: 26؛ رج 2: 4 ي).
إلى هذا التاريخ ينتمي قانون خر 34 الذي يمثّل متطّلبات يفرضها إله إسرائيل على
موسى وشعبه.

يختلف
هذا “التاريخ” اليهوهي عن سابقه فيتحدّث عن “الصولجان” و”الملك”
(تك 49: 10؛ عد 7: 24، 17). إنّه تاريخ نبويّ تعالَج فيه المسائلُ الوطنية، لا
بالنظر إلى ميراث المواعيد الإلهية. نحن في مشاهد عائلية في إطار سلالة ملكية،
وهذه السلالة ترتبط يهوذا (تك 49: 10). ويذكر هذا التاريخ آخر الشعوب الذين
انضمّوا إلى نسل إبراهيم، يذكر اليبوسيين سكّان أورشليم التي احتلّها داود (تك 15:
21).

 

3-
التاريخ الشرقي والتاريخ البيبلي

تأسّست
الملكية في إسرائيل كما تأسّست سائر الملكيات (1 صم 8: 6- 20). والحال أنّ
المحاولات التاريخية في الشرق القديم قد تركّزت حول اختيار الملك وعمله. فلن نعجب
إذن أن يكون “تاريخ” إسرائيل القديم مركّزًا هو أيضاً على الملك ومسائل
الخلافة. مثلاً، نجد في التكوين والخروج مشاهد خاصة مركّزة على الرئيس، وكيلات
ترتبط بمسائل الخلافة. فالملك الذي اختاره الإله الوطني اختيارًا شرعيًا، هو قوة
شعبه أو ضعفه. هذا ما نسمّيه “الشخصية المتضمنّة” (الشعب هو في الملك).
إذا انتصر شاول وداود، نجا الشعب. وإن أخطأ الملك، حلّ الشقاء بالشعب (2 صم 24: 1
ي). فالملك هو أب ورئيس وبطل، وهو يؤمّن للشعب إطارًا إداريًا وعسكريًا يجد بفضله
العدالة والازدهار (2 صم 8: 15- 18؛ رج تك 18: 19)، فلا يختنق بسبب الخطر الآتي من
الخارج ولا تقلقه النزاعات الداخلية. كان الشعب يذهب إلى “باب” المدينة
(22: 17) وهناك تمارَس العدالة وتَتم العقود. مع الملك ظهرت العاصمة حيث انتظمت
الخِدم وتربّى كَتَبة يديرون شؤون المملكة.

إنّ
أقدم الأخبار التاريخية في بلاد الرافدين تُنشد انتصارات الملك. لقد حرّر اياناتوم
المدينة السومرية لجش من محاولات جاره. وحرّر اوتوهاغال سومر من نير
“غوتي” أهل الجبل. ويروي المصريون كيف أنّ الفراعنة (أكانوا من السلالة
الثانية عشر أو الثامنة عشرة) حرّروا مصر من الآسيويين (الهكسوس). ويقول الحثي
مورسيل الثاني أن ذَنْب والده سبّب الوباء الذي يحلّ بالبلاد. وفي أسطورة أوغاريت،
يبدو أنّ مرض الملك كيريت هو الذي سبَّب الجوع في البلاد، وسبَّب ثورة ابنه. وتنسب
الكرونيكات البابلية والحوليات الأشورية وأمجاد الملوك الحثّيين إلى الملك كل شيء.
ولا تذكر قوّاده إلاّ نادرًا. أمّا في أشور، فكانت تورَّخ كلُ سنة باسم موظف كبير.
في مصر يقول عوني إنّه زحف على آسية حوالي سنة 2350 ووصل إلى “أنف
الظبي” (أي الكرمل)، ولكنّه يقول حالاً إنّه فعل ما فعل بقيادة الملك فافي
الأوّل. وصلت إلينا بعض المعلومات عن طرد الغرباء الهكسوس على يد الضابط احميس ابن
ابانا، ولكنّ “المنتصر” هو الفرعون سكنين رع. ستُكتب فيما بعد سيرة حياة
هذا أو ذاك، ولكنّ الإيديولوجيا الملكية تسيطر عليها.

ولا
يكتفي هذا التاريخ بإنشاد الملك الحالمة، بل يعود إلى الماضي. والتاريخ المركّز
على مسائل الملكية الداودية سيعود أيضاً إلى التقليد القديم.

ففي
مصر إهتمّ حجر “بالرمو” (إيطاليا) منذ سنة 2500 ق. م. بتواصل مصر عبر
السلالات المتعاقبة. فقد دوّن الفراعنة لائحة أسلافهم (الشرعيين) في سقارة
وأبيدوس، ثم إن بردية تورينو المدوّنة في عهد الرعامسة (في زمن موسى) تقدّم سلسلة
الملوك حتّى الهكسوس، منطلقة من زمن الآلهة وأنصاف الآلهة الذين هم “خدام
حورس”. وسيكمل مانيتون العمل في هذه السلالات بناء على طلب البطالسة.

ويتمّ
في بلاد الرافدين عملٌ مماثل، وإن كان أكثر تشعّبًا. فحوالي السنة 2000 ق. م.،
بدأت اللائحة الملكية السومرية سلالاتها بسلسلة من ثمانية ملوك كانوا قبل الطوفان،
وهكذا دلّت على وحدة بلاد الرافدين حتى ثورة أوتوعاغال على غوتي جاعلة السلالات
المعاصرة (على المدن المختلفة) وكأنّها سلالات متعاقبة. وسيصوّر المؤرخ الإسرائيلي
الأوّل وحدة إسرائيل منطلقًا من تقاليد قبلية مختلفة دون أن يحترم التسلسل الزمني.
وفي زمن سلالة بابل الأولى (حوالي سنة 1900 ق. م.)، عاد المؤرّخون إلى الحقبة
الساميّة الأولى (حوالي سنة 2300، سلالة أكاد). وهكذا نملك تقاليد تتضمّن أحداثًا
ملكية مع نتائجها، وهي ستستعمل في الكرونيكات اللاحقة. وستعود هذه الكرونيكات
أيضاً إلى تقاليد دوِّنت في ارشيف المدن البابلية ومعابدها. تروي كرونيكة كنغ
انتصارات وإخفاقات سرجون القديم وخلفه نرمسين. ثمّ تنتقل إلى شولجي الملك السومري
الجديد الذي اشتهر بميله إلى القتل. وتورد حدثًا عن الملك اراآميتي: مات وهو يشرب
شرابًا ساخنًا، دون أن يترك وارثًا.. وهكذا تبدأ سلالة بابل الأولى. أمّا كرونيكة
وايدنر فتحكم على الملوك القدماء بالنظر الى أمانتهم أو خيانتهم حيال معبد مردوك،
إله بابل الوطني. وبعد هذا، تأتي لائحة الملوك الأشوريين والتي سميت “سلالة
حمورابي”، ولائحة ملوك أوغاريت التي تذكر الأموريين القدماء (ديتانو) الذين
عاشوا في الخيام. يتضمّن هذا التاريخ وُجهة عبادية، ولكنّه يهدف أيضاً إلى تبرير
وجود سلالة من السلالات.

التاريخ
القديم هو تاريخ موجّه. يختار ما يختار من تقاليد الماضي ووقائعه منطلقًا من مشاكل
الشعب الحاضرة، فيقدّم لنا قراءة جديدة للأحداث.

 

4-
التاريخ البيبلي

نستطيع،
انطلاقًا من هذه النماذج، أن نفسّر أقدم تاريخ إسرائيلي هو التاريخ اليهوهي في
البنتاتوكس وتاريخ خلافة داود في 2 صم و1 مل 1- 2، والأخبار التي تهيئ ملكية يهوذا
في أسفار يشوع والقضاة وصموئيل الأوّل. لن يكون في حوزته أرشيف كثير، ولهذا فهو
يعود إلى التقاليد القبلية. هو تاريخ سابق لزمن الانبياء، ومركّز على العائلة
الملكية، على قصرها وعلى معبدها في أورشليم الذي يتفوّق على سائر المعابد المحلية
التي زارتها القبائل وأجدادها.

ينطلق
المؤرّخ من مقاطع متنوّعة فيقدم خطاً متواصلاً. ينطلق من النماذج التي أمامه،
فيقدّم ربة عن بداية البشرية وتكاثُرها قبل الطرفان. واتّبع أطماح هذه الملكيات
الشاملة، فأكّد أنّ دعوة إبراهيم تتوجّه إلى كلّ الشعوب (تك 3: 12 ب). وانطلق من
المشاكل الخاصة بملكية داود وسط مزاحميها ومعارضيها، فذكر كيف تمّت قسمة الأرض بين
إبراهيم ولوط (عمون وموآب). أمّا تقاليد شمعون في بئر سبع (يش 19: 2)، فوحّدت أي
عيل وإسحق وباعدت بينهما. وتقاليد “لحي روثي ” (تك 42: 24؛ 11: 25 ؛ رج
16: 14) وحّدت عيسو وإسرائيل حول رفقة الأرامية وباعدت بينما. ثمّ كانت مسائل خاصة
بالقبائل الاثنتي عشرة وتجمعاتهم (ليئة، راحيل، زلفة، بلهة) ونزاعاتهم. وذكر
المؤرخ ما فعله رأوبين ببلهة، أم دان، قبل انتقاله إلى الشمال، وما فعله شمعون
ولاوي بأهل شكيم قبل أن يتفرّقا. لهذا عادت الملكية إلى يهوذا الذي هو أصغر منهما.
ولكنّ الدور الأهمّ هو دور يوسف الذي كان له مركز الصدارة قبل تأسيس الملكية. وُلد
بنيامين من راحيل مثل يوسف الذي أراد أن يحتفظ بأخيه. ولكنّ يهوذا هو الذي يخلّص
كلّ إخوته كما يقول المؤرّخ اليهوهي. وهو يعود إلى تقاليد قديمة، أكانت محليّة أم
قبليّة، فيعيد تفسيرها، ويجعل الآلهة المحلّية ملائكة في خدمة يهوه. عاد إلى نماذج
مصرية أو بابلية فأعطانا خبر عدن (تك 2- 3) وسفرَ عبد إبراهيم إلى حاران (تك 24)
وحيلة رفقة (تك 27) وقصة يوسف.

وبعد
هذا التاريخ الملكي سيظهر تاريخ نبوي. هي النصوص الألوهيمية في البنتاتوكس حيث روح
الله ينتقل من شاول وداود إلى موسى (عد 11). فصموئيل، رجل الله، سيكون النبي وصانع
الملوك، وهو ينقل التاج من شاول إلى داود، كما سينقل اليشاع التاج من بيت أحاب إلى
بيت ياهو. دوِّن هذا التاريخ، على ما يبدو، في مملكة الشمال وأوساطه النبوية (هو
8: 4؛ 13: 11) فكرّم داود ولكنه لم يكرّم بيته كما لم يكرّم أية سلالة ملكية في
الشمال. فالخلاص يأتي من العادات السابقة للملكية التي تعود إلى موسى “الذي
أصعد إسرائيل من أرض مصر”. وهذه العادات حُفظت في معابد اللاويين (شكيم،
الجبال، بيت إيل، دان). يستعيد هذا التاريخ معطيات التقليد السابق مع حسّ أخلاقي
أعمق، ويحتفظ بمعطيات ثمينة عن حياة قبائل الشمال وعلاقتها بالأراميين الذين هم
إخوة وأعداء معًا. ويرتبط بهذا التقليد سفرُ القضاة المركّز على وصايا الله، لا
على شخص الملك.

وأطلّ
المؤرّخ الاشتراعي منذ نهاية القرن الثامن وبداية القرن السائح أي بعد زوال مملكة
إسرائيل وما طرحه هذا الزوال من مشاكل لاهوتية مرعبة. نحن هنا أمام عمل جديد
يتركّز على هيكل أورشليم، ويرتبط ارتباطاً وثيقًا بالتاريخ النبوي في القرن
السابق. إنّه يستعمل نماذج بابلية فيَحكم على الملوك بالنظر إلى أمانتهم وخيانتهم
للمعبد الوطني، ويقدّم تاريخًا متوازيًا للملكتين. ترك الآباءَ جانبًا ولم يحتفظ
من أخبارهم إلاّ بالمواعيد والأقسام التي تركها الله لهم. عرف الملكية، ولكنّه
جعلها تحت مراقبة الشريعة والكهنة اللاويين (استودعت الشريعة بين أيديهم)
والأنبياء. يبدأ هذا التاريخ مع سفر التثنية، وينتهي مع كتاب الملوك. وستكون له
وجهتان: وجهة علمية تظهر باستعمال المراجع الرعية والمحفوظة في المدينة، وجهة
شعبية تظهر باستعمال دورات الأنبياء، دورة إيليّا ودورة أليشاع.

ونصل
إلى المؤرّخ الكهنوتي. فهو يجهل الملكية ويبني تاريخًا مبتكرًا لشعب إسرائيل وسط
الأمم. تتركّز حياة إسرائيل حول معبد. ظهر الله للأنبياء بطريقة عابرة. ولكنّه،
منذ موسى، حاضر وسط شعبه، بواسطة شريعة ليتورجية قديمة وخدمة عبادية يقوم بها
الكهنة الهارونيون. ويمتدّ هذا التاريخ، فيصل إلى أسفار الأخبار وعزرا ونحميا التي
تركّز كلامها على عبادة الهيكل وإصلاحاته، كما تتضمّن معلومات عديدة عن تاريخ ما
بعد الجلاء وعن تحرك القبائل في زمن الملكية. ولكن، إذا قابلنا كتاب الأخبار بكتاب
الملوك، فهمنا أنّه يجب أن نستعمل بحذر كتاب الأخبار لنتحدّث عن المرحلة الأخيرة
في تاريخ الشعب.

وهكذا،
نأخذ بعين الاعتبار مختلف وجهات التاريخ البيبلي، فنحاول أن نكتب التاريخ السياسي
لشعب إسرائيل البيبلي كل مراحله في تطور الشرق الأوسط المبلبل. ونقمهم عملنا إلى
خمسة فصول. الأوّل: قبل ملكية داود: القبائل وحياتها. الثاني: امتلاك الأرض.
الثالث: المملكة الموحّدة. الرابع: المملكتان: إسرائيل ويهوذا. الخامس: من نبوكد
نصّر إلى الاسكندر.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى