علم

الفصل الأول



الفصل الأول

الفصل
الأول

طفولة
أثناسيوس حتى زمان اعتلائه

كرسي
الإسكندرية
(296328م)

 

ميلاده والمدينة التي تربَّى فيها([1]):

لقد عاش أثناسيوس وتربَّى طيلة فترة صباه في صعيد مصر، كما
جاء على لسانه شخصياً، وبالذات في مدينة أخميم؛ وذلك كما ثبت في مخطوطة اكتُشفت في
دير أنبا مقار. ولقد تعلَّم كيف يحارب حروب الرب منذ صباه كما جاء على لسان القديس
باسيليوس الكبير في خطابه رقم 82.

المعتقد
أن أثناسيوس وُلِدَ سنة 296م أو ربما بعد ذلك بقليل، أمَّا المدينة التي وُلِدَ
وتربَّى فيها فيظن العلماء أنها الإسكندرية اعتماداً على إشارة([2])
وردت في رسالة الإمبراطور قنسطنطيوس فكتور سنة 345م للقديس أثناسيوس وهو في منفاه
يأمره بالعودة إلى “الإسكندرية وطنه”، ولكن للأسف لا يمكن أن تُعتبر هذه إشارة إلى
أنه وُلِدَ وتربَّى في الإسكندرية.

ولكن
برجوعنا إلى الجزء من المخطوط الذي عثرنا عليه في أرضية مكتبة دير القديس أنبا
مقار برقم 199 (ب) نقرأ الآتي:

[والضرورة تدعوني يا إخوتي المحبين للمسيح
لكي أُظهر لكم بقية الذين كانوا منه في مصر لكي الذين يسمعوهم يمجِّدوا الله: كان
هيكلاً في المدينة التي سبقنا أن نذكرها التي هي أخميم يدعوه مثروس
pimiqroc. وفي أحد الأيام جاز القديس أثناسيوس
لابس الله، وكانوا يمشوا أطفال صغار يعملوا في الصنعة معه، فقال لهم كلمة هكذا: ترى
الرجال الذين بنوا هذا ما هو الذي في قلوبهم، فأجابوا أُولئك الأطفال الصغار
وقالوا إن أهل هذه المدينة الذين كانوا قبل هذه الأيام لم يكن لهم فهم بل كانوا يخدموا
الأوثان ويبنوا لهم هذه الهياكل. فقال لهم إيلياس الجديد أعني القديس أثناسيوس وهو
يضحك: تعالوا نهدم هذا الهيكل، فقالوا له أُولئك الأطفال: ألا تنظره ثابت بهذه
الحجارة ومشيَّد
fklwpize
البنا بهذه الأعمال، ونحن فليس لنا آلة وناقصين جدًّا في قوتنا ولا نقدر نعمل هذا
فقال لهم الرسولي أثناسيوس دانيال الجديد أنا أعرف صنعة في كورتي يعملوها معلمي
البنيين ويمسكوا الطوبة الذين يتأملوها في البنايان …]
انتهى (بخطئه).

ومن
هذه القراءة نستدل أن أثناسيوس كان يعيش طفولته في كورة بجوار أخميم وكان
يتردَّد على هذه المدينة الكبيرة مع رفاقه من الأطفال. وأنه في صبوَّته كان
يتعلَّم صَنعة حسب تقليد أهل مصر
وربما كانت هذه الصنعة هي فن البناء.

كما
يلزم أن ننتبه أن كاتب السيرة يفرِّق بين مرحلتين عاشهما القديس أثناسيوس:

مرحلة
منهما كانت بلا شك في مدينة الإسكندرية وهي التي ربما استهل بها الكاتب سيرته، وهي
الأهم بطبيعة الحال. وحياة أخرى أقل أهمية في نظر الكاتب وهي الخاصة بطفولته قبل
أن ينزح إلى الإسكندرية، والتي يقول عنها: [بقية التي كانوا منه في مصر]. وهنا
يعتبر الكاتب أن مصر شيء وأن الإسكندرية شيء آخر، وذلك حسب التقسيم البيئي والمدني
والجغرافي بل والكنسي أيضاً الذي كان في العصور الأُولى، ولا تزال آثاره التقليدية
باقية حتى الآن، إذ معروف أن أسقف الإسكندرية هو رئيس أساقفة مصر.

ويُستدل
أيضاً بوضوح من هذه المخطوطة أن أثناسيوس كان مسيحياً منذ طفولته وكان كارهاً
لعبادة الأوثان
بغيرة شديدة وحماس يفوق قامته، وهنا يدعوه كاتب السيرة
ب “إيليا الجديد” إشارة إلى غيرة إيليا الشديدة لعبادة الرب وحماسه الفائق
الذي جعله يذبح أنبياء البعل([3]).

عادات رسولية:

ثم
إذ نعود إلى المخطوطة نقرأ أيضاً أموراً جديدة في حياة هذا القديس كانت ولا زالت
مجهولة عند المؤرِّخين حتى هذا اليوم:

[…
خايف من الذباب الصغير ولم يكونوا أوليك المتكيين يعلموا ما هي العلة في ذلك …
وهذا كان يصنعه ليكمِّل وصية الرسل الذي قالوها في القانون أن لا يمد أحداً يده
ليأكل إلاَّ إذا مد الكاهن يده أولاً ليرشم الموضوع للأكل وإن لم يكن هناك كاهناً
يبارك، فبركة الرب تكون في بيت ذلك الإنسان …] (بخطئه)

وهنا
يعرض كاتب السيرة إلى عادة أثناسيوس وهو صغير في أنه كان عند غياب الكاهن يرشم
لنفسه الأكل الموضوع أمامه بحركة يديه على شكل الصليب قبل أن يأكل، فكان يظن
الجلوس معه أنه كان يطرد الذباب. ومن هذه العبارات يستدل أن أثناسيوس كان يحفظ
التقليد الرسولي وقوانين الكنيسة المسلَّمة بدقة منذ صباه، وهذا يتفق تماماً مع
الصفات المعروفة عن القديس أثناسيوس وشدة تعلقه بالقوانين الكنسية كل أيام حياته.

والد القديس أثناسيوس وأثره في حياة أثناسيوس:

ثم
نعود للمخطوطة لنقرأ أيضاً عن والد القديس أثناسيوس، وهي أمور غاية في الأهمية
تُنشر لأول مرَّة في التاريخ لتضع القديس أثناسيوس وعائلته في الموضع الصحيح جدًّا
والمناسب جدًّا:

[وكان
يوماً مضى ليأخذ من السراير الكريمة في كنيسة صغيرة كانت في وسط المدينة بالقرب
من بيت معلِّمه
ولم يجد في الكنيسة سوى قسيس واحد وهذا كان حدَّاد في صنعته
فصنع الخدمة وحده، ومن بعد القداس رئيس الأساقفة مسك ذلك القس وقال له: أيها
الإنسان العظيم أريد أن تصنع لي حلقة حديد
idoc([4]) بيديك وحدك
ولا تدع أحداً من الناس يعمل معك فيها إلاَّ أنت وحدك فأجابه القسيس قائلاً يا
ابني أنا أرسمها لك لكن أحتاج إلى واحد ينفخ وآخر يطرق بالمطرقة فقال رئيس
الأساقفة أيضاً: ألعلَّك تستطيع تعمله بغير هؤلاء. فقال له: لا. فأجابه الكاهن
الحقيقي أثناسيوس: فإذا كنت لا تقدر تكمل هذا الشكل الهيولاني
mpai doc `nulikon([5])
وحدك
فبأي نوع تتقدَّم لخدمة السراير لتكمِّلهم وحدك إذ تصنع الخدمة كلها بغير أحد من
الناس يساعدك وإذا كان ملكاً يقدر يدبِّر أعمال المملكة وحده فما هي الحاجة لهذه
النفقات
niannwna([6]) الذي
يعطيهم لجنده … وهكذا لو أن الله كان يعرف أن واحداً وحده يقدر يكمِّل الخدمة
فما كانت هي الحاجة أن يكرزوا هؤلاء كلهم. فقال القسيس: يا ابني أليس لك عمل وعمل
لي أنا أيضاً هكذا لأن هؤلاء الأعمال هم للكهنة وحدهم … فقال له رئيس الأساقفة: اغفر
لي يا أبي تأمل ولا تصنع هذا العمل وحدك ليلا يغضب الرب عليك لأني أنا أيضاً أبي
هو كاهن وهو الذي علَّمني هذه الأعمال هكذا. فأجاب القسيس وقال له: الرب يعرف أني
قد ربحت بحديثك
etekcuntixia([7]) جدًّا يا
ابني لعلك أنت أيضاً كاهن فقال له القديس أثناسيوس إذ كان ينطق بالحق: يا أبي إن
كنت أنا كاهن فأنت تنظرني لكن شكلي هو هذا الذي تنظرني فيه. وحينئذ القسيس ربح جدًّا
وصنع كل شيء قالهم له …] (انتهى بخطئه)

ومن
هذه القصة الشيقة نعلم الآتي:

1
أن أثناسيوس كان يمارس التناول في شبابه قبل تكريسه.

2
أنه كان يتعلَّم على يد معلِّم وفي منزله الخاص شأن العلماء في
العصور الأُولى وذلك في بلده أخميم في مراحل حياته الأُولى، لأن كاتب السيرة يقول
إن هذه الأخبار هي الخاصة به وهو في مصر تمييزاً عن الأعمال الأخرى التي له في
الإسكندرية.

3
عدم احتمال الشاب أثناسيوس أن تُجرى طقوس الكنيسة ناقصة، فالغيرة على
الطقس والقانون الكنسي تتأجَّج في صدره منذ طفولته وتلاحقه على مدى حياته كلها.

4
حكمة الشاب أثناسيوس وهو لم يكن بعد كاهناً
تبرز بصورة رائعة في كيفية مواجهة كاهن خارج عن القانون الكنسي، بأدب جم،
وباستخدام أسلوب الحوار والتشبيه والتطبيق المحكم الذي ظل معتمده في كل مناظراته
واحتجاجاته اللاهوتية في أخطر المواقف كل أيام حياته.

5
يلاحظ أن الكاهن المخطئ يخاطب أثناسيوس بما يتناسب مع سن أثناسيوس
ومظهره (يا ابني)، وهذا يوضِّح أن أثناسيوس كان وقتئذ مجرَّد شاب صغير.

6
كما نلاحظ مرَّة أخرى كيف يكون موقف أثناسيوس الشاب من نفس الكاهن
عندما رفض أن يرضخ للنتيجة ويعترف بالخطأ بعد أن وصل به أثناسيوس إلى درجة الإقناع
المنطقي، وبدأ يتحدَّى أثناسيوس [أليس لك عمل ولي أنا عمل ككاهن]، أو بما معناه ما
شأنك أنت؟ ولماذا تتدخَّل في عمل الكهنة؟

هنا
يترك أثناسيوس الشاب المنطق والمحاجاة ويطرحهما جانباً وينطلق في مواجهة الكاهن
الخاطئ المعاند، بأسلوبه الآخر الذي ما فتيء يستخدمه أيضاً كل أيام حياته، وهو رفع
ضمير الخاطئ إلى مستوى المواجهة مع الله والوصية والقانون الكنسي بعد إخفاقه في
قبول التعقُّل والحكمة والمنطق … ولكنه يبدأ هذه المواجهة الصارمة بالجملة
الرهبانية المشهورة: [اغفر لي يا أبي]. وهنا يبرز المستوى الأخلاقي لأثناسيوس
الشاب وتشبُّعه بروح التقوى والاتضاع كسند لازم في كل مواقف التصدِّي والدفاع!

7
ينكشف لنا بصورة قاطعة، لها كل مبررات صدقها، أن والد أثناسيوس
كان كاهناً وكان يعيش حتى زمان هذه القصة.
وهنا ندرك أن أباه كان هو بلا نزاع
المصدر الذي كان يستقي منه أثناسيوس كل تهذيبه
الروحي والطقسي منذ طفولته المبكِّرة: [وهو الذي علَّمني هذه الأعمال
هكذا].

أخطأ
بعض المؤرِّخين في ظنهم أن أثناسيوس مات أبوه وهو طفل وتكفلت به أمه، والمحقق
بصورة قاطعة أن أبوي أثناسيوس كانا على قيد الحياة حتى بلوغ أثناسيوس الستين من عمره
ويزيد! وقد ذكر ذلك بوضوح في رسالته التي أرسلها عام 358م إلى لوسيفر أسقف كالاريس
في جزيرة سردينيا (وهو معترف وعانى النفي أيضاً)، يقول فيها بغاية الوضوح: إن عيني
لا تكف عن الدمع ولا روحي عن الأنين فيَّ، لأننا لا نستطيع حتى افتقاد الإخوة،
ولكن الله يشهد عليَّ أنني بسبب اضطهادهم أصبحت لا أستطيع أن أرى (أفتقد) حتى والديَّ
اللذين لي،
لأنه ما هو الذي أبقى عليه الأريوسيون؟ إنهم يراقبون الشوارع
ويتحقَّقون من كل إنسان يدخل أو يخرج المدينة (الإسكندرية)، يفتِّشون المراكب،
يجولون في الصحراء، ويحاصرون البيوت ويتحرَّشون بالإخوة حتى أقلقوا راحة كل إنسان].
وهنا يصف أثناسيوس اضطهاد الأريوسيين الذي أثاروه على الكنيسة أثناء معاناته النفي
الثالث واختفائه الذي ظلَّ فيه يتنقَّل من مدينة لمدينة ومن قرية لقرية ومن برية
لبرية (من سنة 356361م). ولكن نسمع عن حادثة تشير إلى موت أبيه بعد
هذا الاضطهاد بست سنوات، وفي اضطهاد آخر يذكر فيها أنه ظل مختبئاً في مقبرة أبيه
نحو أربعة أشهر([8]).

8
ومن سؤال الكاهن بعد أن ارتدع وقَبِلَ التصحيح والتوجيه: [ألعلَّك
أنت أيضاً كاهن؟
[ يتضح أن أثناسيوس
لم يكن قد رُسم كاهناً بعد. ثم في رد أثناسيوس المبدع يتبيَّن لنا مدى الإلهام: [إذ
كان ينطق بالحق] بخصوص النير الكهنوتي الذي كان أثناسيوس يحس أنه مزمع أن يوضع
عليه لا محالة: [يا أبي إن كنت أنا كاهن فأنت تنظرني]، ومعناه أنك أنت الذي تراني
كاهناً بالرؤيا أو بالنبوَّة ولكني أنا في حقيقتي الآن لست كاهنا: [لكن شكلي هو
الذي تنظرني فيه].

 

وهكذا
نخرج من هذه الورقة الفريدة لهذا المخطوط الضائع بتاريخ جديد لحياة أثناسيوس يقلب
كل أفكار العلماء وتخميناتهم، الذين منهم مَنْ قال إن أُمه كانت رئيسة عبدة
الأوثان، ومنهم مَنْ قال إن أثناسيوس نفسه كان وثنياً في صغره.

ولعلَّ
الله يساعدنا ويجعلنا نعثر على بقية المخطوطة الفريدة، وهي لا شك راقدة الآن ضمن
مدشوشات المخطوطات التي سُرقت من مكتبة دير القديس أنبا مقار واستقرت في إحدى
مكتبات العالم تنتظر يوم ظهورها وعودتها.

بقية أخباره مع عائلته:

شهادة من القديس غريغوريوس النزينزي:

[لقد شبَّ منذ البدء في الممارسات
الدينية وسيرة التقوى وبعد دراسة مختصرة في الآداب والفلسفة، تلك الأمور التي ما
كان ينبغي قط أن لا يكون متمهِّراً فيها قبل أن ينقدها!!]
([9])

أمَّا
بقية أخبار عائلة أثناسيوس فنعلم أن والده مات ودُفن بالإسكندرية بعد سنة 358م وأن
قبره كان خارج المدينة([10]).
كذلك ومن كلمات أثناسيوس نفسه إلى قسطنطين الملك نعلم أن عائلته كانت فقيرة بعكس
ما يكتبه بعض المؤرِّخين غير المدققين الذين يزعمون أنه كان من عائلة ثرية جدًّا.
وهاك كلمات أثناسيوس: [واحتج أثناسيوس لدى الإمبراطور قائلاً: كيف يكون إنسان فقير
مثلي وبحالي الضعيف هذا ويصنع مثل هذه الأمور؟]([11])

ولقد
وردت قصة عن أيام صبوة أثناسيوس بقلم المؤرِّخ روفينوس([12])
وعنه تناقلها جميع المؤرِّخين والكُتَّاب، يقول فيها إن ألكسندروس بابا الإسكندرية
التاسع عشر كان في يوم من الأيام مطلاًّ من نافذة البيت الذي يقطنه على البحر،
فرأى صبية يلعبون على الشاطئ، فلمَّا تحقَّق من حركاتهم وجدهم يمثِّلون طقس العماد
الذي تجريه الكنيسة؛ فأخذ يراقبهم بشغف وابتدأ يحس أن عملهم هذا أصبح له وضعه
السرائري، فاستدعاهم وكان ذلك بحضرة بعض الإكليروس، ولما استجوبهم علم أن الصبي
أثناسيوس كان هو الذي يقوم بدور الأسقف في العماد (والمعروف أنه في العصور الأُولى
للكنيسة كان الأسقف وحده هو المنوط بإجراء العماد من دون الكهنة)، وقام فعلاً
بعماد بعض الأولاد رفقائه عن قصد وبكل مستلزمات الطقس، وهؤلاء لم يكونوا مسيحيين
بعد؛ أمَّا البابا ألكسندروس فلم يأخذ الموضوع ببساطة. وبعد مداولات مع الإكليروس
اعتبر أن هذا العماد ساري المفعول وامتدح أثناسيوس واحتفظ به عنده، وأمر أن تُجرى
لبقية الأولاد ما يلزمهم من الطقوس والتعاليم اللازمة لتكميل الطقس.

وقد
حاول بعض المؤرِّخين التقليل من قيمة هذه القصة أمثال: “كيف” و“تيمون” والبندكتيين،
ولكن المؤرِّخ “دين ستانلي” يرى في هذه القصة ما يرجِّح صدقها تماماً([13]).
أمَّا بخصوص العقبة التاريخية التي تتصدَّى لهذه القصة إذ أن ألكسندروس صار أسقفاً
على الإسكندرية عام 313م. وبهذا يكون أثناسيوس وقتئذ قد بلغ 17 سنة من عمره. فيرى
جماعة البولاندست بعد أن تحقَّقوا من نياحة أنبا بطرس الشهيد، أن هذا التاريخ
(313م) متأخِّر جدًّا، والحقيقة أن ألكسندروس اعتلى الكرسي الإسكندري قبل ذلك
التاريخ بكثير، مما يزكِّي صدق هذه القصة، وأن أثناسيوس فعلاً لم يكن قد تجاوز
آنئذ دور الصبوة. ويؤكِّد المؤرِّخ سوزومين([14])
صدق هذه القصة معتبراً إياها المدخل الذي بدأ منه القديس أثناسيوس تدرجه في
المراتب الكنسية حتى جلوسه على كرسي الأسقفية.

وفي
كتابه عن “تجسُّد الكلمة” يأتي القديس أثناسيوس عفواً على ذكر تقبُّله العلوم
اللاهوتية على أيدي معلِّمين عانوا من اضطهاد مكسيمين الثاني الذي وقع سنة 311م([15]).
وهذا يعني أن أثناسيوس بدأ دراساته اللاهوتية ربما في مدرسة الإسكندرية بعد نزوحه
من أخميم وهو دون الخمسة عشر عاماً!! والمعروف أن أول كتابين ألَّفهما القديس
أثناسيوس وهما “ضد الوثنيين” و“تجسُّد الكلمة” أكملهما قبل سنة 319م حيث كان عمره
وقتئذ لم يتجاوز الثالثة والعشرين.

أثناسيوس سكرتير البابا ألكسندروس:

وبدخول
أثناسيوس الشاب في خدمة البابا ألكسندروس كابن له وسكرتير يبدأ تاريخ أثناسيوس
الكنسي بصورة عميقة وسريعة للغاية، حيث كان وقتها البابا الإسكندري يترأَّس على
مائة أسقف ينتشرون في كل أنحاء مصر وليبيا والخمس مدن الغربية، وحيث كان أسقف
الإسكندرية يلقَّب ب “رئيس الأساقفة”([16])
وبلقب “باباس”([17])
(أي الأب العزيز) وذلك منذ أيام هيراكلاس البابا الثالث عشر([18]).

ومعنى
ذلك أن وظيفة سكرتير البابا الإسكندري كانت بحد ذاتها عملاً ضخماً للغاية متشعِّب
المسئوليات. ويقول القديس كيرلس عمود الدين في خطابه لرهبان مصر إن أثناسيوس كان
يعيش مع البابا ألكسندروس (كابن مع أبيه) تحت سقف واحد (وكان محبوباً بسبب حلاوة
صفاته)([19]).

فكانت
هذه الأيام من أحلى ذكريات أثناسيوس، خصوصاً في أيامه العصيبة إزاء المحن
المتواترة التي عاناها على مدى حياته الطويلة.

دراسات أثناسيوس المدنية والروحية:

ولكن
لم تكن أيام أثناسيوس في سكرتيريته للبابا ألكسندروس تنقضي في مجرَّد أعمال
روتينية؛ بل ازدحمت إلى أقصى حد بجهاده المتواصل في تحصيل العلوم ودراسة الفلسفة
والبلاغة والشعر، فقد درس هوميروس وأفلاطون وأرسطو وديموستين([20]).
ونحن نعلم تماماً من كتابات أثناسيوس مقدار تحصيله لهذه العلوم واستخدامها في شرح
وتوضيح أعماق الإنجيل([21])،
وخصوصاً في مواقف الدفاع والمحاجاة ضد الفلاسفة. ويخبرنا المؤرِّخ سلبيسيوس ساويرس
أن أثناسيوس درس القانون الروماني([22]).
ولكن الذي ينبغي أن ننتبه له جدًّا أن كل هذه العلوم غير الكنسية التي توفَّر
القديس أثناسيوس على تحصيلها لم تُصَب الكنيسة منها بأي سوء على الإطلاق، فلم
نسمعه يوماً متعظِّماً بعلمه أو متكلاً على بلاغته أو منطقه، بل كان الله دئماً هو
نوره وخلاصه.

أمَّا
كل هذه الدراسات التي تلقَّاها سواء بجهاده الخاص أو على أيدي معلِّمين خصوصيين أو
في مدرسة الإسكندرية، فلم تكن إلاَّ أمراً ثانوياً تماماً بالنسبة لشغف أثناسيوس
أن يكون (كاتباً متعلِّماً في ملكوت السموات). وتظهر غيرته النارية في حبه للكتاب
المقدس وتوقيره المطلق لسلطانه في جميع كتاباته، وبالأخص في مؤلّفه (ضد الوثنيين: 1)،
وفي عظته (9: 1)، والرسالة إلى أساقفة مصر (4)، وفي دفاعه عن قانون نيقية (32)،
وفي كتاباته عن مجمعي أرمينيا وسلوقية (6).

وعلى
سبيل المثال لشغفه المطلق بالأسفار نقدِّم مقتطفات من أقواله توضِّح هذا الاتجاه:

1
[وإني أعتقد أنه من اللائق أن أتقدَّم إليكم كمُحب للمسيح متحدِّثاً
عن المسيح، وإني لواثق أنكم تضعون إيمانكم به ومعرفتكم له أعلى من كل شيء
آخر مهما كان!

وإني
أعتقد أن الأسفار المقدَّسة الملهمة كفيلة بحد ذاتها أن تعلن الحق.]([23])

(يُلاحَظ
أن أثناسيوس يكرِّر هذه الحقيقة في جميع كتاباته).

2
[ممن يستلم “مارقيون” و“المانيون” الإنجيل إن كانوا يرفضون قبول
الناموس أي العهد القديم؟ ونحن نعلم أن العهد الجديد انبثق من العهد القديم ويشهد
له! فإن هم أجازوا لأنفسهم أن يرفضوا العهد القديم، فكيف وممَّن يستلمون الجديد الذي
هو أصلاً منه؟ وبولس يقول إنه رسول مفرز لإنجيل الله: «الذي سبق فوعد به بأنبيائه
في الكتب المقدَّسة
» (رو 2: 1). وربنا نفسه يقول: «فتِّشوا الكتب لأنها هي
التي تشهد لي» (يو 39: 5). فكيف إذاً يمكنهم أن يعترفوا بالرب إن لم يفحصوا
الأسفار (القديمة) أولاً التي كُتبت عنه؟ ونحن نسمع من فيلبُّس أحد التلاميذ وهو
يبشِّر نثنائيل: «قد وجدنا الذي كتب عنه موسى في الناموس والأنبياء: يسوع» (يو 45:
1). لأن الرب الذي أعطى الناموس هو نفسه الذي وعد في الناموس أنه سوف يقيم أنبياء
أيضاً ليكون الرب هو نفسه رب الناموس والأنبياء، فالذي ينكر الواحد ينكر الآخر عن
اضطرار أيضاً.


وإن الأسفار المقدَّسة لهي كافية جدًّا لنا، لذلك فبالنسبة للذين لهم رغبة أن
يعرفوا أكثر فيما يختص بهذه الأمور أنصحهم وأزكِّي لهم أن يقرأوا كلمة الله.]([24])

وعلى
هذا النمط تجري جميع كتابات أثناسيوس مزدحمة بالآيات من العهد القديم والعهد
الجديد، إمَّا بنصها الكتابي المحدّد أو بروحها دون الالتزام بالحرف، بحيث لا يمكن
أن يخلو سطر من سند كتابي.

ذخيرة الآباء تُضاف لرصيد أثناسيوس:

غير
أن مسرته العظمى كانت في الأبحاث اللاهوتية، فقد أوتي موهبتها في عمق لا يُجارَى.
وقد كانت قدرته فذَّة في تحويل كل فكر وكل ثقافة لتخدم فكرته اللاهوتية ويجمع كل
شيء ليخدم غايته العظمى في إثبات حجته لمجد المسيح.

ولقد
كانت حياة وتراث العلماء كليمندس وأوريجانوس وثيؤغنسطس والباباوات السابقين،
وبالأخص استشهاد البابا بطرس خاتم الشهداء سنة 311م في ظروف الاضطهاد المرعبة التي
رآها بعينيه، هي الينبوع الذي استقى منه أثناسيوس حتى الشبع ونما عليه وترعرع
وجدانه الروحي والإيماني واللاهوتي!! فأثناسيوس ابن علماء مصر وشهدائها بالحق
وتلميذ المعترفين، وشريك آلام المسيح عن جدارة.

لقد
ذاق أثناسيوس الموت مراراً تحت اضطهاد الوثنيين المرعب على يد مكسيمين
Maximin الثاني. ولقد تعلَّقت روحه بمعلِّميه الذين بعد أن أكملوا له
التعليم، أكملوا حياتهم بالشهادة وسُفكت دماؤهم أمام عينيه! فأيّ تعليم عن المسيح
هذا الذي استقاه أثناسيوس على مستوى الشهادة وببرهان الحب الصادق للمسيح حتى
الموت!

لقد
كان أثناسيوس صبياً صغيراً عندما وصلته أنباء استشهاد الأسقف الوقور فيلياس أسقف
تمويس (تِمي الأمديد)، الذي قَبِلَ التعذيب حتى لفظ نفسه الأخير دون أن يتزحزح قيد
شعرة عن الشهادة بلاهوت المسيح المصلوب!! نعم، أيّ درس في اللاهوت يمكن أن يستقيه
صبي بدأت تتفتَّح مداركه الروحية وقواه الإيمانية أعظم وأصدق من هذا الدرس؟ ثم أيّ
درس يمكن أن يلقَّن لشاب صغير مؤهَّل من قِبَل الله أن يجلس على كرسي مار مرقس
يوماً من الأيام أعظم من أن يستلم بالخبر وبالإيمان والعيان قصة استشهاد أب
الكنيسة كلها ورئيس أحبارها بطرس خاتم الشهداء، وبحد السيف؟ … لقد سلَّم كل
هؤلاء الشهداء، نعم سلَّموا أرواحهم الشجاعة مع إيمانهم القويم للفتى أثناسيوس لكي يعلِّم وهو متيقِّن مما رأى وسمع ويشهد
بجرأة وهو مدرك مسبقاً ماذا يمكن أن تكلِّفه الشهادة!

وإليك
أيها القارئ العزيز مقتطفات قصيرة من رسالته إلى أساقفة مصر تكشف عن روح أثناسيوس
الحقيقية في الإقناع والدفاع التي كانت على مستوى الاستشهاد دائماً وبالحق!!:

[ومن
أجل هذا أهيب بكم أن تكونوا أمثلة للإخوة في كل مكان، أنتم الذين وُضِعَ تحت
أيديكم اعتراف قد تحدَّد بواسطة آباء نيقية الذين دافعوا عنه بأعظم غيرة وبثقة في
الرب، علِّموهم أنها الآن معركة أمامنا إزاء الحق في صراعه ضد الباطل، وأن مكايد
العدو وحيله كثيرة متعدِّدة. ولكن برهان الشهداء لا يكون برفض التبخير للأصنام
وحسب، وإنما برفض أيَّة محاولة لإنكار الإيمان، إنما بشهادة ضمير صالح متوهِّج.

فإبراهيم
لم ينل الإكليل لأنه تألَّم بالموت ولكنه كان أمينا لله. وكذلك بقية القديسين
الذين تكلَّم عنهم بولس: جدعون وباراق وشمشون ويفتاح وداود وصموئيل والبقية، فإنهم
لم يكمَّلوا بسفك الدم إنما بالإيمان حُسبوا أبراراً مكمَّلين في المجد!!

أمَّا
إذا أردت أن أضيف إلى هؤلاء شهادة من بلدنا الذي نعيش فيه فأنتم تعلمون الطوباني
ألكسندروس (312328م) كيف ارتضى بسرور أن يُقاوم حتى الموت ضد هذه
الهرطقة (أريوس)، وكم من المحن والمعاناة احتمل هذا الشيخ إلى أن انضم إلى آبائه
في نهاية حياته؛ بل وكم من الآخرين أيضاً احتملوا العذاب والمشقة من أجل تعليمهم
القويم ضد هذا الكفر والإلحاد. والآن هم يتنعَّمون بالمجد مع المسيح جزاء اعترافهم.

وعلينا أن نعتبر هذه الحقيقة: المعركة قائمة والاختبار
أمامنا، فإمَّا أن نحفظ الإيمان أو ننكره.

كما
أنه علينا أن نجعل حفظ ما استلمناه على درجة من الاهتمام والإخلاص كغاية حياتنا،
على أن يكون أساس تعليمنا هو الاعتراف الذي رُسم في نيقية مبتعدين عن كل ما هو
مستحدث، معلِّمين الشعب أن لا يلتفت إلى “الأرواح المضلة”.]([25])

أنطونيوس الكبير في حياة أثناسيوس:

ولكن
لم تكن الينابيع التي استقى منها أثناسيوس لاهوتية إيمانية على مستوى الشهادة وسفك
الدم وحسب؛ بل وامتدت أيضاً لتشمل أعمق ما في التراث الكنسي من روحيات ونسك، فقد
تربَّى أثناسيوس وهو بعد شاب على يدي أنطونيوس الكبير، أو كما يقول هو بفمه: [لقد
رأيت أنطونيوس مراراً وتعلَّمت منه لأنني لازمته زمناً طويلاً وسكبت ماءً على يديه
(أي خدمته)]([26]).
وهذا مما يرجِّح جدًّا قصة حياته الموجودة بالمخطوطة المذكورة، لأن وجوده في
الصعيد في فجر شبابه هيَّأ له الفرصة لكي يتعرَّف على القديس أنطونيوس ويعيش بقربه
ويخدمه.

وقد
كانت هذه إحدى الاختبارات العظيمة في حياة أثناسيوس، والتي جعلت من إيمانه ولاهوته
نوعاً من الجهاد النسكي على مستوى الحب الإلهي الذي اضطرم به قلبه، فهوَّن عليه
العذاب والنفي والتشريد، وجعل دفاعه عن
الإيمان رسالة حب أكثر منها رسالة تعليم، وعمل فداء أكثر منه عمل واجب!

لقد
كان أثناسيوس ناسكاً، لذلك لم يجد لنفسه أفضل من قلالي الرهبان ليقضي فيها معظم
أوقات هروبه من وجه الأريوسيين، ملوكاً ورؤساء وأساقفة. كانت قلالي الرهبان في
نظره حلوة كخيام يعقوب، حسب قول أثناسيوس نفسه: [وهكذا صارت قلاليهم في الجبال
كهياكل مقدَّسة مكتظَّة بجماعة الأتقياء يرنِّمون المزامير ويشغفون بالقراءة،
يصومون ويصلُّون فرحين برجاء الأمور العتيدة … فكان كل مَنْ يرى مثل هذا النظام
الجميل بين الرهبان يرفع صوته ويقول: «ما أحسن مساكنك يا يعقوب، خيامك يا إسرائيل،
كأودية ظليلة، كجنَّات على نهرٍ، كخيام أقامها الرب، كأرز على ماء»]([27])

وكان
الراهب في نظر أثناسيوس، بما يقدِّمه من بذل الذات وإنكارها والتضحية بكل أهوائه
وشهواته، على مستوى الشهيد والمعترف الذي بلغ إيمانه سفك الدم، وهذا ما يقوله
أثناسيوس:

[وعندما
توقَّف الاضطهاد أخيراً وأكمل المغبوط الأسقف بطرس شهادته (25 فبراير سنة 311م)،
انصرف أنطونيوس واعتزل ثانية في صومعته وبقي هناك، وكان كل يوم شهيداً أمام ضميره،
مناضلاً في جهاد الإيمان، وصار نسكه أشد صرامة لأنه كان دائم الصوم.]([28])

وهكذا
كان تأثير الرهبنة، وبالذات القديس أنطونيوس على نفسية القديس أثناسيوس، عميقاً
غاية العمق، إذ ظلَّ وجه أنطونيوس بوداعته وحركاته الهادئة وسلامة نفسه وهدوئه
منطبعاً على ذهن أثناسيوس لا يفارقه، مما جعل حياة أنطونيوس أحد المصادر السريَّة
الهامة جدًّا التي ظلَّت تنضح على أفكار وسلوك
أثناسيوس كل أيام حياته! اسمعه وهو يصف أنطونيوس ولاحظ مقدار تأثُّره الشخصي:

[كان
طيباً متواضع الروح … كانت طلعته تنم عن نعمة عظيمة وعجيبة، وهذه النعمة أُعطيت
له من المخلِّص. ومع أنه لم يتميَّز عن الباقين في الطول أو العرض إلاَّ أنه
تميَّز عنهم في رصانة الأخلاق وطهارة النفس، لأن نفسه كانت قد خلت من كل شائبة
فصارت هيئته الخارجية هادئة، وهكذا حصل من فرح نفسه على طلعة بهجة، وكانت تتبيَّن
حالة روحه من حركات جسمه … كانت نفسه في سلام ولم يكن ذليل النفس أبداً إذ كان
قلبه جزلاً.]([29])

ولقد
كان “النسك” هو إحدى المواهب التي زكَّت أثناسيوس لاعتلاء كرسي الأسقفية وهو بعد
فتى دون الثلاثين! وهذه هي شهادة أساقفة مصر يصفون حفلة رسامته ويعدِّدون الأوصاف
التي قدَّمها الشعب تعزيزاً لانتخابه:

[واجتمع
كل شعب الكنيسة معاً كما بفكر واحد وجسد واحد، هاتفين بصراخ أن أثناسيوس مستحق بالضرورة أن يكون أسقفاً على كنيستهم، وجعلوا
هذا موضوعاً لصلواتهم العامة أمام
المسيح، متوسِّلين أن أوافق برجاء، ليلاً
ونهاراً، وهم ملازمون الكنيسة لا يريدون أن يفارقوها ولا سمحوا لنا بالخروج منها،
ونحن شهود لهذا كله وكل المدينة بل وكل الإقليم (مصر) أيضاً. لم يتكلَّم أحد بكلمة
واحدة ضد أثناسيوس، بل كانوا يلقِّبونه بأعظم وأكرم الألقاب قائلين: إنه صالح،
مسيحي، تقي، “ناسك” (بما يُفهم الآن بكلمة راهب) أسقف حقيقي.]([30])

كذلك
نجد أن الاتجاه النسكي وممارسة البتولية وحياة العفة صارت خطاً أساسياً في كتابات
أثناسيوس، بدأت في أول كتاب له وهو “تجسُّد الكلمة”:

[وإن
حججنا هذه التي نقدِّمها لا تنبع من كلمات وحسب، ولكن لها شاهد حقيقي لصدقها وذلك
بالممارسة والاختبار، والذي يريد أن يتحقَّق من ذلك فليذهب ليرى برهان الحق في
حياة عذارى المسيح (الراهبات)، وفي حياة هؤلاء الشبان الذين يمارسون حياة العفة
المقدَّسة (جماعات الرهبان).]([31])

والذي يقرأ هذه الكلمات يتبيَّن بلا شك أن القديس أثناسيوس
هو كاتب سيرة أنطونيوس الكبير.

مؤلفات أثناسيوس قبل رسامته أسقفاً:

بدأ
النضوج الفكري والخصب الروحي مبكِّراً جدًّا في حياة أثناسيوس. ومعروف كما سبق
وقلنا إنه أكمل كتابين من كتبه وهما: “ضد الوثنيين” و“تجسُّد الكلمة” في سن مبكِّرة
جدًّا حوالي سنة 318م. فهو لم يذكر فيهما أي شيء عن النزاع الأريوسي الذي انفجر
عام 319م. أمَّا هذان الكتابان فقد كتبهما لا كلاهوتي يشرح عقيدة بل كمؤمن يشهد
لمخلِّصه، وكتبهما لمنفعة أحد الوثنيين بعد دخوله في الإيمان المسيحي، لذلك نجد
الكتابين يكمِّل أحدهما الآخر. فالأول يدحض آراء الوثنيين والثاني يثبت الإيمان
المسيحي. ويتضح فيهما الفكر اللاهوتي الخاص بمدرسة الإسكندرية الذي ورثه أثناسيوس
عن أسلافه ثم عمَّقه وأفاض عليه من روحه ومن تجربته الإيمانية، فزاده قوة وأصالة
حتى صار أثناسيوس نفسه جزءاً لا يتجزَّأ في اللاهوت الإسكندري!

ويقول
العالِم موللر([32])
وهو لاهوتي كاثوليكي روماني ذائع الصيت (17961838م)، ويعتبر في الرصانة العلمية اللاهوتية الثاني بعد
“بوسويه”، في كتابه الذي ألَّفه عن حياة
أثناسيوس([33]):

[إن
كتاب “تجسُّد الكلمة” يُعتبر أول محاولة لشرح المسيحية وتقديم حياة المسيح بأسلوب
علمي دقيق. حيث برز فيه فكر أثناسيوس العميق المرهف النابع من روح مسيحية رصينة
واثقة وهو يوجِّه كل شيء نحو شخصية الفادي، ويرسو بكل حقيقة لترتاح برفق على
المسيح، فيظهر المسيح في النهاية يملأ كل شيء!!]

وينبغي
أن لا يتوه عن بالنا أن الذي يقدِّم هذا التقريظ هو موللر أكبر عالِم لاهوتي
ومؤرِّخ في زمانه، وأنه يقول عن الشاب أثناسيوس مؤلِّف كتاب “تجسُّد الكلمة” الذي
سنُّه لم يكن يتجاوز الثالثة والعشرين ولم تكن له رتبة وقتئذ أكثر من شماس!! وهذا
يعطينا فكرة عن مدى عظمة أثناسيوس الحقيقية!!

ثم
بالتالي وانطلاقاً من هذه الحقيقة يمكننا أن ندرك مقدار المعونة الفذة التي أذخرها
الله للكنيسة وللشيخ الوقور البابا ألكسندروس في شخص هذا الشماس الشاب الملهم،
الذي أبقاه الله لزمن الشدة وليصدَّ عن الكنيسة جنون أريوس، ذلك القس الليبي
الحقود المتعظِّم، الذي قام ليطعن بابا الإسكندرية متهماً إيَّاه بالسابيلية فسقط
هو فيما هو أخطر:

(1)
في تجريد المسيح من الأزلية.

(2)
ثم بالتالي إسقاط المسيح من خالق إلى مخلوق.

فتصدَّى
له أثناسيوس وظل يصارعه حتى أنهى عليه وعلى تعاليمه، ولكن كلَّفه ذلك جهاد العمر
كله وسبع عشرة سنة منفياً خارج كرسيه، لم يهدأ فيها يوماً واحداً.

أثناسيوس وصراعه مع الأريوسيين

(قبل مجمع نيقية 319325م):

إن
تحالف الأريوسيين مع الميليتيين جعل من جماعتهم المتحالفة ثقلاً كبيراً جدًّا على
الكنيسة في مصر. وينبغي أن ندرك طبيعة كل جماعة بمفردها:

فالميليتيون هم أتباع الأسقف ميليتُس أسقف ليكوبوليس
(أسيوط الآن)، وهذا لم يكن له بدعة أو هرطقة لاهوتية معيَّنة، ولكنه كان ثائراً
على الكنيسة أيام البابا بطرس بسبب عدم قبوله في شركتها، بعد أن سقط مع جماعة
كبيرة في التبخير للأوثان في وقت الاضطهاد الذي أثاره دقلديانوس على الكنيسة سنة
303م. فلمَّا قطعته الكنيسة من شركتها في مجمع خاص برئاسة البابا بطرس خاتم
الشهداء، أثار قلقاً عظيماً فيها وتزعَّم جماعة اكليروس، منهم أساقفة وكهنة كثيرون،
وقام هو برسامات متعدِّدة من أساقفة وكهنة ورهبان حتى زادت شيعته جدًّا. وقد رُفع
أمرهم إلى المجمع المسكوني في نيقية، فاتخذ المجمع قراراً متخاذلاً بقبولهم في
الكنيسة على أن يكونوا جميعاً خاضعين للبابا ألكسندروس وأن يُعطى لأساقفتهم
الكراسي التي تشغر بنياحة أساقفتها الأصليين (الأرثوذكس) وبعد موافقة البابا
ألكسندروس. أمَّا ميليتس نفسه فاحتفظ له المجمع بلقب أسقف ولكن لم يصرِّح له
المجمع بإيبارشية بعد إسقاطه من كرسيه. وقد ظلَّ ضعيفاً محدود السلطان حتى نال من
يوسابيوس النيقوميدي التشجيع والمعونة والسلطان الإمبراطوري.

ولقد
زادت وطأة الميليتيين وقويت شوكتهم جدًّا بعد رسامة القديس أثناسيوس سنة 328م.
وذلك باتصالهم بالأسقف الأريوسي يوسابيوس أسقف نيقوميدية (الذي وقَّع على قانون
نيقية كذباً وخداعاً)، الذي كان صديقاً حميماً للإمبراطور قسطنطين، ويُظن أنه كان
من عائلته، وهو الذي عمَّده قبل موته، بل وكان صديقاً أيضاً للإمبراطور قنسطنطيوس.
ويوسابيوس هذا هو الذي كان يدبِّر جميع المؤامرات ضد أثناسيوس، مستعيناً بقوة
الدولة مستغلاً صداقة الأباطرة إلى أقصى حد، وقد استطاع أن ينقل نفسه بانتقال
العاصمة من نيقوميدية إلى القسطنطينية وظلَّ فيها حتى مات سنة 342م. ويوسابيوس هو
الذي استغل الميليتيين في مصر وضمَّهم إلى صفوف الأريوسيين. أمَّا سبب صداقة
يوسابيوس النيقوميدي الشديدة لأريوس فيرجع إلى أنهما كانا معاً يتلقيان دروس
اللاهوت في مدرسة “لوسيان” بأنطاكية.

ويُعتبر
يوسابيوس هذا أنه هو المسئول الأول أمام الله والكنيسة في جميع العثرات والقلاقل
التي حدثت لها من جراء هرطقة أريوس. لأنه بواسطة يوسابيوس هذا استطاع أريوس وهو
مجرَّد قسيس أن يفرض قضيته الفاسدة لتُسمع لدى الكنيسة كلها، مع أنه كان من الحق
كل الحق أن يكتفى بفحص أمره محلياً وبواسطة رئيسه المباشر البابا ألكسندروس ويُحكم
عليه ويُدان، ويكون حكم ألكسندروس نهائياً. ولكن تدخُّل يوسابيوس في إبطال حكم
البابا ألكسندروس الذي اتخذه ضد أريوس في مجمع محلي بالإسكندرية سنة 321م، ثم
بمحاولة يوسابيوس مرَّة أخرى لدى الإمبراطور، نجح في رفع قضيته إلى مجمع مسكوني.

ولكن
من المعروف أن البابا بطرس هو الذي رسم أريوس الليبي شماساً، ولكنه عاد بسرعة
وأسقطه من رتبته، ثم جاء البابا آرخيلاوس وأعاده إلى الشركة ورسمه قساً. وكان
أريوس يطمع في أسقفية الإسكندرية فلمَّا خذلوه ورُسم ألكسندروس، بدأَ ينفث حقده وانتقامه علناً في الكنيسة([34]).

وإن
السر الأعظم الذي يكمن وراء هرطقة أريوس وكفره وعناده الشنيع يمكن أن نلخِّصه بكل
قوة وكل اختصار في أن أريوس كان يملك معرفة دينية، ولكن لم يكن يملك أخلاقاً دينية.
وقد وجد له صديقاً يماثله في كل شيء كان له نصيراً في كل شروره هو يوسابيوس
النيقوميدي. ويقول عنه “جواتكن” المؤرِّخ المشهور: “كان يوسابيوس النيقوميدي غير
عظيم في شيء ولا كان نيِّر الفكر”([35]).
وصدق ما يقوله مار إسحق أسقف نينوى: “إن كل مَنْ يتعظَّم بمعرفته يسقط في أحد
شرَّين: إمَّا التجديف على الله أو في زنا نجس”.

ولكن
شكراً لله الذي كان قد أعد للكنيسة في هذا الوقت الحرج قديساً ابن قديس، أثناسيوس
ربيب أنطونيوس، لكي يدافع لها عن المعرفة الدينية الصادقة والأخلاق الدينية
الطاهرة، ويرسم أمامها قانون إيمانها الذي عاشت ولا تزال تعيش به حتى اليوم.

ومعروف
أن النزاع الأريوسي عاصره أثناسيوس منذ أول لحظة، وهو شماس، متصدياً له ونازله،
كما يقول المؤرِّخ اللاهوتي دورنر([36]):
“بأسلحة بالغة الاكتمال والقدرة، فأثناسيوس كان قد تكامل في نضجه الروحي واللاهوتي،
وملك في قلبه وعقله كل الردود المفحمة على أسئلة أريوس التهكُّمية، لأنه كان قد
بلغ أوج إلهامه في الإحساس بالفادي وإدراكه ككلٍّ لا يتجزَّأ، وهذا الإلهام بالمسيح
ككلٍّ
ظل سلاحه الذي استطاع أن يحطِّم به كل نظريات أريوس العقلية الفاسدة”.

انحرف
أريوس في تيَّار الأسلوب العقلي وأخضع الإنجيل لفكره، وأراد أن يحدِّد صفات المسيح
الجوهرية بنفس الأسلوب المنطقي الذي يحدِّد به الأمور المنظورة الأخرى: [إن كان
هناك آب وابن، فالآب يلزم أن يكون سابقاً للابن … والنهاية فالابن منفصل عن جوهر
الآب!].

ثم
من جهة أزلية الابن، فإن أريوس يجحدها لأنها تقف حجر عثرة أمام الأسلوب العقلي
المغلق الذي يريد أن يحدِّد بنفسه البدايات والنهايات لكل ما يدخل تحت الفحص
العقلي: [الآب خلق لنفسه ابناً من لا شيء كأداة يخلق بواسطتها العالم].

أثناسيوس
يرد على الأسلوب العقلي المغلق بأسلوب عقلي منفتح على الله خاضعاً للاَّنهائيات
وليس مخضَعاً لها:

[أنتم
أيها الأريوسيون بكلامكم هذا تبرهنون على ضعف الخالق (الآب). إذ أنه يكون كأنه لا
يملك القوة ليخلق الكون بنفسه فاضطر أن يخلق أداة خارجة عنه، كنجَّار يصنع لنفسه
أولاً المنشار! وهل يمكن أن يكون شيء أكثر كفراً من ذلك؟

+
كذلك هل من اللائق أن نوازن ونقيس بين البنوَّة الإلهية بما يقابلها في الطبيعة
البشرية؟ … فتسألون (بتهكُّم) هل ممكن أن يكون للإنسان ابن قبل أن يلده؟ (يشير
الأريوسيون بذلك إلى أن ابن الله خُلق من لاشيء وأنه كان في وقت ما غير موجود “غير
أزلي”).

+
فإذا فرضنا (فرضاً جدلاً وهذا غير صحيح) أن الآب لا يكون له ابن قبل أن يلده، لكن
السؤال هو وماذا يكون بعد أن يلده؟ هل يكون الابن كأنه غريب عن الآب كأنه من
خارجه؟ أم يكون هو من ذاته ومساوٍ لطبيعته وطبق الأصل لصورته، حتى إن الأول (الآب)
يُرى في الآخر (الابن) والآخر (الابن) يُرى في الأول (الآب)؟

+
فالآن إن كان لك ابن فهل أنت اشتريته من الخارج كبيت أو خلافه؟ أم تقول إن ابني
هذا هو مني خاصة ومساوٍ لطبيعتي؟ مولود مني وليس صائراً لي من آخر حيث أنا أيضاً
بكلِّيتي فيه مع أني باقٍ بنفسي ما هو أنا!!

+
والآن إذا رفعوا أمامنا سؤال الزمن، فعليهم أن يقولوا ما هو الذي يمنع في خاصية
الله من أن يكون دائماً أباً للابن (ديمومة الأبوَّة والبنوَّة في الله وأزليتها
هي من أخص مميزات الطبيعة الإلهية).

فإذا
سألوا امرأة في اعتبار الزمن (بالنسبة للولادة)، عليهم أن يسألوا الشمس فيما يختص
بشعاعها (هل يمكن أن توجد الشمس بدون شعاع؟). كذلك عليهم أن يسألوا الينبوع بخصوص
ما يتولَّد منه أو يخرج منه. فهذه الأمور – أي الشعاع الخارج من الشمس والنهر
الخارج من الينبوع – نجدها ولو أنها نتاج لآخر غيرها، إلاَّ أن وجودها قائم دائم
وباستمرار (بدون أي فاصل زمني على الإطلاق) مع مصدرها الذي منه خرجت.

والآن
إذا نظرنا إلى طبيعة الآباء هكذا (أي بنفس هذا الاعتبار)، نرى أنه يوجد فعلاً لهم
مع أولادهم وجود طبيعي وديمومة، … ألم يقل الكتاب إن لاوي كان موجوداً في صلب
أبيه “إبراهيم” (حينما تقبَّل إبراهيم البركة) وذلك قبل أن يولد لاوي بمئات
السنين؟

فإذا كان الله في تصوُّر الأريوسيين أقل من هذه الأمور، ألا
يُحسب لهم هذا كُفراً وعلى المكشوف؟


ومن هذا بالتالي يكون أن “الكلمة” باعتبار أنه من الله فهو يكون ذا وجودٍ مساوٍ
دائم معه، وبه أيضاً جعل الآب كل الأشياء التي كانت غير موجودة جعلها موجودة.

وهكذا، فكون الابن لم يوجد من لا شيء بل هو أزلي ومن الآب،
أمرٌ مؤكَّد بطبيعة الحال.

أمَّا
هؤلاء الهراطقة فسؤالهم الذي يقولونه للوالدين (بخصوص استحالة إمكانية القول بوجود
ابن قبل أن يولد)، فهو في الحقيقة يكشف التواءهم وزيغانهم عن الحق، لأنه قد تحقَّق
أمامهم إمكانية ذلك حتى على المستوى الطبيعي، وها نحن قد وضعناهم موضع الخجل
بالنسبة لموضوع الزمن أيضاً.]([37])

وبهذه
الروح الواعية وبإحساسه المتكامل العميق بحقيقة المسيح ووجوده الأزلي مع الآب رافق
أثناسيوس معلِّمه البابا ألكسندروس، ميمِّما شطر نيقية سنة 325م للدفاع ضد أريوس
عن يقين الإيمان بالفادي الذي أحبَّه. وكان أثناسيوس قد بلغ من عمره وقتئذ عامه
التاسع والعشرين.

 

أثناسيوس في مجمع نيقية: سنة 325م

[إن السؤال الذي طرحه الآباء في مجمع نيقية لم يكن فحصاً لفحوى
معاني الأسفار المقدَّسة بحسب رؤيتهم، ولا كان في ذهنهم مسبقاً أنهم سيتجادلون
عمَّا تعنيه الأسفار من المعاني التي تنطبق وفكر الله نفسه، ولكن الذي كانوا
يعنونه جدًّا هو شيء مختلف عن هذا تماماً، وهو أن يشهدوا بما تسلَّموه!!!

وكانوا يدركون تماماً أنهم إنما هم
شهود وليسوا مفسِّرين!!

وكانوا يحملون عبء مسئولية شعروا تماماً أنها أُلقيت على
عاتقهم ولابد أن يتمِّموها، وهي أن يسلِّموا للمؤمنين هذا التراث الصالح الذي استلمته الكنيسة بحسب وصية الله!

وكانوا جدّ واعين أن حاجتهم العظمى ليست إلى العلم بل إلى
الأمانة!!

وكان السؤال المطروح عليهم للإجابة عليه ليس هو ما كانوا
يعتقدونه أنه أكثر احتمالاً أو ترجيحاً أو حتى يقيناً من الكتب المقدَّسة؛ بل ما
هو الذي تعلَّموه الذي استؤمنوا عليه ليسلِّموه للآخرين.]
([38])

 

كان
أثناسيوس في نيقية بحد تعبير غريغوريوس النزينزي: “أعظم المرافقين
للأساقفة”([39])،
“مجاهداً أقصى ما يكون الجهد لحصر هذه الكارثة وضغطها في أقل حيِّز ممكن”([40]).
وسر نصرة أثناسيوس في مجمع نيقية كان يكمن بصورة أساسية في ثقته بالمسيح الفادي
الذي كان يدافع عنه، فكان أثناسيوس يملك الحقيقة لا في عقله ولا في لسانه فحسب، بل
في قلبه، في شخص يسوع الذي كان يتكلَّم فيه بروحه القدوس عند افتتاح فمه.

ويمكننا
أن نتصوَّره، كما يصفه غريغوريوس أيضاً، بوجهه الملائكي وجسمه النحيف
الذي أصبح مرعباً لدى كل الخارجين عن الحق وجبهته العريضة وعينيه
اليقظتين، يرقب حركات الأريوسيين بنباهة وذكاء وحذر فائق، ليقطع عليهم كل طرق اللف
والدوران والخداع والمؤامرة. وإليك ما ورد على قلمه في دفاعه عن قانون نيقية، حيث
ترى في كلامه مستوى اليقظة التي يراقب بها هؤلاء الأساقفة الأريوسيين اللصوص:

[وعندما
قال الأساقفة (الأرثوذكس) إن “الكلمة” يتحتَّم أن يوصَف “بالقوة الحقيقية”
و“صورة الآب في كل شيء مثله بلا تغيير”، “دائم”، “موجود فيه بلا انقسام”،
“لم يكن الكلمة قط غير موجود بل دائم الوجود”، “أزلي مع الآب كشعاع
النور للنور”؛
وإذا بيوساب (الذئب النيقوميدي) وجماعته وأتباعه عندما لم يجدوا
مفرًّا من الاحتمال (لهذه الأقوال) إذ لم تكن لديهم الجرأة للاعتراض لأنهم صاروا
في خزي بسبب الاحتجاج الذي صار ضدَّهم، أخذوا يتهامسون الواحد مع الآخر ويغمزون
بعيونهم.]([41])

وهنا
أدرك القديس أثناسيوس أنه أمكنهم قبول كل هذه الأوصاف إذ وجدوها هي بعينها قد
استخدمتها الأسفار في وصف علاقة الإنسان العادي بالنسبة لله في أماكن كثيرة. فما
كان من الأساقفة الأرثوذكس، وبتوجيه من أثناسيوس، إلاَّ أن أعادوا الصيغة مرة أخرى
وأضافوا إليها صفة جديدة في وصف “الكلمة” وكانت معروفة سابقاً([42])،
وكانت هي الضربة القاضية التي كشفت كل مؤامرة الأريوسيين وأوقعتهم في الفخ الذي
نصبوه. أمَّا هذه الصيغة فكانت: “وأنه واحد مع الآب في الجوهر”([43]).

وكانت
سرعة أثناسيوس في كشف نقط الخبث عند الأريوسيين يقابلها سرعة الرد وشدَّة الحجة
واقتباس الآية، فكانت في الحقيقة قوة عظيمة لائقة بهذه المحنة العظيمة!!

ولم
يكن أثناسيوس مجرَّد محاجج بل كان يستطيع في نهاية كل المحاجاة أن يضع المبادئ
التي كانت موضع المناظرة في صورة قانون واجب القبول والنفاذ. ولذلك انتهت جميع
المباحث والحجج والمناظرات في مجمع نيقية إلى مبادئ إيجابية غاية في الرصانة
اللاهوتية تنبع من الإنجيل وتصب فيه، أي أنها تأخذ قوتها من الآيات ثم تعود على
الآيات نفسها بالتوضيح والتطبيق. فمثلاً:

1
تأكَّد لدى الكنيسة بصورة واضحة لاهوت المسيح في مواضع كثيرة من
الأسفار المقدَّسة.

2
تأكَّد لدى الكنيسة لاهوت المسيح بصورة واضحة في معنى كلمة “الابن
الوحيد” (مونوجينيس).

3
تأكَّد لدى الكنيسة أن لاهوت المسيح ضرورة جوهرية لتكميل عمل الفداء
بالتدبير الإلهي.

4
تأكَّد لدى الكنيسة لاهوت المسيح بشهادة التقليد كحق قائم ثابت محفور
في وعي الكنيسة منذ البدء وعلى ممر العصور لا يمكن أن يزعزعه مبتدع.

وإن
كان أثناسيوس قد التزم دائماً بالنصوص الإنجيلية لا يحيد عنها في وصف لاهوت الكلمة،
وأضفى هذا الطابع بأكمله على كل مجمع نيقية حتى الخصوم أيضاً ألزمهم بقبول هذه
القاعدة وذلك عن قناعة تامة بأنه لا يمكن أن يوجد في لغة البشر
خارجاً عن الإنجيل ما يمكن أن يعبِّر عن لاهوت المسيح تعبيراً كافياً يكون خالياً
من مأخذ إلاَّ أنه وبالرغم من ذلك اضطر مع الآباء بسبب مكر والتواء
الأريوسيين إلى تحديد التعبير اللاهوتي الجديد لقطع خط الرجعة على استخدامهم كل
شيء، حتى الآيات، في الإخلال بلاهوت الابن:

[والمجلس
(والإشارة هنا خفية لأثناسيوس نفسه) وهو برغبة في الإطاحة بأسلوب الأريوسيين في
استخدامهم الجمل الكُفرية، اتخذ عوضاً عن العبارات العادية، نفس كلمات الأسفار
المقدَّسة مؤكِّداً أن “الابن مع الآب” وليس من لا شيء (كما يقولون) وهو “الكلمة”
و“الحكمة”
وليس خليقة ولا عملاً وإنما ابن حقيقي للآب.

ولكن
يوسابيوس مع أتباعه وهم مساقون مع عنادهم غير المستقيم اعتبروا أن صفة الابن “من
الله” هي له كما هي لنا نحن أيضاً (لأننا من الله) وكأن «كلمة الله» لا يختلف
شيئاً عنَّا، كالمكتوب. «يوجد إله واحد الذي منه كل شيء»، فانتبه الآباء لهم
وأدركوا خبثهم ودهاءهم في تزكية كفرهم واضطروا أن يشرحوا بوضوح أكثر معنى القول: إن
الكلمة هو “من الله” فكتبوا أنه “من جوهر الله
ذmooعsion” وهذا حتى
لا يستطيعوا أن يستخدموا كلمة “من الله” استخداماً مشتركاً بين “الابن” وبين
الأشياء المخلوقة.]([44])

هذا
الاصطلاح
homoousion الذي كان قد استُخدِم سابقاً لكي يعبِّر عن الإيمان الصحيح
بالمسيح كونه “ابن الله الحقيقي”، اختير في مجمع نيقية ليكون محكاً دقيقاً لمدى
التزامهم بالآيات التي توضِّح لاهوت المسيح.

والأمر
الذي يجب أن ننتبه إليه هو أن خصوم أثناسيوس في المجمع وبعده كانوا مماحكين إلى
أقصى حد حتى في استخدامهم الآيات، أمَّا أثناسيوس فكان دائماً ومنذ شبابه يتكلَّم
ويدافع ويبرهن ويستخدم الآيات بدافع واحد يملك عليه كل تفكيره وشعوره وحماسه، وهو
إخلاصه الشديد للمسيح الذي يحبه، وغيرته الملتهبة في تكريمه وتعظيمه تعظيماً
لائقاً بلاهوته. فكل عبارات أثناسيوس اللاهوتية، وبالأخص
homoousion أي “واحد مع الآب في الجوهر”، تتعدَّى الوضع النظري أو التحديد القانوني لتعبِّر عن حقيقة يراها أثناسيوس
ويوقن بها ويجاهد حتى يراها الكل أيضاً ويوقنون بها!

وهذا
يتضح من رسالته إلى أساقفة مصر: [إني أهيب بكم أنتم الذين وُضع تحت أيديكم اعتراف
قد تحدَّد في نيقية بعد أن دافع عنه الآباء بغيرة عظيمة وثقة في الرب.]([45])

العودة المنتصرة وآلام في الأفق:

لم
يكن شيء في ذهن أثناسيوس وهو في طريقه إلى نيقية أقوى يقيناً من أن يسوع المسيح هو
ابن الله متجسِّداً بكل معنى الكلمة وقوَّتها!!

وبالتالي
لم يكن في ذهنه وهو عائد من نيقية أقوى تعبيراً عن لاهوت المسيح من اصطلاح
ال 
ذmooعsion أي أن المسيح واحد مع الآب في الجوهر، إذ كان
يعتبره أثناسيوس أنه هو الاصطلاح المركَّز والمختصر الذي يضعنا في حالة الالتزام
بعبادة المسيح عن استحقاق كلِّي وبكل تقوى ووقار!!

وبهذه
الروح كان أثناسيوس يرى أن أية معاناة في سبيل المناداة بهذا الإيمان والشهادة له
هي جزء لا يتجزَّأ من العبادة بل من الأمانة بل من الحب. وكانت الآلام والمعاناة
بالفعل قريبة جدًّا من أثناسيوس، فنحن نعلم أن نياحة البابا ألكسندروس حدثت بعد
خمسة شهور فقط من ختام جلسات نيقية، حيث بدأ
بالفعل مشوار الجهاد الطويل الممزوج بالعذاب والألم الذي كان ينتظر
أثناسيوس! …



اترك رد

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى