علم الله

الفصل التاسع والعشرون



الفصل التاسع والعشرون

الفصل
التاسع والعشرون

قضاء
الله بالفداء

 

1 – ما هو موضوع الجزء الثالث من هذا الكتاب، وما هي المباحث
الرئيسية فيه؟

مقالات ذات صلة

*
موضوعه السوتيريولوجيا، وهي مركَّبة من كلمتين يونانيتين معناهما الكلام في الخلاص
بحسب تعليم الكتاب المقدس، والذي أعدَّه المسيح. وفيه بحوثٌ، أهمها قضاء الله
بالفداء، وإعلان الفداء على صورة عهد، وأقنوم الفادي المتجسد إتماماً لوظيفته كنبي
وكاهن وملك، والكفارة، ودعوة الله للخطاة بكلمته، وتخصيص ذلك الفداء للمؤمنين
بالروح القدس الذي يجدد النفس ويبنيها ويقدِّرها على التوبة والإيمان، ويقدسها
ويرشدها إلى الصواب في استعمال جميع وسائط الخلاص والبنيان الروحي، حتى تنال فوائد
الفداء الثمينة.

2 – هل يعلّم الكتاب المقدس بوجود قصد إلهي سابق في خلاص البشر، وما
هي الأدلة على ذلك؟

*
يعلّم الكتاب المقدس أن عمل الخلاص تمَّ بمقتضى قصدٍ سابق أو مشورة عند الخالق،
وبسبب كمال إعلانه في وقت مجيء المسيح يسمِّيه “تدبير ملء الأزمنة”
وتدبير الله “ليجمع كل شيء في المسيح” (أف 1: 10) و”السر المكتوم
منذ الدهور في الله خالق الجميع بيسوع المسيح” الذي غاية الإنجيل العظيمة
إعلانه، والذي قصد به إعلان “حكمة الله المتنوّعة بواسطة الكنيسة للرؤساء
والسلاطين” (أف 3: 9-11).

ومقتضيات
القضاء الإلهي ثلاثة:

(1)
اختيار أو تعيين الغاية التي قصد إتمامها.

(2)
إعداد الوسائط المناسبة لذلك الإتمام.

(3)
استعمال الوسائط أو إجراؤها فعلاً لنوال الغاية المقصودة.

ولا
شك أن هذه المقتضيات تمَّت عندما نفّذ الله عمل الفداء بموجب مشورته السابقة. ومما
يؤيد ثقتنا بقضاء الله الأزلي في الخلاص وإجرائه فعلاً بنظام حكيم ما نراه في
المخلوقات الطبيعية من نظامٍ حكيم، فالنجوم مثلاً تظهر لعين الجاهل خليط نجوم لا
نظام له، لكن الفلكي يراها ذات منهاج سامٍ وترتيب عجيب. فالخالق ربُّ نظام وقضاءٍ
سابق في كل أعمال خليقته. وإذا ثبت أن الله يفعل ذلك في جميع أعماله الطبيعية
فبالأَوْلى أن يفعله في ما هو أسمى منها، أي العمل الروحي للبشر، بحيث لا يترك فيه
شيئاً للصدفة، ولا يسمح بأن يجري على غير الطريق المستقيمة إلى غاية غير معيَّنة.
ولذلك أوضح الكتاب المقدس نظام الله في أعمال النعمة، ولم يقتصر على القول إنه من
أول الأمر يرى الغاية، بل زاد على ذلك أنه “يعمل كل شيء حسب رأي مشيئته”
(أف 1: 11) أو حسب قصده الأزلي.

فإذا
كان فداء الإنسان هو بحسب قضاءٍ سابق وبتدبير معينٍ، فيجب أن نهتم بإدراك ذلك بدراسة
الكتاب المقدس لمعرفة كل تعاليمه في هذا الشأن، والبحث في اختبار البشر في الأمور
الروحية، لنكتشف شهادة ذلك الاختبار لحقيقة عمل الفداء في خلاص المؤمنين في كل
الأزمنة.

3 – ما هما المذهبان العظيمان اللذان اشتهرا في هذا البحث، وأيهما
الأصح؟

*
الأول مذهب “سابق السقوط” والثاني “تابع السقوط”.

وخلاصة
مذهب “سابق السقوط” أن الله قبل خلق البشر، ومن قبل سقوطهم اختار مِن
الذين قصد أن يخلقهم عدداً معلوماً ليكونوا آنية رحمة، وعيَّن الباقين منهم
ليكونوا آنية غضب. وأنه خلق البشر لأجل هاتين الغايتين: أي للخلاص، والرفض. وعلى
ذلك يكون الخلق واسطةً لإتمام هاتين الغايتين. والتعيين الإلهي المطلق إما للخلاص
أو للرفض هو مبدأ معاملة الله للبشر من البداية إلى النهاية. ولا نريد بقولنا هذا
إن بعض مقاصد الله يتقدم على البعض الآخر، باعتبار حصولها في ذهن الله، لأن علم
الله قديم، لا تتجدد مقاصده. إنما نريد بسبق بعض المقاصد ولحوق غيرها: ظهورها لنا
بإعلانه الإلهي متوالية وإتمامها بالتتابع على مدى الزمان.

واعتنق
بعض اللاهوتيين هذا الرأي قبل الإصلاح، ورفضه كل اللاهوتيين الإنجيليين في كل عصر.
وعليه اعتراضات قوية لا تُرَدّ، منها:

(1)
يعلّمنا الكتاب أنه لا دينونة حيث لا خطية، فلا يمكن سبق التعيين للدينونة والهلاك
إلا بشرط وقوع المعيّنين في الإثم.

(2)
يظهر من رو 9: 9-21 أن الذين اختيروا أو رُفضوا هم البشر الساقطون، لأن قصد الرسول
في هذا القول أن يبرر حكم الله في إجرائه مقاصده في خلاص البشر حيث يرحم واحداً
دون آخر حسب مسرته، لأن الجميع غير مستحقين وخطاة على حد سواء. ويُقال دائماً في
الكتاب إن المؤمنين يُختارون من البشر الساقطين. وكل أقواله في هذا الشأن (كما في
رو 1: 24-28) أن الرفض يكون حكماً شرعياً إذا بُني على إثم المحكوم عليهم، وإلا
فلا يظهر فيه عدل الله البتة.

(3)
لم يُذكر الخلق في الكتاب كوسيلةٍ لإجراء الاختيار والرفض، بل قيل في رو 8: 29 “لأن
الذين سبق فعرفهم سبق فعيّنهم”. والمعرفة السابقة تستلزم وجود المعروفين، أو
قصد الله أن يخلقهم. فالمعرفة السابقة المؤسسة على قصد الخلق تسبق التعيين السابق،
ولذلك لا يكون الخلق وسيلة إلى إجراء قصد التعيين السابق كما زعموا، لأن الغاية
يجب أن تسبق الوسائط. وحسب قول الرسول قصد الخلق يسبق قصد الفداء، ولذلك لا يمكن
أن يكون وسيلة إلى تلك الغاية. ويقول الكتاب إن المسيح أُسلم للموت “بمشورة
الله المحتومة وعلمه السابق” (أع 2: 23). ولما كان موته يستلزم بالضرورة
تجسده، سبق بموجب التدبير الإلهي تهيئة جسد له يموت فيه على الصليب. والآيتان
الوحيدتان اللتان يظهر أنهما تعلّمان أن الخلق هو واسطة لإجراء قصد التعيين السابق
هي قول الرسول في أف 3: 9، 10. ومعناها حسب تفسير البعض أن الله خلق كل الأشياء
لتعلن الكنيسةُ حكمة الله المتنوعة. ويكون معنى هاتين الآيتين (حسب زعمهم) أن
الكون قد خُلق لتعلن الكنيسة (أي جماعة المفديين) مجد الله لجميع الخلائق العاقلة.
فالخلق بهذا المعنى واسطة للفداء، ويلزم منه أن قصد الفداء سبَقَ قصد الخلق. على
أن بولس لا يقول إن الله خلق كل الأشياء لأجل ذلك، وكلامه ليس على قصد الخلق بل
على قصد الإنجيل وقصد دعوته إلى الرسالة. فإنه يقول: “لي.. أُعطيت هذه النعمة
أن أبشّر بين الأمم بغِنى المسيح الذي لا يُستقصى وأنير الجميع في ما هو شركة
السرّ (سر الفداء أي الإنجيل) المكتوم منذ الدهور في الله خالق الجميع بيسوع
المسيح لكي يُعرَّف.. بواسطة الكنيسة بحكمة الله المتنوعة”. فهذا هو التفسير
الأنسب، لعلاقة هاتين الآيتين بهذا البحث.

(4)
مذهب “سابق السقوط” لا يوافق إعلان الكتاب بشأن طبيعة الله، لأنه يقول
إن إله الرحمة والعدل عيّن البشر سابقاً للشقاء والموت الأبدي وهم أبرار، قبل
ارتدادهم عن الله الحي. وهذا لا يوافق العدل الإلهي. فإذا كان قد تركهم وعيّنهم
للموت لأجل خطاياهم، فلا بد أن يكونوا قد حُسبوا في التعيين خطاة ساقطين.

وخلاصة
مذهب “تابع السقوط” أن الله إذ قصد أن يعلن مجده (أي صفاته الرفيعة
بكمالها) عزم على خلق العالم والسماح بسقوط الإنسان وتدبير ما يقتضيه الفداء للبشر
الساقطين واختيار البعض منهم للحياة الأبدية بواسطة الفادي وترك بقية البشر، كما
ترك الملائكة الساقطين ليقاسوا العقاب العادل لخطاياهم. وهذا المذهب في قضاء الله
في الخلاص أنسب وأقرب لأقوال الكتاب وروحه من مذهب “سابق السقوط”. وقد
استصوبه جمهور اللاهوتيين في كل العصور لموافقته لصفات الله وللإعلانات الإلهية.
على أن لهذا المذهب وجوهاً مختلفة اشتهر منها في تاريخ علم اللاهوت أربعة تفرقت
فيها أقوال اللاهوتيين في كل عصر، وسنبحث في كل منها ونثبت القول الذي يتبين لنا
أنه أفضل وأقرب إلى الصواب.

4 – ما هي الآراء الأربعة التي اشتهرت لمذهب “تابع السقوط”
بشأن قضاء الله في الخلاص؟

*
ظهرت في تاريخ علم اللاهوت ثلاثة نظامات كبرى، لكلٍ منها عقائد خاصة به، هي:
البيلاجي، والنصف البيلاجي (أي الأرميني) والأغسطيني (وهو الكلفيني) ويُسمّى أيضاً
“المُصلَح” نسبة إلى إصلاح القرن 16 حين اشتهر عن يد جون كلفن وغيره من
اللاهوتيين المصلَحين. أما المذهب البيلاجي فلا اعتبار له في تاريخ الكنيسة
المسيحية، ولذلك لا نلتفت إليه في هذا البحث. (لمعرفة شيء عن المذهب البيلاجي
انظر فصل 7 س 2-10).
أما المذهبان النصف بيلاجي والأغسطيني فقد اشتهرا في
تاريخ الكنيسة، ووُجد بين تابعيهما الآراء الأربعة المشار إليها: الأول الرأي
الأرميني، والثاني الأرميني الوسلاني، والثالث الأغسطيني المعروف ب”محدود
الكفارة”، والرابع الأغسطيني المعروف ب”عام الكفارة”.

5 – ما هو الرأي الأرميني بشأن قضاء الله في الخلاص؟

*
لمعرفة شيء عن النظام الأرميني انظر فصل 7 س 10-12.

(1)
خَلْق البشر. (2) سقوطهم مع بقاء كمال القدرة فيهم على إتمام ما يلزم للخلاص. (3)
إعداد الفداء للعالم. (4) اختيار قسم من الناس (أي المؤمنين) جملة لا أفراداً
لنوال فوائد الفداء. وهذا الاختيار مبني على معرفة الله السابقة بمن سيؤمنون من
تلقاء أنفسهم بالمسيح. (5) إرسال الروح القدس إلى كل البشر ليمكنهم جميعاً من
الرجوع إلى الله وليقدّرهم على الحياة المقدسة.

وهذا
الرأي يخالف بعض تعاليم الكتاب المقدس، مثل عجز البشر بعد السقوط عن إتمام مطالب
الله الروحية، واختيار البشر أفراداً لا إجمالاً لنوال الخلاص بالفادي، وإرسال
الروح القدس بطريقة فعالة للمتجدّدين المختارين فقط. وأما أهل هذا القول فقد نسبوا
إلى الإنسان القدرة الروحية خلافاً لتعليم الكتاب، وأكثر مما ظهر فعلاً في اختبار
الجنس البشري.

6 – ما هو الرأي الأرميني الوسلاني بشأن قضاء الله في الخلاص؟

*
(1) خلْق البشر. (2) السقوط وعجز الإنسان الكلي عن خلاص نفسه. (3) تدبير الفداء
لكل العالم. (4) رفع كل دينونة واقعة على البشر بسبب خطية آدم، وولادتهم في حالٍ
ساقطة إكراماً لعمل الفادي وإرسال نعمة كافية لكل البشر تجعلهم قادرين على نوال
الخلاص بالمسيح. (5) اختيار الذين استعملوا تلك النعمة استعمالاً حسناً وثبتوا في
الإيمان بالمسيح. والمختارون هم الذين عرف الله بسابق علمه أنهم سيثبتون في
الإيمان ويواظبون على الحياة المقدسة.

وقد
سُمي هذا النظام بالأرميني الوسلاني لأنه أرميني الأصل، ثم غيّره وأصلحه جون وسلي
ورفقاؤه وتابعوه من بعض الوجوه (وسلي لاهوتي ومبشر إنجليزي مشهور وُلد سنة 1703).
وسُمي أيضاً بالرأي الأرميني الإنجيلي لقربه من النظام الأغسطيني الإنجيلي. وهو
أقرب إلى الحق من الأرميني في جملة قضايا: منها نسبة العجز الكلي إلى الإنسان
الساقط، وأنه غير قادر روحياً بدون نعمة الله أن يسعى في نوال الخلاص أو في طاعة
أوامر الله الروحية. لكن الخطأ فيه هو قوله بإرسال نعمة فعالة كافية لكل البشر
ليقدّرهم على قبول المسيح والقيام بشروط الخلاص، وقوله إن الاختيار يتوقّف على
معرفة الله بسابق علمه أحوال البشر وأعمالهم. لأن الكتاب لا يعلّمنا أن النعمة
الفعالة أُرسلت إلى غير المختارين، ولا ينسب الاختيار إلى معرفة الله أعمال البشر،
بل إلى مجرد مشيئته المطلقة. فالذي يعيّن الذين يخلصون هو الله، وذلك التعيين ليس
مبنياً على فضل البشر وحُسن أعمالهم، بل على مشيئة الله الذي يختار من يشاء حسب
علمه السابق. ويعلّمنا الكتاب أن الله، من مجرد رحمته الصالحة، اختار من الجنس
البشري الساقط (الذي كان يمكن أن يُترك كله بالعدل ليهلك في ارتداده عنه) بعضاً لنوال
الحياة الأبدية بواسطة ابنه الفادي الذي قدم نفسه ذبيحة عن خطية العالم. وذلك
الاختيار لا يتوقف على عمل البشر بل على رحمته فقط.

7 – ما هو الرأي الأغسطيني بشأن قضاء الله في الخلاص المعروف ب “محدود
الكفارة”؟

*
(1) خلْق البشر. (2) السقوط وعجز الإنسان الكلي عن خلاصه. (3) اختيار بعض الناس
فرداً فرداً للخلاص وترك الباقي. (4) تجهيز الفداء لهؤلاء المختارين فقط. (5)
إرسال الروح القدس ليجدِّد المختارين ويدعوهم دعوةً فعالة للخلاص. على أن فعل
الروح في قلوب البشر غير محصور في ذلك. إلا أنه لا يجدد ولا يتمم وظيفته إلا في المختارين.

وهذا
الرأي مبنيٌ على أقوال الكتاب المقدس إلا في أمر واحد هو أن الله أعدّ الفداء
للمختارين فقط. فذلك (وإن صحّ باعتبار ما ينتج فعلاً من عمل الفداء) لا يصح
باعتبار تجهيز وسائط الخلاص وكفاية كفارة المسيح لكل البشر. والذين اعتقدوا بتجهيز
الكفارة للمختارين فقط توصّلوا إلى هذا الرأي من الاستنتاج من أقوال الكتاب، لأنهم
رأوا فوائد الكفارة قاصرةً على المختارين. على أن صحة هذا القول لا تتضمن ضرورة
صحة النتيجة التي استنتجوها من ذلك، وهي أن الكفارة أُعدّت للمختارين فقط، وليس
للبشر عموماً نصيبٌ فيها. والأصح والأقرب إلى أقوال الكتاب هو أن المسيح مات لأجل
كل العالم، ولكل واحد نصيب في فوائد كفارته لأنها كافية ومناسبة وللكل حقوق فيها،
وهكذا قصَد الله من إعدادها وتقديمها للعالم. على أنه لا بد من تخصيص تلك الفوائد
فعلاً للمختارين. غير أن الاختيار لا يحدد الكفارة في ذاتها، بل يحدد تخصيصها
لخلاص من اختارهم الله، لأن الجميع تعدّوا الشريعة، والله وضع كفارة كاملة كافية،
ومن رحمته أعطى كل إنسان حقاً فيها، إذا قبلها الإنسان كما ينبغي. ويعلّمنا الكتاب
أن الذين يقبلون تلك الكفارة ويقومون بما عليهم لأجل الخلاص بها، هم المختارون
فقط، الذين يرسل الله إليهم الروح القدس بقوة فعالة لإنارة عقولهم وتجديد قلوبهم
والإقبال بهم إلى المسيح لنوال الخلاص به. وقد قبل هذا المذهب كثيرون من أفاضل
اللاهوتيين العلماء الأتقياء. على أن جانباً عظيماً من اللاهوتيين ليسوا أقل منهم
علماً وشأناً استصوبوا وجهاً آخر يُعرف بالأغسطيني “العام الكفارة”.

8 – ما هو الرأي الأغسطيني بشأن قضاء الله في الخلاص المعروف ب “عام
الكفارة”؟

*
(1) خلق البشر. (2) السقوط وعجز الإنسان الكلي عن خلاص نفسه. (3) إعداد الفداء لكل
العالم، أي تجهيز كفارة عامة غير محدودة كافية للجميع، لكل إنسان حقٌّ فيها حتى
يصح لكل إنسان أن يقول إن المسيح مات لأجله. (4) اختيار بعض البشر فرداً فرداً
للخلاص بالكفارة العامة. (5) إرسال الروح القدس لتخصيص الكفارة العامة للمختارين
بقوة فعالة. غير أن عمل الروح في العالم لا ينحصر في هذه الغاية.

وهذا
الرأي يوافق القول الثالث (أي الأغسطيني المحدود الكفارة) إلا في اعتباره أن
الكفارة عامة والاختيار تابع لها لا سابقٌ. وبموجبه قد أعدّ الله بعد سقوط الإنسان
كفارةً للجنس الساقط بتقديم ابنه ذبيحة لأجل خطية العالم. وعلى ما استنتجنا من
أقوال الكتاب كان ذلك بموجب عهد جرى بين الله والمسيح، به تعهّد المسيح أن يقدم
كفارةً كاملة عن الجنس الساقط. وتعهد الآب للابن أن يختار عدداً لا يُحصى من البشر
الساقطين ليكونوا شعباً خاصاً للمسيح، ويخلصوا بواسطة تلك الكفارة العامة التي
أعدّها المسيح. ولذلك كان الاختيار “في المسيح” أي مقترناً بكفارته.
وعلى هذا كانت الكفارة العامة أساس الاختيار، لأنه لولا اختيار الله بعض الناس
وإرساله الروح القدس لإتمام ذلك فعلاً لرفض الجميع عمل المسيح لأجلهم وهلكوا في
خطاياهم. فعمل الروح في المختارين فعال دائماً يؤكد خلاصهم بقبولهم المسيح. وهذا
التأكيد لا يتوقف على تدبير كفارة خاصة بهم ومعدّة لأجلهم فقط، بل على تخصيص
الكفارة العامة لهم فعلاً بعمل الروح القدس فيهم.

أما
الاعتراضات على هذا الرأي فهي:

(1)
إنه ينسب عدم الثبوت للمقاصد الإلهية، أي إن الله يقصد ما لا يتمكن من إتمامه.
فتجهيزه كفارة عامة دليل على قصده أن يخلُص الجميع بها. وبما أنه لا يخلُص إلا
المختارون يلزم أن مقاصده تغيّرت، كأنه قصد ما لا يتمّمه، أو أنه جهّز وسائط وكفّ
عن الهدف الذي لأجله عيّن تلك الوسائط. والجواب أن هذا الاعتراض لم يُبنَ على
حقائق واقعة، لأن الله لم يقصد خلاص الجميع بإعداده الكفارة العامة، بل قصد أن
يعدها كافية ومناسبة لاحتياجات كل البشر. واختار من البشر من يخلُص بها. وليس في
كل ذلك أدنى تغيير في مقاصده، بل ما قصده قد تم، لأن الكفارة للجميع والخلاص بها
للمختارين.

(2)
يلزم عنه أن عمل المسيح عبث، لأن كثيرين ممن أعدّ لهم الكفارة لم يخلصوا، ولأن
ذبيحة المسيح إيفاءٌ حقيقي للعدل. فإذا قُدمت لأجل الجميع ينبغي أن الجميع يخلصون
بها. والجواب: إن كفارة المسيح ليست عبثاً لكل من قصد الله أن يخلّصهم بها، لأنه
لم يقصد أن يخلص بتلك الكفارة غير المختارين الذين عرف أنهم سيقبلون الكفارة.
فالكفارة كانت إيفاءً حقيقياً لعدل الله، كافياً لكل البشر لو قصد الله أن يخلّص
الكل بها. وقد فتحت باب الحياة الأبدية لكل من يقبلها.

(3)
هذا الرأي لا يوافق نص الكتاب، وهو أن المسيح أتى ليفدي شعبه ويخلصهم من خطاياهم،
ويأتي بهم إلى الله، وأنه بذل نفسه لأجل كنيسته، ووضع حياته لأجل خرافه. فنجيب: إن
هذا الرأي لا ينفي شيئاً من ذلك بل يوافقه، لأنه يقول إنه لا يخلُص أحدٌ بكفارة
المسيح غير شعبه المختار. وهذا لا يستلزم حصر الكفارة، بل حصر مفعولها في كل من
يقبلها. وعليه يسوغ أن نتمسك بتعليم الكفارة العامة، مع اعتقادنا أنه لا يخلص بها
سوى شعب المسيح الخاص، فإن المسيح قدم نفسه لأجل العالم، والله أعطاه من العالم
شعباً مختاراً أُرسل لأجلهم بمعنى خاص، بمعنى أنه لا يخلُص بمجيئه إلا هم. غير أن
ذلك ليس القصد الوحيد في مجيئه، لأن الكتاب ينص صريحاً أنه قدم نفسه لأجل العالم
أجمع، كما قيل “وهو كفارة لخطايانا (أي خطايا المؤمنين). ليس لخطايانا فقط،
بل لخطايا كل العالم أيضاً” (1يو 2: 2).

(4)
هذا الرأي لا يوافق تعليم الكتاب، فهو ينادي بأن محبة الله الخاصة للمختارين حملته
على إرسال ابنه فديةً لهم. وصحيحٌ أن الكتاب لا ينفي هذه المحبة بل يثبتها، على
أنه لا يهمل محبة الله العامة للبشر، لأن المحبة العامة لم تترك العالم بدون
كفارة، والمحبة الخاصة لم تترك الكفارة بلا فائدة للمختارين الذين قصد خلاصهم بها.
فإذا قيل لماذا اختار الله أن يخصص تلك الكفارة الكافية للكل لخلاص البعض دون
غيرهم؟ قلنا: الجواب عند الله، فليس للبشر أن يعرفوا أسراره.

9 – ما هي أدلة إثبات صحة الرأي الأغسطيني بشأن قضاء الله المعروف ب
“عام الكفارة”؟

*
الأدلة على ذلك خمسة:

(1)
موافقة أجزائه بعضها بعضاً، فليس بين أجزاء هذا الرأي أدنى تناقض، فإن غاية خلْق
الله للبشر لائقة به، وسماح الله بسقوط الإنسان لأنه خلق الإنسان حراً يبرر الله
من المسؤولية. وقد نتج عجز الإنسان عن سقوطه. وتدبير الفداء بكفارة عامة يوافق
محبة الآب السماوي لأنه يفتح باب الخلاص لجميع البشر الساقطين في معصية آدم. كما
يوافق تلك المحبة الاختيار وتخصيص الكفارة فعلاً بعدد لا يُحصى من جنسنا إظهاراً
لرحمة الله وصلاحه. إلا أنه ترك البعض لحرية إرادتهم ليرفضوا الكفارة ويهلكوا في
خطاياهم. وهذا من تعليم الكتاب، ويجب قبوله بالإيمان والتواضع. وليس في كل ذلك
تغيير في مقاصد الله، لأنه يختار من يشاء ويرسل إليه الروح القدس ليحوّل إرادته لقبول
الخلاص بحسب الطريق التي عيّنها الله.

(2)
موافقته لكل تعاليم الكتاب المقدس في ما يختص بالله والإنسان، فهو ينسب لله
الارتفاع السامي والاستقلال الكامل في كل أعماله، كما ينسب إليه المحبة الفائقة
للبشر والقدرة غير المحدودة على سياسة أعمال الناس الحرة بدون نزع حريتهم، كما
ينسب إليه الاستقلال في اختيار المختارين، وإرسال الروح القدس لإرشادهم إلى
الخلاص، وإعانتهم في الحياة المقدسة. وهكذا تتضح موافقته لكل ما يعلمنا الكتاب من
أمر الإنسان، أي أنه لا يناقض التعاليم المتعلقة بسقوطه في حال الخطية والعجز،
واحتياجه إلى المخلّص وإلى الكفارة وتجديد القلب وتقديسه. واختيار الله إياه ليس
لعملٍ صالح فيه بل بحسب اختياره ليكون من المؤمنين الأتقياء باستعمال الوسائط
المعينة. وهو موافق لقول الكتاب إن الخلاص هبة الله، وإنه ثابت للمختارين.

(3)
يعلّمنا الكتاب صوراً مختلفة من الكفارة العامة: (أ) تعليمه أن المسيح مات لأجل
جميع الناس ولأجل كل العالم. ومن ذلك قوله: “الذي بذل نفسه فديةً لأجل الجميع”
(1تي 2: 6) وقوله “ولكن الذي وُضع قليلاً عن الملائكة، يسوع، نراه مكللاً
بالمجد والكرامة من أجل ألم الموت، لكي يذوق بنعمة الله الموت لأجل كل واحد”
(عب 2: 9) وقوله “لأننا هكذا نتعب ونُعيَّر، لأننا قد ألقينا رجاءنا على الله
الحي الذي هو مخلص جميع الناس ولا سيما المؤمنين” (1تي 4: 10) وقوله “لأنه
قد ظهرت نعمة الله المخلِّصة لجميع الناس” (تي 2: 11) وقوله من جهة موته لأجل
العالم “لأنه هكذا أحب الله العالم حتى بذل ابنه الوحيد، لكي لا يهلك كل من
يؤمن به بل تكون له الحياة الأبدية” (يو 3: 16) والمسيح هو “حمل الله
الذي يرفع خطية العالم” (يو 1: 29) وقوله “الخبز الذي أنا أعطي هو جسدي
الذي أبذله من أجل حياة العالم” (يو 6: 51) وقوله “ونحن قد نظرنا ونشهد
أن الآب قد أرسل الابن مخلصاً للعالم” (1يو 4: 14). ونرى في كل هذه الآيات
تصريحاً بأن المسيح مات كفارة عن خطايا العالم، ولا يصح تحريف هذه الآيات بدعوى أن
الإشارة فيها إلى كل رتب الناس كالملوك والولاة والأغنياء والفقراء والعلماء
والجهلاء، أي لأجل جانبٍ من كل صنف، وأنه بهذا المعنى مات المسيح لأجل جميع الناس،
فذلك بعيد، وتفسيرٌ وهمي لهذه الأقوال الكريمة. ولا يصح أيضاً حصر الإشارة في “كل
الناس” و”العالم” إلى المؤمنين المختارين فقط، لأن ذلك خلاف مدلول
القرينة. (ب) إنه يصرح أن المسيح مات لأجل الذين ليسوا من المختارين، ومن ذلك قوله
“فإن كان أخوك بسبب طعامك يُحزَن، فلستَ تسلك بعد حسب المحبة. لا تُهلِك
بطعامك ذلك الذي مات المسيح لأجله” (رو 14: 15) وقوله “ويهلك بسبب عملك
الأخ الضعيف الذي مات المسيح من أجله” (1كو 8: 11). فنستنج من ذلك إمكان هلاك
الذين مات لأجلهم. ومنها “الذين ينكرون الرب الذي اشتراهم ويجلبون على أنفسهم
هلاكاً سريعاً” (2بط 2: 1) وليس هؤلاء مختارين، ولكنهم الذين مات لأجلهم
المسيح وهم رفضوه. (ج) إنه يصرح بالدينونة الخاصة للذين يرفضون الكفارة، والدينونة
لا تقوم إلا بالمسؤولية. وكيف يكون الإنسان مسؤولاً عن رفض كفارةٍ ليست له، ولا
قَصَد اللهُ أن تكون له؟ فمن ذلك قوله “ولا تريدون أن تأتوا إليَّ لتكون لكم
حياة” (يو 5: 40) وقوله “فكيف ننجو نحن إن أهملنا خلاص هذا مقداره!”
(عب 2: 3) وقوله “يا أورشليم، يا قاتلة الأنبياء وراجمة المرسلين إليها، كم
مرةٍ أردتُ أن أجمع أولادك كما تجمع الدجاجة فراخها تحت جناحيها، ولم تريدوا!”
(مت 23: 37) وقوله “وأرسل عبيده في ساعة العشاء ليقول للمدعوين: تعالوا لأن
كل شيء قد أُعد” (لو 14: 17). فيصعب علينا أن نحسب أن المسيح عند نطقه بهذه
الآيات عرف أن هؤلاء الذين دانهم لعدم قبولهم الخلاص كانوا من الذين لم يمُت عنهم
ولم يقدم لأجلهم الكفارة البتة، ولا سيما أنه صرح مرات كثيرة أنه يريد خلاصهم.
ونزيد على ذلك قوله “الله لا يشاء أن يهلك أناسٌ، بل أن يُقبل الجميع إلى
التوبة” (2بط 3: 9). (د) إنه يدعو جميع الناس أن يُقبِلوا إلى المسيح وينالوا
الحياة به. فكيف يليق بالله أن يدعو الناس ويحثّهم ليقبلوا ما لم يقصد أن يكون
لهم؟! ومن ذلك قوله “تعالوا إليَّ يا جميع المتعبين والثقيلي الأحمال وأنا
أريحكم” (مت 11: 28) وقوله لتلاميذه “اذهبوا وتلمذوا جميع الأمم وعمدوهم
باسم الآب والابن والروح القدس” (مت 28: 19) وقوله “اذهبوا إلى العالم
أجمع واكرزوا بالإنجيل للخليقة كلها. مَن آمن واعتمد خلص، ومَن لم يؤمن يُدَنْ”
(مر 16: 15، 16) وقوله “توبوا، وليعتمد كل واحد منكم على اسم يسوع المسيح
لغفران الخطايا” (أع 2: 38) وقوله “الروح والعروس يقولان تعال، ومن يسمع
فليقل تعال، ومن يعطش فليأت، ومن يُرد فليأخذ ماء حياة مجاناً” (رؤ 22: 17).

(4)
الاختيار في المسيح، أو بسببه أو متعلق بعمله. وينتج من ذلك ضرورة أن للاختيار
علاقة بالكفارة، فهو مبنيٌ عليها، وهي أساس له. وإذا قيل إننا مختارون في المسيح
بغضّ النظر عن كفارته، فنجيب: إن المسيح وكفارته مقترنان بالاختيار، بمعنى أن
الاختيار لا ينفصل عن الكفارة، بل هو مقترن بها، كما قيل “حسب قصد الدهور
الذي صنعه في المسيح يسوع ربنا” (أف 3: 11) والقول “مبارك الله أبو ربنا
يسوع المسيح، الذي باركنا بكل بركة روحية في السماويات في المسيح، كما اختارنا فيه
قبل تأسيس العالم لنكون قديسين وبلا لوم قدامه في المحبة، إذ سبق فعيّننا للتبنّي
بيسوع المسيح لنفسه، حسب مسرة مشيئته، لمدح مجد نعمته التي أنعم بها علينا في
المحبوب” (أف 1: 3-6) وقوله: “الذي خلّصنا ودعانا دعوةً مقدسة، لا
بمقتضى أعمالنا بل بمقتضى القصد والنعمة التي أُعطيت لنا في المسيح يسوع قبل
الأزمنة الأزلية” (2تي 1: 9).

(5)
لأنه أساس متين للتبشير بالخلاص لكل البشر وحثهم على قبول الكفارة المعدّة لهم
جميعاً بدون استثناء، وذلك موافقٌ لروح الإنجيل وأوامر المسيح. فإن قلنا إن الله
لم يجهز الكفارة إلا للمختارين، والمسيح لم يمت إلا لأجلهم، واجهَنا سؤالٌ: كيف
يقدمها الله لكل الناس واسطة لخلاصهم وعلامة رحمته وبرهاناً على محبة المسيح لهم؟
أما إذا قلنا إن الكفارة للجميع وجب تقديمها للجميع وحثهم على قبولها. ولأنها
كافية للجميع يُرجح أنه قصد أن تكون عامة. وكذا إن قلنا إن الكفارة لبعض البشر
فقط، لا نرى كيف يُسأل أحد برفض تلك الكفارة إن كانت لم تُعد له! وكيف يخطئ بترك
ما ليس له فيه نصيب؟ “لأنه لم يرسل الله ابنه إلى العالم ليدين العالم بل
ليخلُص به العالم. الذي يؤمن به لا يُدان، والذي لا يؤمن قد دين، لأنه لم يؤمن
باسم ابن الله الوحيد. وهذه هي الدينونة: أن النور جاء إلى العالم، وأحبّ الناس
الظلمة أكثر من النور، لأن أعمالهم كانت شريرة” (يو 3: 18-20).

10 – لأجل مَن مات المسيح؟

*
يقول الذين يعتقدون بالكفارة المحدودة إن المسيح مات لأجل “المختارين دون
غيرهم”. و يقول الذين يعتقدون بالكفارة العامة إن المسيح مات لأجل “جميع
الناس”. ولا خلاف بين الفريقين إلا في هذه القضية الوحيدة، فهما يعتقدان
معتقداً واحداً من جهة حقيقة الكفارة وقيمتها ومناسبتها للجميع وتخصيصها فعلاً
بخلاص المختارين. غير أن الذين يقولون بعموم الكفارة يجعلون الاختيار علّةً
للتمييز بين الذين لا ينالون فوائد الكفارة والذين ينالون، ولا يَقْصرون الكفارة
على المختارين. وعلى ذلك يصح أن يقال إن المسيح مات لأجل الجميع، وإن كان لا
يستفيد من موته إلا المختارون، لأن حصر فوائد الكفارة ليس مبنياً على عدم تقديمها
لأجلهم، بل على عدم تخصيصها بهم، فإن المسيح مات ليجهز فداءً عاماً، وبناءً على
ذلك اختار الآب له شعباً من البشر لينالوا فوائد الفداء. واستنتج معتقدو “الكفارة
المحدودة” مذهبهم من نتيجة موت المسيح التي هي خلاص المختارين. غير أن
التخصيص المحدود لا يدل على تجهيز كفارة محدودة، لأن الله يقدر أن يعيّن مفعول
الكفارة بدون أن يحدد الكفارة ذاتها. كما أنه عمل ليس من جهة الكفارة فقط بل من
جهة معرفة الكتاب والتبشير بالديانة الحقيقية. فلا يقول أحدٌ إن الكتاب ليس إلا
للذين قد عرفوه، وهم جانب من البشر بل يقول إنه لجميع الناس ولو لم يستفد منه إلا
بعضهم. وهكذا نقول من جهة نور الديانة الحقيقية إنه للجميع وإن لم ينل فوائده إلى
هذا اليوم إلا قسم من البشر.

فإذا
اعترض أحدٌ بأن هذا المبدأ ينسب لله تقلب الأفكار وتغيير المقاصد، قلنا: ذلك لا
يلزم، كما بينّا سابقاً، فهو لا يقول إن الله قصد شيئاً وعاد عن قصده، بل يقول إنه
أعدّ كفارة عامة وخصصها بخلاص المختارين. فإن الكفارة العامة ضمن قصده كالتخصيص
المحدود، وهو لم يقصد أن يخلّص جميع الناس بالكفارة العامة، بل قصد أن يعد واسطة
كافية لتلك الغاية ومناسبة لها. فكان له قصد عام من جهة الكفارة، وقصد محدود من
جهة استعمالها لخلاص المختارين الذين سبق فعرفهم. والذين يعتقدون أن “الكفارة
محدودة” لا ينكرون كفاءة الكفارة ومناسبتها للجميع. وما كنا نعترض على رأيهم
لو أنهم قالوا إنها قُدمت لأجل الجميع، بمعنى أنها أساسٌ لخلاص الجميع إذا قبلوها،
ويصحّ التبشير بأن للجميع حقاً فيها. والذي نرفضه في مذهبهم هو قولهم إن الله لم
يرسل المسيح ليموت إلا عن بعض البشر، لأن ذلك يترك كثيرين من البشر بدون أي برهان
على رحمة الله لهم، وبدون أدنى حق أن يحسبوا موت المسيح لأجلهم. فإن قيل: إن
الاعتقاد بتخصيص الكفارة العامة للمختارين قابل للاعتراض كالقول بالكفارة المحدودة،
قلنا: كلا، لأن ذلك وفق أقوال الكتاب التي تصرح بكفارة لأجل العالم كله، لا يخلص
بها فعلاً إلا المختارون. والأوفق أن نجعل الاختيار مركز التحديد لا القصد بتقديم
الكفارة وفقاً لنصوص الكتاب. ولا يجوز أن نفترض وقوع تحديد في تعليم يعلّم الكتاب
بعدم تحديده.

وإذا
قيل: ورد في الكتاب أن المختارين اختيروا قبل تأسيس العالم (أف 1: 4) فتكون
الكفارة محدودة لهم دون غيرهم، نقول: إذا فكرنا في القضاء الإلهي نجد أن المسيح
أيضاً قُصد إرساله قبل تأسيس العالم. فالمسألة ليست: أي فكر سبق الآخر في مشورة
الله؟ لأن كل أفكار الله معروفة عنده منذ الأزل، وبهذا المعنى لا يسبق قصدٌ من
مقاصده قصداً آخر. ولكن المسألة هي: ما هو الترتيب الذي استحسنه الله في إعلان
مقاصده لنا؟ وما هي العلاقة بين تلك المقاصد باعتبار معرفتنا إياها وكيفية شرحها
لنا في أسفاره المنزلة، وترتيب إظهارها في تاريخ البشر؟ فيجب علينا في هذا الموضوع
قبول أقوال الكتاب على بساطتها بدون التفات إلى القياسات المنطقية والاستنتاجات
العقلية التي تخالف ظاهر الكلام.

فبناءً
على ما تقدم يكون الجواب الأصح على سؤال: “لأجل من مات المسيح؟” هو أنه
مات لأجل الجميع باعتبار كفاية الكفارة واتساعها وحقوقهم فيها إذا قُبلت بالإيمان،
ولأجل المختارين باعتبار مفعول الكفارة وتخصيصها للخلاص فعلاً. وينبغي في هذا
المقام أن نحترس من أن نحدد الكفارة في ما لم يحددها الله له، بل يجب أن ننتبه
للتبشير بالكفارة كما هي مقدَّمة لنا في الأسفار المقدسة، وأن نؤكد لكل البشر
الساقطين أن الكفارة أُعدَّت لهم إذا قبلوها، وأن المسيح مات لأجلهم جميعاً.

11 – كيف نجاوب عن اعتراضات البيلاجيين وغيرهم على المذهب الأغسطيني
المذكور سابقاً في رأي “قضاء الفداء”؟

*
ليست تلك الاعتراضات موجهة لموت المسيح من أجل الجميع، بل لتخصيص فوائد موته
للمختارين. فالاعتراضات هي على تعليم الاختيار لا على تعليم الكفارة العامة. ويمكن
أن يُقال في هذه الاعتراضات:

(1)
إنها لا تختص بهذا التعليم وحده، بل تعم تعليم القضاء بوجه الإجمال، وعلم الله
السابق، والسماح بالخطية والشقاء والهلاك الأبدي التي يصعب علينا تفسيرها، كما
يصعب علينا تفسير الاختيار. على أن عدم قدرتنا على حل هذه المشاكل ليس سبباً
كافياً لإنكارها (انظر فصل 16 س 20-23، 41).

(2)
إنها تناقض ما هو ظاهر وواقع أمام أعيننا في عناية الله بالبشر عموماً، ولا فائدة
من إقامة الأدلة على نفي الحقائق الواقعة المقررة. ولا وجه للقول إنه ظلمٌ من الله
أن ينعم على أمة أكثر من أخرى وعلى شخص أكثر من آخر، فمن الواضح أنه يتصرف تصرف
الحاكم المطلق في توزيع بركات العناية والنعم الدينية.

(3)
إنها ناتجة من جهلنا أفكار الله وأسرار مشيئته، وعجزنا عن الحكم عليها، فنحن لا
نقدر أن نتحقق الغاية التي لأجلها تصرَّف كذلك، وليس لنا أن ننظر إلا إلى وجهٍ
واحد من هذه القضية الغامضة وهو سلطانه المطلق. ثم أننا لا نقدر أن نبيّن تماماً
موافقة ذلك لحرية الإنسان في أعماله ومسؤوليته، لأنه من جهةٍ لا اعتراض أن الله
يعيِّن نصيب كل إنسان حسب مسرته، ولكنه حق أيضاً من جهةٍ أخرى أن كل إنسان يعين
نصيب نفسه. غير أن تعيين الله لا يناقض حرية الإنسان بل يثبتها، لأن الله يترك
الإنسان ليتصرف بموجب إرادة نفسه، وهكذا يعيّن نصيب نفسه من غير التزام من خارج.

(4)
أورد اليهود هذه الاعتراضات على تعليم بولس الرسول، وهذا يبرهن أن تعليمنا هو نفس
تعليمه. فلو لم يعلِّم ما سبق في كلامنا على الاختيار لما كان محلٌ لمثل هذه
الاعتراضات (رو 9: 14-21). ولو أنكر الرسول بولس أن الله يهب الخلاص حسب مسرته
ويرحم من يشاء لما اعترض اليهود عليه بأن الله غير عادل وأن البشر غير مسؤولين.
أما أجوبة الرسول لحل هذه المشاكل فيكفي أنها تعليم الروح القدس، وهو السلطان الذي
يجب أن يخضع له عقل الإنسان. فإن اليهود اعترضوا أنه لا يوافق عدل الله أن يخلّص
واحداً دون آخر حسب مسرته. وجاوب بولس على ذلك بأن الله قال إن له هذا الحق، وإنه
يمارسه بالفعل، وإن ذلك من الحقوق الخاصة به لأنه ربّ جميع خلائقه وحاكم جميع
البشر. فإذا كان يحق للملك البشري أن يصفح عن مذنب دون آخر، فلا شك أن ذلك يحق
لله. ولا يمكن أن يكون ظلم في إجراء حكم شريعة عادلة على مذنب، وهذا كل ما يعمله
الله مع الخطاة. وليراجع القارئ ما أوردناه عن قضاء الله في فصل 16 س 21، 22
و41-47.

اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى