علم الكتاب المقدس

الفصل الثامن



الفصل الثامن

الفصل
الثامن

مراحل
تكوين التوراة أو العهد القديم

عندما
يتّصل القارئ بالتوراة يحسب نفسه أمام مجموعة كاملة لأحد الكتّاب. في الواقع لسنا
أمام كاتب واحد، ولسنا أمام كتاب واحد، بل نحن أمام كتّاب عديدين، وأمام مجموعة من
الكتب يقارب عددها الخمسين. لا شكّ في أنّنا من الناحية الإيمانية نعتبر أنّ
كاتبها واحد، وهو الله، وقد استعان بالكاتب الملهَم ليُوصل إلينا كلامه بطريقة
بشرية، ولا شكّ في أنّنا نسمّي مجموعة الكتب هذه الكتاب المقدّس، معتبرينها كلّها
كتابًا واحدًا. لكنّ الأمر يختلف من الناحية البشرية. فعندما نفتح التوراة يجب أن
نعلم أنّ أسفارها ستة وأربعون وكتّابها كثيرون. ويمكننا أن نشبّه تأليف الكتاب
المقدّس بقصر بُني على مراحل، غير أنّ مراحل تكوين الكتاب لم تكن بضعة أشهر أو بضع
سنين، بل بضعة قرون لا تقلّ عن الثمانية، بدأت مع موسى وتنظّمت في عهد الملوك
وامتدت إلى الزمن القريب من المسيح.

ومن
أجل دراستنا هذه سنميّز خمس مراحل.

المرحلة
الأولى هي مرحلة التهيئة: تبدأ مع إبراهيم وتتوضّح مع موسى وتتثبّت في زمن القضاة.
والمرحلة الثانية تنبسط في عهد داود وسليمان، فينطلق فيها الأدب الإسرائيلي
انطلاقته المكتوبة، مستفيدًا من التقاليد الشفهية التي انتقلت إليه من المرحلة
الأولى، وتمتدّ حتى القرنين العاشر والتاسع قبل المسيح، وتركّز عملها في أورشليم
التي أصبحت مركزًا أدبيًا هامًّا. والمرحلة الثالثة تلي زمنَ انقسام مملكة داود
إلى مملكتين، مملكة يهوذا في الجنوب، وعاصمتها أورشليم، ومملكة إسرائيل في الشمال،
وعاصمتها السامرة. ولقد نما الأدب العبراني في هاتين العاصمتين خلال القرنين
التاسع والثامن بطريقة مستقلة إلى وقتٍ دمرّت فيه السامرة فحملت البقية الباقية
منها كتبها معها، فاندمج تراث الجنوب بتراث الشمال. والمرحلة الرابعة، وهي مرحلة
سقوط أورشليم وذهاب الشعب إلى المنفى، كانت مرحلة فراغ تبعها تجديد سيتوسعّ إلى
القرن الأوّل ق. م.، فعادت الجماعة إلى أصولها القديمة تدوّنها، وتفتّحت على
تيارات فكرية جديدة وشهدت تأثير الثقافة اليونانية في بعض أسفار الكتاب المقدّس.

 

أ-
المرحلة الأولى: مرحلة التهيئة

في
هذه المرحلة نتعرّف بصورة خاصة إلى شخصية موسى الذي سيطبع حياة الشعب العبراني
بطابعه الفريد. فمعه سيُنشدون أوّل الأناشيد التي نعرفها، ومن فمه سيستمعون إلى
أولى الشرائع التي سيعملون بها، وعلى هديه سيروي الرواة النتف الأولى من تاريخهم.
في هذه المرحلة ستتكوّن تقاليد العبرانيين وتتثبّت وتنتشر بانتظار أن تُكتَب في
المراحل اللاحقة.

 

1-
من التقاليد الشفهية إلى التقاليد الخطّية

وصل
الوحي إلى موسى يوم بدأ الشرق يتعلّم الكتابة بالحروف كما حملها الفينيقيون إلى كل
الأرض المعروفة آنذاك. غير أنّ العبرانيّين أبطأوا في الوصول إلى مرحلة تدوين
تراثهم. فالآباء (إبراهيم واسحق ويعقوب) كانوا بدوًا أو أنصاف بدو، وكانوا
يتناقلون أخبارهم وتقاليدهم بطريقة شفهية. أمّا موسى فقد تعلّم في مدارس المصريين
كتب بعض الأمور تلبية لطلب الرب إليه (خر 17: 14؛ 28: 34). ولكنّ أكثرّية شعبه
ظلّت على جهل بأمور الكتابة التي بقيت محصورة في بعض أمور محليّة. غير أنّه عندما
سيسيطر بنو إسرائيل على المدن ويقيم داود قاعدة مملكته في أورشليم، حينئذٍ سيهتمّ
الكتبة العاملون في خدمة الملك بجمع إرث الماضي وتدوينه في الكتب.

بيد
أنّ التقليد الشفهي ظلَّ حيًّا يغذّي الأدب المكتوب جيلاً بعد جيل، وما فتئ يتطوّر
مستقّلاً عن الأدب المكتوب حتّى ما بعد الجلاء (سنة 587 ق. م.).

 

2-
تقاليد العبرانيين

قبل
عهد الملوك، لم تكن أمّة العبرانيين قد حصلت على وحدتها، وكانت جماعاتها تعيش كل
منها تاريخًا خاصاً بها وتعرف تقاليد لا تعرفها الجماعة المجاورة. فما نقرأ مثلاً
في سفر التكوين (38: 1 ي) عن زواج يهوذا وأبنائه أمر خاص بسبط يهوذا لم تعرفه سائر
الأسباط، وما نعرفه عن حروب يشوع قصة محصورة داخل قبيلة بنيامين، وما يورده الكتاب
عن القينيين (تك 4: 1 ي) لا يتعدّى بعض العشائر المقيمة جنوبيّ فلسطين.

التقاليد
في بني إسرائيل عديدة، منها تقاليد ترتبط بأماكن مشهورة كتقاليد شكيم، وكان
لمعبدها مكانته الدينيّة المعروفة، وتقاليد قادش التي كانت موضع إقامة القبائل قبل
دخولهم أرض الموعد، وتقاليد ممرا، أو حبرون، التي هي مدفن إبراهيم (تك 25: 9)
وساره (تك 23: 19) وإسحق ويعقوب (تك 49: 29- 31)، وتقاليد أريحا التي انتصر فيها
الرب لشعبه وفتح أمامهم طريق أرض كنعان، غربي الأردن؟ رمنها تقاليد ترتبط بتنظيم
معيَّن أو مؤسّسة محدّدة: فلمعبد تابوت (أو صندوق) العهد تاريخه منذ سفر الخروج،.
وقد جعل فيه موسى لوحَي الوصايا وجرّة المنّ، ولمعبد قادش شعائر عبادته وفئات
كهنته الذين يرتبطون بجدّهم هارون.

ونتساءل:
لماذا جُمعت هذه التقاليد؟ جُمعت لأنّها تحمل ذكريات تاريخية، وتحفظ أخبار الآباء
وأعمالهم، أكانوا رجال حرب كالقضاة، أم رجال دين كصموئيل أم آباء للأمّة كإبراهيم
وإسحق ويعقوب، أم واضعي أسس الأمّة وتشريعها مثل موسى. وجُمعت هذه التقاليد أيضاً
لتشرح للمؤمنين كيف مارس آباؤهم عادة من العادات، كأكل خروف الفصح مثلاً (خر 12: 1
ي)، أو لتفسّر اسم مكان من الأمكنة (قض 2: 1- 5)، أو لتعطي صورة عن حالة القبائل
في زمن من الأزمنة (تك 49: 1 ي؛ تث 33: 1 ي). نجد في هذه التقاليد قواعد سلوك
للشعب حملت معها قوانين وعادات (تك 33: 32 ؛ خر 12: 21، 22)، وعِبَراً اخلاقية
ودينية من خلال قصة يوسف بن يعقوب أو غيرها من القصص. من خلال هذه التقاليد سنعرف
نظرة العبرانيين إلى الله والكون والإنسان والتاريخ، نظرة يعبّرون عنها بطريقة
أدبية تنتقل في قبائلهم من جيل إلى جيل.

ونتساءل
أيضاً: كيف تبدو هذه التقاليد؟ نرى فيها أوّل الفنون الشعرية، والأمثلة على ذلك
عديدة. فهناك نشيد البئر كما نقرأه في سفر العدد (21: 17، 18): “أخرجي يا بئر
ماءك! غنّوا لها. بئر حفرها الرؤساء بالصولجان والعصي. عطية الرب هي”، وهناك
أناشيد الأمّهات لأولادهنّ، كنشيد حواء التي قالت: “رُزقت ولدًا من عند
الرب” (تك 4: 1)، ونشيد سارة التي ولدت إسحق: “أنشأ الله لي فرحًا، فكلّ
من سمع يفرح لي ” (تك 6: 21)، وهناك أناشيد الآباء يباركون فيها أبناءهم،
كنشيد نوح: “تبارك الرب إله سام، وليكن كنعان عبدًا له ” (تك 9: 26)،
ونشيد إسحق لابنه يعقوب: “ها رائحة ابني كرائحة حقل باركه الرب: يعطيك الله
من ندى السماء ومن خصوبة الأرض فيضاً من الحنطة والخمر” (تك 27: 27- 28).

ونرى
فيها أيضاً بوادر الفن القصصي. فهناك الخبر الذي يُروى ليثبت بالدليل لماذا سُمّي
مكان باسم من الأسماء (تك 28: 19)، أو ليحدّد الحدود التي تفصل، مثلاً، بين مراعي
بني أرام (أي لابان) ومراعي بني يعقوب (تك 33: 1 ي)، وهناك الخبر الواقعي كقصِّة
إبراهيم التعيسة مع أبيملك (تك 20: 1 ي) أو قصّة زواج إسحق برفقة (تك 24: 1 ي)،
وهناك الخبر الملحمي الذي يضخّم الأمور ليبيّن بطولة الله فيها، كخبر الخروج من
أرض مصر، وهناك الخبر الملحمي الذي يهدف إلى غرس تعليم في أذهان المؤمنين: فقصّة
يوسف بن يعقوب، مثلاً، تعلّمنا ان الله يستخرج من الشر خيرًا (تك 50: 20)، وقصة
شمشون تُفهمنا أنّ قدرة الشعب من قدرة الله، شرط أن يتوبوا إلى الرب ويتركوا
العبادات الوثنية (قض 15- 16).

هذا
الإخبار سيتطوّر فينتظم بشكل مجموعة واسعة ترتبط حلقاتُها بعضها ببعض. فهناك قصّة
الآباء التي تروي سيرة إبراهيم وإسحق ويعقوب، كيف عاشوا في جو من السلام
والطمأنينة برفقة الرب الذي دعاهم إلى عبادته؛ وهناك قصة الخروج وما سبقها من
ضربات حلّت ببلاد كانت تدين بالوثنية؛ وهناك قصة عبور سيناء وما رافقها من معجزات
دلّت على اهتمام الله بشعبه، وهناك قصة يشوع بن نون وانتصاراته الحربية.. أمّا
الإطار لهذا الإخبار (فضلاً عن العائلة) فهو المعابد حيث يردّد المؤمنون تاريخهم
ويذبحون ذبائحهم. وفي هذه المعابد سيلعب الكهنة دورًا بارزًا في نقل هذا التراث
الأدبي من جيل إلى جيل.

وتمرّ
الأيّام فيتخلّى الرواة شيئًا فشيئًا عن التفاصيل التي كانوا ينمّقون بها أخبارهم،
ويحصرون اهتمامهم بأهمّ أحداث تاريخ الشعب. لقد أهملوا وجوهًا عديدة اعتبروها
ثانوية، ليُبقوا على بعض الوجوه التي تلخّص في أعمالها أعمال شعب كامل. لا شكّ في
أنّ القوّاد كانوا كثيرين يوم دخل العبرانيون أرض كنعان، ولكنّ الكتاب لم يحفظ لنا
إلاَّ اسم يشوع الذي كان نموذجًا لسائر القوّاد المحاربين بشجاعته، ومثالاً لكل
المقاتلين بتجرّده واندفاعه. ولمّا أخذت القبائل تختلط بعضها ببعض ولاسيّمَا في
مواسم الأعياد، اطّلعت كل قبيلة على تقليد القبائل الأخرى، وأحسّت كل فئة بأنّ
تقليد سائر الفئات كنز يحقّ لها أن تغرف منه. وهكذا تكوّنت بداية وحدة في
التقاليد، وشعور مشترك بين أبناء الأمّة الواحدة التي اعتبرت أنّ ما عاشته قبيلة
من القبائل عاشته كل القبائل، وأنّ ما اختبره أولئك الذين عبروا البحر الأحمر
وعاشوا في بريّة سيناء قد اختبره كل الذين ينتمون إلى إبراهيم وإسحق ويعقوب. وهكذا
تهيّأ المناخ لكتابة تاريخ الشعب العبراني ولتدوين تراثه الأدبي والديني.

 

3-
أقدم النصوص المكتوبة

عندما
نقرأ أناشيد الحرب في سفر يشوع (10: 12)، أو نسمعها على لسان دبورة (قض 5: 1 ي)،
نلاحظ فرقًا بينما وبين الردّات البدائية التي عرفها بنو اسرائيل في زمن البداوة
(خر 15: 21). ونتعرّف إلى فنّ شعري عريق في نبوءات بلعام (عد 7: 22- 10؛ 23: 18-
24) أو في كلمات موسى الأخيرة كما نقرأها في سفر التثنية (32: 1 ي). أمّا الفن
الحكمي فيبرز في مَثَل يوتام (قض 1: 21) الذي يحذّر بني إسرائيل من خطر الملكية،
وفي مثل ناتان النبي (2 صم 17: 12 ي) الذي ينبّه فيه داود إلى خطيئته. ونقرأ في
الشعر الوجداني مرثية داود لشاول ويوناتان (2 صم 1: 17 ي): “مجدك يا إسرائيل
قتيل على روابيك. فيا لسقوط الجبابرة!.. يا جبال جلبوع، لا يكن فيك ندى ولا مطر
ولا حقول حنطة للتقدمات، لأنّ مجنّ الجبابرة سقط هناك، مجنّ شاول كأنه لم يمسح
بزيت ” (رج 2 صم 33: 3 ي حيث نقرأ رثاء داود لأبنير قائد الجيش).

بالإضافة
إلى ما بقي لنا من نصوص شعريّة، تذكر التوراة اسم كتابين قد استفاد منها الذين
كتبوا فيمَا بعد، وهما كتاب “ياشر” (أو المستقيم، يش 10: 13)، وكتاب
“حروب الرب” (عد 12: 14).

أمّا
النصوص النثرية فقد بقي لنا منها اكثر ما بقي نصوصُ القوانين والشرائع، وفي هذا
السبيل يبدو قانون العهد (خر 21: 1 ي) قديمًا جدَّا، رغم بعض اللمسات اللاحقة التي
وُضعت فيه لتجعله يُجاري تطوّرات العصر: “من ضرب إنسانًا فمات، فليُقتل
قتلاً. من ضرب أباه أو أمّه، فليُقتل قتلاً. من خطف أحدًا فباعه أو وُجد في يده،
فليُقتل قتلاً”. وكذلك نقول عن مجموعة الوصايا العشر التي سينقّحها المعلّمون
فيمَا بعد ليحثّوا المؤمنين على العمل بها: “أذكر يوم السبت وقدّسه. في ستّة
أيّام تعمل وتُنجز جميع أعمالك، واليوم السابع سبت للرب إلهك.. لأنّ الرب في ستة
أيام خلق السموات والأرض.. أكرم أباك وأمك فيطول عمرك في الأرض التي يعطيك الرب
إلهك” (خر 8: 20 ي ؛ رج تث 5: 1 ي).

إنّ
تأثير موسى في الأدب التشريعي واضح، وكذلك تأثيره في الفتاوى التي تسعى إلى حلّ
المشاكل اليوميّة التي تعرض لمن يقضي بين الناس. ويمكننا القول إنّ التوراة وُلدت
مع موسى ككتاب مُلهَم، كما وُلد معه في التاريخ شعب جديد، يوم عقد مع الرب عهدًا
باسمهم.

 

ب-
المرحلة الثانية: أورشليم مركز أدبي

سيطرت
شخصيّة موسى على المرحلة الأولى، وستسيطر شخصية داود وسليمان على المرحلة الثانية.
إلى موسى نُسبت الأسفار الخمسة، وإلى داود نُسبت المزامير، وإلى سليمان كتب
الحكمة. حول المعابد المتعددة أُنشدت الأشعار ورُويت الأخبار في المرحلة الأولى،
وستكون أورشليم بهيكلها المحور الوحيد الذي سيضمّ كل التيارات الأدبية في المرحلة
الثانية.

 

1-
ثقافة العبرانيين في بداية الملكية

كانت
الملكية في عهد شاول (1035- 1015) امتدادًا لعصر القضاة، أمّا الملكية في عهد داود
(1015- 975) فقد حوّلت القبائل إلى أمّة، وشتاتَ الشعب إلى دولة، وصهرت العبرانيين
في إطار الملكية. بالإضافة إلى ذلك، ابتلع بنو إسرائيل السكّان الأصليين، وهضموا
ما في الأمم المجاورة من حضارة، وأخذوا بطقوس بلاد كنعان وطرق عبادته وتعابير
صلاته.

تبدّلت
الحالة في شعب إسرائيل فنتج من ذلك واقعان. في الواقع الأوّل، ارتبط التنظيم
الملكي بدستور الأمّة الديني، فصار الملك الممسوح بالزيت المقدس جزءًا لا يتجزأ من
الدولة التيوقراطية، وأخذ الشعب يعاهده على الولاء، هو وأبناؤه، سنة بعد سنة (2 صم
7: 1 ي). وفي الواقع الثاني، كان تابوت العهد، المعبد القديم الذي يشدّ الرباط بين
القبائل، قائمًا في شكيم ثمّ في شيلو، فانتقل مع داود إلى أورشليم، العاصمة
الملكية، المكان المقدّس الجديد الذي يحلّ فيه الرب اسمه. كان الشعب في المرحلة
الأولى يأمل أن يعيش سعيدًا على أرض تدرّ لبنًا وعسلاً، وأن يسود الشعوب التي لا
تعرف الله، وها هو في المرحلة الثانية يأمل، بالإضافة إلى ذلك، أن تكون المدينة
المقدّسة والهيكل والملك بسلام.

والتقى
في أورشليم تيّارُ العبادة الآتي من الشمال، والمرتبطُ بتابوت العهد وتقليدُ موسى
ويشوع، تيّارَ الجنوب الآتي من قادش والحاملَ معه عناصر عبادة محلّية، والتقت
شخصية أبياتر بن عالي الذي سيعزله سليمانُ بصادوقَ الذي يرتبط بسلالة هارون والذي
سيحتفظ وحده بوظيفة الكهنوت بعد موت داود.

وتوطّدت
الثقافة في أورشليم فجمع الملك حوله حشدًا من الكتبة تفرّغوا لأعمال القصر: أمسكوا
حولّيات الملك، حفظوا الوثائق، دوَّنوا الرسائل، أداروا أملاك العائلة المالكة،
حصَّلوا الضرائب. ثمّ نُظّمت مدارس لتدريب هؤلاء الموظفين، وسيدخلها الأمراء
وأبناء العائلة المالكة ليتلقّوا فيها التعليم والتهذيب. واستفاد الكهنة من تيّار
العلم هذا لينشروا تقاليدهم. وعمل الكتبة في هذا الإطار فطبعوا بطابعهم الخاص هذا
الأدب المتجذّر في التقليد الشعبي. واستفادت أورشليم من كل هذا لتكون المركز
الثقافي الوحيد في البلاد، فأخرجت نهضة أدبية ستمتزج فيها العناصر المحلية
بالعناصر الغريبة، وأعطت بني إسرائيل أدبًا رفيعًا ستعود إليه الأجيال اللاحقة
لتغرف منه لوَحْيها.

 

2-
تأثير القصر الملكي وهيكل أورشليم

إذا
كانت الوثائق الملكية والمستندات الإدارية والقانونية لا تصلح لأن تكون أدبًا،
إلاَّ أنّها تكوّن للمؤرّخ مرجعًا له قيمته. وعلى هذا النحو سيستفيد كتّاب أسفار
صموئيل والملوك من وثائق القصر الملكي والهيكل ليكتبوا تاريخًا من نوع خاص يجعل
كلام الله يحكم على أعمال الملوك ويدين من تحسبه الأمم المجاورة صورة الاله على
الأرض. وإنّنا نلاحظ أنّ الشرع الملكي لم يتجدّد في هذه المرحلة الثانية، بل ظلّ
يُمارَس داخل إطار العادات القديمة التي ستتكيّف فيمَا بعد مع الظروف الجديدة على
ضوء الشرع الحي كما جاء على يد موسى.

أمّا
الطقوس والعادات، وهي تنتقل عادة من جيل إلى جيل لا بفضل نصوص مكتوبة بل بفضل
نُظُم يُعمَل بها، فقد وصل إلينا منها نصوص قديمة حملها من قادش الكهنة المرتبطون
بهارون. ونقرأ مثلاً عن ذلك من سفر الخروج (3: 13- 10) في الاحتفال بعيد الفصح:
“سبعة أيّام جملون خبزًا فطيرًا، وفي اليوم السابع عيد للرب. فلا يُرَ لكم
خبز فطير في هذه السبعة الأيّام، ولا شيء مختمر في جميع دياركم “. ونقرأ
أيضاً نصًّا من سفر اللاويين (23: 1 ي) يرينا كيف أنّ التقليد اليهودي تكيَّف مع
طقوس كنعانية مرتبطة بالزراعة وأعمال الأرض: “إذا دخلتم الأرض التي أعطيها
لكم وحصدتم حصيدها، فجيئوا بحزمة من باكورة حصيدكم إلى الكاهن.. وفي غد السبت يوم
تجيئون بحزمة من باكورة حصيدكم.. تحسبون لكم سبعة أيّام كاملة. وفي غد السبت
السابع، بعد خمسين يومًا، تقرّبون تقدمة جديدة للرب.. “.

كان
التيّار النبوي في العالم الآرامي والكنعاني مرتبطاً بالمعبد، وكذلك كان في العالم
الإسرائيلي زمن القضاة. بالإضافة إلى ذلك، نجد الرائي والنبي اللذين يعملان في خدمة
الملك داود كمستشارين رسميين، يتميّزان بأنّهما يتحدّثان بحرية إلى الملك ويقولان
له الحقيقة دون مواربة. فناتان النبي سيقول الحقيقة للملك يوم قتل أوريّا الحثّي
وأخذ له امرأته (2 صم 12: 1- 25)، وجاد الراثي سوف يعلن له قصاص الرب لأنّه أمر
بإحصاء الشعب (2 صم 24: 10- 25). سيلعب جاد دورًا في حياة داود الحاضرة فينصحه بأن
يعود إلى أرض يهوذا ولا يخاف من شاول (1 صم 22: 5) ؛ وسيلعب ناتان دورًا في مستقبل
سلالة داود عندما يعلن له أنّ الرب اختار بيته ليكون ثابتًا إلى الأبد، وعرشه
ليكون راسخًا لا يتزعزع (2 صم 16: 7).

في
هذا الإطار، نقرأ المزمور الثاني الذي يلمح إلى اختيار الرب لداود: “قال لي:
أنت ابني، أنا اليوم اخترتك وتبنّيتك. أطلب فأُعطيك الأم ميراثًا وأقاصي الأرض
ملكًا لك” ؛ ونقرأ المزمور 110 الذي هو صياغة جديدة لنشيد أنشده اليبوسيون،
سكّان أورشليم الأوّلون، يوم تنصيب ملكهم، وقد استعاده بنو إسرائيل فاكتشفوا فيه
كهنوتًا ملكيًا مارسه كل من داود (2 صم 17: 6- 18). وسليمان (1 مل 3: 15)،
وملكيصادق، ملك سليم أي أورشليم: “قال الرب لسيّدي الملك: إجلس عن يميني حتّى
أجعل أعداءك موطئًا لقدميك. صولجان عزّك يرسله الرب من صهيون. تسلّط على أعدائك
“.

وهنا
تُطرَح مسألة المزامير التي يُنسب عدد كبير منها إلى داود، ذلك الشاعر والموسيقار
الذي عرفناه في مرثية يوناتان وأبنير. فكل هذا يدلّ على أنّ الملك داود لعب دورًا
خاصاً، فكر الشعر الغنائي الذي كان يُنشَد عند العبرانيين والكنعانيين في أورشليم،
ونقل إلى خدمته كهنة يابوس (الاسم القديم لأورشليم)، ونقل معهم أناشيدهم الدينية.
ولما نقل تابوت العهد إلى أورشليم (2 صم 6: 1 ي)، نظَّم ولا شكّ جوقة من المغنّين
سينمو عدد أفرادها ويزداد، لاسيّمَا بعد بناء الهيكل. وخلال جمع المزامير، سيستفيد
هؤلاء المغنّون من الأناشيد الدينية المعروفة في بلاد كنعان. فالمزمور 18 مثلاً هو
شكر الملك لله الذي خلّصه من أعدائه ؛ والمزمور 20 يحوي صلاة لأجل الملك:
“يُعينك الرب يوم الضيق، يرفعك اسم إله يعقوب، يُرسل لك من هيكله المقدّس
نصرًا ويشدّد ساعدك من صهيون”؛ والمزمور 24: 7- 10 يصوّر لنا طوافًا يتقدّمه
تابوت العهد، رمز حضور الله وسط شعبه: “ارفعي رؤوسك يا أبواب، وارتفعي يا
عتبات الأبد ليدخل ملك المجد. مَن هذا ملك المجد؟ هو الرب القدير الجبّار في
القتال “، أمّا المزمور 29 فهو مزمور كنعاني محض يُنشد لإله الرعد، وقد نقّحه
العبرانيون، كما نقّحوا غيره من المزامير، وأنشدوه لإلههم يهوه: “صوت الرب
عظيم القوة، صوت الرب هدير كلّه ” (رج أيضاً مز 72 عن الملك العادل).

 

3-
الأدب الحكمي

حفلت
مدارس الكتبة في أورشليم بالأدب الحكمي من البلدان المجاورة. فالحكمة ليست مرتبطة
بزمان أو مكان، إنّها تنتقل من بلد إلى بلد. انتقلت من مصر وبلاد الرافدين ومرّت
عبر بلاد كنعان فاستفاد منها العبرانيون وغيرهم. وعلى هذا يذكر سفر الملوك الأوّل
(5: 11) حكماء معروفين أمثال ايتان الازراحي وهيمَان كلكول ودرداع، بني محول؛
ويلمّح سفر حزقيال (8: 27- 9) إلى حكماء صور وجبيل، ويقول لملك صور (حز 3: 28- 4):
“تعتبر نفسك أحكم من دانيل (نقرأ عنه في آداب راس شمرا) وبإمكانك أن تفهم
الأسرار الخفيّة. بحكمتك وفطنتك جمعت لك ثروة، وكدّست في خزائنك الذهب
والفضة”.

ويشدّد
الكتاب على حكمة سليمان فيقول فيه: “وآتى الله سليمان حكمة وفهمًا.. ففاقت
حكمته حكمة جميع أهل المشرق كل حكمة مصر وكان أحكم من جميع الناس.. وشاع اسمه بين
جميع الأمم. وقال ثلاثة آلاف مثل، وأنشد ألفًا وخمسة أناشيد، وتكلّم في الشجر من
الأرز الذي على جبل لبنان إلى الزوفى التي تخرج في الحائط.. وكان يأتي أناس من
جميع الشعوب لسماع كلمة سليمان، ومن قِبَل جميع ملوك الأرض الذين سمعوا بحكمته
” (1 مل 9: 5-14).

الحكمة
هي صناعة الملوك وفنّ يساعدهم على تدبير المملكة وإنجاح أمورها. غير أن هذا الفن
ضروريّ لموظفيّ الملك، ولهذا وجب على كل كاتب أن يتعلّم الحكمة. لا شكّ في أنّنا
أمام حكمة عملية تساعد الحكيم على التصدّي للأمور بلباقة (مثلاً: يوسف أمام فرعون،
تك 41: 25 ي)، غير أنّه انطلاقًا من معرفة الإنسان والكون ستتكوَّن أفكار تصل
بالإنسان إلى التأمّل النظري الذي سيلتقي بالفكر الديني في كتاب مثل سفر أيّوب أو
سفر الجامعة. أمّا سفر الأمثال فنقرأ فيه أمثالاً وعبرًا كتلك التي نجدها في كتب
مصر وفينيقية: “الابن الحكيم يفرح أباه، والابن البليد حسرة لأمّه. ما يُجمَع
بالشر لا يعيل العيال، والصدق يُنقذ من الموت. الرب لا يقاوم رغبة الصديقين، وأمّا
هوى الأشرار فيصدّه” (أم 10: 1 ي). هذه الأمثال وغيرها جمعها الكتبة في عهد
سليمان، ثمّ أضاف إليها أقوالاً رجالُ حزقيا، معتبرين الحكمة والمعرفة والفطنة
عطية من الرب يميّز بها الإنسان عن سائر مخلوقاته. وهكذا نفهم الصلاة التي رفعها
سليمان إلى الرب: “هب عبدك قلبًا فهِمًا ليحكم بني شعبك ويميّز بين الخير
والشر” (1 مل 9: 3).

 

4-
المؤرّخون وأصحاب المذكرات

نجد
في أورشليم ومنذ عهد داود وسليمان جماعات من الكهنة المنظّمين والكتبة المتعلّمين
وفِرَق الأنبياء والرائين. وسيأتي المؤرّخون فيستفيدون من هذه الفئات الثلاث
ليكتبوا التاريخ.

بدأ
التاريخ بتدوين الحوليّات سنة بعد سنة، ولم يبقَ لنا منها إلاَّ النزر اليسير
يقتصر على بعض ملاحظات مقتضبة. نقرأ مثلاً في سفر صموئيل الثاني (8: 1 ي):
“وبعد ذلك ضرب داود الفلسطيين وأخضعهم وأخذ منهم زمام الأمور، وضرب الموآبيين
وأضجعهم على الأرض، فقتل الثلثين وأبقى على الثلث الآخر، فصار الموآبيون عبيدًا لداود
يؤدّون له الجزية. وضرب داود هَدَدْ عَازر بن رحوب ملك صوبة.. “.

وبعدها
بدأ الكتبة يدوّنون مذكّراتهم في هذا الموضوع أو ذاك، ثمّ جاء المؤرّخون فأعطونا
أسفار صموئيل والملوك والأخبار، فكانت تحفة من تحف آداب الشرق القديم.

كانت
حوليّات ملوك أشور سلسلة من المدائح تغالي بذكر أعمال الملك، وكانت حوليّات ملك
مصر أجزاء متقطعة من التاريخ لا رابط بينها، وتوقفت حوليّات الحثيين على العلل
الدينية التي تؤثّر بالتاريخ. أمّا كتَّاب العبرانيين فقد استفادوا مما وصل إليه
جيرانهم في كتابة التاريخ، واستقوا من إيمانهم نظرة إلى الإنسان والتاريخ،
فارتفعوا فوق الأحداث وأعطونا حُكمًا على التاريخ في نظرة شاملة لم يعرف مثلها
التاريخ القديم. فبالنسبة إلى المؤرّخين العبرانيين كلُّ الفاعلين في التاريخ، بمن
فيهم الملك، يخضعون لشريعة إلهية تتجاوزهم وتدينهم وتوجّه مصيرهم؛ كلْهم يعملون
لمخطّط الله عن علم أو عن غير علم منهم. وهكذا يرتفع المؤرّخ فوق الأشخاص والأحداث
فينظر إلى التاريخ نظرة لا تحابي أحدًا ولا تخاف عقابًا.

دوّن
المؤرّخون بدايات الملكية في بني إسرائيل منذ مسْح صموئيل شاول ملكًا إلى احتلال
داود لأورشليم. تلك كانت حروب الاستقلال. ثمّ سجّلوا تاريخ تابوت العهد منذ يوم
أخذه الفلسطيّون في معركة أفيق (1 صم 4: 1 ي) إلى يوم أصعده داود بأبّهة إلى
المدينة الملكية (2 صم 6: 12). أمّا تحفة ذلك الزمان التاريخية، فهي قصّة انتقال
الملكية من داود إلى سليمان وما رافقها من أحداث: محاولة أبشالوم (2 صم 13: 23- 18:
32) للحصول على الملك، وثورة شابع البنياميني (2 صم 20: 1 ي)، رغبة ادونيا في أن
يخلف أباه بعد أن صار بكَر داود بموت أبشالوم. يقول في ذلك سفر الملوك الأوّل (1:
5- 6): “وإن أدونيا ابن حجّيت (امرأة سليمان)، ترفع وقال: أنا سأكون الملك.
واتّخذ مراكب وفرسانًا وفرقة من خمسين رجلاً يجرون أمامه “. غير أنّ الملك
سيكون حصّة سليمان إبن بتشابع (زوجة أوريا الحثّي سابقًا) التي ستسعى وناتان النبي
وصادوق الكاهن وبنايا بن يوياداع من أجل ابنها. وهكذا يُمسح سليمان ملكًا ويخلف
أباه (1 مل 1: 28 ي)، ثمّ يتخلّص بعد موت أبيه من أخيه أدونيا (1 مل 2: 13- 25)
ومن أبياتار الكاهن ويوآب رئيس الجيش (1 مل 2: 26- 36) وغيرهم من محاربي أدونيا.
ولمّا صفا له الأمر، استقرّ المُلك في يده.

 

5-
أوّل عرض شامل للتاريخ المقدّس منذ البدء

هؤلاء
المؤرّخون الذين ذكرنا دوّنوا أحداثًا عاصرت أشخاصاً كانوا بعد على قيد الحياة.
وجاء غيرهم فكتبوا الأحداث القديمة: وعدُ الله لإبراهيم، وقطعُ عهده مع موسى،
ودخولُ أرض الموعد مع يشوع والقضاة. كانت هناك تقاليد متفرّقة في القبائل، فجاء من
يجمعها ويربطها بعضها ببعض ويؤلّفها حول موضوع واحد هو خروج الشعب من مصر وإقامته
في جبل سيناء. وسيعي أفراد الشعب أنّ ما عاشته عائلة أو قبيلة في بني إسرائيل
عاشته كل العائلات والقبائل. من أجل ذلك سيهتمّ المؤرخون بالسلالات التي تربط كل
شخص بالجماعة كلها، وكل جيل بالأجيال السابقة. وهكذا يظهر مخطّط الله الذي لم يبدأ
مع إبراهيم وحسب، بل مع نشأة البشرية.

وهكذا
تثبّتت تقاليد العبرانيين القديمة في إطار تاريخي، وهو تاريخ واقعي يورده
المؤرّخون مستعينين بمواد متعددة، وتاريخ بشري يهتمّ فيه كاتبوه بالمعنى الديني
أكثر منه بالتفاصيل الدقيقة، وتاريخ يجرُّ معه عناصر عديدة من التقليد الوطني
والعادات والشرائع والطقوس والفولكلور ليعطيها معناها العميق. ويرجع هذا التاريخ
إلى أبعد من إبراهيم وممالك الشرق القديمة والعصر الحجري، ليصل إلى زمن خلق
السماوات والأرض. من هنا ينطلق مخطط الله ويتنفّذ عبر نداء الله للآباء، وتخليص
الشعب من مصر، وإبرام العهد معهم في سيناء وإعطائهم أرض الموعد، وتنظيم الملكية..
قبل إبراهيم، وقفت الخطيئة حاجزًا بوجه مخطّط الله وإرادته، ومنعت من توحيد
البشرية وجمعها حول المسيح، لهذا بدأ الله عمله على مراحل، فانطلق من جماعة بشريّة
متأخرة ما زالت تدين بالوثنية، فجعلها شعبًا واحدًا دعاه إلى خدمته وإعلان مجده،
وسلَّم إليه القواعد التي تجعل منه شعبًا بحسب قلب الله ومقاصده.

هذا
هو المخطَّط العظيم الذي أراد أن يطلعنا عليه لا كاتب واحد بل كتّاب عديدون
دوَّنوا التاريخ منذ البدايات إلى عهد داود وسليمان، واستفادوا من مقاطع شعرية
ونثرية أدخلوها في تأليفهم، وأعطوا كل ذلك نظرة لاهوتية توافق إيمانهم بالله
الواحد. ففي هذا التاريخ اليهوهي نقرأ الشعر الغنائي الديني الذي أنشده العبرانيون
يوم عبور البحر الأحمر (خر 15: 1 ي)، والتعليم الحكمي الذي يسرد لنا قصة الخطيئة
الأولى (تك 3: 1 ي)، والمقالة التاريخية التي تروي لنا ما فعله جدعون من أعمال في
سبيل شعبه (قض 6- 9)، ولائحة القوانين وسلسلة الفتاوى التي تملأ الصفحات العديدة
في أسفار الخروج واللاويين والعدد. إنّ هذا التاريخ اليهوهي الذي يشكّل أثرًا
أدبيًا لا مثيل له في تاريخ الديانات قد بدأه المؤرّخون في عهد سليمان وظلّوا يقرأونه
وينقّحونه في حلقات المتعلّمين والكهنة. فلعب دورًا كبيرًا بين النخبة في بني
إسرائيل.

وهكذا
برزتُ بنية الكتاب المقدّس حول نواة من النصوص يرجع بعضها إلى زمن موسى، وبدأ شعب
الله يدوّن تقاليده، لا في الجنوب فحسب، كما فعل التقليد اليهوهي، بل في الشمال
أيضاً، وفي صفوف حلقات الأنبياء والكهنة، فكان لنا ما سمّاه العلماء التقليد
الألوهيمي والاشتراعي والكهنوتي.

 

ج-
المرحلة الثالثة: أورشليم والسامرة

بعد
موت سليمان، إنقسمت قبائل بني إسرائيل مملكتين لكل منهمَا عاصمتها. وهكذا سيكون
للعبرانيين مركزان أدبيان مهمّان هما أورشليم والسامرة.

 

1-
تقليد السامرة

كيف
كانت الحالة في مملكة يهوذا؟ استمرّت سلالة داود وأعطت المملكة ثباتًا واستقرارًا.
وكان الهيكل قلعة الصمود الذي منه انطلقت ثورة أطاحت بعثليا (2 مل 11: 1 ي)، وفي
إطاره تمّ اصلاح حزقيا ثم يوشيا رفضاً للعبادات الكنعانية التي كان يُدخلها إلى
الهيكل الملوكُ الذين فعلوا الشرّ بنظر الرب. في هذا الهيكل سيدوّن الكهنة
تقاليدهم منذ عهد سليمان، وينشرون الأناشيد الدينية والنصوص التشريعية، ويروون
للشعب الآتي إلى الحج مقاطع من تاريخ الأمّة ويعلّمونهم تعليم الله.

أمّا
الحالة في مملكة إسرائيل فكانت غير ذلك. هذه المملكة التي تنظّمت رفضاً للضرائب
التي فرضها الملك في أورشليم، ساندها سكّان الريف والكهنة المحلّيون الذين خافوا
من تسلّط كهنة أورشليم عليهم، ووقف بجانبها الأنبياء المعارضون لكل جديد باسم
التقليد القديم. غير أنّ من استفاد من المملكة الجديدة كان الملاَّكين الكبار
والتجّار وأصحاب الأموال، وإليهم ستستند الملكية لتقوّي نفوذها وتنظّم مركزًا
أدبيًا يزاحم مركز أورشليم، له موظّفوه كهنته وهيكل لا يقلّ عن هيكل أورشليم روعةً
وجلالاً، بناه الذين بنوا هيكل أورشليم أي الفينيقيون.

ولكن
لم تبقَ تقاليد السامرة صافية، بل انفتحت على تيّارات خارجية نذكر منها تقاليد صور
الدينية والأدبية والاجتماعية. ولما زوّج عمري (885- 874) ابنه آحاب بيزابيل ابنة
ملك صور، التقى الشعبان فنتج من هذا اللقاء نهضة أدبية وتجديد في الفنّ وتبدّل في
شعائر العبادة. إلاَّ أنّ إنتاج هذه الحقبة لم يصل إلينا لأنّه تلطّخ بالوثنية
فأتلفه الكتّاب الأتقياء أو أهملوه فراح فريسة الضياع. ولقد كشفت الحفريات الكثير
من الكتابات على العاج والفخار والزجاج، وهي تدلّ على نشاط أدبي وفني رفيع. أمّا
في الكتب المقدّسة، فقد وصل إلينا من تلك الحقبة المزمور 45، هذا النشيد الملكي
الذي قرأه جامع المزامير وأعطاه معنى رمزيًا: “قلبي يفيض بكلام جميل، وللملك
أنشد أبياتي. لساني قلم كاتب ماهر. أنت أبهى جمالاً من بني البشر، والحنان انسكب
على شفتيك، فباركك الله إلى الأبد”.

ما
يمكن أن نلاحظه، هو أنّ الحركة الأدبية في مملكة إسرائيل ظلّت غريبة عن الذين
جمعوا فيمَا بعد النصوص المقدسة. فأبناء الأنبياء، أو جماعة الأنبياء المتحلّقين
حول إيليا وأليشاع، لا تهمّهم من الحياة الاجتماعية ظواهرها، والريكابيون (2 مل
10: 15؛ إر 35: 6) يرفضون العيش في المدن والقصور، ويفضّلون الإقامة في الخيام على
مثال العبرانيين الأوائل. لذلك لم يصل إلينا من كلمات إيليا وأليشاع وميخا بن يملة
(1 مل 22: 1- 28) إلاَّ قليلها. وتنبّه التيار الديني إلى ما في النظام الجديد من
عناصر وثنية تمتزج بالإيمان الصرف بيهوه، فرفضها وعاد إلى القديم الذي عرفه بنو
إسرائيل في عهد القضاة. وهذا الرجوع إلى القديم سنراه عند إيليا الذي بنى على
الكرمل مذبحًا على الطريقة القديمة (1 مل 18: 30 ي؛ رج خر 20: 24- 25) وذهب يحجّ
إلى حوريب (أو سيناء) ليغوص بإيمانه في الإطار الذي وُلد فيه إيمان شعب الله في
القديم.

 

2-
تأثير الانبياء في مملكة السامرة

بعد
موت آحاب وبداية حكم ياهو (841- 814)، أخذ تأثير الأنبياء ينمو في صفوف المثقّفين،
فبات الملوك أنفسهم يلجأون إليهم ويستشيرونهم، وأخذت حلقات الأنبياء والكهنة
تتنظّم فكوّنت تيارًا إصلاحيًا أنتهى إلى آثار أدبية شبيهة بتلك التي ظهرت في
أورشليم، في القرن العاشر وهكذا جُمعت ودُوّنت التقاليد التي تحكي عن إيليا
وأليشاع، وكُتبت قطع من التاريخ تُعتبرَ تحفة في عالم المذكّرات كثورة ياهو (2 مل
9: 1- 10).

هذا
المحيط الديني ترك لنا التقليد الألوهيمي الذي نجد نصوصه في أسفار موسى الخمسة،
وجمع الكثير من أخبار يشوع والقضاة وشاول كما نجده في الكتب التاريخية أو ما
يسمّيه العبرانيون “الأنبياء الأوّلين”. وجمعُ عناصر هذا التقليد يُشبه
إلى حدّ بعيد ما فعله التقليد اليهوهي في زمن داود وسليمان. والقرابة بين
التقليدين واضحة، إن من جهة المضمون وإن من جهة الأسلوب.

في
التقليد الالوهيمي نجد وثائق قديمة كالوصايا العشر (خر 20: 1 ي) أو قانون العهد
(خر 20: 24- 23: 19). وعندما كتب التقليد الالوهيمي التاريخ بدا متحفّظاً بالنسبة
إلى النظم التي أخذ بها بنو إسرائيل بعد دخولهم أرض كنعان. فكتّاب الشمال يريدون
أن يرجعوا إلى زمن الخروج والحياة في البرية ودخول أرض كنعان. لهذا يرفضون ما تمّ
من تجديد في عهد داود وسليمان. وهذه الأمانة للقيم التي يعتبرونها جوهرية بالنسبة
إلى الديانة الوطنية، جعلتهم يشدّدون على دور النبي الذي لعبه الآباء (إبراهيم،
موسى)، ويتهجّمون على عبادة العجل الذهبي (خر 32: 1 ي) أو البعل الكنعاني (قض 6:
25- 32)، ويرفضون النظام الملكي ككل (1 صم 8: 1 ي؛ 12: 1 ي)، ويحنّون إلى الحياة
التي عرفتها القبائل في عهد القضاة.

لقد
تنظّمت مجموعة التقليد الالوهيمي خلال القرن الثامن، في عهد يربعام الثاني المشرق
المزدهر (783- 743)، كردّة فعل على الفوضى الدينيّة والاجتماعية الظاهرة. ويظهر
ذلك في مقابلتنا نصوص التقليد الالوهيمي بنصوص الأنبياء الذين حملوا كلمة الله في
مملكة الشمال. فالنبيّ هوشع مثلاً يستعيد مواضيع يشدّد عليها التقليد الالوهيمي
مثل الوصايا العشر، وزمن البرّية، والتعلّق بالعهد، وذكر يعقوب أبي شعب اسرائيل،
وسيطرة إفرائيم، والعجل الذهبي والتنظيم الملكي.

كل
هذا يدلّنا على ما كان للأنبياء من تأثير في صياغة هذا التقليد الديني. وكان
للكهنة أيضاً دورهم في تدوين القوانين الاجتماعية والأخلاقية وتطويرها على ضوء
المستجدّات التي طرأت على مجتمع يبعد أجيالاً عن مجتمع الصحراء. ولهذا جاءت
الشريعة لتقف سدًّا منيعًا بوجه سلطة الملك، بوجه جور الأغنياء وتلاعب القضاة
بالعدالة والتراخي على المستوى الأخلاقي والديني.

هذه
الحالة ندَّد بها إيليا يوم قتل الملكُ آحاب نابوت اليزْرَعيلي واستولى على كرمه
(1 مل 21: 1 ي). وقال عنها عاموس (3: 10): “هم لا يعرفون العمل باستقامة، بل
يملأون خزائن قصورهم بالجور والاغتصاب”. وأردف هوشع (7: 1): “هم يغشّون
بعضهم بعضاً، فمنهم السارق في الداخل ومنهم اللصوص الذين يسلبون في الخارج”.

مثل
هذا العمل يفترض وجود شرع عرفي مبني على العادة سوف يتبلور ويتوضح في قوانين
ثابتة. ولقد تمّ ذلك على ضوء كرازة الأنبياء الذين دفعوا بالاصلاح في خط التقليد
الصحيح، ثمّ سلّموه إلى حلقات الأنبياء والكهنة اللاويين الذين انطلقوا من الشرائع
والعادات القديمة وتركوا لنا الفتاوى العديدة. وهذا ما كوّن أساس القانون الجديد
الذي سيكون جاهزًا بعد سقوط السامرة، يوم أحسّ الشعب بحاجة ملحّة إلى ما يساعده
على المقاومة الروحية بوجه المدّ الآتي من بلاد الرافدين. وبالإضافة إلى ذلك،
سيفهم أبناء السامرة أنّهم لو سمعوا كلام الأنبياء وقاموا بالإصلاح الذي دعوهم اليه،
لما كانت الحالة وصلت بهم إلى ما وصلت. ولقد أحسّوا بضرورة إصلاح يكون أساسه شريعة
موسى المغتنية بكلام الأنبياء والمتكيّفة مع حاجات العصر فكانت حصيلة وعيهم
“القانون الاشتراعي” (تث 12: 2- 15: 26) الذي سيكون قلب سفر تثنية
الاشتراع كما نعرفه في صيغته الحالية.

 

3-
تأثير الأنبياء في مملكة أورشليم

لم
يكن تأثير الأنبياء في مملكة الجنوب أقلّ منه في مملكة الشمال. فالمواضيع التي كرز
بها عاموس في السامرة (سنة 750) هي ذاتها التي سيكرز بها ميخا وأشعيا في أورشليم،
وذلك بفضل دور تلامذة الأنبياء في نشر أفكار كل نبيّ. كان ميخا يشبه عاموس إلى حد
بعيد، وكلاهما طالع من ريف يهوذا. واذا كان تأثير عاموس قويًا في أغنياء السامرة،
فقد كان تأثير ميخا كبيرًا في النخبة من أورشليم فعجّلوا بالقيام بالإصلاح المطلوب
(رج ار 26: 17- 19). أمّا التقارب بين النبيّين في الأفكار والتعابير فأمر واضح:
فميخا (1: 3 – 4) يصوّر الرب هكذا: “ها هو الرب يخرج من مكانه وينزل ويطأ
مشارف الأرض، فتذوب الجبال تحته وتنحلّ الأودية كالشمع من وجه النار وكالمياه التي
تصبّ في منحدر”. ويقول عاموس (13: 4) في المعنى نفسه: “فالذي يصنع
الجبال ويخلق الريح، ويبيّن للبشر فكره، ويجعل الظلمة فجرًا، ويطأ مشارف الأرض، هو
الرب، الإله القدير اسمه “.

أمّا
أشعيا فإنّه يمثّل تقليد أورشليم الأدبي في أصفى معانيه. لا شكّ في أنّ ما تركه من
أثر رفيع يعود إلى الإلهام الإلهي وإلى عبقريته الفذّة، إلاَّ أنّ أفكاره وتعابيره
ترتبط بالتيّارات الأدبيّة المعروفة آنذاك في أورشليم. فأشعيا قريب من الكهنة وقد
أخذ بأسلوبهم كما استوحى من لاهوتهم الكثير عن مجد الله وقداسته وجلال ملكه ودور
الهيكل كمركز لإقامته وسط شعبه. وأخذ كذلك عن الذين دوَّنوا التقليد اليهوهي
تعليمه عن البقية الباقية، التي تحمل بذار الخلاص وتوفّر استمرار العهد، وعن
التعلّق بسلالة داود كما نعرفها عبر نبوءة ناتان (2 صم 7: 1 ي). وأخذ أيضاً عن
حلقات الكتبة أسلوب المثل فندَّد بالحكمة الكاذبة المُفعمة بروح الكبرياء، وقدّم
الحكمة الحقّة المشبعة بروح دينية. وعلى مثال عاموس هدّد الشعب بعقاب الرب، وعلى
مثال هوشع نظر إلى الخلاص الآتي فجعل العصر الذهبي لإسرائيل، لا في زمن الخروج
والحياة في البرّية، بل في عهد داود الجديد. حينذاك يسكن الذئب مع الحمل، ويربض
النمر مع الجدي، ويُعلف العجل والشبل معًا وصبي صغير يسوقهما. وترعى البقرة والدب
معًا، ويربض أولادهما معًا، والأسد يأكل التبن كالثور.. لا سوء ولا فساد في كل
جبلي المقدس ” (أش 6: 11- 9).

ونلاحظ
من خلال سفر أشعيا أنّ النبيّ ليس وحده، بل تحيط به جماعة تلاميذه الذين يطبع في
قلوبهم شريعة الرب وفرائضه (أش 8: 16). وهكذا يبدو شبيهًا بواحد من معلّمي الحكمة
الذين يجعلون همّهم في تثقيف جماعة صغيرة. في هذه الحلقات، نجد الأصل البعيد
لجماعة الأتقياء ومساكين الرب الذين سيلعبون دورًا هامًا في تكوين الكتب اليهودية
بعد الجلاء.. أمّا الجماعة التي تحيط بأشعيا فسوف تحتفظ بأقوال المعلم، أَوَصَلت
اليها كتابةً أم شفاهًا، وتضمّها إلى بعض وقائع حياته الهامة (أش 7: 1 ي؛ 36- 39)
لتؤلّف القسم الأوّل من السفر المسمّى باسمه (1- 39) والذي سينمو مع الزمن بفضل
تلاميذ جُدد لم يُحرموا من إلهام الروح القدس.

 

4-
بعد سقوط السامرة

بعد
سقوط السامرة (721 ق. م.) ترك مَن بقي من سكانها الشمال، وذهبوا يبحثون عن ملجأ
لهم في الجنوب. في الوقت ذاته، بدأت أورشليم باصلاح ذاتها فنتج من هذا الاصلاح
نشاط أدبي واسع. فعمد حزقيا الملك (716- 687) إلى جمع إرث مملكة الشمال الأدبي
والديني (والسياسي أيضاً) ليكوّن وحدة وطنيّة محورها أورشليم. وأخذ كتبته يجمعون
الأمثال (25: 1) ليدخلوها في أمثال سليمان، كما شرعوا بإعادة النظر في مجموعات
التقاليد القديمة وبمقابلتها بموادّ جاءت من الشمال، فأعطونا نسخة كاملة توحّد
تقليد الجنوب (اليهوهي) وتقليد الشمال (الألوهيمي) في إطار البنتاتوكس أو أسفار
موسى الخمسة. وفي هذه الآونة أيضاً، برز سفر القضاة في شكله النهائي. وهكذا عادت
تقاليد الشمال فالتقت تقاليد الجنوب وكوّنت تقليدًا ذكَّر الشعب بما كان عليه في
بداية الملكية.

في
هذا الوقت، ظلّت حلقات اللاجئين إلى أورشليم على ممارستها الأدبية، فكتبت القانون
الاشتراعي بصيغته النهائية. ولمّا انتهى تدوينه جعلوه في الهيكل أمام تابوت الرب.
وتجاه الانحرافات عن العبادة الحقة، حلموا بأن يجعلوا من أورشليم (لأنّ شكيم
يحتلّها الغرباء) المعبد الشرعي الوحيد للرب في أرض إسرائيل، لأنّ فيها تابوت
الرب، ولأنّها جمعت في زمن داود جميع القبائل في رابطة واحدة. وهكذا ستزيد أورشليم
إرثها بإرث مملكة الشمال وسوف تحتفظ به إلى يوم اكتشف كهنة الهيكل القانون
الاشتراعي وأعلنه يوشيا (640-609) شرعًا لشعبه وفرض على الجميع العمل به.

 

د-
المرحلة الرابعة: في زمن المنفى

تبدأ
هذه المرحلة مع يوشيا وإصلاحه الشهير (622 ق. م.) وتمتدّ إلى دمار أورشليم وأيّام
الشقاء والتعاسة التي سيقضيها شعب الله في المنفى.

1-
التيّار الاشتراعي

ضعفت
مملكة أشور فاستفادت مملكة يهوذا من هذا الضعف لتستعيد بعض استقلالها. فمنذ أن
تسلّم يوشيا مقاليد الحكم بنفسه (630 ق. م.) بدأ بنزع شعائر العبادة الأشورية
(وكان ذلك علامة تحرر وطني)، وشرع يهيّئ لاصلاح عميق سيحرّكه اكتشاف الكهنة
للقانون الاشتراعي في الهيكل سنة 622 وكان قد جُعل فيه منذ مئة سنة. وهكذا سيتحقّق
حلم كهنة السامرة، ويؤسّس يوشيا مملكته على عهد موسى وشريعته، ويطبّق هذه الشريعة
بحذافيرها متّخذًا بحق الرافضين الاجراءات القاسية (2 مل 22- 23). وستكون هذه
السياسة الدينيّة محطة في تاريخ العبرانيين الأدبي.

اعترفت
أورشليم بالقانون الاشتراعي كشريعة للدولة، فأخذ مركزه بين سائر الأسفار. حينذاك
تابع الكتبة عملهم فأخذوا هذا القانون وزادو عليه خُطبًا أخلاقية تحدّد أبعاده
وتنفحه بروحانية أوساط مملكة الشمال الدينية، فكان لنا سفر تثنية الاشتراع.

لا
نجد إلاَّ القليل من النصوص الاشتراعية في أسفار التكوين والخروج واللاويين
والعدد، ولكنّنا سنلاحظ تأثير سفر تثنية الاشتراع في سفر يشوع إذ يضخّم أخباره،
وفي سفر القضاة إذ يوضح معناه العام (رج قض 2: 11 ي: “فعلوا الشر، تركوا
الرب، غضب الرب فباعهم، أقام لهم قاضيًا أو حاكمًا فخلّصهم، ولكنّهم ما عتّموا أن
عادوا إلى الشر”)، وفي أسفار صموئيل والملوك إذ يحدّد سلوك الملوك على ضوء
كلام الله. لن نتوقّف على أسلوب المؤرّخين الاشتراعيين، إنّما نلاحظ أنّهم لم
يمزجوا المراجع بعضا ببعض، بل حافظوا على استقلالية كل مرجع، ممّا يساعدنا على
اكتشافه. بالاضافة إلى ذلك، نجد تعليمًا دينيًا عن العهد الذي يتحقّق عبر تاريخ
العبرانيين، وكرازة ملموسة تسعى إلى إيقاظ القلوب إلى محبّة الرب وحفظ عهده
والخضوع لشريعته. وبدون ذلك لا سبيل إلى العيش في الأرض المقدّسة بسلام.

ولكنّ
عمل الإصلاح الذي بدأ به يوشيا سيموت بموته المريع (كما حدث لحزقيا قبله). لا شكّ
في أنّ القانون الذي أعلنه حافظ على قيمته الرؤية، ولكنّ تطبيقه ظلّ دون المرام.
غير أنّ الروح الاشتراعية سوف تستمر ّوتتطور العصر فتهيّئ القوانين التي ستكون
دستور الأمّة التي ستُبنى من جديد بعد النكبة الوطنية التي ستحلّ بأورشليم سنة
587. وهكذا سيغتني سفر التثنية وسفر الملوك في “طبعات” جديدة ومنقّحة،
فيضيف إليها الكتبةُ خير موت يوشيا ودمار أورشليم وتشتّت شعبها.

 

2-
انبعاث التيار النبوي

كان
عهد منسّى (687- 642) عهد انحطاط ديني تأثر بالوثنية الكنعانية وطقوس الأشوريين (2
مل 21: 1- 9)، فأخذ الأنبياء يعملون في الخفاء. ولما بدأ عهد يوشيا عاد التيار
النبوي إلى عهده في حلقتين، حلقة أولى حول تلامذة أشعيا، كان من نتائجها سفر
صفنيا، وحلقة ثانية حول تلامذة هوشع وروحانية الشمال، كان من نتائجها بعض أفكار
إرميا. ودُوّن في ذلك الوقت سفر ناحوم الذي أنبأ بخراب نينوى (سنة 612 ق. م.)،
وسفر حبقوق الذي يعلن إيمانه بالته بوجه الكلدانيين.

لم
يكن لإرميا إلاَّ تلميذ واحد، باروك، جاءه من الحلقات الاشتراعية، وسيدوّن أقوال
النبي ويتلوها أمام الشعب مخاطرًا بحياته، وسيكون ما دوّنه نواة سفر إرميا الذي
سيجد فيه المنفيون أكبر عزاء لهم في ضيقهم وأفضل مشجّع لهم على الرجوع إلى الرب.

مات
إرميا، وبعد موته جاءت الأحداث تؤكّد صدق أقواله. ولكنّه ترك لمواطنيه في المنفى
رسالة رجاء أوضحها بكلمات تذكّرنا بتلك التي قالها أشعيا وهوشع: لقد وضع الله
مخطّط حبّ لشعبه وبدأ بتنفيذه، ولكنّ هذا الخطط فشل بسبب خطيئة بني اسرائيل. غير
أنّ الرب سوف يبتلي شعبه وينقّيه، ثمّ يقبله من جديد ويقيم معه عهدًا يكتبه في
القلوب، وبعدها يعيده إلى الأرض المقدسة سائرًا أمامه كالراعي أمام خرافه. يقول
إرميا (23: 3): “سأجمع بقية غنمي من جميع الأراضي التي طردتها إليها، وأردّها
إلى حظائرها فتثمر وتكثر”. ويتابع (31: 16- 17): “سيرجعون من أرض العدو،
يرجع البنون إلى تخومهم.. أمّا العهد الجديد.. فهو هذا: أجعل شريعتي في ضمائرهم
وأكتبها على قلوبهم، وأكون لهم إلهًا ويكونون لي شعبًا”.

 

3-
التقليد الكهنوتي

التقليد
الكهنوتي هو تقليد كهنة معبد أورشليم الذين رفضوا إصلاح يوشيا ليحافظوا على
امتيازاتهم. ولكن لمّا رأوا الخطر الكامن في التقليد الاشتراعي، شعروا بالحاجة إلى
جمع عاداتهم وتنظيم تعليمهم فكانت نتيجة هذا العمل ما سمّي فيمَا بعد “قانون
القداسة” الذي نقراه في سفر اللاويين (17- 26) والذي استوحى حزقيال بعض
نصوصه. وفي هذا الكتاب نكتشف روحانية تختلف عن روحانية سفر التثنية. فهو يشدّد
بصورة خاصة على عظمة الله وقداسته، ويبيّن أنّ خدمة المعبد هي أساس روح الديانة،
منها ينبع كل عمل إنساني. فكما أنّ الكهنة يمجّدون الرب في الهيكل، كذلك يمجّده،
في كل ظروف الحياة، الشعب الذي اختاره: “كونوا قدّيسين كما أنّي أنا الرب
إلهكم قدّوس” (لا 20: 26).

في
هذا الإطار الكهنوتي نتعرّف إلى حزقيال النبي الذي تأثّر بقانون القداسة وعرف
أسفار هوشع وإرميا وتثنية الاشتراع. فحزقيال هو رجل الكتاب (2: 9- 3: 2) الذي قرأ
أسفار سابقيه واطّلع حتى على أساطير فينيقية (28: 1 ي)، وتمرّس بكل ما في الهيكل
من شرائع وطقوس وعبادات.

دعا
حزقيال شعبه إلى التوبة بلغة سفر التثنية، ثمّ رسم لهم بعد دمار أورشليم (587
ق.م.) مخططاً مستقبليًا في إطار التقليد الكهنوتي حيث الأفكار المستقبليّة ترتبط
بالمعطيات العملية. فتنقية القلوب عمل طقسي يشبه ما يقوم به الكهنة في الهيكل (16:
36 ي)، والدولة تيوقراطيّة، بعد أن زالت الملكية، وصار رئيسُ الكهنة رئيسَ الأمّة
من دون منازع.

في
هذا الوقت بدأ التقليد الكهنوتي يكوّن مجموعة تاريخية وقانونية، وأخذ يستعيد الشرع
الموسوي ويتأمله من الزاوية الطقسية والليتورجية. إنّ الظروف فرضت على الكهنة
المنفيّين البعيدين عن هيكلهم أن يجمعوا كل ما يتعلّق بالطقوس وشعائر العبادة،
متطّلعين إلى اليوم الذي فيه يعودون إلى أرضهم، كما فرضت عليهم أن يحدّدوا لليهود
المسبيّين قواعد يسلكون بموجبها فيحمون نفوسهم من كل نجاسة. وهكذا جاء القانون
الكهنوتي داخل إطار التاريخ المقدّس. وبعد ذلك استعاد الكهنة مخطط التقليد اليهوهي
فنظّموه من جديد وبيّنوا كيف تحقّق قصدُ الله على مدى الأجيال في أربع حقبات:
الخلق، العهد مع نوح، العهد مع الآباء، العهد مع موسى. وفي كل حقبة أعطى الله
البشر شرائع ووصايا، إلى أن أسس عبر موسى تيوقراطيّة مركّزة على عبادة الله: فوق
جميع الشعوب هناك شعب اختاره الرب وكرّسه لخدمته، وفوق الشعب هناك الكهنة أبناء
هارون أخي موسى.

 

4-
عزاء الذين في المنفى

بخراب
أورشليم زالت النظم التي خلقها داود الملك، ولكنّ الشعب وجد سبيلاً إلى البقاء
بشكل قديم وجديد: بشكل قديم لأنّه أسّس جماعة على مثال الجماعة المقدّسة في برّية
سيناء، وبشكل جديد لأنّ هذه الجماعة تكيّفت والعصر الذي عاشت فيه. وهذه الجماعة لم
تقطع كل رباطها بالعهد الملكي، فأخذت عنه ما حفظ لها من إرث أدبي، أي الكتب
المقدّسة: أوّلاً أسفار موسى الخمسة التي هي حصيلة مجموعات عديدة من قانون العهد
إلى القانون الاشتراعي إلى قانون القداسة والقانون الكهنوتي. وثانيًا الأسفار
التاريخية من يشوع إلى القضاة إلى أسفار صموئيل والملوك. وثالثًا مزامير عديدة
وأمثال حكمية جمعها كتّاب الملك سليمان وحزقيا.. ومجموعة المؤلّفات هذه تدلّ على
فكر واحد في مبادئه الجوهرية ومتنوعّ في تعابيره والتيارات البارزة فيه. فشعب اسرائيل
لا يملك فقط حكمة دينية تميّزه عن سائر الشعوب، بل يملك رجاء وطنيًا نبع من عهد
سيناء وتوسَّع على ضوء تعليم الأنبياء فوجد فيه الشعب المشتّت باعثًا على الحياة
وسط الظروف الصعبة التي فُرضت عليه.

في
أيّام المنفى التأم اليهود في جماعات محلّية، فلم يذوبوا في الشعوب التي عاشوا
بينها. وكان لكل جماعة إطارها الطبيعي المؤلَّف من رؤساء العائلات والشيوخ، وفئة
الكهنة واللاّويين، والمثقفين الذين عملوا في الإدارة الملكية ككتبة وموظفين.
وتنظّمت مدارس فكرية دخل فيها تلاميذ الأنبياء وأعضاء الحلقات الاشتراعية
والكهنوتية، فكوّنوا تيارًا جديدًا سيساعد أبناء شعب الله فيستمرّون في الوجود
ويتوجّهون إلى معرفة إرادة الله وسط الظروف الصعبة التي فيها يعيشون.

في
فلسطين بقيت بعض الطقوس في هيكل مهدَّم، وفي إطاره ألفت مراثي إرميا بمناسبة يوم
حداد احتفل به الشعب تذكارًا لدمار أورشليم، كما ألّفت بعض المزامير. أمّا في
بابل، فقد تكيّفت الممارسة الدينية بحسب ظروف الحياة هناك، وشدّد المنفيون بصورة
خاصة على شريعة السبت والختان والمحرّمات وممارسة الصوم. وبالاضافة إلى ذلك،
اعتادت كل جماعة أن تجتمع يوم السبت أو غيره في صلاة مشتركة، فكانت تلك بداية
العبادة في المجامع، فيها تلاوة مقاطع من الشريعة ومن التاريخ المقدس، ووعظ
وإرشاد، وصلاة وأناشيد، ثمّ البركة للجماعة.

وستعلب
هذه الاجتماعات دورًا كبيرًا في تكوين الكتب المقدّسة. فأوَّلاً، استعملوا النصوص
المدوّنة، ممّا ساعد على حفظ النصوص القديمة من الضياع ؛ وثانيًا، كانت هذه
العبادة الإطار الملائم لتأليف نصوص جديدة. نعطي مثالاً على ذلك: قرأ المجتمعون
سفر الخروج فوصل بهم التأمّل في نصوصه إلى ليتورجية توبة (نقرأها في أش 7: 63- 64:
11) أو حضّ على الثقة بالله (أش 43: 16- 21) يبدو بشكل عظة لزمن الفصح، تنطلق من
الماضي لتجد فيه أملاً بخلاص جديد (رج مز 78؛ 105؛ 106). في هذا الإطار، ولد
المدارش وهو فن أدبي فيه يدرس المؤمن نصًّا كتابيًا قديمًا ويحاول أن يجد فيه
جوابًا على تساؤلات حياته الحاضرة، وتكوّنت حلقات المرتّلين والكهنة والكتبة الذين
جمعوا الكتب ونسخوها ونشروها وأغنوها بتعليقات تفسّر معانيها.

في
هذه المرحلة كتب الأنبياء آخر نبوءاتهم. ومن بين تلاميذ أشعيا سيوجّه كاتب، اغفل
اسمه اطلاقًا، إلى المسبيين، بين سنة 547 (سنة انتصار كورش الفارسي) وسنة 538 (سنة
القرار الذي بموجبه عاد المسبيون) رسالة تعزية نلاحظ فيها تأثير أشعيا وناحوم (أش
52: 7- 10) وصفنيا (أش 49: 13) وإرميا والتثنية وتقاليد إسرائيل القديمة. إنّ كاتب
هذه الرسالة أديب وشاعر، وما كتبه يبدو قمة من قمم العهد القديم. وهو يشدّد على
التيّار المسيحاني، فينقّيه من عناصره السياسية، ويركّز كلامه على مُلك الرب في أورشليم
مدينته المقدّسة التي سينطلق منها لك على الكون، ويذكّر شعب الله بتاريخه. ولكنّه
يركّز انتباهنا على جماعة مساكين الرب الساعين إلى البرّو الحافظين شريعة الرب في
قلوبهم. أمّا الخلاص فلا يأتي بالمسيح الملك، أكان محاربًا أم مسالمًا، بل بعبد
يهوه (أو عبد الله) الذي سيكون وسيط عهد جديد فيخلّص الجماعات بآلامه، بذبيحة
تكفيرية جديدة.

 

ه-
المرحلة الخامسة: في العهدين الفارسي واليوناني

حوله
السنة 550 ق. م. أطاح كورش الفارسي بالمادايين وانتصر على كريسوس (5446 ق. م.) ثمّ
أخذ بابل (539) وأسّس مملكة ستدوم حتّى سنة 331، يوم انتصر الإسكندر على مملكة
الفرس واستولى على بلاد الشرق. وعندما مات الإسكندر الكبير (323 ق. م.)، اقتسم
قوّاده المملكة. وهكذا انتقل الشعب العبراني من حكم الفرس إلى اليونان، إلى
البطالسة الآتين من مصر، إلى السلوقيين الآتين من أنطاكية، بانتظار حكم الرومان الذين
سيستولون على أورشليم سنة 63 ق. م. بقيادة بومبيوس. وعلى عهد الفرس، رجع المنفيّون
من بني إسرائيل إلى فلسطين وسُمح لهم بإعادة بناء الهيكل، ولكن أين هيكل أورشليم
من هذا الهيكل الثاني! وعلى عهد البطالسة نعِمَ بنو إسرائيل بالراحة ولكنّهم عرفوا
الاضطهاد في عهد السلوقيين الذين أرادوا أن يفرضوا عليهم المدنيّة اليونانية مع ما
يرافقها من ممارسات وثنية.

 

1-
التيّار النبوي في زمن الهيكل الثاني

ظلّ
الهيكل رمزًا في شعب الله، وبتي يستقطب الكهنة والأنبياء وعلماء الشريعة. وهنا
نتعرّف إلى حجّاي وأشعيا الثالث (أش 56- 66) اللذين تابعا خط رسالة التعزية كما
وردت في أشعيا الثاني (أش 40- 55)، ونتعرّف إلى زكريّا الأوّل (زك 1- 8) الذي أخذ
بطريقة حزقيال في اللجوء إلى الرموز. في ذلك الوقت تطوّر الفنّ النبوي فأخذ بأسلوب
الكتابة، لاسيّمَا وأنّ الكتّاب الجدد مرّوا في مدارس الكتبة واطّلعوا على ما كتبه
سابقوهم وأخذوا عنهم. أمّا المواضيع التي نقرأها فهي: أناشيد دينية وطنية ضيّقة
(أش 63: 1- 6) أو إعلان الخلاص الشامل للبشرية كلّها (أش 56: 1- 8)، وكلام على بني
آدوم الذين اجتاحوا الجنوب ونداء الغضب الإلهي عليهم (أش 34: 1 ي؛ عو 1 ي)، وصلاة
الرجاء عندما بدأ الهيكل يرتفع.

وهنا
يتطوّر الفنّ النبوي ويتحوّل فنًا حكيمًا وفنًا جليانيًا. إنّ دور النبي كواعظ
سينتقل إلى معلم الحكمة، ودور النبي كراءٍ سينتقل إلى صاحب الرؤى الذي ينطلق من
التعابير الغامضة ليفتح أذهاننا على عالم آخر الأزمنة. وفي هذا الإطار نقرأ فصلين
من سفر حزقيال (38- 39) وثلاثة فصول من سفر أشعيا (34-37) وفيها ما فيها من ذكر
الحروب، كما نقرأ سفر ملاخي ونحميا اللذين كُتبا في القرن الخامس ق. م.، والقسم
الثاني من زكريا (9 – 14) الذي عاصر فتوحات الإسكندر. وبعد يوئيل (بداية القرن
الرابع) سيختفي دور النبي (رج زك 13: 2- 6) ممهّدًا الطريق للفن الجلياني الذي
ستقرأه النفوس التقية، وهمّها أن تفهم معنى هذا الحاضر المخيّب للأمل، وأن تلقي
نورًا على مخطّط الله الذي يتحقّق في المستقبل.

 

2-
التيّار الحكمي

منذ
عهد سليمان دخل التيّار الحكمي أورشليم وتوسّع في أوساط الكتبة. ولكن بعد المنفى
وزوال الملكية لم يعد الكتبة هؤلاء الموظفين الذين يدوّنون أعمال الملك وماجريات
السنة، بل باتوا رجالاً أتقياء يقرأون الأسفار المقدّسة ويتأمّلونها. هذا التيار
الحكمي ستبين معالمه في أقوال نبوية (أش 40: 12- 16) ومقاطع اشتراعية (تث 4: 1-
8)، ولكنّه سيحتفظ بفنّه الأصيل معتمدًا أسلوبًا يصل به إلى كل إنسان مستقيم
القلب، أكان يهوديًا أم لا. فالكاتب الحكمي سينقل مُعطيات الوحي الموسوي والنبوي
إلى قرّائه وكأنه يحايد الوحي ويجانبه، إلاَّ أنّه عبر أسلوب عرفته الأمم المجاورة
سينقل وحي الله مستعملاً أسلوب الأسفار المقدّسة وتعابيرها. وسيترك هذا الفن
الحكمي التعليم عن العهد بنزعته القومية الضيّقة، فينفتح على سائر الأمم، ويدخل
هكذا تعليمه أوساط الوثنيين فيجلب إلى عبادة الله مهتدين جددًا سيكونون من دُعوا
خائني الله، وهم الذين سيتقبّلون المسيحية من فم الرسل.

إنّ
أوّل أسفار الأدب الحكمي هو سفر الأمثال. ضمّنه “ناشر” في القرن الخامس
أو الرابع ق. م. مجموعات قديمة، وجعل له مقدّمة لاهوتية تدل على الروح الذي كُتب
فيه.

فلقد
تطرّق إلى كل ما يتعلّق بالحياة المستقيمة السعيدة، وإلى مسألة الثواب والعقاب،
فاستنتج بتفاؤل: طريق البر طريق الحياة، وطريق الشر آخرتها الموت. ولكن جاء سفر
أيّوب بعده فعارض فكرته، بيّن واقع البارّ المتألّم ظلمًا، وانتهى إلى اختبار
للألم الذي يبقى سرا للإنسان على الأرض.

 

3-
الشعر الغنائي الديني

انقسم
شرّاح الكتاب المقدّس بالنسبة إلى المزامير. قال البعض: تكاد ترجع المزامير كلّها
إلى عهد الملكية، وقال البعض الآخر: القسم الاكبر من المزامير يعود إلى ما بعد
الجلاء. لا شكّ في أنّ مزامير عديدة كُتبت في عهد الملكية وجُمعت كما جُمع غيرها
من التراث الأدبي زمن المنفى، ولكنّها نقّحت بعد المنفى وتكيّفت لتلائم الظروف
الجديدة التي تعيشها جماعة الله. إنّ المزامير التي تحدّثنا عن الملك داود هي
قديمة، وكذلك التي تحكي عن مملكة الشمال. أمّا المزامير الحكمية (1 ؛ 34 ؛ 37)
وتلك التي تنشد الشريعة (19: 8 ي؛ 119) والتي تحكي عن ألم البارّ وعن مُلك الرب في
إطار اسكاتولوجي، فقد وصلت إلينا بصورتها النهائية بعد الجلاء.

بهذا
الشعر الغنائي الديني الذي يكاد يتمثّل كله في سفر المزامير، يرتبط سفر نشيد
الأناشيد الذي دوّن على ما يبدو في الزمن الفارسي. إنّ هذا السفر مجموعة أناشيد حب
بشري في إطار حفلة زواج، وقد فهمه المعلّمون كرمز الى حب الله لشعبه على مثال ما
نقرأ في هوشع وإرميا وحزقيال.

 

4-
من التاريخ إلى القصص الديني

عرف
بنو إسرائيل الفن التاريخي ولجأوا إلى الخبر، إنّما كان هدفهم منهما إعطاء أمثولة
لاهوتية أو أخلاقية أو قانونية. لقد تأمّلوا في تقاليدهم فارتفعوا بها إلى مستوى
أعلى من التاريخ، إلى مستوى روحي وتعليمي نجد أحلى ثماره في سفر التثنية. من
التاريخ انطلق الكهنة في هذه المرحلة الأخيرة فأعادوا كتابته لتربية الناس
وتعليمهم، في فن اسمه المدراش. في هذا الإطار نقرأ سفرَي عزرا ونحميا (ذكريات
الرجوع، السامريون..)، وسفر يونان الذي هو خبر تعليمي بحت، وسفر راعوت الذي ينطلق
من تقليد تاريخي يرتبط بداود ليصل بنا إلى خبر ديني يدل فيه على أن الله يرضى
بأعمال امرأة موآبية كما يرضى بتوبة أهل نينوى الذين بشرّهم يونان.

 

5-
تدوين أسفار موسى الخمسة وتثبيت نصوصها

إنّ
محور التعليم اليهودي هو التوراة بمعناها الحصري، أي الأسفار الخمسة، وقد دوّنت
بصورة نهائية في العهد الفارسي فثبت نصّها ولم يعد عرضة للتبديل. لقد ذُكر تاريخها
يوم كانت شرعة العهد في زمن موسى، ثمّ تبلورت في تيّارين متوازيين، تيّار الشمال
المتمثّل بالوصايا العشر ذات الطابع الأخلاقي وبقانون العهد، وتيّار الجنوب
المتمثّل بوصايا العبادة وشعائرها (خر 34: 1 ي). ثمّ التقى هذان التياران فأعطيا
أوّلاً القانون الاشتراعي وثانيًا قانون القداسة، ثمّ “توراة” حزقيال،
وأخيرًا القانون الكهنوتي الأساسي. ولقد سيطر التيّار الاشتراعي على مدارس
أورشليم، بينما سيطر التيار الكهنوتي على مدارس بابل. ولمّا عاد الكهنة
الصادوقيّون من المنفى حملوا معهم نصوصاً مكتوبة وتقاليد شفهية، وجعلوا كل ذلك في
إطار الأسفار الخمسة بعد أن كيّفوه بحسب الظروف الحاضرة وجعلوا فيه قانون الذبائح
وقانون الطهارة.. وهكذا برزت “التوراة” بصورتها النهائية على ملتقى
التيّارين الاشتراعي والكهنوتي في القرن الرابع ق. م.، دوّن نصّها وثبت فلم يعد من
نزاع عليه ولا اختلاف إلاَّ على طرق تفسيره.

 

6-
في العهد اليوناني

لمّا
اجتاح الإسكندر منطقة الشرق، كان للثقافة التي حملها تأثيران في العالم اليهودي،
تأثير سلبي يتمثّل في رفض العالم اليوناني وما يمثّله من ارتباط بالوثنية، وتأثير
ايجابي يتمثّل في اكتناز الثقافة اليونانية ولغتها، وكان من ثماره سفر الحكمة.

في
هذا العهد دوّنت بصورة نهائية أسفار أخبار الأيّام الأولى والثانية ونحميا وعزرا
كردّة فعل على السامريين المنشقّين الذين بنوا هيكلهم على جبل جرزيم وانفصلوا عن
اليهود وما زالوا. هذه الأسفار الأربعة كُتبت في نهاية القرن الرابع أو مبادئ
الثالث فاستفادت من موادّ قديمة وشدّدت على شرعية هيكل أورشليم وحده وعلى حقوق
سلالة داود دون سواها.

لا
نعرف كيف كُتب سفر أستير، وهو خبر تقوي. أمّا كاتبا سفر الحكمة والجامعة فيدلاّن
على معرفة بالفكر اليوناني ومسائله. وسفر طوبيا يرتبط بالعالم الشرقي (نظرته إلى
الملائكة) ويجمع بين التقليد الحكمي والإخبار التقوي والغناء الديني. وكذلك سفر
باروك الذي ترجع أقدم مواده إلى القرن الثالث ق. م.. أمّا يشوع بن سيراخ فقد دوَّن
كتابه في القرن الثاني فضمّنه عناصر أخذها من أسفار موسى وتعاليم الأنبياء كتُب
الحكماء.

ومن
نتيجة الصراع بين الفكر اليهودي والفكر الهليني وصل إلينا سفر دانيال وسفر يهوديت
وسفرا المكّابيين كرفض للعالم الهلّيني برمّته، وكذلك سفر حكمة سليمان (القرن
الأوّل ق. م.) الذي سيعبّر عن إيمان بني إسرائيل بتعابير يونانية فيطرح أمامنا
مسألة الخلود بعد الموت ويحل مشكلة الثواب والعقاب الفردي التي عالجتها أسفار
الحكمة منذ القرن الخامس ق. م. دون أن تجد لها جوابًا.

 

خاتمة

تلك
هي مراحل تكوين التوراة، تتبّعناها فاكتشفنا فيها تطور فكر ديني بدأ مع موسى
وتعمّق مع الأنبياء وتكيّف مع معلّمي الحكمة فكان لنا هذا البناء الضخم الذي هو مع
العهد الجديد أعظم عطايا الرب للإنسان. في هذه الأسفار نقرأ كلمة الله كما دوّنت
بلسان البشر فنطّلع على مخططه الخلاصي ونستشف طريقته في إيصال كلمته إلينا: لم
يستعجل شعبه ولم يدفعه بقوّة، بل سار معه على مهل وأمسك بيده كما يمسك الأب بيد
ابنه وقاده في طريق طويلة قبل أن يعطيه ويعطي البشرية معه ملء الوحي في شخص ابنه
يسوع المسيح.

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى