علم المسيح

تعليم يسوع



تعليم يسوع

تعليم يسوع

. شرع
يسوع في التعليم رسميا، فور رجوعه إلى الجليل، فصادف في تلك المنطقة أكثر مستمعيه
عددا وولعا. فلقد كانوا أناسا طيبين، أولئك الجليليون من أهل الريف أو البحر،
رجالا أشداء، خلقا وجسما، نفوسا سليمة وقلوبا مستقيمة. وكانوا قد اشتهروا، في
إسرائيل، بنخوتهم وبشاشة أخلاقهم. وخلافا لما كان عليه جيرانهم في السامرة، فقد
كانوا، من يوم ارتدت بلادهم إلى حكم المكابيين، من أنصار الدين القويم، لقد كانوا
أخشن طباعا من أهل اليهودية آ ولكنهم كانوا أكثر استعدادا للمروءة. لم يكونوا من
المتحذلقين في الفقه أو في علم الكلام، ولكنهم كانوا يحبون الله حباً صراحاً

 

لقد
بدأ المسيح كرازته في المجامع،. وذلك مما تجدر الإشارة إليه. فإن هناك صورة، أمست
مألوفة في عالم الفن، قد توهم بأن المسيح ما كان يخاطب الجموع إلا في الهواء
الطلق، فوق منحدرات الهضاب الوادعة المطيفة ببحيرة طبرية، أو منتصبا في صدر زورق،
والجموع محتشدة عند الشاطئ تسمع كلامه. فالبشير لوقا الذي توقف على أحداث هذه
الفترة (لوقا4: 4 1 -2 2، و1 3: 32) قد أبرز، بوضوح، الطابع الذي تميز به تعليم
المسيح، في صيغته الأولى: فالمجمع، لذلك العهد، هو الموضع القانوني الذي كان لا بد
أن يعمد إليه اليهودي، إذا رام نشر رسالة دينية. وهل كان بالإمكان العثور على ما
هو أفضل من ذاك المكان المقدس، الذي كان، في آن واحد، بيت صلاة ومعهدا دينيا،
يتنادى إ ليه المؤمنون كل سبت. ولم يكن في جميع أنحاء فلسطين، عهد المسيح، من
قرية، مهما رق حالها، إلا وكانت تعتز بامتلاك واحد من مثل تلك الأبنية. وحتى
الجماعات اليهودية، التي كانت مبددة في جميع أطراف الامبراطورية، كانت قد بنت لها
مجامع، وكان في روما لا أقل من ثلاثة عشر مجمعا. وكان المجمع يتألف من بعض الأبنية
البسيطة: قاعة متوسطة الحجم – 24×18 مترا في كفرناحوم – يزخرفها على غير تأنق،
رسوم من الفسيفساء تمثل سعفا ونجوما، وباحة تزينها بركة الوضوء؛ وبعض حجر للضيوف

مقالات ذات صلة

 

. من
عابري السبيل، وقاعات للتدريس. وقد عثر علماء الآثار على بقايا الكثير من تلك
المجامع. وكان يتولى إدارتها ” رئيس مجمع ” يعاونه مساعد، كان يعهد إليه
بوظائف السدانة والتعليم والخزانة

 

..
بيد أن المجامع لم تكن لتستخدم في تأدية شعائر العبادة: فالعبادة لا تجدر تأديتها
إلا في هيكل أورشليم. ولذا فقد كان استعمالها محصورا في تعليم الحقائق الدينية
والتقاليد الإسرائيلية؛ يشرف عليها أولو الأمر من الكتبة أو علماء الناموس.

 

. في
واحد من تلك المجامع تكلم المسيح يوما في الناصرة عك حد ما وصفه لنا البشير لوقا،
في لوحة نابضة بالحياة (لوقا 4: 16 – 21)؛ فإذا به ينهض، ويعلو المنبر، ثم ينشر
صحيفة الرق الطويلة، حيث أثبت نص. أشعياء، ويقع على بعض الآيات فيقرأها، ثم يعيد
السفر إلى الخادم، ويندفع في تفسير الآيات ” بينما عيون الذين في الجمع تشخص
إليه بأجمعها “: ” روح الرب علي، لأنه مسحني لأبشر المساكين، وأرسلني
لأنادي للمأسورين بالإطلاق، وللعمي بالبصر، وأرسل المنسحقين في الحرية، وأكرز بسنة
الرب المقبولة ” (أشعياء 61)

 

. هل
أوجس السامعون ما انطوى عليه ذاك النص المنتقى، من انطباق على الأوضاع الراهنة؟
وهل ارتاب أولئك القرويون، قاطنو الهضاب الجليلية، أن الذي يخاطبهم إذا هو
عمانوئيل الذي ذكره النبي، وأن السعادة التي باتت تترقبهم هي أحلي من الرخاء
المعهود في سنوات ” القبول “، تلك ” السنوات السبتية ” التي
أمر اليهود بإقامتها كل خمسين سنة، فتظل الأرض، أثناءها، بلا فلاحة، وتعتق رقاب
العبيد، وترد الأراضي المرهونة إلى أصحابها؟.. أجل، لقد أشار المسيح، في خطابه،
إلى تحقق ذلك كله: “إنه اليوم قد تم هذا المكتوب في مسامعكم “. ولكنهم
هل أدركوا؟.. إن الموقف الذي سوف يقفونه من المسيح، بعد زمن يسير، يشير إلى أنهم
قلما فهموه

 

.
وانحدر يسوع، في إثر ذلك، إلى كفرناحوم. ولفظة ” الانحدار ” هذه على
جانب من الدقة. فإنه، من الممكن، حتى اليوم، سلوك تلك الطريق الذاهبة توا من
الناصرة إلى ضفة البحيرة. فبعد مسيرة عشر ساعات تقريبأ، تنكشف البحيرة فجأة،
بكاملها، في إطار من الصخور النسفية الكالحة، تطيف بزرقتها الشديدة شطآن بلون
النحاس الكامد. فإذا ما اجتاز المسافر شعب أربيل، تبدلت المناظر، وامتدت الطريق
متمشية مع شاطىء ضيق في معظمه، تشرف عليه أجرف شاهقة. بيد أن قرقرة المياه
الصافية، وانسياب الزوارق الوادعة، وخضرة أشجار الليمون والدفلى، تؤلف لوحة أقل
وحشة وجفاء. وكلما اقترب من البحيرة، اشتدت الحرارة، وخيل للمرء أنه والج في دفئه.
ولابد أن المسيح قد شاهد، في البعد، ومن جهة الجنوب، أبراج طبرية البيضاء، وأسطحه
أنتيباس المتوهجة بالذهب.. ثم تنفرج الأرض شيئاً فشيئا، وينبسط سهل جنيسارت،
بمربعاته الحمراء والصفراء. وكانت كفر ناحوم، أيام المسيح، أعظم المدن القائمة
عليه. وأما أهل المنطقة فكانوا يتعاطون التجارة والزراعة وصيد الأسماك

 

. ولم
تكن كفرناحوم، كجارتيها طبرية ويوليادا، حاضرة هلينية، بل مدينة يهودية. إلا أنها
كانت كثيرة الحفاوة بالوثنيين المنحدرين إليها من سهول حوران الثرية، أو الوافدين
إليها من الشواطئ الفينيقية. في أزقتها الضيقة كان يفوح شذا الليمون والورد،
فيختلط بالروائح المنبعثة من حراشف السمك المهملة فوق الحضيض.. وكانت المنازل
مبنية فيها بالحجارة النسفية، ما خلا المجمع -الذي كان قد أنجز بناؤه من زمن يسير
– فقد كان مرتفعا، في وسطها، بحجارته الكلسية البيضاء. وكان أهل كفرناحوم يعتزون
بمجمعهم هذا. وكان قائد الموقع قد تبرع من ماله الخاص، للمساهمة في بنائه، (لوقا
7: 5)، ولا شك أن أنتيباس قد اشترك هو أيضا في تمويل البناء، بدليل، النخلة التي
يتميز بها شعاره، والتي يشاهد رسمها في ما بقي من المجمع، حتى اليوم ” من
آثار جميلة

 

. لقد
علم يسوع أيضا في مجمع كفرناحوم. ولكن ما كان موضوع تعليمه؟ إن أكثر الإنجيليين
دقة يبقى، في ذلك، على جانب من الغموض. هناك فقط خلاصة وجيزة نقع عليها في إنجيل
البشير مرقس: ” قد كمل الزمان، واقترب ملكوت الله، فتوبوا، وآمنوا بالإنجيل
” (1: 15). التوبة والإيمان: هما، في الواقع، الركيزتان اللتان سوف. تقوم
عليهما رسالة الإنجيل. بيد أن يسوع، كان، ولا بد، يتوسع في أكثر من ذلك، بدليل ما
نجده في النجيل مرقس أيضا من أن الحاضرين ” بهتوا من تعليمه “، لأنه كان
يعلم كمن له سلطان، وليس كالكتبة ” (مرقس 1: 22). إشارة بعيدة المعنى! فهذا
السطر، وحده، يصور لنا المسيح، في رسالته الخطابية، صورة دونها كل تعليق مسهب! لقد
كان الكتبة يتمحكون في النصوص، ويكثرون من الإسنادات والمراجع، ولا يقد مون على
قول، مهما كان بديهيا، إلا وكأنهم يستوحون رأيهم من الناموس أو من الأنبياء،
متذرعين بتأويلات بهلوانية في معظمها. وأما المسيح فكان على النقيض من ذلك كله،
وبعيداً أقصى البعد عما ألفه الفريسيون من التحذلق والتصنيع، يستند، في تعليمه،
إلى مبادئ تلك الشريعة الإلهية التي يمكن كل قلب سليم أن يستوعبها من غير عناء.
فهو، منذ تلك اللحظة، ذاك الذي سوف يقول يوما: “ليكن كلامكم: نعم نعم أو لا
لا إ.. “. إنه يتكلم بملء السلطة، لأن السلطة العليا متركزة فيه. فهو لا
يفتقر إلى الاستشهاد برابي هليل أو برابي شمعي أو برابي غمالئيل، ولا بأي معلم
آخر.. ولأنه كان مخلصاً للشريعة، فقد كان أهلا لأن يسمو فوق مقتضياتها ويجعلها في
متناول الإنسان. وذلك ما حمل الكتبة وأضرابهم من أهل الفقه على ملاحقته بالسخط حتى
النهاية

اترك رد

زر الذهاب إلى الأعلى